Wannan Zamani da Al'adunsa
هذا العصر وثقافته
Nau'ikan
هو إذن شعور يساور نفرا من الناس في مختلف العصور، ولأسباب قد تختلف باختلاف تلك العصور، فقد يكون العصر ممعنا في معاييره المادية، وعندئذ ترى من هو أميل إلى الحياة الروحية، قلقا بين الناس، حتى لقد يشتد به هذا القلق فينعزل بالفعل - لا مجرد عزلة سيكولوجية وهو مع الناس - بل عزلة بجسده، فيختفي في كهف من الجبل، أو يلوذ بصومعة في متاهة الصحراء، أو ربما أمعن الناس في مجاوزتهم لدنيا الواقع، مستجيرين بما وراء هذا الواقع من غيب، يلتمسون عنده الراحة مما يحيط بهم من مرارة وعناء، فها هنا أيضا ترى المتشبث بدنيا الواقع المشهود قلقا بين الناس، يشعر معهم بالاعتزال والغربة، إذا قال قولا أنكروه عليه، وإذا آثر الصمت أنكر ذلك هو على نفسه.
هي غربة تعزل صاحبها عن قومه، برغم وجوده معهم على صعيد واحد، وإن فيها لخيرا يعود على الناس، ووبالا يعود عليه، أما هم فكثيرا ما يأخذون عن هذا الغريب المعتزل، علوما وفنونا ومبادئ للحياة الأفضل، وأما هو فكثيرا ما تنصب على رأسه اللعنات؛ لشذوذه عن الجمع المتجانس.
مراجعة الحياة الجارية لتقويمها وتصحيحها، هي إحدى دعائم البناء الاجتماعي نفسه؛ ولأنه إذا لم يكن في جوف هذا البناء من يصيح بأهله صيحات النذير، كلما رأى خللا في أركان البناء وسقوفه وجدرانه؛ تحتم أن ينهار ذات يوم على رءوس ساكنيه، بل إنها لخصيصة من أهم خصائص الأجهزة العلمية العصرية المعقدة - كالحاسبات الإلكترونية مثلا - أن تعد بحيث تصحح نفسها بنفسها، فإذا وقع فيها الخطأ، ارتد هذا الخطأ نفسه إلى مصدره ليعود صوابا، قبل أن تكمل العملية الآلية سيرها إلى غايته، فلو نظرنا إلى مجتمعنا من زاوية كونه آلة ضخمة مركبة الأجزاء والعناصر، كانت مراجعة النقد بمثابة ما يسمونه في الأجهزة العلمية بإعادة التغذية، فبدل الغذاء الخاطئ نضع فيها الغذاء الصحيح، وإلا لتضخم الخطأ وباض وأفرخ، وضرب فينا بجذوره واستحال على الناقدين منا أن ينالوا منه شيئا.
إن حديثي هنا عن المغترب وهو في داره، المنعزل وهو في زحمة الناس، فقد يكون ذلك من علة مرضية، وعندئذ يكون هو الانحراف الذي يضر صاحبه ويضر الناس معا، وليس هذا هو ما أردت الحديث عنه وإبرازه أمام الأبصار، ولكنه كذلك قد يكون - لا عن انحراف مرضي - بل عن امتياز عند صاحبه في الفكر والشعور، وها هنا يكون الضلال أفحش الضلال، في أن نردع هذا الغريب المعتزل بفكره وشعوره، رغبة منا في أن تسوى الأرض عاليها مع سافلها ... المتصوف الذي يهجر الناس، وينعزل في محرابه متعبدا، هو بعزلته تلك أشد احتجاجا على جور الحكومة، ممن يملئون الدنيا صياحا بكلمات الاحتجاج، ولا عجب إن رأينا بعض الأمراء الحاكمين في تاريخنا القديم، يضيقون ذرعا بمن ترك الناس وانعزل؛ لأنه إنما يجعل من وجوده كله لسانا ناطقا بالثورة على ما هو كائن وفاسد. وفي التراث الأدبي - أعني التراث الإنساني بغير تحديد لقومية معينة - صور كثيرة للعزلة، التي تجسد تمردا مطلوبا ليوقظ الغافلين، من ذلك مثلا تلك القصص الكثيرة، التي تروى عن سفينة تتحطم، لينفرد رجل واحد آخر الأمر على الجزيرة، فهي صورة للرغبة في الفرار، كقصة روبنسون كروزو التي نعرفها جميعا، وقصة أخرى في عصرها مجهولة المؤلف اسمها «الراهب».
الموضوع يغريني بفيض من حديث، لكن جملة واحدة قد تفصح عما أريد: إن من الأفراد من يستحيل على طبائعهم، أن تخرط في قوالب الجمهور، كلا ولا هي مصلحة الجمهور، أن يذوب فيه أمثال هؤلاء الأفراد، وإلا لما كان الناتج إلا أن يصبح المليون مليونا وآحادا.
الشرك الأصغر
كانت حياتهم - كما رأيتها - كحفل تنكري من طراز بديع، اختفت فيه الوجوه وراء أقنعتها في إحكام تام، حتى لقد كان من أعسر العسر على مشاهد الحفل، أن ينفذ خلال القناع ليكشف عمن وراءه: من ذا يكون؟ أو ماذا يكون؟ إذ قد يبدي له القناع بشاشة في لمعة العينين أو بسمة الشفتين، فإذا الحقيقة تنكشف له فيما بعد، عن يأس وجهامة وعبوس، أو هو قد يرى في القناع سحنة مجنونة بلهاء، حتى إذا ما كشفت له الأيام عما وراء القناع، رأى طلعة تشع الحكمة الرزينة من قسماتها ... وهكذا كانت الحال في حياة الفكر عند هؤلاء الناس، فلم يكن الفاحص ليرى في كتاباتهم دليلا واحدا، على أنها قد جاءت صورة صادقة لكاتبيها؛ إذ قد يرى على الصفحات مرحا، ثم يعلم عما في نفس كاتبيها من كآبة سوداء، أو هو قد يرى على صفحاتهم ورع الأتقياء، ثم تنكشف له حقيقة الأمر، فإذا الورع التقي مظهر جرى به القلم على الورق، وأما الفؤاد فملؤه فجور!
تلك هي العبارة التي سمعتها - أول ما سمعت - من رجل، لم يكن بيني وبينه أواصر الصداقة المتينة، لكن واجبا اجتماعيا اقتضاني زيارته في يوم عيد، دخلت غرفة مكتبه لأجده هناك مكوما في ركن أريكة وثيرة، وقد لف جسده بعباءة غريبة، لم يظهر له منها إلا وجه اكفهرت ملامحه، وجدته يتحدث إلى زائريه حديثا تدفق كأنه السيل المنهمر، يتعذر إيقافه لحظة واحدة، تتيح للداخل أن يلقي بسلامه، أو للراحل أن ينطق بتحية الوداع، وكان واضحا لنا - نحن الجالسين أمامه نستمع - أنه ربما أصاب فيما يقول وربما أخطأ، لكنه في أي الحالتين - فيما يبدو - صادر عن صدق أمين في روايته، عن فكره وشعوره، ومضى في حديثه ليقول: «رياء! رياء! حياة هؤلاء الناس الثقافية معظمها رياء، ينطق فيها المتكلم بما ليس يعتقد أنه الحق، ولقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إياكم والشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء!»
لم أكن أعلم من هؤلاء الذين يتحدث عنهم هذا الرجل، ولا أردت السؤال؛ لأنني إنما قصدت إلى زيارة قصيرة صامتة، ولقد خيل إلي أنني حتى لو أردت مقاطعته بسؤال لما استطعت، لكن أحد الزائرين استطاع الدخول في مجرى التيار الدافق، وسأل قائلا: كيف يكون الرياء شركا يا أستاذنا؟ فأجابه الأستاذ: الشرك الأكبر هو الشرك بالله، فهو انتحال حق إلى جانب الحق الأحد، وعلى هذا القياس يكون الرياء شركا أصغر؛ لأنه مزاوجة بين باطن وظاهر، فيبطن المنافق شيئا ويظهر للناس شيئا آخر، والأغلب أن تكون هذه المزاوجة للخداع، ثم مضى الرجل في حديثه ليقول: «ولقد أصيب هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية بهذا الشرك الأصغر، بأكثر من معنى واحد: فالكاتب وعبارته كثيرا ما يتنافران، وهذا أحد المعاني التي أردتها، ثم أردت معه معنى آخر، وهو أن أحكام المحكمين قلما تجيء مطابقة لعقائدهم، فهم - بعبارة الإمام الغزالي - يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، فالحق عندهم هو ما خدم صاحب الجاه، الذي في وسعه أن ينفع أو يضر ...»
قال السائل مقاطعا: أهي الطبيعة البشرية التي يصعب تغييرها؟ أم هو مرض عابر أصاب القوم، في أعز جانب من جوانب حياتهم، وأعني جانب الأدب والفكر؟
Shafi da ba'a sani ba