Wannan Zamani da Al'adunsa
هذا العصر وثقافته
Nau'ikan
قلت إن شعور الإنسان بمستقبله، يلقي عليه بمسئولية التحرك نحو تحقيقه، ولست أعجب إذ أرى الكثرة الغالبة منا، على غير شعور واضح بالمستقبل، الذي يسددون نحوه خطاهم؛ مما حدا بهم أن يكلوا الأمور كلها إلى ضمير الغائب، فتسمعهم يقولون في كل سياق من حديث: «هم» يريدون كذا ، و«هم» يريدون كيت، فمن «هم»؟ لو كان الناس مؤرقين بمستقبل ترتسم أمام أعينهم سبيله، لاستبدلوا بضمير الغائب هذا ضمير المتكلم وضمير المخاطب، «فأنا» أريد كذا و«نحن» نريد كيت، و«أنت» تريد و«أنتم» تريدون، فبناء الإنسان الجديد لن تقوم له قائمة، إلا إذا أحس الناس بأن الإرادة إرادتهم، بحيث لا يكتب لهم كاتب أو يتحدث إليهم متحدث، إلا وقد تركهم أكثر علما وأوضح رؤية لما «يعلمونه»، بناء على ما قرءوه أو سمعوه، لكن كم من كاتب يكتب ليسلي، وكأنه النديم في مجالس الطرب! وكم من متحدث يتحدث تجميدا للحركة، لا تحريكا للسكون!
بحثا عن الإنسان الجديد
للثقافة القومية أصول ثابتة لا تتبدل مع الأيام، إلا بالحد الأدنى الذي لا يعيق التقدم، كما أن لها فروعا لا تنفك متغيرة، كلما تغيرت الظروف من حولها. الأصول الراسخة تدوم، وهي التي تحدد معالم الشخصية القومية تمييزا لها من سواها، وأما الفروع فهي التي تساير حركة التاريخ، دون أن تفقد صلتها الوثيقة بأصولها الرواسخ، فالأمر في هذا كقطعة من الذهب، يشكلها الصائغ على هيئة الطائر أو على صورة التمساح، يصنع منها سوارا حول المعصم أو حلية على الصدر، لكنها تظل هي هي بنفسها قطعة الذهب التي كانت، فقطعة الذهب هنا بمثابة ما قلنا عنه، إنه الأصول الثابتة في ثقافة القوم، وأما الصور التي تشكلت بها فهي الفروع التي تتنوع، دون أن تضيع منها الصلة الحميمة المباشرة بأصولها.
وهكذا نريد لحياتنا الثقافية أن تكون؛ فتجيء منسوبة إلى جذورها التاريخية من جهة، ومتطورة مع ظروف عصرها من جهة أخرى؛ وبهذا يصبح السؤال الرئيسي المطروح أمامنا هو هذا: ماذا عساها أن تكون «أصولنا» الثقافية الثابتة، التي بغيرها نفقد أنفسنا في غمرة الآخرين؟ ولنترك الآن مسألة «الفروع» المتغيرة؛ لأنها مسألة تهون إذا ما كشفنا الغطاء عن الأصول. إن محاولة البحث عن حقيقة الروح القومية ما جوهرها، تشغل معظم مفكرينا وأدبائنا منذ أمد ليس بقصير، ثم زاد اشتغالهم بها هذه العشرات الأخيرة من السنين، فتوشك اليوم ألا تفتح صفحة أدبية من صحيفة يومية، إلا وتقع على مقال أو أكثر من مقال ينحو به صاحبه هذا المنحى، لكنك - فيما أعتقد - ستجد أكثر الكاتبين في هذا المجال لا يعنيهم البحث عن الأصول الثقافية العامة، التي لو عرفناها لأضاءت لنا ميدان البحث، بلمحة عامة كما يشق البرق سواد الليل، بل تراهم - في أغلب الحالات - يتناولون تراثنا الفكري والديني في متناثرات مفرقة مفكك بعضها عن بعض، فهذا يشرح من العبارة المعنية لفظها، وهذا يبسط مواضع البطولة في موقف تاريخي يختاره من غمار التاريخ، وثالث يتحدث عن إحدى فضائل السابقين، إلى آخر ما نسمعه مذاعا أو نقرؤه مكتوبا في مقالات الصحف، لكن هذه الأمثلة المتعددة المتنوعة، التي يسوقونها لنا أجزاء مبعثرة، لا تكشف وحدها عما وراءها؛ فهي «أمثلة» للروح الإسلامية أو الروح العربية، مع أن هذه الروح - وهي غاية ما نبحث عنه - تريد منا أن نفصح عن حقيقتها، وأن نصوغ أساسها في عبارة صريحة، لكي يتبين لنا بعد ذلك كيف كانت تلك «الأمثلة» التي يسوقها لنا الكاتبون أمثلة لها، وأحسب أنا - بغير هذه الصياغة الصريحة لأصولنا الثقافية الثابتة - سنظل نبحث عن هويتنا الفكرية، ولو ساق لنا الدارسون عن تلك الهوية ألف ألف مثال، إننا بغير العثور على تلك الأصول الثابتة، نفقد قطعة الذهب التي نقدمها إلى عصرنا، ليشكلها وفق ما يراه صالحا لظروفه.
الإنسان الجديد الذي نريد بناءه، هو تشكيل عصري لأصولنا الثابتة، وإذن فالكشف عنها هو خطوة أولى، لا مندوحة لنا عن اجتيازها قبل أن نفكر فيما بعد، وإنني لعلى يقين من مدى الاختلاف البعيد، الذي يفرق وجهات نظرنا في تصور هذه الأصول، ومن ثم اختلافنا الشديد في تصورنا للإنسان الجديد، لكنني أعتقد أننا نفيد من مناقشة موضوع عويص كهذا، أكبر فائدة ممكنة في أقصر وقت ممكن، لو أننا اخترنا نقطة ابتداء ضيقة الرقعة محددة المعنى، بحيث تكون نقطة الابتداء المختارة هذه مرجحة القبول، عند معظم رجال الفكر على اختلاف ألوانهم الثقافية، فهل أقول صوابا إذا قلت إن أعمق الجذور في حياتنا الفكرية هو «التوحيد»؟ فإذا كان الأمر كذلك ، فلنجعل هذه العقيدة نقطة الابتداء، وهي نقطة يترتب عليها مباشرة نتيجة، هي في صميم البناء الثقافي، كما ميز أسلافنا وكما نريد له أن يميزنا، وأعني بها توحيد القيم التي نهتدي بها في مسيرة حياتنا؛ فالقيم التي تهدي الإنسان سواء السبيل كثيرة العدد: العلم، والقدرة، والعدل، والحرية، والتعاون، والرحمة ... إلخ إلخ، لكن هذه الكثرة قد تتوحد عند قوم، بحيث لا ينقض بعضها بعضا، وقد تتعارض عند قوم آخرين، وعندئذ يعاني الأفراد من تمزق وتفسخ؛ لأنهم سيجدون أنفسهم بين شد من هنا وجذب من هناك، وإن عقيدتي في الطابع الثقافي العميق الذي تميز به أسلافنا العرب المسلمون، هي الوحدانية في مجموعة القيم، بحيث كان الرجل منهم يتصرف في شئون حياته بكيانه كله، مما خلع على سلوكهم تلقائية فطرية لا تكلف فيها ولا تصنع.
هذا التوحيد الذي من شأنه، أن يجعل من الإنسان كيانا واحدا غير ممزق، هو قطعة الذهب التي أشرت إليها في أول الحديث، هو المحور الذي ينبغي أن تدور عليه الرحى، هو الأساس الثابت الذي يجب أن نقيم عليه البناء، هذا التوحيد ليمضي لفظا أجوف، إذا هو لم يتجسد سلوكا ومواقف في حياة الأفراد، إنه يفقد كل معناه، إذا هو لم ينعكس في أوضاع الحياة العملية، عند زيد وخالد وزينب وفاطمة؛ إذ بغير هذا التمثيل الحيوي لعقائدنا، يصبح الفرق خافتا باهتا، بين أن تكون موحدا أو لا تكون؛ فالعقائد لم يعتنقها أصحابها في الأصل، ليخزنوها تحفا في صناديق النفائس، بل اعتنقوها - وهم أقوياء أسوياء - لتكون هي المسارب التي تنسكب في أطرها عمليات الحياة كما هي واقعة.
إننا إذا اتفقنا على هذا الذي قدمته مؤخرا، انفتح أمامنا الطريق فسيحا، لبناء الإنسان العربي الجديد، فما علينا بعدئذ إلا أن نصوغ قطعة الذهب في تشكيلها الجديد، فلن يجدي فتيلا أن نظل نبدي ونعيد في ذكر أمثلة من الصور، التي صاغ بها أسلافنا قطعة الذهب هذه، التي ملكوها وورثناها عنهم، فنحن لا نتاجر اليوم بمثل ما تاجروا، ولا نقيم مصانعنا بمثل ما أقاموا، ولا نقاتل الأعداء بمثل ما قاتلوا، أسواق الأمس ليست نماذج لأسواقنا، كلا ولا مصانع الأمس ولا حروب الأمس، لكن الذي يمكن بل يجب أن يمتد على الزمن بينهم وبيننا، هو الوقفة الموحدة بمعناها الواسع العميق، بمعناها الذي لا يجعل شيئا من التعارض بين أن يكون الإنسان الواحد فردا مستقلا، وعضوا في أسرة، ومواطنا في أمة، مثل هذا التعارض موجود عند غيرنا، حتى ليجدون عسرا في أن يحافظ الفرد على استقلاله الذاتي، وعلى أن يكون في الوقت نفسه ولدا موصول الرحم بوالديه وإخوته، إنه المعنى الواسع العميق، الذي لا يصعب علينا معه، أن نرى الإنسانية أسرة بمن فيها من سود وصفر وبيض، وهي رؤية صعبت على غيرنا، بحيث تمزقت أنفسهم بين مبدأ نظري، يقرونه في المساواة بين الناس، وتطبيق عملي لهذا المبدأ، لا يجيز التفرقة العنصرية بأي شكل من أشكالها. إننا لو استطعنا بناء الإنسان العربي الجديد، الذي يعالج مشكلات عصره العلمية والصناعية والاقتصادية والفنية وغيرها، بهذه الروح الموحدة التي تتسق في وحدتها معايير النظر؛ كنا بذلك الأبناء الأوفياء الأمناء على تراث أسلافهم، وكنا في الوقت نفسه أبناء لعصرنا، لدينا ما نعطيه للناس في مقابل ما نأخذه.
الرؤية الساذجة
هي رؤية لصيقة بالفطرة قبل أن يصيبها شيء من التهذيب والتقييد، كرؤية الطفل أو رؤية الإنسان قبل أن يتحضر، وليس في مثل هذه الرؤية الساذجة عيب يعاب، إذا هي وضعت في مكانها الذي أرادته لها طبائع الأشياء، فلسنا نتوقع من الطفل أن يستبدل بسذاجته الفطرية، نظرة ناضجة يقيمها على دقة التحليل وضبط الحساب، كما لا نتوقع من حضارة العصر الحجري أو ما يقرب منها، أن تنتج مركبات صاروخية تنقل الناس إلى سطح القمر، لا بل إننا إذا ما لحظنا طفلا قد سبق الأيام بنضجه العقلي، أخذنا الجزع، وربما أشفقنا عليه من شر يصيبه، كأنه نبات نما في غير موسمه وقبل أوانه.
وإنما العيب هو أن ترتفع السن برجل، حتى ليعد بين الرجال بحكم سنه، ثم نراه يتصرف في أموره بسذاجة الأطفال، فلو استطعنا إبراز الفوارق المميزة للطفولة الحق من الرجولة الحق، لكان لنا بذلك نفسه مقياس، نفرق به بين الرؤية الساذجة بفطرتها، والرؤية الناضجة بعد تحضر وتهذيب، فما هي أوضح تلك الفوارق ظهورا؟
Shafi da ba'a sani ba