Wannan Zamani da Al'adunsa
هذا العصر وثقافته
Nau'ikan
ونعود إلى أسلافنا فنفاجأ بشيء آخر، لا يمت بصلة، أو يوشك ألا يمت بصلة، بما يطوف في أذهان المعاصرين، فاقرأ - مثلا - رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها: «كتاب الجلال والجمال»؛ لترى في أي عالم ينظر؟ إنني ما زلت أذكر اللحظة التي وقعت فيها على هذه الرسالة، فما كدت أقرأ عنوانها، حتى سرت في نفسي فرحة، وسحبت الكتاب من الرف، وعدت به إلى مقعدي من المكتبة، لأنكب عليه، ظنا مني أنني قد وقعت على ما يشبه نظريات «الجمال» و«الجلال» في الكتابات الفلسفية أو النقدية التي أعهدها في ثقافتنا المعاصرة؛ وذلك لأنني لم أقع قبل ذلك - ولا بعد ذلك - عند أي مفكر عربي قديم، على شيء مما يجوز أن نسميه بالنظرية الجمالية - الاستاطيقية - في التراث العربي.
عدت برسالة ابن عربي إلى حيث كنت أجلس يومئذ من المكتبة، فإذا بي أجد المتعة التي لم يكن فوقها متعة، ولكنها متعة جاءتني من عالم فكري آخر، غير العالم الذي توقعته من العنوان .
بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة، لم أجد لدقتها مثيلا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين، عربا كانوا أم من غير العرب، وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها أنس، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم؛ فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح - مثلا - لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل، ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة، هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة - أمام الجميل وأمام الجليل - إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهد، لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة. إلى هنا والدنيا بخير، فلا فرق بين مجال الكاتب ومجال القارئ في طريقة التصور.
لكن أمضي مع الكاتب، فإذا هو يعني بالجمال والجلال أمورا لم تتوقعها قط - لو كنت مثلي - إذ هو يعني بهاتين اللفظتين، حالتين مختلفتين في توجيه الله تعالى لآياته إلى الناس فهو آنا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم، ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال)، وينطلق ابن عربي بعد ذلك؛ ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم، كان فيه الجمال، إلا وقد قابله موضع فيه الجلال، فقوله تعالى:
غافر الذنب
يقابله قوله:
شديد العقاب ، وقوله:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود
يقابله:
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم ، وقوله:
Shafi da ba'a sani ba