يقول الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، موضحا هذا الصراع الخالد:
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من سنة، وأخيرا جاء دور العمل، وجاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، وقد قفل الله لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة ولا يستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم.
ثم لاحظت أعمالي؛ فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من جميع الجوانب، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإنما أن معتقل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.
ثم تفكرت في نيتي في التدريس؛ فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت؛ فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترها عشية؛ فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية وينجزم العزم على الهرب والفرار.
ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن السلم الصافي عن منازعة الخصوم ربما التفت إليه ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر؛ أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار.
ثم يقول:
ولما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل علي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة، وأنا أدير في نفسي سفر الشام؛ حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام في الشام، فتلطفت في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدا.
إذن؛ فالغزالي يجعل اعتكافه لأسباب نفسية غامضة وسبحات دينية غير واضحة، أنقذه الله منها إلى الهداية والتوفيق.
ولكن العلامة ماكدولاند - المستشرق الذي تخصص في دراسة الغزالي - يقول: إن هذا الاعتكاف يمت بأسباب وثيقة إلى الحياة السياسية المعاصرة له، ويستدل على ذلك بحادثتين.
Shafi da ba'a sani ba