البخل
هو ذا ضجيج عظيم آت من كافة أقطار الأرض، صراخ شديد يدوي تموجه في المسامع، فأميلوا آذانكم يا قاصدي التفتيش. وأصغوا لنرى ما هذه الضوضاء الآتية من بعيد، وعلام ذلك الصباح المرعد، ها قد بدا يلوح لي أن فتنة كبرى تثور في العالم. نعم، فتنة كبرى آخذة في الثوران؛ لأن أصوات لعنات وشتائم تتوارد إلى آذاني محمولة مع طلقات الضجيج، فما سبب هذا الافتتان العظيم؟ وعلى من يدور مداره؟ لعل ذلك على البخل لأن أكثر تلك اللعنات والمسبات تنطق على اسمه كما تسمعون. بلى، على البخل على البخل، ولا يوجد ما يستحق نهوض العالم لضده نظير البخل؛ لأنه يجتهد على الدوام أن يحتشد أرزاق البشر ويحشر قوت العباد احتشادا وحشرا يوجبان خلل النظام العام واستعباد الأنام.
وهاك قائد البخل منتصبا لدينا تجاه الكرم وهو قابض بيديه على ساعد دولاب المعاملات ومساعد قيام الحياة، فلنوجه خطابنا إليه قائلين: ها قد نهضت المسكونة عليك يا أيها الروح الخبيث قائد البخل والشح، وها جميع الناس يقذفونك باللعنات والمسبات؛ فأنت مستوجب أن يحكم عليك بالخذل والرذل بدون تردد؛ لأنك تود أن ينغلق كل باب لتقدم الخلائق وتفتح كل سبل التقهقر؛ فتخزن الأموال ولا تدع لها منفذا. أما تعلم أن العطاء ينهج طرق الخير ويسند أخاك الجائع، وتكنز الدنانير والدراهم في أعماق الصناديق حذرا من أن يلامسها الهواء أو يمسها الضياء. أما تدري أن الدراهم قد صارت الآن محورا لمدار عالم المعاطاة، وأن حجزها يضيق دائرة العلاقات البشرية ويعيق تبادل المعاملات، وتطرد كل سائل ومحتاج ولو على فلس، وتميل عن كل عمل كريم أو سمة تقتضي بذل الورق؟ أما تعرف أن العضد الأعظم لترتيب حياتك يؤخذ من مثل السائلين والمحتاجين؟ فهم يبنون دارك وحانوتك، وهم ينسجون ثوبك ورداءك، وهم يجهزون كل أدوات طعامك وشرابك، وهم يتسارعون إليك من كل الجهات ليحرسوك من وثبات المختلس وهجمات العدو، وهم يمدون أيديهم ليرفعوك لئلا تعثر رجلك بحجر، وإذا انتشبت حريقة في منزلك ألقوا أرواحهم لينقذوك وأولادك ويحموا أمتعتك. فلماذا تدوس في أعناقهم إذا انطرحوا تحت قدميك يطلبون إسعافا؟ ولماذا تعرض عنهم وتشتمهم إذا مدوا أيديهم إليك ليطلبوا سداد رمقهم، حتى إذا أمكن للإلحاح أن يقتلع من فولاذ يدك بارة واحدة استشعرت بألم اقتلاع الضرس.
ولماذا تعصي الآمر بإشباع الجائع وستر العريان؟ أما تخشى وقوع في ثورتي الدنيا والآخرة؟ وكم تهجس على مضجعك في أمر التوفير وتتصل به إلى حسابات وكميات تفوق طور الإدراك مرتقيا في سلسلة التضعيف والضرب حيث تقول في ضميرك: إنني من الغد سأشرع في تنقيص كمية اللحوم والبقول والزيوت، وفي إجهاد الأولاد في تتميم الأعمال الخدمية استغناء بهم عن الخدم. ولم أزل أنقص مقدار الطعام وأعود الأولاد على الخدمة حتى نصير أخيرا قابلين أن نعيش على النزر من الخبز والقليل من الجبن أو الزعتر، وقادرين على قضاء كل الأعمال الشاقة. وبهذا العمل يمكنني أن أجمع كل مال العالم؛ لأن درهما ودرهما درهمان، ودرهمين ودرهمين أربعة دراهم، وأربعة دراهم في أربعة دراهم ستة عشر درهما، و16 × 16 = 256، و256 × 256 = 65536. وهكذا ترتقي من المضروب إلى المضروب فيه إلى أن تبلغ الحاصل الأعلى حيثما لا يوجد رقم ولا يجري قلم. وحينئذ تأخذ نفسا، وتقول: ها أنا مزمع أن أملك العالم بأسره وأوقف كل دواليب الأشغال وأجعل الناس عبيدا لي.
نعم ستفعل هكذا يا هذا البخيل، ولكن بعد ألوف من السنين إذا لم تمت بداء التكميل. فليعش رأسك الكريم ولينجح مقصدك العظيم، ولا عتب عليك إذا فكرت في نفسك هكذا؛ لأنك ترافق القمر في مشروعه، فكما أن هذا الجرم يخال أنه سيوقف دوران الأرض بعد عدد من ألوف ألوف من السنين لا يحصى؛ وذلك بتأخير جاذبيته لحركتها ست ثوان في كل جيل، هكذا تخال أنت أيضا أنك ستوقف حركة الأشغال بجذبك كل الأموال من أيدي الناس وتعود منفردا بالسطوة والغنا بعد العمر الطويل.
فتبا لهواجسك وبعدا لمقاصدك وسحقا لك، أما ترى كيف تخفق على البشر أجنحة الموت بينما يكونون غارقين في لجج مطامعهم وتأهباتهم، وراتعين في حدائق أفراحهم ومسراتهم؟ أما تعلم أن السارق قد يأتيك من حيث لا تعلم؟ أما يلوح في رأسك الممتلي من أفكار الثراء مساء فكر واحد بإمكان انحداره في حفرة الثرى صباحا؟ ولماذا هذا البخل الكثير وذاك العناء الغزير؟ وهبك ملكت خزائن الملوك وجمعت كل ثروة العالم، أليس مصيرك إلى الزوال والفناء وأنت حامل على ظهرك كل تلك الأحمال الثقال؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل تستطيع أن تردع بقوة أموالك مسير المركبات إلى الانحلال؟ فسوف توجد راحتاك المنقبضتان على كل تلك الكنوز التي جمعتها بالوهم منبسطتين إشارة إلى خروجك من هذه الدنيا بلا شيء، وربما لا تجزى ممن يرثك بسوى اللعنة ولو كان ابنك الحبيب الذي به سررت.
فلا يعتب العالم إذن إذا أثار عليك الفتن يا قائد البخل، وارتفعت أصواته ضدك وتبادرت قواته إلى الفتك بك؛ لأنك أنت العدو المبين له ولكل صوالحه ، وأنت المصر على هتك ستار هيئته واستعباد قلوب أبنائه بحشرك أهم أدوات مداره، ومع كل هذا فلا بأس من ترك ظفر لك في جسد التمدن لتكون مانعا لهجوم التبذير الكثير الضرر، ولكن يجب أن تكون ملحوقا بأوامر الكرم لكي تحصل الرتبة المطلوبة ما بين التبذير والبخل.
الضغينة
من هذا الرجل المنتصب تلقاء عرش التمدن ذو الأسنان المكزوزة والأعين المتوقدة بالشرر؟ من هذا الواقف وقوف النمر المستعد للوثوب على الفريسة؟ هل هذا هو قائد الضغينة؟ نعم، هذا هو قائد الضغينة المستعد لأن يغدر بكل من يمحضه السلام ويركن إليه.
فما أنت يا أيها الروح الحقود سوى عذاب أليم للأرواح؛ لأنك متى أوقعت أماراتك في أحد أعدمته الراحة والسكون وجعلته كالوحش الحائم على ما يفترسه؛ فلا ينام إلا على فراش الغضب، ولا يستيقظ إلا بأعين الانتقام، ولا يروي إلا بكرع الدماء، ولا يجد في نفسه حركة لأنه يقضي الليل والنهار مملوكا لخلقه ومأسورا لحب انتقامه وواقعا في خطر مبدآت كفايته. وهكذا فيعيش عبدا وأسيرا لأطواره ومعادى ومباعدا من معاشرة الذين يستلمحون طلائع هجماته فيجتنبونه.
Shafi da ba'a sani ba