على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يرفع نفسه
إلى طبقات الجو وهو وضيع
الحسد والطمع
ها قد وصلنا إلى هذا الروح الذي كثر شره وعظم ضره منذ البدء إلى الآن؛ أعني به قائد الحسد والطمع كعبة الشقاء وركن الفساد، فما أنت يا أيها الروح الشرير إلا آلة بها يفتك الناس ببعضهم، وبها نشأ كل كريهة وعدوان. فكم كنت سببا لسقوط ممالك وزوال ملوك وعظماء! فبك تشتت قايين إذ أوقعته في معصية القتل، وبك جمدت امرأة لوط إذ أطعمتها بسبر غضب الله، وبك طردت هاجر إذ نزلت في قلب سارة، وبك طلب يعقوب الفرار إذ أثرت سخط العيس، وبك سقط يوسف في البئر وبيع وأسر إذ فشيت في أرواح إخوته، وبك زهقت روح شاول إذ ملأته حنقا على داود، وبك تبلبلت دولة المكدونيين إذ أفرغت فيها سمومك، وبك قتل يوليوس قيصر إذ دخلت في قلوب أصحابه، وبك وبأفعالك قد رجمت الفلاسفة ورذلت العلماء وانخذلت الأمة.
فكم يجب على البشر أن ينفروا عنك ويبغضوك يا أيها الحسد والطمع؛ لأنك تجتهد على الدوام في إلقاء الحقد والبغض ما بينهم وفي تفريق شملهم؛ إذ تجعلهم أخصاما وأعداء لبعضهم إفرادا وإجمالا، فمتى دخلت في قلب إنسان جعلته عدوا مبينا لأنداده، ونازعته الراحة والحرية، فإذا كان ملكا أخذ يضارب الملوك ويشن الغارات عسى ينال المرتبة الأولى على الجميع. وإذا كان وزيرا جعل يناكد الوزراء ويوشي بهم عند الملك رغبة في الارتقاء عليهم، وإذا كان شريفا شرع ينم على الأشراف ويستهجنهم إزاء العامة ويقذفهم بكلمات الاحتقار أملا في أن يعمي عيون الناس عن أن ترى شريفا سواه. وإذا كان غنيا تاجرا طفق يسخر بالأغنياء التجار ويشنع بهم ويشيع عنهم أخبار الإفلاس لكي يفتك باعتبارهم مؤملا أن ينحط عمود ثقتهم بقوة ذلك التشنيع والإشاعة؛ فيسر فرحا، وإذا ساقه الحديث أخذ يسند غناهم إلى عامل الشح والبخل وإن كان هو أشح وأبخل، ولم يزل يتزايد حسدا حتى إنه ربما لا يعود يمكنه النظر إلى ثوب جديد غير ثوبه أو طعام لذيذ غير طعامه، وإذا كان عالما أو شاعرا أخذ يزدري بمؤلفات العلماء ويهزأ بقصائد الشعراء باذلا جهده في تحصيل زلاتهم وغلطاتهم على خطأ كان أو صواب، حتى إذا عثر على شيء من ذلك أخذ بوق الانتقاد وجعل ينشر بصراخه كل أموات الغفلة. وربما أفضى به الحال إلى أن يطرح من يده كل مؤلف أو قصيدة ممن سواه من العلماء والشعراء ولا يتنازل إلى القراءة حذرا من أن يرى فكرا أجل من أفكاره أو قاعدة لا يعرفها، وبقدر ما يرى من سمو أفكار غيره وجمالها يكون إشعاره بثوران لهيب غضبه وهيجان بركان انتقاده، وهكذا فقد لا يعود لفمه إمكان أن يلفظ بسوى الشتائم والمسبات التي أخفها قوله: بجق، علك، ركاكة. وذلك بدون إبراز أقل حجة يحتج بها. هذا إذا لم يطرح قياد العلوم والقرائح في عهدة الجنس أو المذهب، وقس على ذلك سائر المراتب والصنوف من البشر الذين يأخذهم روح الحسد والطمع. فكم يستفز هذا الروح شرورا وبغضا بين البشر! وكم يهتك بحرمة هيئتهم ويخترق ستار اعتصابهم!
فماذا ينفعك الحسد يا أيها الحاسد الجاهل؟ وهل تظن أن هذه السيماء توصلك إلى أوطارك وآمالك؟ حاشا لله. إن هذه السيماء لا تسديك سوى التقلب على النار الدائمة في الدارين، ولا تجديك سوى قلق الفكر وعذاب النفس والتنهدات والحسرات، وتجعلك مضغة في أفواه الناس ومهملا من الجميع.
ولا يخفى ما يترك الحسد والطمع من الشوائب الذميمة في الإنسان، وذلك نظير البغض والحقد والحنق والاختلاس وحب القتل والإضرار. وكل من هذه الأطوار الرديئة يترك وراءه أطوارا أخر أشد رداءة، إلى أن يصبح الحاسد مؤلفا من كافة الأرواح الخبيثة. فلا بدع إذا كان الحسد يشبه الشجرة الهندية التي كلما وصل غصن منها إلى الأرض نبت وصار الشجرة ، وهكذا إلى أن تنقلب أخيرا إلى غابة عظيمة تعشو إليها طيور السماء والهيرودي يسكن في مقادمها.
فلا يوجد شيء أشد مقدرة على استعباد النفس من الحسد والطمع؛ فإن هذا الروح إذا تمكن من الأنفس أوثقها بجندل العبودية القصوى لسلطان الانفعالات، وقيدها عن التمتع بأدنى لذة أدبية، فتبقى مرتجفة بين فواعل الشهوات كارتجاف العصفور بين مخالب العقاب، فاقدة كل سلامة الحواس؛ إذ لا تعود ترى سوى تناثر شرر الاضطراب والطموح، ولا تسمع سوى دوي أصوات القنوط والأكدار، ولا تذوق سوى حرارة الأميال والآلام، ولا تشم سوى رائحة الزهاق العصبي، ولا تلمس سوى خشونة الأشياء التي ليست بقبضتها.
ومع ذلك فلا بأس من ترك بعض دخل لقائد الحسد والطمع في أحكام التمدن؛ لأن هذا الروح يقود الناس إلى الغيرة والتنافس التي ينجم عنها فوائد جزيلة لترقية الجمعية، كالهجوم على درس العلوم، وتنشيط الأشغال، وتنبيه القوى الاختراعية ونحو ذلك، ولكن يجب أن يرفق هذا القائد بالرضا والقناعة، ويكون خاضعا له لكي يمتنع ضرر ذاك ويقوم نفع هذا؛ فتحصل المغايرة.
Shafi da ba'a sani ba