أما قبور الصحابة الواقعة إلى جوار المسجد من ناحية الشمال فيبلغ عددها اثني عشر قبرا، ويحيط بها مكان مسور ويقوم فوقها زرع أخضر، وليس يعرف أحد ممن تحدثت إليهم لمن من الصحابة الذين استشهدوا في الحصار هذا القبر أو ذاك، مع أنهم جميعا معروفة أسماؤهم، ولقد سألت: أيعرف أحد قبر عروة بن مسعود الثقفي، فلم أجد من يعرفه أو يدلني عليه، هذا مع ما كان لعروة من مكانة وسؤدد في الطائف على عهد الرسول، صحيح أنه لم يكن ممن استشهد مع المسلمين في حصار الطائف، فقد كان عروة يومئذ على دين قومه ولم يكن قد مات، لكن له في تاريخ النبي العربي مواقف تجعل له من المكانة في النفوس ما يخلد به ذكر قبره، وما يخلع عليه أسطورة من مثل الأساطير الكثيرة التي يسمعها الإنسان بمكة عن مساجدها وقبورها وآبارها.
فقد كان عروة سفير قريش إلى النبي عام الحديبية، هو الذي خرج إليه يذكره بأن مكة بيضته، وأنه إن يفضضها على أهله المقيمين بها كان العار الخالد لقريش عارا لا يرضاه محمد لأهله وإن اتصلت الحرب بينه وبينهم ما اتصلت، فلما عاد إلى قريش قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبدا.» وكان عروة هو الذي أسرع إلى محمد بعد غزوة تبوك يعلن إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله، فلما حذره النبي قومه وقال له: «إنهم قاتلوك». كان جواب عروة جواب المعتز بمكانه منهم أن قال: «يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم.» وعاد عروة إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام؛ فتشاوروا بينهم، وعز عليهم أن يتركوا عبادة اللات، فلما أصبح عروة قام على علية له ينادي للصلاة، فضاق قومه به ذرعا فرموه بالنبل، فقال وهو يسلم الروح: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يرتحل عنكم.» ثم طلب أن يدفن مع هؤلاء الشهداء فدفن معهم.
هذه بعض مواقف عروة بن مسعود الثقفي، ومع ذلك لا يعرف أحد من ثقيف قبره بين هذه القبور لشهداء المسلمين، ولقد دعاني ذلك إلى كثير من التدبر وأنا بموقفي أستذكر صورة اليوم الذي استشهد فيه أولئك الشهداء، واليوم الذي استشهد فيه عروة بن مسعود من رمية النبل وهو ينادي: «الله أكبر الله أكبر» ويدعو الناس للصلاة.
1
وعدت وأصحابي من مسجد ابن عباس ندور في المدينة، وقد مررنا على مقربة من مسجد ابن عباس بمسجد للسنوسي، يسميه بعضهم مسجد الطرابلسي، فألفيناه مغلقا، فنظرت من ثقب في أعلى بابه فإذا هو على طراز مساجد مكة بسيط العمارة غير فسيح، يتقدمه لدى الباب صحن مكشوف، ويقوم المحراب قبالة الباب، ويعتمد سقفه على عمد فوقها عقود تفصل بين الصحن والمسجد، فلما تخطينا سوق المدينة منحدرين غربا استوقفنا مسجد الهادي، وهو مسجد فسيح من مساجد الطائف السبعة التي يصلي أهل الطائف بها كل أوقاتهم، ما خلا صلاة الجمعة، فهم يجتمعون لها في مسجد ابن عباس.
من هذه المساجد بالطائف مسجد له قصة طريفة جديرة بالرواية، ذلك مسجد المحجوب الواقع في سفح جبل السكارى بقروة، وتتصل قصة هذا المسجد بمحرابه المشهور بأنه محرر على القبلة بدقة لا تعادلها دقة تحرير المحاريب في سائر مساجد الطائف، وقصة هذا المحراب أن السيد محجوب الميرغني السوداني أمر ببنائه، فلما أقام البناءون المحراب اشتبه في دقة استقباله القبلة، وقال لرئيس البنائين: «أصلح قبلتك». ثم مد كم جبته أمام هذا المعلم فنظر فيها فرأى الكعبة من كم الجبة، وبذلك حرر المحراب على عين القبلة، وأنا أضع هذه الرواية تحت نظر القارئ، وليس لي منها إلا حظ الناقل.
مررنا بسوق الطائف في انحدارنا من مسجد ابن عباس إلى مسجد الهادي، وسوق الطائف كما رأيت أشبه شيء بما نراه في حوانيت القاهرة إذ نمر بالفحامين والمغربلين وتحت الربع، ولقد عادت بي ذاكرتي وأنا أجتازها إلى أسواق أم درمان، وإن بينها وبين أكثر الأسواق بمكة لشبها عظيما، وهي تشبه أسواق دمشق كما رأيتها في سنة 1914 - إذا لم تخني الذاكرة - وهذا كله يدل على أنه طراز السوق المعروفة في بلادنا الشرقية قبل أن تغزونا حضارة الغرب وأن تجعل من أسواقنا ما نراه اليوم بالقاهرة والإسكندرية ودمشق والخرطوم في الأحياء الجديدة، فالحوانيت صغيرة ضيقة لا تعنى بعرض ما فيها عناية تلفت النظر، والجالسون فيها هم أصحابها، وهم يرتبطون بصلة المودة حتى ليدع أحدهم عميله جالسا إلى باب حانوته ليقوم بنفسه فيبتاع له من الحوانيت الأخرى ما ليس عنده، وتمتلئ هذه الحوانيت الصغيرة الضيقة بركة من الله وفضلا لقيام أصحابها بأنفسهم على تصريف تجارتها.
إذا اعتبرت الطائف هذه المدينة التي تتوسطها السوق ويقع فيها مسجد ابن عباس والمساجد الستة الأخرى، فهي - لا ريب - مدينة صغيرة لا تزيد على مدن المراكز في مصر؛ لذلك تضاف إليها الضواحي المتصلة بها، والتي يتخذها أهل مكة مصيفا ويعتبرونها من الطائف - كما يتخذ أهل مصر رمل الإسكندرية مصيفا ويعتبرونه من الإسكندرية.
Shafi da ba'a sani ba