وأجاب وما يزال في تحفظه: لقد عرفت رأيك في مكة وما يجب أن تكون عليه، وهذه الحكومة تشاطرك الرجاء في أن تكون مكة مقر عصبة الأمم الإسلامية، ومكان الإصلاح بين المسلمين إذا اختلفوا، أما من أراد إحسانا إلى حجاج بيت الله فله أجره عند الله وله شكرنا، ونحن نعلم أن الشعوب الإسلامية تؤيدنا بعواطفها، فأما الدول الكبرى كلها فتبغي رضانا.
سرني أن أفضى وزير المالية إلى الملك بالحديث الذي دار بيني وبينه عن مكة، وأن أبدى جلالته موافقته على رأيي، ودار بخاطري أن أوضحه، لكني حرصت على وقته فقلت: وفق الله الحكومة لإعلاء شأن العرب.
وكان جوابه: نحن قد جئنا هنا فوجدنا أمنا مضطربا فوطدناه، ووجدنا شيوخا لهم عاداتهم وشبانا لا سلطان لهم، فعالجنا أمر الشيوخ لننزع بالحسنى ما خالف الدين من العادات، وأتحنا للشباب الفرصة لتأييد الفكر الإسلامية الصحيحة.
وأمسك الرجل من القول عند هذا الحد على سعة الموضوع الذي استفتحه، إذ ذاك قلت: أخشى أن تحول مشاغلكم الكثيرة بسبب الحج دون طول الحديث، وتحرك الرجل إلى ناحيتي حين سمع مني هذا القول وقال مبتسما: أرجو أن نلتقي بعد الحج.
وودعني فانصرفت، وشغلت منذ وصلت الدار بالتهيؤ لعرفات وصعوده، ولكني بقيت بعد ذلك أعود إلى التفكير في هذا الرجل المديد القامة، المفتول العضل، القوي الساعدين، الحاد النظرة، الضخم في كل شيء، وأفكر في هذا الذي قاله أثناء حديثنا وفي شدة تحفظه ، فلما ذهبت ثاني يوم العيد إلى تشريفته بمنى وألفيته يقابل الناس جميعا، من عرف منهم ومن لم يعرف، ويقابلهم ببساطة بدوية لا شيء من التكلف فيها، ازددت عجبا منه وإعجابا به، وأفضيت بخواطري عنه إلى بعض السوريين من موظفي الحكومة العربية وإلى بعض الشباب العربي من أهل مكة، راجيا أن أجد في حديثهم ما تكمل به في نفسي صورته، لقد فهمت منهم أنه رجل محب للإصلاح، ميال بكل نفسه إليه، وأنه - وهو السياسي العليم بشدة قومه - يحاول ما استطاع التوفيق بين مذهبه في الدين وبين الأمر الواقع، ويحاول هذا التوفيق بمقدرة وذكاء يبدو بهما طبيعيا موفقا.
لما اشتد رجاله النجديون في تحريم التدخين على المقيمين بمكة جميعا، سواء منهم أهل البلد ومن جاءوا إليها حاجين البيت، بدأت إيرادات المكوس «الجمارك» من الدخان تهوي سريعا وتهبط هبوطا تأثرت به ميزانية الدولة التي تعتمد على المكوس بقدر عظيم، وتحدث إليه رجاله في هذا الأمر من ناحيته المالية، ومن ناحية الدعاية به ضد حكومته بالحجاز بأنها تغلو في تحريم ما لا تحرمه أكثر المذاهب الإسلامية، إذ ذاك أسرعت الحكومة بموافقته فنادت في الناس أن لا إكراه في الدين، وأن الذين يجيئون للحج من أهل المذاهب المختلفة لا جناح عليهم أن يدخنوا أو أن يحفوا لحاهم أو أن يفعلوا ما تبيحه لهم مذاهبهم ما دام لا يحل ما حرم الله في كتابه، والتمست الحكومة الفتوى بذلك عند عالم نجد الشيخ عبد الله بن بليهد، فأفتى بأن الدخان لا يسكر كثيره ولا قليله فهو غير محرم وإن كان مكروها، وبذلك أبيح التدخين لمن شاءه من الحجيج، وعادت موارد المكوس منه إلى مثل ما كانت من قبل تحريمه.
وكان النجديون أشد الناس طعنا على «التليفون» و«الراديو»، وكانوا يزعمون أن الشياطين هي التي تتكلم فيهما، فكانوا لذلك يحرمون استعمالهما، ولما كانت الحاجة إلى هذه المنشآت ماسة ولم يكن الاستغناء عنها ممكنا، فقد دعا ابن السعود كبار المشايخ وسألهم: أتستطيع الشياطين أن تتلو القرآن؟ فلما أنكروا ذلك طلب إليهم أن ينصتوا لما في سماعة التليفون فإذا هو قرآن يتلوه قارئ جميل الصوت، فلم يبق لديهم ريب في حله، وكان ذلك شأنهم أمام الراديو، وكل ما استطاع غلاتهم بعد ذلك أن يقولوه: إن هذه الآلات تصلح لنقل السيئ من الأخبار ولإذاعة المحرم من الغناء وأسباب الطرب، لكن الرد على هذا القول كان ميسورا، فكل ما أحل الله قد يكون ذريعة لأمر محرم، الخمر بنت الكرم، ومن كروم الطائف كان بعضهم يصنع الخمر في البلد الحرام، فلم يكن عملهم سببا لتحريم زرع العنب أو غيره من الفاكهة التي يصير عصيرها خمرا إذا عتق، وأدوات القتل هي بذاتها أدوات الصيد وأدوات الدفاع عن النفس وأدوات صد المغير على الوطن، وإنما الإرادة والتمييز عند الإنسان هما اللذان يفرقان بين الخير والشر، يبيحان الحلال ويحرمان الحرام.
قص علي من تحدثت إليهم بعض هذه الأنباء ومثلها، مما دلني على حيلة الرجل وسعتها، وعلى دقة إدراكه لعقلية أهل بلاده والسبيل التي يسلكها لإقناعهم وتوجيههم نحو ما يراه الخير والحق، وإن قوما من أهل الحجاز لا يحبونه قد أرادوا يوما أن يدلوا على مبلغ قسوته، فكان ما ذكروا دليلا على دقة الإدراك والقدرة على التفريق بين المبادئ الواجبة الاتباع والضرورات التي تبيح المحظورات، سمعني هؤلاء أذكر ابن السعود وحكومته وأقول: لو لم يكن من أثرهم إلا أنهم أقروا الأمن في ربوع الحجاز بعد الذي كان من فساده واضطرابه لكفاهم فخرا، قال أحدهم: لو عرفت أنهم لم يبلغوا ذلك إلا بمظالم ارتكبت لما أضفيت عليهم كل هذا الفخر، فلقد كانوا يأخذون البريء بجريرة المذنب، ويلقون تبعة جريمة تقع على قبيلة بأسرها فيستأصلون القبيلة استئصالا، ولولا ذلك ما تم لهم ما يفاخرون به من أمن مستتب يرى الناس اليوم استتبابه ولا يذكرون كيف كان الاستتباب ولا الأرواح التي أزهقت في سبيله.
قلت: وكم من القبائل استؤصلوا أخذا للبريء بجريرة المذنب؟
وأجاب محدثي: المعروف عندنا قبيلة واحدة، لكني لا أستطيع ولا يستطيع غيري أن يجزم بأن غيرها من القبائل لم تستأصل كذلك، وما تزال الشدة ديدن الحكام النجديين، وإنك لتسمع اليوم عن أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم ما يدل عليها، وستراه وستقف من أخباره حين تزور المدينة على ما يقطع عندك بصحة هذا القول.
Shafi da ba'a sani ba