سكت رجل الفندق ولم يجب، إذا ذاك تولى صاحبي الجواب فقال: قل أن تنهمر مثل هذه السيول الجارفة المخربة، فسيول هذه البلاد هتانة حقا، لكنها سريعة أن تمسك سرعتها إلى أن تنهمر، فإذا أمسكت ابتلع الرمل الماء في دقائق، أما آباؤنا الأولون فلم يكونوا يعرفون السيارات، فلو أن سيلا جارفا كسيل هذا العام نزل بهم لصعدوا بالإبل في دروب الجبال حتى يبلغوا قننها إن أعوزهم الأمر.
وأمسك صاحبي هنيهة ثم قال: «هذا طريق ما بين مكة ويثرب؛ وغنك لحريص مذ هبطت الحجاز على أن تمر ما استطعت حيثما مر الرسول - عليه السلام، أفتذكر كم مرة مر بهذا الطريق؟»
قلت: نعم! ووجمت هنيهة أفكر: لقد مر بهذا الطريق ولا يزال طفلا في السادسة من عمره حين ذهب مع أمه آمنة يزور قبر أبيه بيثرب، فلما آن لهما أن يعودا منه ماتت أمه ودفنت بالأبواء، ومر به حين ذهب في الثانية عشرة مع عمه أبي طالب إلى الشام، كما مر به في الخامسة والعشرين حين ذهب في تجارة خديجة، وأقام بعد ذلك خمسا وعشرين سنة تباعا لا يقطعه، ولما هاجر من مكة والصديق معه جاوزه إلى طريق يساحل البحر خيفة أن تدركه قريش، لكنه عاد بعد ذلك منه عام الحديبية، ثم عام عمرة القضاء، ثم عام الفتح، ثم في حجة الوداع، ما أحفل هذا الطريق بالذكريات! لقد رأى النبي العربي طفلا، ورآه صبيا، ورآه شابا، ورآه نبيا، ورآه مجاهدا، ورآه حاجا بيت ربه مستغفرا إياه ضارعا إليه، ولقد رآه يوحي إليه ربه من كتابه هدى ونورا، وأنا أسير اليوم فيه ويسير عشرات الألوف من المسلمين فيه كل عام، وقل من يذكر منا ما يحفل به أو يذكر هذه الحوادث من أيام النبي، وكل واحدة منها عبرة، وفي كل واحدة منها مدكر، أوليس هذا نسيانا يجب أن نتنزه عنه إكبارا لذكرى الرسول الخالدة والتماسا لموضع العبرة والأسوة من سيرته وحياته؟!
ولو أن علم هذا العصر الذي سخر لنا قوى الطبيعة، استطاع أن يحلل ما ينطوي عليه الماضي، وأن ينقل إلينا ما نشاء من ذكريات على موج الزمن كما ينقل إلينا الأصوات التي نشاء من أقصى الأرض على موج الأثير، إذن لرأينا في هذا الطريق ما تهتز له القلوب وما تطير له الأفئدة تقديسا وإعجابا، إذن لرأينا الصغير محمدا يجلس مع أمه آمنة والبعير يسير بهما وبحاضنة الغلام أم أيمن قاصدا يثرب بخطاه الهادئة البطيئة، وآمنة تقص على ابنها نبأ أخوال أبيه من بني النجار بالبلد الذي إليه يقصدون، وتقص عليه كيف ارتحل أبوه إلى الشام في تجارته، وكيف عاد منها، وكيف مرض ومات ودفن عند أخواله، والصغير ينصت مأخوذا يدري ولا يدري، لقد رأى القوافل التي تذهب في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، فهذا الرجل الذي تحدثه عنه أمه، عبد الله بن عبد المطلب، قد ذهب مع قافلة الصيف لا ريب، ترى كيف كان؟ وتجيبه الأم الرءوم أنه كان جوادا شجاعا وشهما كريما، بل كأن الشهامة والجود صور رجلا، وتقص عليه الأم من أخبار عبد الله ما ترجو أن يكون أسوة للابن ومثلا، فما أكبر أملها أن ترى هذا الصغير يكبر ليكون كأبيه؛ محبوبا من قومه، مقدرا منهم، عزيزا عليهم، حتى ليقفون دون إرادة جده حين أراد أن يذبحه وفاء لنذره وبره بقسمه! وما له لا يكون كأبيه وفي نظرته من قوة البريق ما كان في نظرة عبد الله، وفي نبرة صوته من الرقة والقوة ما كان في نبرة صوت أبيه؟!
وينقضي اليوم ويتلوه غده فينقضي كانقضائه وهم يقيمون ثم يسيرون لا يعجلون بعيرهم ولا يسأمون طول الطريق، وكيف يسأمون حياة هي حياتهم وبيئة هي بيئتهم؟! وكيف تسأم آمنة وهي تسير إلى قبر حبيب وهبت له نفسها، وكان لها في الحياة منه أمل عريض، فلم يمهله القدر أن اختطفه منها، وهي تتعلق - على رغم القدر - بأملها وتريد أن تصل بين الثاوي في القبر وقلبها، ويبلغون يثرب، وتزور آمنة القبر وتزيره صغيرها وتتحدث وإياه عنه، وتأوي معه إلى دور بني النجار، وهي ترى في الطفل محمد أحب صورة إليها من عبد الله، وترى فيه الحياة وبهجتها، والعزاء عن ألم الحياة وقسوتها، لا يجول بخاطرها أنها عما قريب ستلحق بعبد الله، لكنها لا تلبث حين تتحمل مع ابنها وحاضنته عائدة إلى مكة أن يصيبها المرض وأن يخترم حياتها، فيتعاون دليلها وأم أيمن على دفنها بالأبواء، ويلتمسها الصغير لتحدثه عن عبد الله فلا يجدها، ويلتمس من يحدثه عنها فتسري عنه أم أيمن لوعة اليتم من أبيه وأمه، حتى إذا بلغ مكة وجد في جده عبد المطلب وفي حنوه وعطفه أبا وأما.
ثم لرأينا محمدا في الثانية عشرة من عمره يسير مع عمه أبي طالب في هذه الطريق التي كنا نسير فيها، لكنه يسير هذه المرة في قافلة ذاهبة في رحلة الصيف كالقافلة التي سار فيها أبوه، ولا يسير وحيدا بل معه عمه كما كان مع أمه، وتتخطى القافلة سرف، وتتخطى وادي فاطمة، وتساحل البحر فتبلغ يثرب، ثم تتخطاها متخذة دروب البادية إلى الشام، وتحط القافلة رحالها ها هنا وهناك، ويسأل محمد حيثما سار وأينما نزل عما يحيط به ، فيجيبه عمه حينا، ويجيبه رفاقه في القافلة حينا آخر ، وأية وسيلة يقطع بها راكب الجمل طول الطريق كالتحدث وقصص الماضي والتندر بالأنباء؟! ولكل محلة تنزل بها القافلة حديث ونبأ، ولكثير من الأماكن قصص تذهب في بطون التاريخ إلى حيث يكاد التاريخ يضل فيها، ومحمد الصبي ينصت وقلما يتكلم، ويقلب ما يسمع على أوتار فؤاده ليرى مبلغ اتساقه مع ما يرى، وتبلغ القافلة حدود فلسطين ويرى فيها قوما غير الذين ألفهم في البادية؛ قوما عرفوا الحضر وصناعته، والاستقرار ونظمه، يتحدثون عن رومية وعن بزنطية وعن أديانهما ورسلهما، ويذكرون اليونان والرومان وحكمتهما وتشريعهما، ويذكرون موسى وعيسى والنبيين من قبل، وليس يشغله من أمر التجارة التي جاء قومه بها ما يصرفه عن التفكير فيما يرى ويسمع وعن استذكاره، ثم ينصرف مع القوم قافلين إلى مكة مارين بيثرب وبوادي فاطمة، وهو لا يفتأ يسأل عما يرى وإن كان أدنى في عودته إلى الصمت إمعانا في التفكير فيما رأى وسمع.
ويعود في الخامسة والعشرين إلى مثل هذه الرحلة في تجارة خديجة مع قافلة الشام، وتربح تجارته ويتزوج خديجة، لكن رحلة الصيف إلى الشام لا تستهويه ليعود إليها كرة أخرى، لقد عرف أنباء الشام واتصل بأهلها، وفكر فيما وقف عليه من ذلك كله، وهو رجل تأمل في المثل الأعلى، وليس تاجرا يغريه المال والاستزادة منه، فلترسل خديجة في تجارتها من تشاء وليقم هو بمكة على مقربة من البيت العتيق مفكرا متأملا منقطعا إلى تفكيره وتأمله، ثم ليتحنث في غار حراء حتى يوحي إليه ربه الأكرم أنه علم الإنسان ما لم يعلم.
وينصرف محمد عن هذا الطريق سنوات متوالية حتى يأذن له ربه بالهجرة، فإذا ارتد من غار ثور سلك طريقا غير الذي نسلكه نحن اليوم، نجاة بنفسه وبصاحبه من مطاردة قريش إياهما واقتفائها أثرهما.
ويعود إلى هذا الطريق بعد ذلك عام الحديبية، يعود إليها شيخا توجت الرسالة وتوجت السنون رأسه، ويعود مع أصحابه حتى يبلغ منه ذا طوى، ثم يضطر إلى الخروج إلى طريق الحديبية حتى لا يصطدم بجيوش قريش.
ويسلك هذا الطريق بعد عام في عمرة القضاء، يسلكه ملبيا نداء ربه مناديا مع أصحابه: «لبيك اللهم لبيك.» وتتجاوب أودية البادية وهضابها بهذا النداء تنفرج عنه شفاه ألفين من المسلمين يسيرون وراء نبيهم وكلهم شغف بهذا اليوم الذي انتظروه منذ سنين، فهو اليوم الذي يطوفون فيه ببيت الله ويؤدون مناسك العمرة، والرسول في مقدمتهم على القصواء تسير به، وهو في طمأنينته إلى نصر ربه أكثر من كل من معه شكرا لله وإذعانا. وتنيخ القافلة ثم تستأنف سيرها حتى تبلغ مكة، فإذا هي خالية غادرها أهلها، ويجوس المسلمون خلالها طائفين مصلين مهللين مكبرين، أين هم اليوم منهم يوم أخرجتهم مكة منها وأقصتهم عنها وضنت عليهم بدخولها وأنكرت حقهم من الوجود أو أداء شعائر دينهم؟! لكنهم صبروا وصابروا فنصرهم الله من فضله، والعاقبة للصابرين.
Shafi da ba'a sani ba