وإذا كان العرب الذين يفدون في الجاهلية إلى عكاظ لحج البيت لا يدينون لصنم واحد، بل تدين هذه القبيلة للات، وتلك للعزى، وثالثة لمناة، وأخرى لصنم آخر، فقد كان خلافهم يجر في كثير من الأحايين إلى التنابز بالألقاب والتفاخر بالأصنام، فإذا هدأت الخصومة وآن للحكماء أن يحسموها حاول بعضهم أن يقنع المتخاصمين بأنهم جميعا على حق في عبادة أصنامهم، وأنها تنفعهم ليتخذوها إلى الله زلفى، وحاول آخرون أن يهدئوا من أمر هذا الخلاف على الأصنام ولو أدى ذلك إلى التهوين من أمر الأصنام، دون طعن عليها، ودون إثارة لحفائظ النفوس بهذا الطعن.
وهذا عندي هو ما دعا إلى خطبة قس بن ساعدة الإيادي راهب نجران النصراني حين خطب من حضر عكاظا فقال: «أيها الناس، اسمعوا وعوا! من عاش مات، وما مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا بالمقام فأقاموا، أو تركوا فناموا؟! وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتبعه! وويل لمن خالفه!» فليس يحمل قسا على أن يلقي هذا الخطاب في سوق يتجر فيها الناس إلا خلاف شجر بينهم وبلغ التفاخر بأصنامهم، فلما هدءوا وآن لذوي الرأي أن يحسموه بالحكمة تحدث قس هذا الحديث متأثرا فيه لا ريب بعقيدته المسيحية، ولكن من غير حرص على الدعوة إليها دعوة قل أن تؤتي في مثل هذا الجمع ثمرتها.
كان أهل مكة يشهدون عكاظا كما قدمت، وكان أبناؤهم يخرجون معهم إليها كما يخرجون معهم اليوم إلى عرفات ومنى، وكان محمد يشهدها مع أهله ويشهد ما يجري فيها، وكان يشهدها بعد ذلك في سنين كثيرة: شهدها العام الذي خطب فيه قس هذه الخطبة، وسمعه يلقيها وأعجب به غاية الإعجاب، فلما بعثه الله نبيا وأكمل للمسلمين دينهم وآن لوفود العرب أن تجيء إلى النبي تعلن إليه إسلامها، قدم عليه وفد إياد يوما، فقال لهم: «ما فعل قس بن ساعدة؟» قالوا: «مات رسول الله.» قال: «كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه.» قال رجل من القوم: «أنا أحفظه يا رسول الله.» وتلا عليه الخطبة، فقال رسول الله: «يرحم الله قسا! إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده.»
ومن قبل ذلك حضر محمد عكاظا وشهد فيه حرب الفجار، وذلك حين عرض البراض بن قيس الكناني نفسه على النعمان بن المنذر؛ ليقود قافلة النعمان من الحيرة إلى الشام في حماية قبيلته كنانة، فآثر النعمان عليه عروة الرحال الهوازني ليتخطى إلى الحجاز عن طريق نجد؛ فأحفظ ذلك البراض، فتبع عروة وغاله وأخذ قافلته، ثم لقي بشر بن أبي خازم وقال له: «هذا القلاص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشاما والوليد بن المغيرة فتخبرهم أن البراض قتل عروة، فإني أخاف أن يسبق الخبر إلى قيس فيكتموه حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما.» وأجابه بشر: «وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل؟!» قال البراض: «إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة .» وكانت العرب إذا قدمت عكاظا دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان اتقاء للحرب حتى يفرغوا من أسواقهم ومن حجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، فلما أبلغ بشر رسالته قال حرب بن أمية لابن جدعان: «احتبس قبلك سلاح هوازن.» وأجاب عبد الله: «أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله، لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أبقيت منها شيئا، ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف في مالي تستعينون بها.» ثم نادى في الناس: «من كان له قبلي سلاح فليأت وليأخذه.» وأخذ الناس أسلحتهم وسار حرب وهشام وأمية وابن جدعان راجعين إلى مكة اتقاء القتال مع هوازن، فلما بلغ أبا براء قتل البراض عروة قال: خدعني حرب وابن جدعان؛ وركب فيمن حضر عكاظا من هوازن في أثر القوم فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل فكفوا، ونادى منادي هوازن: يا معشر قريش! ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل بعكاظ.
وقدم البراض بالقافلة مكة، فلما استدار العام ذهبت قريش وأشياعها وهوازن وأشياعها إلى عكاظ فالتقوا بشمطة، وكان محمد مع قريش، وقد استحر القتل فيهم، فلما رأى ذلك بنو الحارث بن كنانة قاموا إلى قريش وتركوا مكانهم فانتصرت قريش، واستدار العام كرة أخرى فكان اليوم الثالث من أيام الفجار بعكاظ وفيه التقى القوم على قرن الحول بالعبلاء واقتتلوا، أما اليوم الرابع فكان بعكاظ، وفيه اقتتل القوم قتالا شديدا انهزمت قيس كلها على أثره، وقد ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
الفجار بعد رسالته فقال: «لقد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت.»
ولقد قيل في حروب الفجار هذه شعر كثير على أثر كل يوم من أيامها، وكان يذاع في الناس وينشد في عكاظ؛ ولا يبتغي قائلوه الاحتكام به إلى نقاد الشعر، بل يقولونه تفاخرا ودعاية وتقوية للروح المعنوية في قومهم، ولا تزال كتب الأدب القديمة وكتب السيرة تحفظ لنا من هذا الشعر الشيء الكثير.
ولم ينقطع النبي عن الذهاب إلى عكاظ بعد بعثه، ولعله لم يكن يذهب إليها في كل عام، لكن الثابت في كتب السيرة جميعا أنه ذهب إليها بعد أن ضاقت قريش به فحصرته وأصحابه في الشعب من جبال مكة، فلما نقضت صحيفة المقاطعة والحصار وعاد المسلمون يتصلون بالناس، فجع محمد بعد أشهر من ذلك في عمه أبي طالب وفي زوجه خديجة، فازدادت قريش له إيذاء، حتى كان من أيسر ذلك أن اعترضه سفيه منها فرمى على رأسه ترابا، هنالك خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، فلما ردته بشر جواب ازدادت قريش له أذى، ولم يصرفه ذلك عن الدعوة إلى دين الله، بل جعل يعرض نفسه في المواسم - وعكاظ أهمها - على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق وينبئهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه، وكان عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب يتبعه أينما ذهب ويحرض الناس ألا يسمعوا له، فهو لم يكن يقف في هذه السوق خطيبا يدعو الجموع ببلاغته ليتبعوه، بل كان يتصل بهذه القبلة وبتلك، يحدثهم ويحاول إقناعهم بالحجة والمنطق، ويجادلهم بالتي هي أحسن، رجاء أن يهديهم إلى الحق وأن يجنبهم الضلال.
موضع كان للرسول الكريم به هذه المواقف؛ حضر فيه حرب الفجار صبيا واشترك فيها، وسمع فيه إلى قس بن ساعدة قبيل بعثه، وعرض نفسه فيه على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق، جدير بأن يكون مأثورا وأن يظل سوقا للحج على مر العصور، لكن ما قام بمكة وما حولها بعد وفاة النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر من الثورات التي انتهت بأن أصبحت الخلافة ملكا عضودا، وبأن انتقلت العاصمة الإسلامية من المدينة إلى دمشق فبغداد فالقاهرة، قد عفى كثيرا من هذه الآثار وذهب بكثير من العادات التي أقرها الإسلام بعد الجاهلية.
Shafi da ba'a sani ba