وقام الرسول - عليه السلام - بعد أن طعم العنب واستراح فانصرف عنه عداس، فتوجه إلى مكة سالكا طريق حمى النمور فوادي محرم فالثنية، لا أنيس له في طريقه غير إيمانه بالله وعياذه بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا موقف من مواقف الرسول الكبرى، هو الموقف الذي سبق الهجرة وكان مقدمة بيعة العقبة ثم الاختفاء بغار ثور، والذي هيأ الله به للرسول وجهة الدعوة إلى دين الحق، فلئن أجارت الحبشة المسلمين حين لجئوا إليها، ولئن أسلم بمكة عدد عظيم له قوته وله منعته، لقد جعل الله يثرب مدينة الرسول ولم يكتب لغيرها من بلاد العرب أن يسبقها إلى نصرته، فلن يكون الأنصار إلا أبناءها الذين يؤوون رسول الله ويمهدون للفتح ولكمال دين الله وتمام نعمته، أما الطائف فستظل آية الله في الأرض أن الإيمان سبيلنا إلى الله لينصرنا، وإن ينصرنا الله فلا غالب لنا.
ما الطائف إذن من غير زورة لمسجد عداس؟! لقد كانت المثناة التي يقوم المسجد بها قطعة من الطائف في عهد النبي، وأكبر الظن أنها كانت بعض أطرافها، فقبلها انصرف صبيان الطائف عن محمد وانقطعوا عن إيذائه؛ وبها كانت بساتين الطائف وكرومها، أما اليوم فتقع المثناة من الطائف على نحو ثلاثة أميال إلى الجنوب الغربي، ولا تزال المياه جارية في أنحائها، ولا تزال بساتينها ذات بهاء ونضرة، والكثير من دورها تحيط به البساتين، ويسقى معظمها من عين ينحدر ماؤها من جبل برد من مساكن قريش، أي قريش هذه؟! وما مبلغ صلتها بقريش مكة في عهد الرسول؟! هذا ما لم أقف على تحقيقه.
وقفت السيارة بنا في ميدان فسيح أمام دور المثناة، وانحدرنا نتسلل خلال الأزقة نريد مسجد عداس، وهي أزقة ضيقة بدت في هذه الساعة من موليات النهار ومقدم الليل موحشة على ضيقها، فلم يكن بها إنسان يؤنس وحشتها، ولولا البساتين المحيطة بها على الجانبين لبدت أشد وحشة، واستدرنا في هذه الأزقة غير مرة حتى بلغنا دارا خيل إلينا أن بها إنسا، وسأل صاحبي من بها عن طريق المسجد، فتقدمنا صبي تخطى جدارا فتبعناه، ثم استدار فإذا بنا أمام بناء ضيق، صورته صورة المساجد بمكة، ولكنه بالغ في الضيق حدا ضاق به الصدر حين علمنا أنه مسجد عداس.
يا عجبا! بل يا أسفا! أيكون هذا الأثر الضئيل ما أقامه المسلمون ذكرا لهذا الموقف العظيم الجليل؟! مسجد لم يقمه مقيمه ليذكر المؤمنون الله فيه، وإنما أقامه ذكرا لتوجه الرسول إلى ربه بهذا الابتهال المضيء بنور الإيمان، والذي يملأ القلب جلالا وروعة، أين هذا الأثر الصغير من هذا الدعاء المنير؟! ألا لو أن منارة ارتفعت ما ارتفعت إلى كبد السماء، وكانت كل جوانبها محاريب تمثل الركوع لله والسجود أمام وجهه لقصرت عن تمثيل هذا الموقف الفذ من مواقف الرسول، موقف السمو بالإيمان إلى حيث يتضاءل كل سمو، والإسلام لله إلى غاية حدود الإسلام، لكن، من ذا يقيم هذه المنارة؟! ومن ذا يصور فيها هذه المحاريب؟! ومن ذا يفكر في أثر غير المنارة ومحاريبها يبعث في النفس صورة هذا الموقف وما له من عظمة وجلال، وقد خيم الجهل على المسلمين فانقلب الإسلام في نفوسهم إذعانا لعباد الله، واتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، وآمنوا لمن لم يتبع دينهم، وجعلوا عبادتهم مظهرا لأوضاع يتعصبون لها، وحقت عليهم كلمة الله - تعالى - في الأعراب:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
وأين الحائط الذي كان لعتبة وشيبة ابني ربيعة؟! أين هذا البستان الذي بعث الفتيان منه بقطف العنب مع عداس إلى النبي؟! سألت في هذا حين رأيت أمام المسجد مكانا ضيقا مسورا به زرع لم أتبين في هذه الساعة من إقبال الليل ما هو؟ وقيل لي: إن البستان مملوك لرجل من أهل المثناة وإن كان فقيرا، وكأنه بستان المسجد، وعجبت لهذا واشتد بي العجب، فإذا لم يكن هذا المكان وقفا على تعبير الفقهاء، ومنفعة عامة على تعبير رجال القانون من أهل عصرنا، فأين يكون الوقف وأين تكون المنافع العامة؟!
وعدنا إلى الأزقة وسرنا خلالها حتى كنا بظاهر المثناة في ناحيتها المقابلة للميدان حيث وقفت السيارة، وتخطينا سدودا وقنيا تجري فيها المياه تسقي هذه البساتين والزروع، ودرنا حول القرية حتى وقفنا عند مسجد الكوع، وهو أفسح من مسجد عداس رقعة، ويبدو خيرا منه حظا عند الذين يتعهدونه، ولست أدري أيقيم أهل القرية فيه صلاتهم وهو على ما شهدت من ضيق؟ لكن الذي عرفته أنهم يعتبرونه مسجدا مأثورا؛ لأن النبي استراح عنده بعد مطاردة ثقيف إياه، ولعلهم يريدون أن ينحلوه هذه الصفة ليكون له ما لمسجد عداس من مكانة، فكتب السيرة كلها تقرر أن ثقيفا أبوا نصرته وأغروا به صبيانهم، وأنه فر منهم حتى بلغ حائط ابني ربيعة فلجأ إليه واحتمى به، وهناك وافاه عداس بالعنب، اللهم إلا أن يكون النبي وقف كرة أخرى في هذا المكان، مكان مسجد الكوع قبالة جبل المدهون، قبل أن يسلك طريقه إلى حمى النمور ووادي محرم عائدا إلى مكة، وهذا قول لم أقف عليه ولا أعتقد صحته، وأغلب الظن عندي أن ما يذكر عن مسجد الكوع لا يزيد من ناحية الثبوت العلمي على ما يذكر عن أكثر مساجد مكة.
وعدنا إلى الطائف وصاحبي يحاورني في مسجد الكوع، ويكاد يقرني على أن لا سند من التاريخ لما يذكر عنه، أما مسجد عداس فقد بقيت لدي منه صورة تبعث في النفس الألم، ولو أن لي من الأمر في هذه البلاد شيئا لحققت بكل وسائل العلم هذا المكان الذي لقي عداس النبي فيه، ولأقمت به أثرا يفاخر أعظم الآثار على التاريخ، لكنما يكون ذلك بعد أن تصلح الطائف وباديتها، ويعود لها من العمران والحضارة ما كان لها في صدر الإسلام وفي عهده الأول، هنالك تقوم السدود ويجري الماء ويرتفع في الآبار ويعود الخصب ويكثر الثمر، وترجع هذه البلاد كما كانت جنة شبه جزيرة العرب، عند ذلك يدرك القوم هذه المعاني الخالدة من مواقف الرسول الكريم وما لها من جلال وعظمة، وهنالك يقيمون لها من الآثار ما يتناسب يومئذ مع علمهم وحضارتهم من غير حاجة إلى من ينبههم إلى هذا الواجب.
عدنا إلى الطائف وقد أخذ منا التعب كل مأخذ، فتناولنا عشاءنا وأوينا إلى مضاجعنا على أن نبرح الطائف عائدين إلى مكة بكرة الغد، لكنا لن نعود إليها من الطريق الذي جئنا منه، فقد سمعت روايات كثيرة عن سوق عكاظ والمكان الذي كان العرب يقيمونها فيه، وتذهب بعض هذه الروايات إلى أنها كانت تقام عند العشيرة، فلنجعل طريقنا إلى العشيرة، ولنعد منها إلى ذات عرق فإلى السيل الكبير، فأكثر الرواة على أن عكاظا كانت بنخلة بين مكة والطائف، ونخلة هي السيل الكبير اليوم، ويزعم بعضهم أن آثارا قديمة باقية على مقربة من هذا السيل تؤكد هذه الرواية، فلعلنا إن مررنا بالأماكن التي اختلفت الروايات أيها كان موضع عكاظ، أن نرجح رواية في أمر هذه السوق وموضعها، ولئن لم يكن لدينا من أسباب التحقيق ومن فسحة الوقت ما يجعل ترجيحنا ذا قيمة من ناحية علمية، لقد يكون مع ذلك ذا فائدة عند من تواتيهم فسحة الوقت وأسباب التحقيق بما لم تواتنا به.
Shafi da ba'a sani ba