ومثل هذه المقارنة يصدق أيضا على الفرق في المعنى بين ما يسميه ماركس ب «حتمية الثورة»، وما يرد في ميثاقنا تحت اسم «ضرورة الثورة»، فالحتمية في الحالة الأولى منظور إليها بنظرة تخضع التاريخ كله بشتى مراحله لحتمية تحتم أن تتتابع المراحل على صورة معينة، وأن تكون الثورة - ثورة الجماهير العاملة على أصحاب رءوس المال - إحدى تلك المراحل المحتومة، وأما «الضرورة» التي نصف بها ثورتنا، فهي ضرورة نشأت بحكم ظروف طارئة كان يمكن ألا تقع، فقد كان يمكن ألا يستعمرنا مستعمر يقهرنا، وألا يستغلنا المستغلون، وكان يمكن أن يطرد تقدمنا العلمي الذي بدأناه في شباب أمتنا العربية، فلا نتخلف، لكن هكذا حدث - حدث أن استبد المستعمر الدخيل واستغل المستغل وتخلفنا بسبب هؤلاء، فوجبت لذلك الثورة، لتحطم القيد، وليرفع نير الاستغلال، ولنلحق بالمتقدمين في مضمار العلوم.
ذلك - فيما أرى - فارق هام بين الفلسفة الماركسية من جهة، وفلسفتنا الاشتراكية من جهة أخرى: فهذه الأخيرة علاج لمشكلة قائمة، وأما تلك فتعتمد على نبوءة تاريخية نستدل بها مرحلة لاحقة من مرحلة سابقة، الفلسفة الماركسية تخلط بين «التنبؤ العلمي» وبين «النبوءات التاريخية» وتجعل هذه من تلك، مع أن التنبؤ في الحالة الأولى قائم على تجربة عينية محددة، نعلم منها أنه إذا حدث كذا وكذا من الظروف، نتج كذا وكذا من النتائج، كأن تقول مثلا إنه إذا توافرت في الجو الظروف الفلانية نزل المطر، فنحكم على ما سيحدث بناء على ما قد حدث، لما بين الحدثين من تشابه وتجانس، وأما «النبوءة» التاريخية، فلا تجربة فيها ولا مشاهدة، إذ ماذا تشاهد وماذا تجرب إذا كان المستقبل المرتقب في مراحل التاريخ الآتية، هو شيء مختلف عن الماضي المنقضي من مراحل التاريخ التي انطوت صفحاتها؟ إنما النبوءة التاريخية قائمة على «افتراض» أن التاريخ سيسير في خط معين معلوم، وهي لا تختلف كثيرا عن «قراءة الكف» حين ينظر القارئ إلى خطوط في كفك فيتنبأ لك بكذا وكذا في مستقبلك، وذلك على «افتراض» أن خط الحياة يسير على نحو معلوم، فالفرق الكبير بين الفلسفة الماركسية وبين فلسفتنا الاشتراكية في هذا الصدد، هو أن الماركسية تقول للناس: «سيحدث» كذا وكذا ولا قبل لكم بتغيير هذا المصير المحتوم، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقول لنا: لقد «حدث» بالفعل كذا وكذا من المواقف والمشكلات، وفي وسعنا أن نغير ما حدث، الماركسية تجعل الإرادة الحرة بغير عمل تؤديه، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتترك المجال أمام الإرادة فسيحا؛ ذلك لأن الماركسية تصب حتمية الحدوث على المشكلات نفسها بله طرائق علاجها، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقصر الحتمية على وسائل العلاج؛ لأننا نواجه مشكلات قائمة بالفعل، تحتم علينا أن نسلط عليها إرادتنا بطرائق فعالة لتزيلها من الطريق، الفرق بعيد بين رجل يعطيك نظرية مؤداها أن منطق التاريخ يحتم عليك أن يجيئك المستقبل البعيد أو القريب بضائقة مالية أو بعلة مرضية لا قبل لك بردها، ورجل يفتح عينك على ما هو قائم حولك بالفعل من أمثال هذه المشكلات، ليوجه انتباهك إلى ضرورة حلها.
ونعود الآن إلى تحليل المنهج الماركسي في تناوله لمسألة الترتيب المنطقي بين الفكر والواقع؛ لأننا نلمس في هذا التناول شيئا من الخلط والتناقض، فالنظرية الماركسية في هذه المسألة تتلخص في أن الجانب الشعوري من الإنسان ليس هو الذي يحدد موضعه (أعني موضع الإنسان) من الوجود الخارجي، بل إن موضعه من الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد جانب الشعور منه، أي أن الجهاز العقلي كله بجميع ما فيه من خواطر ومشاعر وأفكار وعواطف ورغبات وقيم جمالية وأخلاقية وغير ذلك، هو حصيلة نتجت عن المجتمع وطريقة تكوينه، وليس العكس هو الصحيح، أي أن ذلك الجهاز العقلي من الإنسان لا أثر له في خلق المجتمع وطريقة بنائه، أو بعبارة أخرى أقرب إلى الطريقة الهيجلية في التعبير، إن المجموع - متمثلا في الدولة أو في الأمة أو في المجتمع على أية صورة من صوره - أسبق من أفراده، وهو أعلى منهم رتبة في درجات الحق والواقع، على أن المقصود بالمجتمع في النظرية الماركسية، من حيث تأثيره على الأفراد وتشكيله لأفكارهم ومعاييرهم، هو النظام الاقتصادي السائد في ذلك المجتمع، وما يقتضيه هذا النظام من علاقات بين الأفراد.
لقد نشأ ماركس نشأة هيجلية - وهو في ذلك شبيه بالكثرة العظمى من فلاسفة عصرنا - فتأثر بهيجل حتى وهو يثور عليه ويقلب آراءه رأسا على عقب، من ذلك تمييزه بين ما هو «حقيقي» وما هو «ظاهري»، لكن بينما ذهب هيجل (وجميع الفلاسفة المثاليين من قبله ومن بعده) إلى أن عالم الفكر هو الجوهر وهو الحقيقة، وأن عالم المادة هو العرضي وهو الظاهر، عكس ماركس الوضع والترتيب، فجعل الجوهر والحقيقة في عالم المادة (أي النظام الاقتصادي السائد وبخاصة أدوات الإنتاج) وجعل العرضي والظاهر في عالم الفكر أو العقل أو الشعور، أي أنك تستطيع أن تفسر أية فكرة تريد، بردها إلى أصلها التي نشأت عنه من النظم الاقتصادية القائمة لا أن تفسر هذه النظم الاقتصادية بردها إلى نظريات وأفكار في رأس الإنسان، وفي عبارة مختصرة نقول إن النظرية الماركسية تعطي أولوية الوقوع للأوضاع المادية خارج الإنسان الفرد، وعنها يتفرع ما ينبثق منها من أفكار ومشاعر كائنة ما كانت.
وليس من همنا في هذا المقال أن نناقش النظرية الفلسفية من حيث هي بل من حيث اتساقها في منهج البحث، على أن أول ما يلفت نظرنا ونود أن نثبته - ولو على سبيل الفكاهة - أن النظرية الماركسية «نظرية» أي أنها «فكرة» وقد جاء من جاء بعدها ممن آمنوا بصوابها، فحاولوا أن يترجموها من «عالم الفكر» إلى «عالم التنفيذ والتطبيق»، وبقدر ما كتب لهم من نجاح في ذلك، فهم قد وجدوا «فكرة» سبقت «النظام الاقتصادي» الذي يحاولون أن يخرجوه على غرار تلك الفكرة، والحق أني إذا تصورت طائفة كبيرة من القيم والمعايير في حياة الناس قد نشأت نتيجة لازمة لشبكة العلاقات الاقتصادية القائمة، ولنوع أدوات الإنتاج المستخدمة، فإنه لمن المتعذر جدا علي أن أرى كيف تكون الحياة العقلية كلها نتيجة لتلك الأوضاع المادية الخارجية؟ ففي هذه الحياة العقلية - مثلا - حساب وجبر وهندسة، وفيها علم بالضوء والصوت والحرارة والمغناطيس والكهرباء، وفيها قياسات للأفلاك وأبعادها وسرعاتها ... فهل هذه «الحياة العقلية» كلها نتيجة لزمت بالضرورة عن كون المجتمع القائم يصنع القماش بهذه الأداة أو تلك، ويزرع الأرض بهذه الوسيلة أو تلك؟
أريد للقارئ أن يتصور معي أن كارثة الحروب الذرية قد شاء لها القدر الأعمى أن تقع فتمحو نظامنا الاقتصادي كله بما فيه من أدوات الإنتاج جميعا، ونظامنا الاجتماعي كله بما فيه من أوضاع وتقاليد، ولم يبق إلا على طائفة من قوانين العلم في رءوس نفر من العلماء، أو في صفحات الكتب أفلا يرى القارئ معي أنه من الجائز والممكن والمحتمل في هذه الحالة أن يهتدي الناس بتلك المعرفة العلمية فيعيدوا النظام الاقتصادي في الصناعة كما كان؟ ... لكن اعكس الفرض وتصور أن ما قد شاءت المصادفات المنكودة أن تمحوه، هو المعرفة العلمية في جميع مظانها وشتى مصادرها، مبقية على ما هناك من مصانع وآلات، فماذا يكون المصير؟ إنه يكون كما تضع رجلا يجهل كل شيء عن هذه المصانع كيف تدار وكيف تصلح، تضعه فيها وتقول له هاك! إنه لن يمضي إلا وقت قصير، ثم تندثر الصناعة إلى غير عودة.
لو قال ماركس إن العلاقة بين الفكر والمادة علاقة متبادلة، لكان - فيما نرى - أقرب إلى الصواب، فالواقع المادي يوحي بالفكرة، والفكرة بدورها تؤثر في الواقع وتعيد تشكيله، وإننا لنرى هذه العلاقة المتبادلة بين الفكرة العقلية وتطبيقها المادي في جميع المستويات على تفاوتها واختلافها، فكم من ثورة سياسية قامت، حين أثار الواقع الكريه أنفس الناس، فتبلورت في رءوسهم فكرة، فثاروا ليخرجوها إلى الواقع، وهكذا يكون الترتيب: واقع ففكرة فواقع، ثم واقع ففكرة فواقع، وماذا يكون البحث العلمي إلا السير على هذا الترتيب نفسه: واقع نشاهده ونحلله، ففكرة تنشأ، فتطبيق جديد لها لنطمئن على صوابها، ثم ماذا يكون التخطيط لأي مستقبل قريب أو بعيد، في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة، إلا سيرا على هذا الترتيب: موقف واقعي راهن، ففكرة لتغييره، فإخراج لتلك الفكرة إلى دنيا الواقع لتبدل الموقف القائم بموقف واقعي جديد.
وها هنا كذلك يعن لنا أن نذكر فلسفتنا الاشتراكية كما تبلورت في الميثاق الوطني، إذ نجد هذه العلاقة المتبادلة بين الفكر والتطبيق، بين الفكر والواقع، ركنا من أركانها، يقول وهو في معرض «التطبيق الاشتراكي ومشاكله»: «... إن ذلك يكفل دائما أن يكون الفكر على اتصال بالتجربة، وأن يكون الرأي النظري على اتصال بالتطبيق التجريبي، إن الوضوح الفكري أكبر ما يساعد على نجاح التجربة، كما أن التجربة بدورها تزيد في وضوح الفكر وتمنحه قوة وخصوبة تؤثر في الواقع وتتأثر به، ويكتسب العمل الوطني من هذا التبادل الخلاق، إمكانيات أكبر لتحقيق النجاح ...»
إن ما نسميه ب «السياسة» إن هو إلا خطة للعمل في هذا الميدان أو ذاك، نرسمها لنقوم بتنفيذها ابتغاء تغيير الواقع بواقع آخر أفضل منه فهي دائما «فكرة» يراد لها أن تهدي السائرين في طريق التنفيذ، فلو أصررنا على أن الواقع الاقتصادي أولا فالفكر ثانيا، نتج عن ذلك حتما أن تنتفي «السياسة» ويبطل أثرها، ويصبح محالا على قوم أن يغيروا ما بهم حتى وإن غيروا ما بأنفسهم؛ أعني أنه يكون محالا عليهم أن يغيروا واقعهم حتى وإن تغيرت أفكارهم، والواقع المشهود صارخ بما في ذلك من بطلان.
لقد يختلف الدارسون لماركس في فهم ما يريده بالنسبة إلى العلاقة بين الفكر من جهة والواقع من جهة أخرى، أهو من الفلاسفة الواحديين الذين يردون كل شيء إلى أصل واحد (والأصل الواحد في هذه الحالة هو المادة) أم هو من الفلاسفة الثنائيين الذين يردون الأشياء إلى أصلين، هما المادة والعقل معا، فلو كان ماركس من الفريق الأول صراحة، لكانت ظواهر العقل كلها في رأيه فروعا تتفرع عن أصل مادي، ولو كان من الفريق الثاني صراحة، لكان العقل (أو الروح) والمادة عنده أصلين متساويين في درجة الأصالة، لا يتفرع أحدهما عن الآخر.
Shafi da ba'a sani ba