تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
إرادة التغيير
وحدة التفكير
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
رجل الفكر ومشكلات الحياة
طراز من الفردية جديد
الفرد، والمواطن، والإنسان
من هو المثقف الثوري
ضوء على معنى الصراع الفكري
أزمة القيم في عصر الانطلاق
بأي فلسفة نسير؟
قيادات الفكر المعاصر
روح العصر من فلسفة
الماركسية منهجا
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
إرادة التغيير
وحدة التفكير
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
رجل الفكر ومشكلات الحياة
طراز من الفردية جديد
الفرد، والمواطن، والإنسان
من هو المثقف الثوري
ضوء على معنى الصراع الفكري
أزمة القيم في عصر الانطلاق
بأي فلسفة نسير؟
قيادات الفكر المعاصر
روح العصر من فلسفة
الماركسية منهجا
في حياتنا العقلية
في حياتنا العقلية
تأليف
زكي نجيب محمود
تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة
لم يكن قد بقي على ختام الحرب العالمية الأولى إلا وقت قصير، حين نظم عباس محمود العقاد قصيدته العظيمة «ترجمة الشيطان»، التي جاءت - كما يقول الشاعر نفسه عنها في مقدمة نثرية قدمها بها - لفحة من نار الحرب، وغيمة من دخانها، فكأنما جاءت هذه القصيدة - والعشرة الأعوام الثانية من هذا القرن تدنو من ختامها - لتصور حالة من اليأس، استولت على شعب ظل يطالب بحريته السياسية من الحاكم المستبد تارة، ومن المستعمر البريطاني الدخيل تارة، فجاءت الحرب العالمية الأولى لتكمم الأفواه، وتكتم الأنفاس حينا؛ إذ لم تكن الدولة المستعمرة لتأذن لمفكر أو أديب بالمضي فيما كان قد بدأه المفكرون والكتاب منذ احتلت بريطانيا مصر سنة 1882م، من حملات يشعلون بها النفوس ويحركون العقول، طلبا للحرية، ولما أن طالت أعوام الحرب، أخذ القلق يدب في أنفس الشعب الصامت إلى حين، الصابر بمطلبه حتى تزول محنة الحرب، وجاءت قصيدة العقاد تعبيرا عن هذا القلق، وهي قصيدة تستطيع أن تستبدل فيها بالمواجهة التي تمت بين الله والشيطان، مواجهة أخرى بين الحاكم والمستعمر من ناحية، والمفكر الحر من ناحية أخرى، لتتحول القصيدة بين يديك إلى ترجمة لكل مفكر حر لا يريد لحريته أن تحدها قيود.
فإذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن، قد شهدت طائفة من أعلام الأدب والفكر، تصوغ للناس قضية الحرية من بعض نواحيها: الإمام محمد عبده بمقالاته الإصلاحية وبدفاعه عن الإسلام، يوضح كيف يمكن أن يلتقي تراثنا الفكري والديني مع روح العصر التي يسودها العلم، وهو بهذا قد وضع أمامنا المشكلة الرئيسية في حياتنا الثقافية كلها خلال أعوام هذا القرن، وإلى يومنا هذا، وهي: كيف نوحد بين تراثنا القومي والإسلامي من جهة، وعوامل الفكر والحضارة في هذا العصر من جهة أخرى، توحيدا يدمج الجانبين معا في وحدة عضوية واحدة، تحمل الطابع المحلي والطابع العالمي في آن معا، وقاسم أمين بكتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» يمد من نطاق الحرية المنشودة حتى تشمل مع الحرية السياسية حرية اجتماعية للمرأة المغلولة بقيد السنين، وأحمد لطفي السيد الذي أصدر صحيفة «الجريدة» سنة 1907م؛ لتكون منبرا للفكر العصري الحر، ولسانا يطالب بالاستقلال وبالدستور، وكان لطفي السيد ممن علموا على إنشاء الجامعة الأهلية سنة 1908م، إيمانا منهم بضرورة الروح العلمية الجامعية لتدعيم حركة التحرر الشامل؛ أقول إنه إذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قد حفلت بطائفة من المفكرين والأدباء، ينشرون في الناس دعواتهم صريحة في الصحف والكتب، فإن العشرة الأعوام الثانية التي شهدت هول الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها السياسية في مصر، أن أعلنت الأحكام العرفية ثم أعلنت حماية بريطانيا لمصر، قد اضطرت رجال الفكر والأدب أن يغيروا من أوجه نشاطهم: أحمد لطفي السيد يعتزل في الريف ليترجم إلى العربية كتاب الأخلاق لأرسطو، وطه حسين ينصرف إلى دراسته الأكاديمية لينجز رسالته عن «ذكرى أبي العلاء»، و«محمد حسين هيكل» يكتب أول قصة طويلة في أدبنا الحديث وهي قصة «زينب»، والعقاد ينظم القصائد المعبرة عن ذات نفسه ليبلغ بها الذروة في قصيدة «ترجمة شيطان».
دعوات إلى الحرية السياسية والحرية الاجتماعية لبثت تنبعث من أقلام المفكرين والأدباء، منذ القرن التاسع عشر، وأخذت آثارها تتراكم في النفوس ، حتى انفجرت ثورة سياسية عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة سنة 1919م، ثم لم تلبث هذه الثورة إلا قليلا، حتى اتسعت رقعتها لتصبح ثورة تتعدى حدود السياسة والحرية السياسية والاستقلال عن بريطانيا، وتكون ثورة فكرية عامة، تشمل الأدب بكل فنونه، والنقد، والفلسفة، والتعليم، وغير ذلك من جوانب الحياة العقلية، وحسبنا في هذا البعث الشامل، أن نلتمس على الطريق معالمه الرئيسية، متمثلة في مؤلفات أو في حركات تشير إلى الاتجاه الجديد.
وأول ما نصادفه من معالم الطريق، في العشرة الأعوام الثالثة من هذا القرن، كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي أخرجه العقاد مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني سنة 1921م، ليوجها به حملة نقدية في مجال الشعر، يبغيان بها التحرر من قيود التقليد، والدعوة إلى شعر جديد، يكفل لصاحبه التعبير الحر عن ذات نفسه الفريدة؛ حتى لا تنطمس معالمها في سواها فينمحي وجودها، وإن الشاعر بتقريره لوجوده الفردي المتميز، ليضع حجر الأساس في بناء الحرية الإنسانية المنشودة.
ولكي نرى الصورة في مجال الشعر على حقيقتها، ينبغي أن نذكر حالة الضعف الشديد التي ألمت به في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نتيجة لعصور الظلمة إبان الحكم التركي، وهي عصور امتدت ثلاثة قرون، إذا عددنا الحملة الفرنسية على مصر، واستيلاء محمد علي على حكم البلاد، نهاية حقيقية - إن لم تكن نهاية شرعية - للعهد التركي، فلما انسلخ من القرن التاسع عشر ثلثاه، ونكبت البلاد بالاحتلال البريطاني فوق نكبتها بالأسرة الحاكمة، اشتدت الرغبة عند المصريين في أن يلتمسوا ملامح شخصيتهم الضائعة، وكانت أولى خطواتهم نحو هذا الهدف أن يعيدوا إلى الأذهان كل ما يذكرهم بمجدهم الماضي؛ ومن ثم نشأت حركة في الشعر، يتخلص بها أصحابها من ركاكة العهد التركي، ويعودون إلى النماذج العربية القديمة في قوتها ورصانتها، وساعدهم على ذلك ما كانت المطبعة العربية قد أخرجته خلال القرن الماضي من دواوين الشعراء القدامى، فرأوا أمامهم نماذج تحتذى، ذلك فضلا عن أساتذة للأدب في الأزهر تولوا حركة الإحياء الأدبي ونخص منهم بالذكر الشيخ حسين المرصفي بكتابه «الوسيلة الأدبية » الذي أوضح فيه بأسلوب جديد قواعد اللغة والنحو والبلاغة والعروض، وعرض هذه القواعد في نماذج مختارة من الأدب القديم.
وكان محمود سامي البارودي هو الرائد الأول في حركة الإحياء الشعري ثم تبعه أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران الذي وفد من سوريا ليقيم في مصر، وعلى أيدي هؤلاء جميعا عاد الشعر العربي إلى سابق مجده، مع تغذيته بغذاء من الثقافة الأوروبية التي اكتسبها بعض هؤلاء الشعراء من صلتهم بالغرب وثقافته.
لكن هذه الحركة - برغم قوتها - كانت حركة «إحياء» للقديم، ولم تكن في صميمها «تجديدا» يساير العصر الحديث؛ ولهذا سرعان ما جاء جيل جديد يتهمها بالقصور عن بلوغ ما ينبغي للشعر الجديد أن يبلغه، ومن أهم الخصائص التي كانت تنقص شعر هؤلاء في نظر الجيل الجديد، وحدة القصيدة من حيث الشكل، وذاتية التعبير من حيث المضمون، بعد أن كانت القصيدة العربية تجعل لكل بيت منها كيانا مستقلا، ولا تهتم بأن تنسكب أبيات القصيدة الواحدة في تجربة شعورية واحدة، وكذلك بعد أن كان الشاعر العربي يعبر عن الجماعة قبل أن يعبر عن ذات نفسه الفريدة، أو يدفعه طغيان الحكم واستبداد المال أن ينفق جهده الشعري في مدح وهجاء وفي تهنئة ورثاء، بحسب ما تقتضيه المناسبات.
وكان رواد الحركة الجديدة التي لم ترد أن يقف التجديد عند حد إحياء القديم، بل أرادت أن تضيف قيما جديدة من شأنها أن تئول بالمجتمع إلى التحرر من قيوده جميعا، لا فرق في هذه القيود بين ما يجيء مع إحياء التراث، وما يجيء عن ضعف الحياة في عصورها المتأخرة؛ أقول إن رواد حركة التجديد هذه، كانوا ثلاثة هم: عبد الرحمن شكري، والعقاد، والمازني، الذين أخذوا ينظمون الشعر خلال العشرة الأعوام الثانية من القرن، على النهج الذي كانوا يروجون له، لكن أنصار الإحياء - برغم هذا - لبثوا يسدون أمامهم الفضاء، فكان لا بد من زلزلة عنيفة تهد البناء القائم، فكان أن صدر الكتاب الذي ذكرناه: «الديوان في الأدب والنقد» يوجه به صاحباه (العقاد والمازني ) حملة مدمرة نحو أمير الشعراء عندئذ «أحمد شوقي» لعلهما بذلك أن يزيلا عن الوجود الأدبي صفحة، ليفتحا للناس صفحة جديدة.
وكأنما سنة الحركات الفكرية أن تسير في خطوات مثلثة، فمن طرف إلى نقيضه إلى مرحلة تجمع بين النقيضين، فرأينا رواد المدرسة الجديدة في الشعر يقفون موقفا عنيدا من شعراء البعث، لكن العقد الرابع من هذا القرن لم يكد يبدأ، حتى ظهرت جماعة أطلقت على نفسها «جماعة أبولو»، وكان صاحب فكرتها والداعي لها أحمد زكي أبو شادي، وقد تألفت هذه الجماعة الأدبية في خريف عام 1932م، لتجمع بين أعضائها كل من أراد من الشعراء، فلا تفرقة هنا بين مذهب ومذهب من مذاهب الشعر، فرأينا من أعضائها من يجري مع التقليد في شعره - مثل رجال حركة البعث أنفسهم: شوقي، ومطران - كما رأينا من أعضائها كذلك من انتحوا بالشعر منحى جديدا متأثرين بما قرءوه لشعراء الغرب - والرومانسيين منهم بصفة خاصة - وعلى رأس هؤلاء إبراهيم ناجي (وهو طبيب) وعلي محمود طه (وهو مهندس)، ولم تكن هذه آخر الحركات في تطور الشعر، لكننا سنرجئ المرحلة الجديدة التالية إلى موضع آخر من هذا المقال.
ومن معالم الطريق فيما بين الحربين، حركة عقلانية، نزع أصحابها نحو الاحتكام إلى منطق العقل قبل أي شيء آخر، وقد تمثلت هذه الحركة في كثير من البحوث والكتب والمواقف، منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لمؤلفه علي عبد الرازق (1924م) فقد كادت مصر حينئذ أن تتورط بدافع من أطماع حاكمها (الملك أحمد فؤاد) في أن يجتمع في شخص ذلك الحاكم لقب «الخليفة» - خليفة المسلمين - إلى جانب لقب «الملك»، وذلك بعد أن ألغت تركيا الخلافة من عندها - وكان سلاطين تركيا هما أيضا خلفاء المسلمين - على أثر ثورتها السياسية الاجتماعية بزعامة مصطفى كمال، وإنما أراد ملك مصر أن يرث الخلافة بعد زوالها عن الأتراك؛ لتجتمع في يديه رياسة الدين ورياسة الدولة معا، وفي هذا الجمع خطورة كبرى على حركة التقدم الذي كانت مصر قد أخذت بأسبابه؛ لأن تستر الحاكم وراء قناع من الدين، من شأنه أن يطلق يده في فرض ما شاء من قيود، بحجة أنها قيود تفرضها مبادئ الإسلام، فكان لا بد أن يظهر منا مفكر باحث، ليقول للناس عن دراسة وتحقيق، إن الإسلام لا يحتم أن يكون للدولة خليفة، وما أغنانا عن الوقوع في مشكلات كالتي وقعت فيها أوروبا حين جمعت الدين والدولة في يد واحدة.
وفي سنة 1925م أنشئت جامعة القاهرة، وأدمجت فيها الجامعة الأهلية التي كانت قد نشأت سنة 1908م، كما أدمجت فيها كذلك مجموعة المعاهد العليا التي كانت تتفاوت أعمارها بين قرن كامل لبعضها - مثل كلية الطب - وبعض القرن لبعضها الآخر، فجاء إنشاء جامعة القاهرة علامة من أبرز العلامات الدالة على نهوض الشعب بثورة عقلية تتمم الثورة السياسية، ولم يكد يمضي عام على إنشائها، حتى أخرجت المطبعة للدكتور طه حسين كتابه في «الأدب الجاهلي»، الذي ظهر وكأنه إعلان بقيام منهج علمي جديد، يترسم خطوات المنهج الديكارتي في البحث، فيفرض الخطأ فيما توارثناه من معرفة، حتى يثبت صوابه بالبرهان العلمي، صوابا لا يرتكز على تحيز سابق لفكرة معينة، فإذا كان المعلوم الشائع المتوارث هو أن الشاعر الفلاني قد عاش في العصر الفلاني ونظم القصائد الفلانية، فلنفرض بادئ ذي بدء أن لم يكن لهذا الشاعر وجود، ومن ثم لا يكون هو ناظم القصائد المنحولة له، ثم نمضي في البحث على هذا الأساس الحر، لننتهي إلى ما يؤدي إليه السير المنهجي من نتائج ... وإنها لقفزة طويلة نحو البعث الفكري، أن تدعو الناس إلى ضرورة الشك في صحة النصوص الموروثة، قبل أن تعيد إليها الصواب عن طريق البحث العقلي المجرد.
وإنه لمما يدل على سريان الروح العقلية إبان الفترة التي نتحدث عنها أن نظرية التطور الداروينية، وما يتشعب عنها من فروع بعد أن كان الجهر بها في نهايات القرن التاسع عشر، يستدعي من رجال الفكر يقظة ليردوا على ما كان يظن أنه خطر على العقيدة الدينية - كما حدث عندما نشر جمال الدين الأفغاني كتابه في «الرد على الدهريين» - أصبحت الآن مادة شائعة بين طبقات المثقفين، ففي سنة 1924م أصدر إسماعيل مظهر كتابه «ملقى السبيل » (وكان مظهر قد ترجم إلى العربية قبل ذلك كتاب أصل الأنواع لداروين)؛ ليكون هذا الكتاب الجديد تطبيقا للنظرية على موضوعات عامة مما كان يعنى به الكتاب المصلحون عندئذ، وهو يقول في مقدمته لهذا الكتاب «إن لمذهب النشوء والارتقاء من الأثر في فروع العلوم الحديثة، ما يجعلني أعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا المذهب جدير بأن يقف الإنسان أكبر شطر من حياته وجهوده في سبيل درسه ونقله إلى العربية، وأبناء الضاد على أبواب انقلاب علمي أدبي، أخذت معاوله تهدم في بناء أساليبنا القديمة، لتحل محلها أساليب حديثة للتفكير» ويهمنا من هذا النص هذه الجملة الأخيرة لأنها تؤيد ما نصف به فترة ما بين الحربين في مصر، من الناحية الفكرية، وهو أنها فترة انقلاب علمي وأدبي، تهدم أسلوبا قديما لتحل محلها أسلوبا جديدا، هو الأسلوب العلمي العقلاني القائم على الدرس والتمحيص.
وهنا نذكر كاتبا آخر أصدر سنة 1925م كتابا آخر عن «نظرية التطور» - مما يدل على أن الفكرة كانت عندئذ تشعل الأذهان - لكن هذا الكتاب من هذا الكاتب لم يكن عرضا طارئا في حياته الفكرية؛ بل كان جزءا لا يتجزأ من طريق واحد عاشه الكاتب ليبلغ به هدفا واحدا جعله نصب عينه، وأما هذا الكاتب فهو سلامة موسى، وأما طريق حياته الفكرية فهو الإيمان بالعلم الحديث وما يقتضيه من ضرورة تطوير الأدب والحياة بأسرها، وأما الهدف المقصود بهذا كله فهو أن يقيم بناء جديدا على أنقاض بناء قديم، فلم يأل سلامة موسى جهدا في كل ما كتب، ليقاوم الأسلوب القديم في التفكير وفي الكتابة، فإذا كان التقليديون يعنون بصقل العبارة اللفظية عناية تستنفد كل طاقتهم بحيث لا يبقى شيء منها لأي معنى ينقلونه إلى القارئ، فقد أراد هو بما أسماه «الأسلوب التلغرافي» في الكتابة أن تجيء العبارة خادمة للمعنى المراد نقله، بحيث لا تحشر فيها لفظة واحدة لا تخدم المعنى المقصود.
لقد تميزت فترة ما بين الحربين بكثير من القلق الفكري، الناتج عن إحساس المثقفين بضرورة الجمع بين طرفين كانا ما يزالان يبدوان وكأنهما نقيضان لا يجتمعان، وهما: الثقافة التقليدية الموروثة من جهة، والثقافة الأوروبية المنقولة من جهة أخرى، وكان السؤال قد بدأ يطرح نفسه على رجال الفكر، وهو: هل من سبيل إلى الجمع بين الثقافتين في وحدة عضوية واحدة، لا تتخلى عن الطابع المحلي المميز، ولا تقصر في مسايرة العالم المعاصر؟ هنا كنت تجد ثلاث إجابات تصدر عن ثلاث فئات من المفكرين، وتستتبع ثلاث أساليب في الكتابة: فإجابة يتمسك بها أصحابها بالقديم الموروث فكرا وأسلوبا، ومن هؤلاء مصطفى صادق الرافعي، وإجابة يريد بها أصحابها القضاء الكامل على القديم الموروث والأخذ عن الثقافة الأوروبية - علما وأدبا وأسلوب كتابة وطريقة حياة - أخذا مطلقا غير مشروط بشرط ولا مقيد بقيود، ومن هؤلاء: سلامة موسى؛ وإجابة ثالثة يحاول بها أصحابها أن يجدوا موقفا وسطا يجمع بين الطرفين، فهم إذا كتبوا جاءت عبارتهم ملتزمة قواعد الأسلوب العربي المتين، وهم إذا فكروا حاولوا المزج بين موضوعات القديم وموضوعات الجديد، وكان من حسن الطالع أن وقعت في هذه الطائفة جمهرة الأعلام من رجال الفكر والأدب: العقاد، طه حسين، هيكل، المازني ... وغيرهم، فلهؤلاء جميعا مجموعات من مقالات كتبوها خلال الفترة التي نتحدث عنها، ثم جمعوها في كتب يكفي أن تطالع أي كتاب منها، لتجد ثقافة الغرب قد جاورت ثقافة العرب الأقدمين في تآلف وانسجام، إذ قد تجد فصلا عن هومر أو شكسبير أو شلي، يعقبه فصل عن امرئ القيس أو ابن الرومي أو المتنبي، وهكذا.
للعقاد في هذه الفترة «مطالعات في الأدب والحياة» (1924م)، و«ساعات بين الكتب» (1929م) وللمازني «حصاد الهشيم» (1924م) و«قبض الريح» (1927م) و«صندوق الدنيا» (1929م) وإن القارئ ليدرك من مجرد المقارنة بين عنوانات الكتب عند الأول وعنوانات الكتب عند الثاني، أن هذين الزميلين الصديقين، وإن يكونا قد اتفقا على الهدف (وهو الجمع بين الثقافتين) فقد اختلفا في طريقة التناول: الأول جاد إلى درجة التزمت فكرا وأسلوبا، والثاني جاد في فكرته ساخر تملؤه روح الفكاهة في طريقة عرضه، ولهيكل من أمثال هذه المجموعات الجامعة بين الثقافتين «في أوقات الفراغ» (1925م) سبقه كتاب من جزأين عن جان جاك روسو (1921-1923م) أسهم به في إثراء الفكر السياسي الذي صاحب الثورة السياسية، ليكون الفعل مقرونا بالنظر، وهو في طريقة كتابته وسط بين العقاد والمازني، فهو لا يبلغ من الأسلوب العابس مبلغ العقاد، ولا من الأسلوب الضاحك مبلغ المازني، ويكتفي بروح سمحة منبسطة الأسارير تسري بين أسطره.
وأما طه حسين فقد كانت طريقته في الجمع بين الثقافتين، أن يعالج موضوعا عربيا قديما بأسلوب غربي جديد، وأن يكون مع الدعوة إلى العقل العلمي مرة، ومع الدعوة إلى وجدان القلب مرة، فانظر إليه كيف فجر قنبلته الفكرية العقلانية سنة 1926م بكتابه عن الأدب الجاهلي، ليعود سنة 1933م، فيصدر رائعته الأدبية «على هامش السيرة» فيقول في مقدمته: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها ... وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل.»
لا عجب أن رأينا النقاد من زملائه يتصدون له بالتحليل والمقارنة، فهذا هيكل يكتب فور صدور «على هامش السيرة» فيقول: «إنه (أي طه حسين) إلى حين وضع كتابه هذا، كان من أولئك الذين يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطور عظيم في نفسية طه وفي نظرته للحياة، تطور واضح صارخ يكفي لتبيينه أن نقرأ معا مقدمتين: مقدمة «على هامش السيرة» ومقدمة «في الأدب الجاهلي» ... إن بين «في الأدب الجاهلي» و«على هامش السيرة» موضعا للمقارنة، فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام، والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية، بل يهدم الكثير مما ينسب للجاهلية من شعر ونثر، ويراه من وضع المتأخرين لأغراض دينية أو مخالفة للدين، والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير وينمقها، ويرى في ذلك غذاء لما سوى العقل من ملكات الناس.»
تلك كانت طريقة طه حسين في الجمع بين الثقافتين، فهو «لم يتطور في نفسيته ولا في نظرته للحياة» كما يعلل هيكل لهذا الجمع، بل إن الثقافتين كلتيهما قد اجتمعتا فيه على نحو يجسد لنا في رجل واحد، ما كنا وما نزال نأمل أن نبلغه من وحدة ثقافية تجمع لنا الطرفين، ولعل الدكتور محمد عوض محمد كان أصدق تصويرا في تعليقه على كتاب «على هامش السيرة» حين قال عن طه حسين - بطريقته الفكهة: «إن ثقافته الحقيقية هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس ... وأن ليست ثقافة الغربيين ... إلا رواء وطلاء، إن يبهر العين منظره، فإنه لا يذهب إلى غور بعيد، وقديما قال نابليون في الروس: إنك إذا حككت الروسي بدا لك التتري، وفي وسعنا أن نقول إذا حككت طه حسين برفق، بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.»
ولو كان طه حسين حين كتب «على هامش السيرة» قد تطور في نفسيته وفي نظرته للحياة - كما قال هيكل عنه - لما رأيناه بعد «على هامش السيرة» يعود مرة أخرى فيصدر كتابه الهام «مستقبل الثقافة في مصر» (1939م) ليقول به للناس إنه لا بد لنا من الأخذ عن الأصول الثقافية اليونانية، استمرارا لما كان آباؤنا الأقدمون قد فعلوا في نهضتهم الفكرية، حين طفقوا ينقلون ثقافة اليونان العلمية والفلسفية بغير حرج ولا تردد، ولا نترك الحديث عن طه حسين في هذا الموضع من المقال، دون أن نذكر ترجمة حياته الرائعة التي كتبها سنة 1929م بعنوان «الأيام»، فجاءت هذه الترجمة الذاتية من أجمل الثمار الأدبية في تلك الفترة، التي اجتمعت فيها روافد الثقافة كلها من شرق ومن غرب.
هكذا قضينا أعوام العقدين الثالث والرابع من هذا القرن، نمد ذراعا إلى تراثنا فنحييه، وذراعا إلى الثقافة الأوروبية فننقلها، وإنه لجدير بالذكر في هذه المناسبة، أن نشير إلى عدد من المجلات التي ظهرت عندئذ وشاعت شيوعا واسعا، وكانت من أفعل الأدوات الثقافية التي هيأت النفوس والعقول لتقبل نهار جديد في تاريخنا الثقافي، ستظهر بوادره بعد الحرب العالمية الثانية، ويبلغ النضج بعد ثورة 23 يوليو 1952م - وأما هذه المجلات التي نشير إليها، فهي «السياسة الأسبوعية» التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، و«البلاغ الأسبوعي» الذي كان يكتب فيه العقاد، و«المجلة الجديدة» التي أصدرها وكان يرأس تحريرها سلامة موسى، و«الرسالة» التي أصدرها، وكان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات و«الثقافة» التي كان يشرف عليها أحمد أمين، وأصدرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي لجنة تتألف من جماعة من رواد الثقافة الجديدة، أنشئت سنة 1914م لتدل باسمها وبنوع جهودها على اتجاهات الحركة الثقافية في هذا القرن العشرين كله، إذ هي حركة تقوم على «الترجمة» عن الفكر والأدب الأوروبيين، و«النشر» لذخائر التراث القديم، لتخرجها إلى النور من خزائن الكتب، و«التأليف» الجديد الذي يحمل طابعنا الحديث بما فيه من أصالة تستمد غذاءها من المادة المترجمة والمادة المنشورة على السواء.
لا أحسب الحركة الثقافية التي عاشتها مصر فيما بين الحربين، تحاول فيها الجمع بين ثقافتين، لا أحسب تلك الحركة تتضح معالمها بأنصع ما تتضح به في أمثلة نسوقها لبعض الموضوعات التي كانت تشتجر فيها الأقلام خلال تلك الفترة، خصوصا إذا تذكرنا حقيقة هامة جدا في هذا الصدد، هي أن الكاتب الواحد قد يأخذ بهذا الرأي مرة وبذلك الرأي مرة أخرى، مما يدل على أن فوران الآراء والمذاهب لم يأذن لأحد عندئذ بالاستقرار على فكرة واحدة أمدا طويلا، ما دامت هذه الفكرة ماسة بأركان البناء الفكري الجديد الذي كان المصريون عندئذ في سبيل إقامته، ومما يدل كذلك على إخلاص المفكرين حينئذ لبلوغ غايتهم في بعث الأمة بعثا فكريا شاملا، إخلاصهم لذلك إخلاصا لم يسمحوا لأنفسهم معه أن يتعصبوا لفكرة أو لأخرى، إذا أثبت تطور الأحداث خطأها وتعويقها لمجرى التاريخ.
وأول موضوع نسوقه مثلا للصراعات الفكرية في عشرينات هذا القرن وثلاثيناته، هذا الموضوع الأساسي بالنسبة إلى إقامة البناء الثقافي الجديد: ما هي الأصول الأولى التي نرد المصريين إليها؟ أهي أصول فرعونية أم هي أصول عربية لا نجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وغيرهما إلا أن هيكلا عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه، فقد بدأ هيكل - بمناسبة صدور كتاب عن «قصص البردي» لعالم أثري عصري (1926م) - بدأ هيكل في ربط الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة مؤكدا أن بين الحالتين «اتصالا نفسيا وثيقا ينساه كثيرون ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظم الحكم وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقومات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة، فصلا حاسما، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»
فيرد على هذه النزعة الفرعونية كتاب يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نردها إلى أبعد من ذلك في التاريخ، لتضل في متاهات القرون، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات ... حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر - رأس البلاد العربية - قد جعلت المآذن مسلات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ في التهكم من الفكرة الفرعونية وأصحابها يلخص الموقف بعبارة، فيقول: «وبعد، فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخاصة، أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط.» •••
ونسوق مثلا ثانيا للموضوعات التي اختلف فيها رجال الفكر في الفترة التي نحللها، وكيف جاء اختلافهم في موضوع الخصائص الأصلية التي يتميز بها المصريون، وهل هي أقرب إلى خصائص اليونان، أو إلى خصائص العرب، ومرة أخرى ننبه إلى نقطة هامة، وهي أن المتعارضين لم يثبتوا على آرائهم فيما كانوا يعرضون بالرأي فيه، ومبادلة الرأي هذه المرة كانت بين توفيق الحكيم وطه حسين، فيطرح الحكيم المشكلة بقوله: إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري، معرفة أنفسنا، حتى تتبين لجيلنا مهمته: هذه هي المسألة (وليلاحظ قارئ اليوم أن هذه نفسها ما زالت هي المسألة المطروحة أمام المفكرين، وقد دنونا من ختام العقد السابع من القرن العشرين) ... ويمضي الحكيم في حديثه ليؤكد أن الروح المصرية والروح العربية مختلفتان، ولقد اختلطت إحداهما بالأخرى على نحو يصعب معه فصلهما، لنميز الواحدة من الأخرى، لكن هذا الفصل أمر لا بد منه، إذا أردنا أن نتبين أنفسنا، ويعرض الحكيم تحليله هو على قرائه، فيبين - أولا - أن دراسة الفن المصري والفن الإغريقي كفيلة بأن تبرز الفرق بين العقليتين: «ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد، وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم، كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة، كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق، في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل»، وبعد هذه المقارنة يجري الحكيم مقارنة أخرى لتتم له المقدمات، مقارنة بين اليونان والعرب، فيقول إن خط الإغريق مماثل لخط العرب: «كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة.» والخلاصة هي أنه «من المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر.» و«لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الطعن، هي الزخرف، مقابلة عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف.»
ويرد طه حسين على الحكيم، رافضا أن تنسب الروح المصرية إلى أصول تبعد بها عن العرب وعن اليونان، ذلك أن الغوص بالروح المصرية الحديثة إلى الأصول الفرعونية مضطر إلى الضرب في مجاهل التخمين، على أن النسبة إلى العرب أمر قائم مشهود: «نحن - إذن - أمام أمرين، أحدهما عرضة للشك الشديد، لا تكاد تعرف منه شيئا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه، أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟» ويمضي الدكتور طه حسين في رده على الحكيم ليخلص إلى جوهر الموضوع، وهو: مم تتكون روح مصر منذ استعربت؟ ويجيب بأنها تتكون من عناصر ثلاثة، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريين القدماء، وثانيها هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، وثالثها هو العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائما، والذي سيؤثر فيها دائما، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب، جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوروبا وأمريكا في العصر الحديث (راجع مجلة الرسالة، أعداد شهر يونيو 1933م).
ونسوق مثلا ثالثا مما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمفكرين في فترة ما بين الحربين، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب، فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها دون أن تكون هنالك الفكرة التي ينقلونها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وهنالك من يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد - بتعبير أبناء الفترة التي نعرضها هنا - ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى مثلا متطرفا لفريق المجددين، ومصطفى صادق الرافعي مثلا متطرفا لفريق المتشيعين للقديم. كتب سلامة موسى - مهاجما يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة أو مجاز جميل، أو كناية بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة، لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمد إلى الفقاقيع، فيؤلف منها عبارة خلابة، فيتوبل بها إنشاءه، أو يرصها رصا، وكثير ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص» ... وكتب كذلك في موضع آخر يقول: «في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون من خلف رءوسها، فإذا نظرت لم تر سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي، وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك، لكان لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل، أجل، لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة، وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطور.»
ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية ترجع إلى التمكن من لغة العرب وأدبهم، فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس لغة أجنبية، راح يتهم اتهامات مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب، وهنا يتدخل الدكتور طه حسين، فيناصر سلامة موسى بعض المناصرة، ويصحح الرافعي فيما ذهب إليه، فيقول: «نعتقد أن الأستاذ الرافعي يسرف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه ... أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب الغربية، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق وإنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم، إن بعض أنصار المذهب الجديد ... قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظ لا بأس به، وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها، إذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفا، وليس اعتذارا لأنفسهم وليس تعصبا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه.»
وهذا مثل رابع نقدمه لما كان يشغل الأدباء والمفكرين في مصر إبان الفترة التي نتحدث الآن عنها - فترة ما بين الحربين - فلم يكن يكفي أن يختلف المختلفون على أي الثقافتين يجب علينا الانتماء إليها في نهضتنا الأدبية: العربية القديمة أم الأوروبية الحديثة؟ بل حدث خلاف فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية الحديثة أنفسهم، كان السؤال هذه المرة هو: أي الثقافتين الأوروبيتين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وبدأ الحوار في هذا الموضوع بمقالة نشرها العقاد تعليقا على كتاب أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنة بين طريقة اللاتينيين في النقد الأدبي وطريقة السكسونيين، خلاصتها أن الأولين ينقدون الأدب، وكأنهم يتحدثون حديثا ظريفا في صالون، وأن الآخرين ينقدون الأدب نقدا موضوعيا يضرب في لباب الموضوع بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الواجب اصطناعه في ندوات الأصدقاء، وكان العقاد فيما كتب على اعتقاد بأن ثمة فرقا بين الثقافتين ينبثق من الفرق بين المزاجين، وأن هذا الفرق واضح في مفكرينا وأدبائنا أنفسهم، فمن درس منهم الثقافة اللاتينية وجدته أقرب إلى أن يكون مؤرخا للأدب أو شارحا له، ومن درس منهم الثقافة السكسونية وجدته أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبا أديبا أو شاعرا.
وهنا تصدى الدكتور طه حسين للرد والتصحيح، زاعما أن «ليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني، وإنما هناك نقد فحسب، نقد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية واللاتينية، وورثته عنهما الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها، فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرءوا آيات البيان اليوناني واللاتيني، وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني لأنفسهم، أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم جميعا يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره؛ لأن هذا الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وأرستوفان وأفلاطون.»
هكذا كنا في فترة ما بين الحربين، نحاول العثور على الجذور العميقة التي يمكن أن ننبت منها شجرة الحياة المصرية الجديدة، نحاول ذلك في الشعر، وفي النقد الأدبي وفي الفكر النظري، لكن هذه المحاولة جاوزت ذلك كله، جاوزته إلى مجال الخلق الأدبي الجديد في القصة والمسرحية، فلئن كان الشعر صورة مألوفة في الأدب العربي منذ أقدم العصور فلم تكن القصة - بمعناها الفني الحديث - ولا المسرحية مألوفتين معروفتين، فماذا لو أجرينا عليهما المحاولات، لنتخذ منهما وسيلتين جديدتين في البحث عن أنفسنا؟ لقد بحثنا عن هذه النفس في القصيدة وفي المقالة، وبقي أن نلجأ إلى طريقتين أخريين في التحليل والتجسيد، التحليل الذي يتعقب سلوك الناس إلى أصوله الأولى، والتجسيد الذي يبلور روح المجموع في أشخاص يصورهم كاتب القصة أو كاتب المسرحية.
وكانت أولى محاولاتنا الجادة في القصة - كما ذكرنا - هي «زينب» وهي القصة التي كتبها محمد حسين هيكل في منتصف العقد الثاني من القرن، كتبها ليجسد فيها دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، وليعرض في حوادثها عيوب المجتمع التقليدي الذي يحول دون امرأة ورجل متحابين لا لشيء إلا لأنهما من طبقتين متفاوتتين من حيث الغنى والفقر.
ونمضي إلى العقد الثالث من القرن، فنرى «المقالة» قد ملأت الفراغ الأدبي كله سواء في ذلك المقالة السياسية التي اشتعلت حرارة من نار الثورة، والمقالة الأدبية والفكرية التي انتقل إليها الخلاف السياسي المذهبي بين الكتاب ليصبح خلافا فكريا فلسفيا - حتى إذا ما بلغنا أواخر العقد الثالث هذا، صادفتنا ألوان أدبية جديدة: صادفتنا «الأيام» للدكتور طه حسين، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وبعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي، وهي كلها - بمعنى من المعاني - محاولات في سبيل العثور على حقيقة أنفسنا: أهي تغوص بنا إلى جذور فرعونية كما يذهب توفيق الحكيم في عودة الروح؟ أم هي جمع بين الثقافة العربية الأصيلة والروح الغربية، كما يتمثل هذا الجمع في ترجمة طه حسين لحياته، وفي مسرحيات شوقي الشرقية المضمون الغربية الشكل؟
لقد جاءت قصة «عودة الروح» في موضعها الزمني من تاريخنا الفكري الحديث، شاهدا قويا على رغبة المصري - إذ يرى نفسه في دوامة التيارات الثقافية الوافدة إليه من كل صوب - في أن يثبت ذاته إثباتا يجعلها «مصرية» خالصة تتميز بطابع خاص، وهي ذات تصارع الزمن لتخلد وتستعصي على الفناء، ثم هي في هذا الصراع لا تجمد ولا تخمد إلا لكي تثور حين يظهر لها من أصلابها زعيم قائد، ولئن جرت الأسطورة المصرية القديمة برواية عن إيزيس وكيف طفقت تجمع أوصال أخيها أوزريس الممزقة المبعثرة حتى أعادته كائنا سويا تدب فيه الروح من جديد، فهكذا تجري الحياة في مصر أبدا على مر التاريخ الطويل: يمزق أشلاءها من يمزق، لكن ذلك لا يطول طويلا حتى يتولاها زعيم من أبنائها فيجمع شملها ويعيدها أمة سوية ممتلئة بدوافع الحياة.
ونمضي مع الزمن إلى العقد الرابع من هذا القرن - الثلاثينيات - لنجد أنفسنا أمام حصاد غني من ثمار القريحة الأدبية في القصة والمسرحية، لكن المحاولة الرئيسية لم تزل هي هي، وأعني محاولة البحث عن حقيقة أنفسنا فيما نحلله من شخصيات نصورها بوحي من الواقع الملموس، كل كاتب بحسب استعداده وطريقته في الخلق الفني، فإذا كان توفيق الحكيم قد لمس الصراع العنيف بين المصري وتيار الزمن، لمسه في قصته «عودة الروح»، فقد عاد إليه بصورة أصرح - وأقوى - في مسرحيته «أهل الكهف» (1933م) التي بناها على القصة الواردة في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم، إلا أن الكاتب هنا قد جعل فعل الزمن أقوى من عواطف الإنسان، فهؤلاء هم أهل الكهف بعد أن استغرقوا في نوم طويل، أبعدهم عن مجرى الحوادث مئات السنين، عادوا إلى الحياة من جديد، وانطلقوا يبحثون عما كان يربطهم بها من روابط: الوالد يبحث عن ولده فيعلم أنه مات منذ قرن كامل، فلا يطيق العيش بعد أن انفصمت روابطه بالناس من حوله، وهذا حبيب يلتمس حبيبته، فيلتقي بحفيدة لها، شبيهة بها، فيحسبها الحبيبة القديمة، ويحدث أن تحبه هذه الحفيدة، لكن ما إن اكتشف كلاهما حقيقة الواقع، حتى تصعقهما هذه الحقيقة، فلا يحتملانها، وهكذا قل في سائرهم، كل منهم تفجؤه الفجوة بين حقيقته هو، والحقيقة الخارجية فيؤثر الموت على حياة لا روابط فيها بينه وبين أهلها.
إن كاتبنا المسرحي العظيم، يؤمن في أعماق نفسه بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه خياله - أو أوهمه العقل المحدود - بأنه قادر على أن يفرض سلطانه، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة؛ ولذلك لا مفر للإنسان إذا أراد لنفسه عيشا سعيدا، من أن يحيا في ظل إيمانه وعلى دفء عاطفته، وأن يحصر المعرفة العلمية في حدودها مهما ضاقت تلك الحدود، ولعل هذا هو الفارق الرئيسي بين ما يسمى بالشرق وما يسمى بالغرب - في التقسيم الثقافي لمجموعات البشر - وهو أن الغرب يدعي بعلمه العقلي أكثر مما يستطيع، وأكثر مما يوفر للحياة الإنسانية هناءتها، وأما الشرق، فلو ترك لطبيعته، آثر أن يستمع إلى صوت وجدانه، حتى وإن لم يعد له بالعلم الكثير من هذا الكون الكبير، وإذا شئت عبارة موجزة تلخص هذا الفارق بين الثقافتين، فقل إن في الغرب علما وفي الشرق تصوفا، وإن التصوف أعلى مرتبة من العلم.
هذا وهو في مسرحية أخرى له، مسرحية «شهرزاد» يجعل بطلها شهريار يبلغ من المتعة الحسية الجسدية أقصى مداها، لكنه بعد ذلك لم يسترح ولم يطمئن، يريد معرفة سر الكون، لكن هذا السر يستغلق على فهمه العقلي، ولم يكن له بد - إذا أراد الوصول - من أن يلجأ إلى بصيرته التي تنفذ به خلال العالم المنظور، وإلا فهذا العالم المنظور ضارب حوله بنطاقه، لا يجد له منه مهربا، لو جعل أدواته هي الحواس التي تشتهي، والعقل الذي يفسر ... ومن هذه الزاوية نفسها - زاوية الإيمان بقصور العقل والعلم، يكتب الحكيم قصة «عصفور من الشرق» ليرد بها على غرور الغرب بعلمه وآلاته: «فماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع» ... ولا نترك توفيق الحكيم في ثلاثينيات هذا القرن، دون أن نذكر كتابه «يوميات نائب في الأرياف» الذي يقدم صورة نضرة للحياة في الريف المصري، ومدى ما كان يفصم أهل الريف عن التشريعات والقوانين، فهم لا يفهمونها ولا يدركونها، وهي لا تراعي حقائق معاشهم ومدى إدراكهم.
وظهرت في الثلاثينيات قصتان للصديقين المازني والعقاد، فقصة المازني عنوانها «إبراهيم الكاتب» (1932م) وهي بمثابة ترجمة ذاتية للكاتب، تحلل ظاهرة الحب التي تربط بين الرجل والمرأة، كما تشير إلى صفة رئيسية في الكاتب، وهي انحصاره في ذاته، وأما قصة العقاد فعنوانها «سارة» (1938م) وهي - كزميلتها - تحليل لظاهرة الحب بين الرجل والمرأة، لكن التحليل هنا مأخوذ من زاوية جديدة، هي الزاوية التي يكون فيها المحب عقلا كله، والحبيبة حيوية جسدية كلها ... ترى هل شغل الكاتبان في قصتيهما هاتين بتحليل الحب، نتيجة لظفر المرأة بحريتها عندئذ على نطاق ملحوظ؟ وبهذا تكون هاتان القصتان مكملتين - من حيث الوظيفة الاجتماعية التي تؤديانها - لقصة «زينب» التي أخرجها هيكل سنة 1914م، فكلها تجسيد للنتائج التي تترتب على دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة: في «زينب» لم تكن المرأة قد ظفرت من حريتها إلا بقبس ضئيل يتيح لها أن تحب، دون أن تجهر بحبها، وفي «إبراهيم الكاتب» تتعدد المحبوبات للحبيب، وفي «سارة» تلعب المحبوبة بعقل حبيبها، كأنما في هذا إشارة إلى أن الحرية للمرأة قد زادت على حدها المأمول.
وتنشب الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، لتدوم حتى سنة 1945م، فتكون نتيجتها على تيارنا الفكري شبيهة من بعض الوجوه بنتيجة قيام الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، ففي أعوام الحرب الثانية - كما هي الحال في أعوام الحرب العالمية الأولى - ينطوي الكتاب على أنفسهم، لكن انطواءهم هذه المرة كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية يجترونه، ويحيون أبطاله إحياء قد يقيم أمام الجيل الصاعد صورة مجدهم الذي لم يكن ينبغي لفيضان الثقافة الغربية أن يطغى عليه، لقد رأينا خلال الصفحات السابقة كيف تلازم خطان ثقافيان في حياتنا، فسارا جنبا إلى جنب، تكون الغلبة آنا لهذا الخط، وآنا آخر لذاك، وأعني بهما الثقافة العربية القديمة في ناحية، والثقافة الغربية في كل عصورها، من اليونان فنازلا، في ناحية أخرى، وكثيرا ما وفق رجال الفكر والأدب إلى ضفر هذين الخطين ليجعلا منهما كيانا واحدا كما هي الحال في بعض أعمال العقاد، وفي طه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم، لكن قيام الحرب جاء مذكرا لنا بوجوب الجد عن أنفسنا، لنخلق لأنفسنا شخصية جديدة نستعد بها للحياة الجديدة التي لا بد أن تتمخض عنها الحرب العالمية.
وفي سبيل هذا البحث، طفق كتابنا ينكتون الماضي وينقبون في حناياه وخفاياه ويرسمون لنا صورا قوية مشرقة لأعلام ذلك الماضي ومواقفه: هذا هو العقاد يخرج سلسلة متعاقبة الحلقات من «العبقريات» الإسلامية، فيخرج «عبقرية عمر» و«عبقرية الإمام» (على) سنة 1942م، و«عبقرية محمد» و«عبقرية الصديق» (أبي بكر) سنة 1943م، ثم يتابع الحلقات حتى تشمل السلسلة عددا غير قليل من شخصيات الإسلام في عصره الأول الزاهر، ويكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعن عمر من خلفاء المسلمين، وكان قبل ذاك قد كتب عن محمد عليه السلام، ويكتب توفيق الحكيم عن محمد، ويكتب كثيرون آخرون عن بطولات الإسلام، إما مقالات في المجلات الأدبية، أو كتبا كاملة ... وسيظل هذا الاتجاه قائما في حياتنا الأدبية عبر الخمسينيات والستينيات، ليضيف طه حسين روائع من روائعه عن صدر الإسلام متمثلا في تضحياته وبطولاته، ومما نذكره له في ذلك كتابه «الشيخان».
وقد كانت التكملة الطبيعية لهذه العودة إلى الماضي في صور أبطاله ومواقفه، أن تنصرف بعض الجهود إلى تحليل العقيدة الإسلامية نفسها، وفلسفتها، وإلى بحوث علمية في تأصيل الفكر الإسلامي على اختلاف عصوره وأطواره، ففي تحليل العقيدة الإسلامية يصدر العقاد عددا من الكتب ويكتب مقالات كثيرة، ومن أهم كتبه في ذلك: «الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية» (1947م) و«الفلسفة القرآنية» (1947م)، حتى إذا ما جاءت خمسينيات القرن، أكثر من تأليفه في هذا الاتجاه، ومن أهم ما أخرجه «التفكير فريضة إسلامية» (1957م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (1957م).
كثرت الدراسات الإسلامية والعربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفسير ذلك - فيما أظن - أنه كان تمهيدا قويا لولادة جديدة، تولد فيها أمة تتعرف على سماتها العربية الإسلامية، بعد أن كادت تضيع هذه المعالم في غمرة النقل عن ثقافة الغرب، فإذا كان الكتاب خلال العشرينيات والثلاثينيات، قد وجدوا أحيانا ما يبرر تساؤلهم: من نحن؟ أنحن فرعونيون أم عرب؟ وما إلى هذه الأسئلة من أسئلة، فهم اليوم قد باتوا على يقين لا يفسح المجال حتى للسؤال، هم اليوم على يقين من أنهم أمة عربية، أو هم بتعبير أدق جزء من الأمة العربية، التي تربط أجزاءها روابط قوية من لغة ودين وتاريخ ومصير ، إذن فلنحلل كل هذه الروابط في دراسات علمية أحيانا، وفي مقالات شعبية أحيانا أخرى، نعم لنحلل عناصر الدين وعناصر اللغة وحوادث التاريخ وأهداف المصير ... تلك كلها دراسات شغلتنا بعد الحرب الثانية.
وقد شغل الناس بموضوعين عن اللغة دارت حولهما معارك فكرية هادئة حينا عنيفة أحيانا، أولهما هو: أنكتب بالعامية أم نكتب بالفصحى؟ وثانيهما: أنكتب بأحرف عربية أم نكتب بأحرف لاتينية؟ فأما أول الموضوعين فما زال إلى هذه الساعة قائما تدور فيه المساجلات، يدافع عن الكتابة العامية فريق يضع جماهير الشعب نصب عينيه، ويدافع عن الكتابة بالفصحى فريق آخر يجعل الأولوية للوحدة العربية التي تقتضي أن يكون اللسان واحدا مفهوما في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وسائر أقطار الأمة العربية، ذلك فضلا عن الحفاظ على التراث المشترك، ومنه القرآن الكريم.
وأما ثاني الموضوعين فقد ثار في الأربعينيات حينا، ثم مات ولم تقم له بعد ذلك قيامة، وكان بطل الكتابة بأحرف لاتينية عبد العزيز فهمي في تقرير قدمه سنة 1944م إلى المجمع اللغوي، مبينا فيه صعوبة التعلم باللغة العربية كتابة وقراءة، ومستشهدا بما حدث في تركيا من تسهيل في عملية التعلم نتيجة لاستخدامهم أحرفا لاتينية بدل الأحرف العربية التي كانوا من قبل يستخدمونها في كتابة اللغة التركية، ثم اقترح طرائق مفصلة لتنفيذ اقتراحه.
لكن اقتراحا كهذا لم يكن ليمضي بغير معارضة شديدة من جهات كثيرة، في مصر وفي غيرها من أقطار الأمة العربية، ومن المعارضين محمود محمد شاكر وكان مما احتج به قوله: «إن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه، فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له ... نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها؛ لأنها لم تبن إلا عليهما، وهي في هذه الوجهة مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني؛ لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها حتى تختلف الحركات على كل حرف ... إلخ» وتعرض للرد غير هذا الكاتب كتاب آخرون، كل منهم يقيم الحجة من زاوية معينة.
وربما كان من أبرز الملامح في حياتنا الثقافية في الأعوام التالية للحرب الثانية، ما أداه أساتذة الفلسفة الجامعيون، وكان ذلك ذا شقين: أولهما تأصيل الفلسفة الإسلامية على أصول إسلامية خالصة، بعد أن كان الظن أنها نقول وشروح من الفلسفة اليونانية وعليها، وثانيهما إدخال تيارين معاصرين كنا بحاجة إليهما، هما الفلسفة الوجودية توكيدا للحرية، والوضعية المنطقية توكيدا للطريقة العلمية في صياغة القول وفي فهمه على السواء.
فمن باب البحث في الفلسفة الإسلامية، أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (1944م) الذي وقف فيه وقفة العالم المحايد، فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميل مرجح سوى ما توجبه النصوص، فالكتاب يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يقصدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصر أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، موضحين أثرها الذي يرونه فعالا في توجيه الفكر الإسلامي، وأما الباحثون الإسلاميون فيغلب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين، لكن مؤلف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجا آخر في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إذ هو يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى، وتتبع مدارجه في ثنايا العصور، وأسرار تطوره والنتيجة العامة التي ينتهي إليها هذا الكتاب هي أن للمسلمين فلسفة خاصة بهم، مطبوعة بطابعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموها وازدهارها - وهي نتيجة كونت مدرسة بأسرها في البحث الفلسفي منذ ظهر هذا الكتاب وإلى يومنا هذا.
وأما التياران المعاصران اللذان أدخلا في حياتنا الثقافية، فهما - كما ذكرنا - الوجودية، والوضعية المنطقية، الأولى لتكون فلسفة حياة، والثانية لتكون فلسفة علم، وكانت حياتنا الفكرية بحاجة إلى الفلسفتين؛ ولذلك أحدث هذان التياران أصداء متفاوتة القوة، فهنا مؤيد وهناك معارض، وكان أهم من قدم لنا الوجودية من زاوية جديدة، هو عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي» (1944م) وأهم من قدم الوضعية المنطقية بتطبيق عربي هو زكي نجيب محمود في كتابه «المنطق الوضعي» (1951م) وكتابه «خرافة الميتافيزيقا» (1953م).
إن العوامل المختلفة التي أخذت تعتمل في الثقافة العربية في مصر، منذ أواخر القرن الماضي، والتي ما انفكت منذ ذلك التاريخ توسع من نطاق فعلها، فكلما امتدت إلى جانب من جوانب الحياة، جاوزته إلى جانب آخر: فمن مطالبة بالحرية السياسية، إلى مطالبة بالحرية الفكرية، وبالحرية الاجتماعية، أقول إن هذه العوامل المختلفة كلها، كانت طوال هذه الفترة تعمل في أنفس الكتاب والمفكرين، باحثة عن شخصية عربية جديدة، تحافظ على تراث الماضي، وتضيف إليه عناصر الحاضر، وكان لهذا البحث عن ذات جديدة تولد من رماد التخلف ومن أغلال المستبدين والمستعمرين، كان لهذا البحث عن ذات جديدة، لحظات مشهودة، حفزتها على سرعة الحركة وحيوية النشاط: الثورة السياسية سنة 1919م، وحرب فلسطين سنة 1948م على أثر إعلان الأمم المتحدة لقيام إسرائيل اغتصابا من الشعب العربي، ودع عنك قيام حربين عالميتين، شبت في ختام الأولى منهما ثورة سياسية تطالب بالاستقلال عن إنجلترا، وتخمرت في ختام الثانية منهما خمائر ثورة اجتماعية - تهمس ألسنتها أول الأمر، ثم تجهر - مطالبة للشعب كله - لا للفئة المحظوظة وحدها - بحق العيش وحق المشاركة الفعلية في الحياة على أرضه، ولم يكن حريق القاهرة في 26 يناير 1952م إلا اندلاعا لروح الغضب الكامن في الصدور، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952م لتحول غضبة الغاضب إلى سلوك يغير الحياة الفاسدة، ويستبدل بها أوضاعا جديدة، تحقق له الآمال التي ظلت تتراكم على أقلام الكتاب وفي أذهان المفكرين.
كان الهدف الواضح الظاهر لشتى مظاهر الفكر المصري والأدب المصري هو خلق روح مصرية جديدة، تتسم بطابع مميز، فلما أن نشبت الحرب العالمية الثانية، وبلغت ختامها سنة 1945م، أخذ هذا الطابع المميز المنشود يتطلع إلى أفق أوسع، لا يقتصر أمره على أصحاب الحياة العلمية وحدهم - أعني علية المثقفين - بل يتعداهم إلى شيء يصلح أن يتسع ليشمل الشعب كله، ثم لما قامت الحرب الفلسطينية بين البلاد العربية وإسرائيل سنة 1948م، كان ذلك بمثابة أن تتحدد معالم الهدف الجديد للفكر، وللأدب، وللسياسة، ولكل وجه من أوجه النشاط الذهني، وهو أن يعمل العاملون وأن يفكر المفكرون، وأن يتغنى الشعراء بوحدة عربية وقومية عربية، تكون مصر جزءا منها.
أخذت خيوط كثيرة تتجمع، بعد أن هدأت نيران الحرب العالمية الثانية، تشير كلها إلى وجوب تغير الأوضاع من أساسها، طه حسين يكتب عن «المعذبين في الأرض» كما يكتب سواه في نفس الاتجاه، إرهاصا لثورة اجتماعية اقتصادية، وخالد محمد خالد يكتب «من هنا نبدأ» و«مواطنون لا رعايا» فتحدث كتاباته أثرا في رقعة واسعة من القراء؛ لأنه يلجأ إلى طريقة في الكتابة تجمع في يد واحدة ثنائية الثقافة الدينية التي كانت معتزلة وراء جدران الأزهر إلى حد كبير، والثقافة السياسية الاجتماعية الجديدة، هادفا إلى خلق العربي المسلم الحر المعاصر في آن معا، ويحيى حقي يكتب «قنديل أم هاشم» ليؤكد ضرورة العودة إلى تربة الثقافة العربية الإسلامية، حتى وإن أوغل المغترب في العلم الأوروبي، ومحمد فريد أبو حديد - منذ العشرينيات والثلاثينيات - يكتب بروحه السمحة وقلمه الهادئ ليشيع فينا نفحة التجديد الذي يقيم بنيانه على أسس الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة ... خيوط أخذت كلها تتجمع لتلتقي في عزيمة واحدة، تنتظر الجذوة التي تشعلها فتحركها إلى عمل ثوري يقلب التربة قلبا، ليبذر بذورا جديدة، لتنبت لنا نباتا جديدا، وكانت هذه الجذوة هي ثورة 23 يوليو 1952م، التي سرعان ما أصبحت هي الثورة الأم، التي تلد ثورات متتابعة رأسية وأفقية، رأسية تتناول أوضاع الحياة في مصر، وأفقية تتسع لتشب في سائر أجزاء الأمة العربية.
لقد مست روح الثورة جوانب الحياة الفكرية والأدبية جميعا، وعلى صور إن تفاوتت قوتها في المجالات المختلفة، فهي روح منبثقة عن توكيدنا للذات العربية في مجتمع اشتراكي يضمن للإنسان كرامته مهما كان العمل الذي يؤديه، ومهما كانت درجته من الفقر أو الغنى، نعم لقد كانت الخيوط الفكرية كلها - كما قلنا - تتجمع نحو هذا الهدف خلال أعوام القرن العشرين كلها، لكن ثورة 1952م جاءت لتبدأ في حياتنا الفكرية طورا ثوريا، يستخدم كل عوامل الماضي ، لينهض بتغيير شامل.
ونستعرض صنوف الفكر والأدب خلال هذه الأعوام الثائرة، فنرى إلى أي حد تغلغلت الثورة في أعماق المفكرين والأدباء، استجابة - ومشاركة في الريادة - للحركة التي شملت الشعب بأسره.
ففي الشعر، بلغت البدايات الجديدة التي كان أبو حديد قد بدأها حين حاول أن يجرب الشعر المرسل، الذي يحتفظ بالوزن ويتخفف من القافية، أقول إن هذه البدايات، قد بلغت الآن أوجها، على أيدي نفر من الشعراء الذين أرادوا أن يفاجئونا بالجديد، في الشكل وفي المضمون معا، فأما الشكل، فقد نفضوا عن أنفسهم التقليد السائد، الذي يحتم أن يجيء الوزن على صورة بعينها، وأن تكون للقافية شروط تجب مراعاتها، ثم لم يكفهم هذا، فثاروا على المضمونات التقليدية التي لبث الشعراء يدورون فيها مئات السنين، منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا، حتى لقد اجترأ كاتب مفكر خلال الأربعينيات هو أحمد أمين، مؤلف المجموعة المشهورة التي أرخت للفكر العربي، والتي صدرت بعض أجزائها في الثلاثينيات، وأعني بها «فجر الإسلام» و«ظهر الإسلام» - أقول إن هذا الكاتب المفكر كان قد اجترأ فأعلن في سلسلة مقالات - نشرها في مجلة الثقافة التي كان يشرف على تحريرها، ثم جمعها مع غيرها في مجموعة مقالاته «فيض الخاطر» - أعلن أن الأدب الجاهلي قد جنى على الشعر العربي جناية كبرى، حين حدد له مرة وإلى الأبد - أو ما ظنه أنه باق إلى الأبد - شكلا بعينه للشعر، بل ومعاني بعينها يدور حولها الشعراء، وأن الثورة قد أصبحت واجبة على الشعراء المحدثين، وها هم أولاء الشعراء المحدثون قد سنحت لهم الفرصة فثاروا على الشعر التقليدي شكلا ومضمونا وكان على رأس هؤلاء - في مصر - صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، لكنه مما يلفت النظر أنه إلى جانب الصور الجديدة الثائرة في شكلها وفي مضمونها، بقيت صور أخرى من الشعر، تكتفي بالثورة في المضمون الشعري، لكنها تحافظ على الشكل القديم، وترى أن الوعاء القديم ما زال صالحا ليصب فيه الشراب الجديد.
وإن هذا التوازن ليظهر كذلك في التأليف المسرحي خلال أعوام الثورة، أعني أنك تجد من أدباء المسرح من حطم الصورة الشكلية التقليدية للبناء المسرحي، فجاء جديدا في المضمون والشكل معا، كما تجد إلى جانبهم فئة أخرى، تثور في المضمون لكنها تحافظ على الشكل التقليدي القديم، بل وتجد إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعة ما زالت تكتب كما كان يكتب أدباء العشرينيات، أسلوبا ومضمونا، فالشاعر المسرحي عزيز أباظة يتابع إخراج مسرحياته الشعرية على نحو ما كان يؤلف أحمد شوقي مسرحياته: مضمون يغلب عليه أن يكون من التاريخ العربي، وشكل يحافظ على الوزن والقافية التقليديين، والكاتب المسرحي العظيم توفيق الحكيم - الذي امتد إنتاجه الأدبي منذ العشرينيات، لم يفتر - ما زال كأول عهده، يختار البناء الكلاسيكي للمسرحية، وإن يكن قد مال بالمضمون نحو المعاني الاشتراكية الجديدة، هذا إذا استثنينا محاولات جزئية يحاولها آنا بعد آن، ليجرب قلمه وذهنه في الاتجاهات المسرحية الجديدة، فيكتب حينا في الأدب اللامعقول مسرحية يجاري بها أهل هذا المجال، ويكتب حينا آخر شيئا يسميه جمعا بين المسرحية والرواية، وهكذا، أما عبد الرحمن الشرقاوي فيكتب مسرحيات شعرية في موضوعات تساير الثورة السياسية في أهدافها لكنه يتخفف في شعره من قيود القافية، وإن ظل محتفظا بالوزن الشعري كما عرفه التقليد العربي.
لكن الأدب المسرحي لم يلبث أن تفجر عن فئة ثائرة ممعنة في ثورتها، أرادت أن يكون مسرحنا مسرحا عربيا أصيلا، يستوحي طابعنا المحلي الخاص، فاللغة في الحوار هي العامية لا الفصحى، وتتابع المناظر والفصول يجري على نسق مبتكر، بل وخشبة المسرح نفسها تعرضت للتبديل والتغيير، نذكر من هؤلاء «رشاد رشدي» و«نعمان عاشور» و«يوسف إدريس» و«لطفي الخولي» و«ألفريد فرج» و«سعد الدين وهبة»، ولنلاحظ عن معظم هؤلاء أنهم ممن أسهموا في أكثر من مجال أدبي، فمنهم من كتب القصة إلى جانب المسرحية (مثل يوسف إدريس)، ومنهم من أسس في حركة النقد الأدبي كذلك (مثل رشاد رشدي)، وهم فوق هذا وهذا ممن يشتركون بأقلامهم في الصحافة اليومية، بما يغلب عليها من طابع سياسي يتابع الأحداث الجارية.
وأما القصة فقد كانت في أدبنا الحديث منذ أول القرن، وبلغت أشواطا لا بأس بها على أيدي هيكل في «زينب» و«هكذا خلقت» و«المازني» في «إبراهيم الكاتب» والعقاد في «سارة» ومحمود تيمور في «سلوى في مهب الريح» - وكلهم ممن غلبت فيه الثقافة الفكرية العقلية على أدبه، فجاءت قصصهم تحليلا لأفكار - وخصوصا فكرة الحب، وبعض العلاقات الاجتماعية الأخرى - ثم ظهرت بعدهم جماعة أخرى تكتب القصة كتابة تسودها التلقائية وعدم إطالة التفكير العقلي؛ وذلك لأن الطبع القصصي عندهم أعمق وآصل، ولكنهم برواية الأحداث والتزامهم الواقع كما يقع، أكثر اهتماما منهم بتحليل الأفكار والأشخاص؛ ولهذا كانت قصصهم أقرب إلى نفوس القراء الذين يريدون المتعة الأدبية وحدها ولا يصبرون على جهد يبذلونه في أدب أنشأه صاحبه بعد إعمال الفكر وعناية باللغة، ومن هذه المجموعة الثانية «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس» و«محمد عبد الحليم عبد الله» و«يوسف غراب» - فلما قامت ثورة يوليو 1952م، ولبثت ماضية في طريقها الثوري ظل هؤلاء الكتاب يكتبون، بعد أن مالوا بمضمونهم الأدبي نحو الفكر الاشتراكي الجديد، ونحو إبراز المفارقات التي كانت تفسد حياتنا قبل الثورة، لكنهم - مع تجديدهم في المضمون، ومسايرتهم للروح الثورية - ما زالوا يحافظون على الأسلوب الذي بدءوا الكتابة به منذ بدءوا.
ويقف وحده في ميدان القصة «نجيب محفوظ» الذي بدأ إنتاجه القصصي منذ أواخر الثلاثينيات، وظل يواصل الكتابة، التي استهدف بها دائما تصوير الطبقة الوسطى الطامحة إلى التشبه بالطبقة الممتازة، حتى قامت ثورة 1952م، وعندئذ طفر بفنه طفرة عالية، إذ وسع من منظوره الفني توسعة استطاع بها أن ينظر إلى تاريخنا القومي الحديث كله، وكأنه ينظر إلى مشهد واحد، وطفق يصوره تصويرا بارعا فيه حيوية وبناء أدبي محكم، ومن خير الأمثلة لفنه الجديد ثلاثية صور بها ثلاثة أجيال تتابعت في أسرة واحدة منذ ثورة 1919م، ليبرز في تطورها خلال الوالد والولد والحفيد، معالم تطورنا جميعا في عصرنا الثوري الحديث.
ونترك ميدان الأدب، لننظر فيما صاحبه من نقد أدبي، فنجد هنا المدارس تتتابع منذ العشرينيات حتى يومنا هذا، تتابعا يدل بذاته على معالم التغير في وجهات النظر فبعد أن تولى النقد أدباء ما قبل الثورة: طه حسين، والعقاد، والمازني وغيرهم، ينقدون وكأنما في خلفية رءوسهم عقيدة بأن الأدب إنما يكتب على أسس أدبية فنية صرف، نحاسب الأديب عليها دون أن نطالبه بأن يكون على رأي معين في موضوع بعينه، فليكن مذهبه السياسي ما يكون، ولتكن ميوله الاجتماعية ما شاء لها أن تكون، وليضع أية عقيدة أراد في أدبه، لكنه مطالب بتجويد فنه الأدبي، ثم هم بعد ذلك يختلفون في الأساس الذي يحكمون به على جودة هذا الفن الأدبي: أيكون هو نجاح القطعة الأدبية في التغلغل بنا إلى أعماق نفس كاتبها؟ أم يكون هو نجاحها في تصوير عصرها؟ أقول إنه بعد أن كان النقد عند أدباء ما قبل الثورة قائما على أسس كهذه، جاءت الثورة فتبعها تبدل في الموقف النقدي، إذ أخذت المذهبية الاجتماعية والسياسية (الأيديولوجية) شيئا فشيئا تحتل مكانتها كأساس للنقد، ينظر إليها قبل أن ينظر إلى أي شيء سواها، فإذا وجدت القطعة الأدبية هادفة نحو تحقيق آمال المجتمع في طوره الاشتراكي الجديد، نظرنا بعد ذلك في شكلها وأسلوبها وغير ذلك، وأما إذا وجدت غير هادفة على هذا النحو، كان من العبث وضياع الوقت والجهد أن نناقشها من جوانبها الفنية الأخرى، وكان من أبرز من أقاموا هذا النقد الأيديولوجي في الأعوام الأخيرة «محمد مندور» وما يزال يجري عليه نقاد آخرون مثل «محمود أمين العالم»، على أن المعارك النقدية ما زالت تظهر في محيطنا الأدبي حينا بعد حين، بين نقاد يؤكدون أهمية «الشكل» في القطعة الأدبية، بغض النظر عن موضوعها، وآخرين يؤكدون أولوية «الموضوع» وإلا فلو خلت الكتابة من موضوع يمس مشكلات الحياة الواقعة، كانت عبثا ولهوا، وهنالك نقاد يقفون في نقدهم عند التقويم الفني المشبع بقراءات عريضة وثقافات متنوعة، مثل لويس عوض.
وإن الحديث عن النقد الأدبي، ليجرنا إلى الحديث عن «الفكر» بصفة عامة، فها هنا كذلك نجد الأمزجة كلها متجاورة - وإن لم تكن متآلفة - فثمة من الدارسين - من أساتذة الجامعة بصفة خاصة - من يعكف على دراسة القديم أو الجديد، كل بحسب ميدان تخصصه، ليخرج للناس بحوثه في كتب أو في مقالات أكاديمية، أو على الأقل مطبوعة بطابع الجد الرصين، ومن أمثلة هؤلاء في مجال الدراسة الأدبية «شوقي ضيف» الذي ينصرف بجهوده نحو التأريخ للأدب العربي من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه، و«سهير القلماوي » التي استطاعت بسعة أفقها وطلاوة حديثها أن توصل أعلى المستويات الثقافية إلى جمهور القراء في أسلوب رفيع وبطريقة جذابة، ومن هؤلاء أيضا مدرسة أدبية تجعل شعارها «الأدب للحياة» - سواء جاءت ثمارهم مطابقة تمام المطابقة لشعارهم هذا أو لم تجئ - وكان على رأس هذه المدرسة «أمين الخولي» و«عائشة عبد الرحمن» التي تعرف عند القراء باسم «بنت الشاطئ» وهي في مرحلتها الأخيرة أميل إلى إحياء القيم العليا من جوف التراث؛ ابتغاء وصلها الجديد بالقديم.
وفي ميدان الفكر النظري، دراسات مختلفة المنزع تصدر تباعا في شتى الفروع، لكن ما يلفت النظر منها هو الدراسات الخاصة بالمفهومات الاشتراكية، التي قد تضيق حتى تتناول مفهوما واحدا بالشرح والتحليل، وقد تتسع حتى تشمل النظرية الاشتراكية كلها في صورتها العربية، ولو أردنا أن نلتمس موضعا واحدا يلخص لنا صفوة فكرنا الاشتراكي الجديد، لما وجدنا خيرا من «الميثاق» الذي صدر سنة 1962م عن مؤتمر وطني كبير، ليكون بمثابة خطة للعمل القومي السياسي إلى حين.
على أن صورة الحياة الثقافية في مصر المعاصرة لا تكمل إلا بذكر جهود متفرقة كثيرة، تكون الروافد التي تمد التيار الرئيسي الكبير، كل بحسب منبعه ومورده: فهنالك من ينقل إلينا ثقافة الغرب - إما بالترجمة وإما بالأصالة الشخصية - نقلا يتسم بالتأييد المتحمس لها، وعلى رأس هؤلاء الدكتور حسين فوزي، وأشهر كتبه «سندباد عصري» الذي يجمع في دراسته بين العلم والأدب، وهنالك من يفكر في مشكلات ثقافية يختارها لنفسه، تفكيرا مستقلا أصيلا، لا يبالي أجاء مصطبغا بتأييد العربي القديم أو الغربي الجديد، مثل «الدكتور محمد كامل حسين» - ومن خير ما كتب قصة «قرية ظالمة» الذي يجمع هو الآخر بين الدراسة العلمية والأدبية، هنالك المؤرخ الذي أخذ نفسه بالتأريخ لبلادنا في عصورها الحديثة تاريخا مفصلا، تسري فيه الروح الوطنية التي تبرز صورة قومه مبرأة من الشوائب التي أدخلها عليها مؤرخون آخرون لم يكتبوا بروح الإنصاف، مثل «عبد الرحمن الرافعي»، وهنالك عشرات الباحثين توفروا على نشر النصوص القديمة وتحقيقها، ومئات المترجمين الذين ينقلون عن أوروبا وأمريكا ما ينتجانه حتى ليتابعوا الحركة الفكرية هناك خطوة خطوة - وهنالك عدد ليس بقليل ممن جعلوا همهم جمع الأدب الشعبي والفن الشعبي في مختلف صوره، وصب هذه الصور في سياق متسق من شأنه أن يوضح جانبا هاما من الروح المصرية العربية الأصيلة التي لا غنى عن توضيحها إذا أردنا - كما نحن مريدون منذ أول القرن - أن نبحث عن حقيقة أنفسنا، ويتزعم هذه الحركة «عبد الحميد يونس» الذي أنشئ له كرسي جامعي ليتولى تدعيم الدراسة الفولكلورية على أسس أكاديمية قوية، ولقد أخذت هذه الآثار الشعبية في الأدب والفن، تسري في كثير من الخلق الأدبي في القصة والمسرحية والشعر.
إنه لو جاز لنا أن نلخص تيارات الفكر والأدب المعاصرة في مصر، في عبارة واحدة، قلنا إنها جميعا محاولات نحو خلق شخصية عربية جديدة، تحمل طابعا مميزا، تجتمع فيه قيم الماضي العريق، وقيم الحاضر المتطور، طابعا يتسم بالإرادة الحرة، وبالنظرة العلمية، ينقل عن تراث الآباء قيمه العليا، وعن الحضارة القائمة علومها وصناعتها وتياراتها الفكرية والفنية، ثم يتمثل ذلك التراث وهذه الحضارة، تمثلا ينتهي إلى أصالة وابتكار.
حركة المقاومة في الأدب العربي الحديث
لم يكد المستعمر البريطاني يمس الأرض العربية في مصر (1882م) حتى انعكس حضوره على الأدب في صور شتى من المقاومة، يمكن تقسيمها من حيث الصفة الغالبة عليها مراحل ثلاثا، كان للمقاومة في كل مرحلة منها خاصة مميزة، أما المرحلة الأولى فقد امتدت من لحظة الاحتلال إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، جاءت المقاومة خلالها تنبيها مباشرا للناس أن يستيقظوا للخطر الداهم، الذي أحاق بالوطن وبالعقيدة، وأما المرحلة الثانية فقد امتدت خلال فترة ما بين الحربين، وفيها أضيفت إلى الأدب السياسي المباشر، الذي اشتعل بالدعوة إلى الحرية والاستقلال عقب الثورة الوطنية عام 1919م، أقول إنه قد أضيفت إلى هذا الأدب السياسي المباشر خلال المرحلة الثانية بحوث في الحرية من حيث هي كذلك، كائنة ما كانت جوانبها وميادينها، وسرعان ما ألحقت بهذه البحوث النظرية، سير لأبطال الحرية تجسد للناس معانيها في رجال عاشوها، وقد اختير هؤلاء الأبطال من الغرب تارة ومن التاريخ العربي تارة، ثم جاءت المرحلة الثالثة لتمتد من الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، منقسمة شطرين: في أولهما كان الاستعمار عسكريا سافرا، وفي ثانيهما أخذ يتسلل في خفاء إلى حياتنا الفكرية بغير جند ولا سلاح، على أن المقاومة - كما انعكست في الأدب - خلال هذه الفترة الثالثة بشطريها، قد اتسمت بطابع واحد متصل، هو طابع إيجابي بالقياس إلى الطابع السلبي الذي ميز المرحلتين الأوليين، إذ اتخذت المقاومة هذه المرة طريق البناء لثقافة جديدة، تحمل خصائصنا القومية الأصيلة، وتفتح أبوابها - في الوقت نفسه الحياة، ولا حياة إلا بك يا - لعوامل التطور الحضاري الحديث، وذلك رغبة منا في تقرير ذواتنا، وتحصين وجودنا الشخصي المتميز الفريد.
ولم يكن الأدب العربي في مصر، خلال هذه المراحل الثلاث جميعا، ليقصر مقاومته على أرض مصر وحدها، منزوعة من الوطن العربي الكبير، أو معزولة عن حركات التحرر التي أخذ مداها يتسع في أرجاء مختلفة من آسيا وإفريقيا، بل كانت الأمة العربية بأسرها هي مجال الكتابة عند الكاتبين، كما كانت البلاد الإسلامية، وكل بلاد أخرى تطالب بحريتها من مستعمر غاصب، موضوعا لا يغيب عن سياق الحديث، كلما مس الحديث قضايا التحرر الوطني.
احتل الإنجليز أرض مصر، فرحل عنها جمال الدين الأفغاني، ونفي الشيخ محمد عبده، ثم ما لبث القطبان أن التقيا معا في باريس، ليصدرا جريدة العروة الوثقى، ناطقة بالدعوة إلى مقاومة الموجة الاستعمارية العارمة، التي أخذت تطغى على أقطار الشرق بعامة، وإلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني بصفة خاصة، وإن القارئ ليطالع على صفحات الأعداد الثمانية عشر التي صدرت من العروة الوثقى - وقد صدر عددها الأول قبل أن ينقضي على الاحتلال البريطاني عامان - صيحات قوية تنبه من غفا، وتوقظ من استنام: «إننا لو نادينا الغافلين أن انتبهوا، والنائمين أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم وأوهامهم أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنجليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم، لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم، وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم لما عساه يخطر ببالهم، لقال الناس إننا نبالغ في الإنذار ونغرق في التحذير» (العدد الخامس من العروة الوثقى).
وحسب القارئ أن يقرأ المقالة الأولى من العدد الأول - وكان عنوانها «مصر» - ليرى بأي بلاغة عربية مبينة، وصفت حالة البلاد عندما أخذت أصابع الاستعمار تعبث بأمورها: «وا أسفا على حالة الأهالي بعد هذا، حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين من دوائر الحكومة، وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد، ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم ... إن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية، وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني منهم في البلاد من المهن، إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأمور، كما هو في البلاد الهندية، وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه - وإن ضعفت - واتباع بواطل التهم - وإن بعدت أو استحالت - حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه، وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارا بطريق إلا وهو يلتفت وراءه لينظر هل تعلق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فداء، وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة ... أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!»
بمثل هذه النذر المفزعة الصريحة، أخذ الأفغاني ومحمد عبده يتعاونان على إطلاق الصيحة الأولى من خارج البلاد، لتجاوبها في داخل البلاد أصداء تبلغ رسالتها وتزيد من قوتها، فها هو ذا عبد الله النديم (1845-1896م) الذي أطلقت عليه صفات تدل على الدور العظيم الذي أداه في اليقظة الوطنية، إذ أطلق عليه «خطيب الشرق» - وقد كان أول خطيب مصري يخطب قومه في شئون السياسة - كما أطلق عليه «محامي الوطن»، لقد استخدم النديم في أداء رسالته كل فنون الأدب من زجل وشعر إلى مسرحية وقصة، ثم إلى المقالة والخطابة، وفي نسبة هذه الفنون عنده بعضها إلى بعض يقول أحمد تيمور: «... أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا»، على أن ما يهمنا هنا من آثار النديم أدبه المكتوب، ومقالاته الصحفية اللاذعة، خصوصا ما ورد منها في مجلة الأستاذ، التي صدرت في عهد الاحتلال الإنجليزي، والتي لم يلبث الإنجليز أن طالبوا بإغلاقها، لشدة ما جاء فيها من هجمات النديم على خصوم الوطنية والعروبة والإسلام، فكان مما قاله عن الدولة الغاصبة أنها وضعت معظم الإدارات في أيدي الأجانب، حتى لا تمكن المصريين من إصلاح بلادهم، فاختلت البلاد، «فإن كان مرادها إفساد البلاد فقد أفلحت، أما إذا كانت تريد صلاحها، وتسليمها لأبنائها، فكيف يحدث ذلك، وهي لا تستعمل أبناءها في الحكم، وتبعدهم عن الإدارات؟» وفي مقال له بعنوان «هذه يدي، في يد من أضعها؟» يقول إنه إذا لم يضع يده في أيدي مواطنيه المخلصين «فقطعها خير من وضعها في يد أجنبي يستميلك إليه بوعود كاذبة، وحيل واهية، يظهر لك سعيه في صالحك، وحبه لتقدمك ... ويصور لك الأباطيل في صورة حقائق؛ حتى يخدعك بها، ويحول أفكارك الشرقية إلى أفكار غربية تأخذها، وتقول بها، فتكون يده القوية وعونه الأكبر على ضياع حقوقك، وإذلال إخوانك واحتلال بلادك.»
وكان من اللمحات النافذة عند النديم إشاراته المتكررة إلى ضرورة التعليم وضرورة قيام الصناعة؛ لأنه ما اغتصب غاصب أرضا إلا بسبب جهالة أبنائها أو بسبب انصرافهم عن الصناعة؛ لأن الانصراف عن الصناعة هو انصراف عن العلم، «إن التهور والثورة مع الجهل والفراغ من المعدات، لا يفيدان إلا الخذلان» ولا نجاح لثورة على استعمار إلا إذا كان أساسها التعليم والصناعة: «وما نجحت ثورة تجردت جماهيرها من المعارف وبعدت عن المصانع والتفنن في الآلات، واندفعت خلف الأهواء» (مجلة الأستاذ في 30 / 8 / 1892م).
ولا نترك الحديث عن أواخر القرن الماضي، قبل أن نذكر أثرا شامخا من آثار المقاومة الوطنية لكل مستعمر أو دخيل، لكنه - هذه المرة - أثر إيجابي بناء، وضع البذور الأولى للنهضة العربية الشاملة، التي ستزداد مع السنين، حتى تصبح في سنواتنا الراهنة حركة ثورية لتحقيق الوحدة العربية، وإنما عنيت بذلك الأثر، نهضة الشعر على يدي محمود سامي البارودي (1839-1904م) إذ الأمر فيها لا يقتصر على أمر الشعر وحده، بل يجاوز ذلك ليكون إقامة لأهم دعائم القومية العربية السليمة، ألا وهي دعامة اللغة القوية الرصينة، فبعد أن ضعفت العربية مع الضعف السياسي والاجتماعي خلال قرون امتدت ما امتد الحكم العثماني، أراد البارودي الشاعر أن تعود لنا القوة السياسية والاجتماعية بادئة من بدايتها الصحيحة، ألا وهي اللغة، وأسعفته الموهبة، فربط بين قديم شامخ وجديد متطلع إلى الشموخ، ونسج نسجا لا يتخاصم فيه الحاضر والماضي، ولا يتعارض فيه التجديد مع التقليد، بل هو نسج: لحمته الحاضر، والماضي سداه، فجاء شعر البارودي في أدبنا الحديث - خصوصا وقد أخفقت الثورة العرابية التي كان الشاعر أحد رجالها، واحتل المستعمر البريطاني بلادنا - جاء هذا الشعر القوي في أدبنا الحديث بمثابة الخطوة الأولى في طريق طويل ما نزال نواصل السير فيه، على هداية مبدأ عام، هو أن تجيء النهضة العربية على أساس يجمع بين الطابع القومي المتميز، وظروف العصر الذي نعيش فيه.
وتمضي السنون - ويستدير القرن التاسع عشر، ليبدأ العشرون، فتزداد المقاومة شدة وظهورا فيما تجري به أقلام المفكرين والأدباء، وحسبنا أن نجد في السنوات الأخيرة من القرن الماضي وفي العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قاسم أمين، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، ولطفي السيد، وعبد العزيز جاويش، ومن الشعراء شوقي وحافظ، كانت حالة الضعف السياسي قد انتهت بالبلاد إلى قبضة المستعمر، وخدعت طائفة من مفكري الغرب عن حقيقة الأمر، فنقلوا بأوهامهم ذلك الضعف من السياسة إلى العروبة من حيث هي جنس، وإلى الإسلام من حيث هو دين، فكان لا بد للفكر والأدب عندنا أن يتصديا لذلك؛ لأن التهمة إذا صدقت انفسح الأمل أمام المستعمر الفرنسي في تونس والجزائر ولبنان وسوريا ، وأمام المستعمر الإنجليزي في مصر والعراق، وأما إذا ردت التهمة وظهر بطلانها، فقد انفسح الأمل أمام الأمة العربية أن تزيل عنها الكابوس الطارئ، لتسترد مجدها، وتمضي قدما في طريقها، ومن هذا القبيل ما حدث بين دعوى هانوتو فيما يتصل بخصائص الجنس الآري والجنس السامي، ورد الشيخ محمد عبده عليه لتفنيد دعواه، وكذلك ما حدث بين دعوى رينان عن موقف الإسلام من العلم، وزعمه بأن الإسلام مضاد للعلم، ورد الأفغاني عليه لتفنيد دعواه، وها هي ذي دعوى ثالثة لمتهجم آخر، يتصدى للرد عليها قاسم أمين.
ذلك أن داركور قد أصدر كتابا سنة 1893م عن المصريين، يصفهم فيه بالتأخر، ويأخذ عليهم حجبهم للنساء عن موارد العلم وميادين الحياة، ثم لا يكتفي بذلك، بل يربط هذا كله بالعقيدة الإسلامية، فرد عليه قاسم أمين سنة 1894م في كتاب عنوانه «المصريون» مدافعا عن وطنه وأهله، معترفا بما قد شاب ذلك الوطن وأهله من عيوب محال أن ترد إلى الإسلام، وإنما هي أثر مباشر للحكم الفاسد الذي نكبت به البلاد أمدا طويلا من الدهر، وقد كتب قاسم أمين كتابه هذا بالفرنسية، ليتاح لمن قرأ داركور، من الفرنسيين أن يطالعوا الرد عليه، اقرأ هذه العبارة - مثلا - من رده على الدوق داركور، لترى كيف رد التهمة عن أهله ردا يوقع خصمه فيما هو أشنع منها: «يظهر أن مسيو داركور ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنه ليس من طوائفنا طائفة الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم.»
على أن هذه المعركة القلمية بين الدعوى ونقيضها، قد حركت الكاتب العربي إلى النهوض بعبء الإصلاح في ميدانه، حتى لا نغمض العين على نقص واضح، فكتب كتابه العظيم «تحرير المرأة» (1899م) وأعقبه بآخر «المرأة الجديدة» (1900م) ليرد به على ما قد وجه إلى كتابه الأول من نقد.
وإن ذكرنا لكتاب تحرير المرأة، ليستدعي ذكر جريدة المؤيد التي أنشأها الشيخ علي يوسف (1863-1913م)، والتي ظهر فيها الكتاب فصولا امتدت على شهرين وهي نفسها الجريدة التي نشر فيها عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م) كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذي هو من أبرز الكتب التي عرفها الأدب العربي في العصر الحديث عن الحرية، يقول فيه الكاتب عن الحاكم المستبد إنه «يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم»، «والمستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا»، «إن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده»، «الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع»، «أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق - ولبئس السيئتان - ويعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين، حتى عن الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة.»
لم تكن هذه الدعوى الاجتماعية التي وجهها قاسم أمين لتحرير المرأة العربية بعيدة الصلة بالدعوات السياسية التي أخذت منذ أوائل هذا القرن تشغل أصحاب الأقلام، فصاحب «تحرير المرأة» هو نفسه الذي كتب عن جنازة مصطفى كامل يقول: «11 فبراير سنة 1908م يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق، المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبا مجروحا، وزورا مخنوقا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه ...»
وإن هذا لينقلنا إلى أدب سياسي جياش بالعاطفة، أنشأه قادة الحزب الوطني في جريدتهم اللواء: مصطفى كامل، محمد فريد، عبد العزيز جاويش.
أما مصطفى كامل (1874-1908م) فهو - كما قال عنه لطفي السيد، برغم ما كان بين الرجلين من اختلاف بعيد في وجهة النظر - «كان شعاره الوطنية، ووسيلة الوطنية، وكتابته الوطنية، وحياته الوطنية، حتى لبسها ولبسته، فصار بينهما التلازم الذهني والعرفي فإذا ذكرت مصطفى كامل بخير، فإنما تطري الوطنية، وإذا قلت الوطنية فإن أول ما يتمثل في خيالك شخص مصطفى كامل ... كأنما هو والوطنية شيء واحد.» يكفينا منه هنا مثل واحد، نقبسه من خطبته الكبرى في الإسكندرية (1907م):
تقولون يا أعداء مصر إننا لو أفلحنا لما نلنا هذا الاستقلال إلا بعد حين طويل، فنجيبكم أنا لو سلمنا بقولكم لما جاز لنا أن نتأخر لحظة واحدة عن العمل؛ لأننا لا نعمل لأنفسنا، بل نعمل لوطننا، وهو باق ونحن زائلون، وما قيمة السنين والأيام في حياة مصر، وهي التي شهدت مولد الأمم كلها، وابتكرت المدنية والحضارة للنوع الإنساني كله؟ إن العامل الواثق من النجاح يرى النجاح أمامه كأنه أمر واقع، ونحن نرى من الآن هذا الاستقلال المصري، ونبتهج به وندعو له كأنه حقيقة ثابتة، وسيكون كذلك لا محالة ...
إننا وجهنا قلوبنا ونفوسنا وقوانا وأعمارنا إلى أشرف غاية اتجهت إليها الأمم في ماضي البلاد وحاضرها، وأعلى مطلب ترمي إليه في مستقبلها، فلا الدسائس تخيفنا، ولا التهديدات تقف في طريقنا، ولا الشتائم تؤثر فينا، ولا الخيانات تزعجنا، ولا الموت نفسه يحول بيننا وبين هذه الغاية التي تصغر بجانبها كل غاية ...
بلادي ... بلادي ... لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر ...
هل خلق الله وطنا أعلى مقاما، وأسمى شأنا، وأجمل طبيعة، وأجل آثارا، وأغنى تربة، وأصفى سماء، وأعذب ماء، وأدعى للحب والشغف من هذا الوطن العزيز؟ ... إني لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا.
ذلك قبس من تلك الخطبة السياسية الوطنية الرائعة، وهي التي نظم بعدها علي الغاياتي (صاحب ديوان «وطنيتي» الصادر سنة 1910م) قصيدة وجهها إلى مصطفى كامل، يقول فيها:
اصدع بقولك إن أردت مقالا
فالقوم جندك إن دعوت رجالا
لم تدر مصر سوى حماك تؤمه
فترى به آلامها آمالا
وفي 1908م تولى عبد العزيز جاويش (1876-1929م) رئاسة تحرير اللواء، وكان للواء طابعه الواضح في مهاجمة الاستعمار البريطاني، وفي إيقاظ الروح الوطنية، فكانت لجاويش في مهاجمة الإنجليز مقالات حامية، وكلمات من نار، حتى قبل أن يتولى تحرير اللواء: «إن البلاد المصرية أخذت منذ بدء الاحتلال المشئوم تتدلى في مهاوي الضعف والاضمحلال، وإنه لا منقذ لها سوى أن يرفع الاحتلال يده الثقيلة المفسدة عنها.» ولكي تعلم ماذا أراد الكاتب أن يصنع بقلمه في مقاتلة العدو، فاسمع ما يخاطبه به: «أيها القلم ... لو كنت سيفا لأغمدتك في صدور من يحاربونك، أو سهما لأنفذتك في أعماق قلوبهم، ولو كنت جوادا لوجدت لك في ميادين النزال مجالا للكر والفر ...»
وكان يقابل هذه الجذوة المشتعلة من الوطنية في جريدة اللواء، فكر منطقي هادئ في جريدة «الجريدة» التي كان يحررها أحمد لطفي السيد (1872-1963م) إذ كان لطفي السيد - كما يقول عنه العقاد - «ينظر إلى المسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة شاملة، توشك أن تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف، ولكنه كان من أشد المفكرين اهتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح.»
وحسب العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن أن تكون قد شهدت فاجعة دنشواي (يوم الأربعاء 13 يونيو سنة 1906م)، فليس كمثل الكوارث الكبرى شيء يوحد قلوب الأمة في قلب واحد نابض، ودنشواي قرية في محافظة المنوفية، قدم إليها خمسة من الضباط الإنجليز لصيد الحمام، فأصيب برصاصهم بعض الأهلين، فهاجم الناس أولئك المعتدين، فأصيب بعضهم ومات أحدهم، فثار العميد البريطاني في مصر، لورد كرومر، وعقدت محكمة خاصة لمحاكمة المصريين، فقضت بإعدام أربعة من الأهالي، وبالجلد وبالحبس على ثمانية، ونفذ الجلد والإعدام في دنشواي علنا، فكان لذلك رد فعل عنيف في طول البلاد وعرضها، وانطلق الشعراء والكتاب ينظمون وينشئون بكاء ورثاء ووطنية وإخاء.
قال إسماعيل صبري:
وأقلت عثرة قرية حكم الهوى
في أهلها وقضى قضاء أخرق
إن أن فيها بائس مما به،
أو رن، جاوبه هناك مطوق
وارحمتا لجناتهم ماذا جنوا؟
وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا؟
وقال أحمد شوقي:
يا دنشواي على رباك سلام
ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا
هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم اللحود أهلة
ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها؟
وبأي حال أصبح الأيتام؟
عشرون بيتا أقفرت وانتابها
بعد البشاشة وحشة وظلام
يا ليت شعري في البروج حمائم
أم في البروج منية وحمام؟
نيرون ... لو أدركت عهد كرومر
لعرفت كيف تنفذ الأحكام
وقال حافظ إبراهيم:
جاء جهالنا بأمر، وجئتم
ضعف ضعفيه قسوة واشتدادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أقصاصا أردتم أم كيادا؟
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو
أنفوسا أصبتم أم جمادا؟
ليت شعري أتلك محكمة التفتي
ش عادت أم عهد نيرون عادا؟
كيف يحلو من القوي التشفي
من ضعيف ألقى إليه القيادا؟
تلك كانت المرحلة الأولى، وهكذا جاءت خلالها صورة المقاومة في الأدب، ثم جاءت المرحلة الثانية التي امتدت فيما بين الحربين، وقد اتخذت المقاومة صورة أخرى، وهي الإشادة بالحرية والدعوة إليها، حتى ولو لم يذكر المستعمر في سياق الدعوة ذكرا صريحا.
وقد ظهرت بدايات هذه المرحلة الثانية، حتى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى، كأنما كانت بدايات تمهد النفوس تمهيدا مباشرا لثورة 1919م، وهي بدايات ظهرت أوضح ما تكون في الشعر، ففي العشرة الأعوام الثانية من هذا القرن، ظهرت دواوين ثلاثة، عزفت كلها على وتر واحد، إذ عزفت نشيد الفرد الإنساني وما يجب له من حرية وما يجب عليه من مسئولية إزاء نفسه، وتلك الدواوين الثلاثة كانت هي الجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري (1913م) والجزء الأول من ديوان المازني (1914م)، وقد قدم العقاد لهما، والجزء الأول من ديوان العقاد (1916م) وقد قدم له المازني، فجاءت هذه الدواوين الثلاثة بمثابة إعلان لحقوق الإنسان الجديد، وإنهم - هؤلاء الثلاثة الشعراء - ليؤمنون أن نهوض الأدب شرط لازم للنهضة القومية وللحرية الوطنية، وأنه لا حرية ولا استقلال لإنسان هانت عليه نفسه حتى ليعجز عن الشعور بها، يقول العقاد في مقدمته للجزء الأول من ديوانه: «ومن كان يماري في هذا القول فليراجع التاريخ، وليذكر أمة واحدة نهضت نهضة اجتماعية فلم تكن نهضتها هذه مسبوقة أو مقرونة بنهضة عالية في آدابها» وقد ظهرت بدايات شبيهة بذلك في ميدان الرواية متمثلة في قصة زينب 1914م للدكتور هيكل التي هي من أولى بشائر الشعور بالمصرية الصميمة وحياة الطبقة العاملة في الريف، وهو الشعور نفسه الذي جاءت رواية عودة الروح (1929م) لتوفيق الحكيم لتؤكده.
ويثور الشعب ثورته عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، مطالبا بحقه في الحرية من المستعمر البريطاني، وتجري أنهر الصحف اليومية بأنهر من الأدب السياسي المشتعل بحرارة الثائرين، ثم سرعان ما يصاحب هذا الأدب السياسي مقالات وكتب في ضروب الحرية وفي مراميها وأبعادها، فيكتب العقاد في فلسفة الحرية وفي علاقتها بألوان الفنون جميعها، ويقول إن حب الأمم للحرية إنما يقاس بحبها للفنون الجميلة «لأن الصناعات والعلوم النفعية مطلب من مطالب العيش تساق إليه الأمم مرغمة مجبرة، وضرورة من ضرورات الذود عن الحياة تدفع إليها مغلوبة مسخرة ... وإنما تعرف الأمم الحرية حين تأخذ في التفضيل بين شيء جميل وشيء أجمل منه، وتتوق إلى التمييز بين مطلب محبوب ومطلب أحب وأوقع في القلب وأدنى إلى إرضاء الذوق وإعجاب الحس، ولا يكون ذلك منها إلا حين تحب الجمال، منظورا أو مسموعا» (مطالعات في الكتب والحياة، ص54).
ويخرج سلامة موسى (1888-1958م) سنة 1927م كتابا عن «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ»، يقول عنه في صفحة الغلاف إنه «قصة الحرية الفكرية وانطلاق العقل البشري من قيود التقاليد وفوز التسامح على التعصب، مع ذكرها ما لقيه الأحرار من ضروب الاضطهاد من أقدم العصور للآن.» ثم يتلو على قارئه صفحات من استشهاد الأبطال في سبيل الحرية على اختلاف أنواعها: سياسية ودينية وعلمية وغير ذلك، وهو يسوق أمثلته من اليونان القديمة ومن المسيحية ومن الإسلام ومن العصور الحديثة في الغرب وفي الشرق على السواء.
وكان محمد حسين هيكل (1888-1956م) من الداعين إلى الحرية في كثير من معانيها، فألف كتابا عن جان جاك روسو ليستمد من دعوة هذا الفيلسوف إلى الحرية دعوة يوجهها إلى العرب في ثورتهم في سبيل الحرية، ويخرج صحيفة السياسة الأسبوعية (1926م) لتكون ملحقا أدبيا أسبوعيا لصحيفة السياسة التي كان يشرف على تحريرها، وليتخذ منها أقوى أداة لنشر الثقافة الجديدة التي أراد هو ومعاصروه أن يبذروا بذورها إرهاصا لعصر جديد، وكانت تلك البذور - في رأي هيكل أول الأمر - بذورا غربية صرفا، ثم سرعان ما أفاق إلى خطئه، وصمم على أن يكون للنهضة العربية أصولها الخاصة التي تستعير من الغرب ما تستعيره، لكنها لا بد إلى جانب ذلك أن تستمد من ماضيها التربة الخصبة التي تستنبتها، يقول هيكل في ذلك: «حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية، وحياته الروحية لنتخذها جميعا هدى ونبراسا، ولكني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعنة موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب يصلح بذرا لنهضة جديدة، ثم رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة النفوس، يجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين» (من مقدمة «منزل الوحي»).
الحق أننا لا نجد صفة نصف بها الحياة الفكرية في عشرينيات هذا القرن، أصدق من أنها كانت حياة تمهد الأرض لبناء جديد يقام عليها حين تحين الفرصة المناسبة؛ ولذلك شغل الكتاب جميعا في تلك الحقبة بالتنوير عامة وبالتنوير فيما يمس الحرية العقلية والفنية والسياسية بصفة خاصة، وفي هذا النشاط التمهيدي لذلك العصر يقول إبراهيم عبد القادر المازني: «قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون بعدهم، ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض، ومهدوها ورصفوها، ومن الذي يعنى بالبحث عن هؤلاء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد، وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق يأتي نفر من بعدنا ويسيرون فيه إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها شاهقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد، فلندع الخلود إذن ولنسأل كم شبرا مهدنا من الطريق» (من مقدمة «حصاد الهشيم»).
لقد كان لسان الحال في مجال الفكر والأدب إبان فترة التنوير والتمهيد التي أشرنا إليها - منذ ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بقليل وإلى نهاية الحرب العالمية الثانية - ناطقا بأنه إذا كان الغرب قد استبد بأرضنا فطريق الخلاص له شعاب كثيرة، منها أن نتزود بعلمه وثقافته لنفل الحديد بالحديد؛ ولذلك كان أبرز طابع يميز تلك الفترة هو نقل الفكر الغربي من اليونان القديمة ومن بريطانيا وفرنسا الحديثتين، وكانت أداة النقل الأساسية - هي المجلات أكثر مما كانت هي الكتب ، المجلات التي تصدر كل أسبوع مثقلة بحصيلتها المنقولة ترجمة وتلخيصا وتعليقا ونقدا، فإذا كانت الصحف اليومية في المرحلة الأولى - كالمؤيد واللواء والجريدة - قد حملت هذا العبء نفسه، ففي المرحلة الثانية تخصصت لها مجلات أسبوعية وشهرية، أول ما نذكره منها مجلة السفور التي صدر عددها الأول سنة 1915م، وفيه أعلن صاحبها عبد الحميد حمدي منهاجها، شارحا المواد بعنوانها، فقال في ذلك:
ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا، وكل شيء يبدو على غير حقيقته، فنحن أمة محجبة بحقيقتها، بادية منها ظواهر كاذبة، وقد تبين للباحث أن هذه العلل ليست طبيعية في نفس الأمة، وإنما هي عوارض تزول بزوال أسبابها.
واشتركت في تحرير «السفور» مجموعة من الكتاب، هي نفسها المجموعة التي سيشتد بأسها في عشرينيات القرن وثلاثينياته، والتي ستكون هي الداعية إلى الأخذ بأسباب الفكر الغربي والثقافة الغربية ليكون ذلك هو نفسه أفعل سلاح في استرداد حرياتنا المغتصبة من الغرب المغتصب، ففيها كتب هيكل، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم وكأنما جاءت مجلة السفور حلقة وسطى في سلسلة ثقافية واحدة، أولها «الجريدة» برئاسة لطفي السيد، وآخرها «السياسة الأسبوعية» برئاسة هيكل، وهي مدرسة فكرية يغلب عليها الطابع الفرنسي.
ولذلك قام خط آخر يوازي ذلك الخط ويوازنه، تمثل في مجلة البلاغ الأسبوعي واجتمع حوله من الكتاب من كان يؤثر النهل من معين الثقافة الإنجليزية، وأشهرهم العقاد والمازني، كما تمثل في مجلة العصور لإسماعيل مظهر والمجلة الجديدة لسلامة موسى، ثم نشأت في الثلاثينيات مجلتان أخريان هما «الرسالة» أولا، و«الثقافة» ثانيا لتحدثا شيئا من الجمع بين الثقافتين الغربية والعربية، تمهيدا لقيام شخصيتنا الثقافية الجديدة، التي سنتحدث عنها بعد قليل، وفيهما ظهر أحمد حسن الزيات وأحمد أمين، الأول بأسلوبه العربي الرصين، الذي يعد في ذاته علامة اعتزاز بالقومية العربية في أصولها وفروعها، والثاني بأسلوبه العلمي الواضح الذي يعد علامة من علامات التبشير بعصر جديد، يرتكز على القديم ويفتح صدره للحديث.
وإنه لمما يميز هذه المرحلة الثانية كذلك، تلك النزعة الرومانسية التي غمرت الشعر، بل وشطرا كبيرا من الكتابة النثرية، وتجلت بصفة خاصة في جماعة أبولو التي نشأت سنة 1932م (وأخرجت مجلة باسمها سنة 1935م) وكان من أهم شعرائها؛ أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، فإذا تذكرنا أن كل حركة ثورية كبرى تصاحبها على الأغلب حركة رومانسية في الأدب، تفك القيود بكل أنواعها: قيود الصياغة الشعرية، وقيود العاطفة الباطنية، عرفنا كم كانت الحركة الرومانسية في الأدب العربي إبان عشرينيات القرن وثلاثيناته دالة على تيار المقاومة العنيف، ومدى سريانه في نفوس الناس على طول البلاد العربية وعرضها كأنما هي صيحة واحدة متعددة الأوتار والأنغام، صدح بها شعراء العروبة جميعا.
فهذا أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م) في قصيدته «الضحايا» يعلن أن نداء الوطن يستوجب ألا نفرط في حق مواطنيه، وألا نجامل الأولى نهبوا المواطنين نهبا، عن جشع لا يشبع وظلم لا يرتدع:
وكل يوم ضحايا لا عداد لها
من غدرهم في جحيم البؤس والهون
أبعد هذا نصوغ الشعر زخرفة؟
وبلغت الانفعالية الرومانسية أوجها في الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي (1906-1934م) خذ قصيدته «نشيد الجبار» مثلا لهذه اللوعة التي تأكل صاحبها كمدا على ما قد حل به، وتطمح به إلى السماء في دنيا الأمل والرجاء:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا
بالسحب، والأمطار والأنواء •••
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلام أخشى السير في الظلماء؟
وإن القول ليطول بنا لو استطردنا نذكر أمثال هذه الجذوات المشتعلة بوطنيتها خلال المرحلة الوسطى - فترة ما بين الحربين - التي هي الآن موضع الحديث.
وإنه لمن أبرز الملامح في الحركات الرومانسية كلها - وهي غالبا حركات للتحرر تعقب الثورات السياسية أو تصاحبها - العودة بالذكرى إلى مجد الآباء، وهكذا كان الأمر في الأدب العربي؛ لأنه إذا كانت الدعوة إلى الحرية تتحقق بشرح المبدأ من جهة، وبضرب المثال من جهة أخرى، فأين يوجد المثال في أسمى صورة إذا لم يكن في أبطال العروبة والإسلام وهما في ذروة المجد؟ من هنا رأينا أدباءنا جميعا يتجهون هذه الوجهة، فبدءوا بالحديث عن أعلام الشعراء الأقدمين - وكان ذلك في العشرينيات - ثم انتقلوا إلى ميدان أوسع، فترجموا سيرة الرسول والخلفاء الراشدين وعددا كبيرا من قادة المسلمين وأعلامهم، فكان ذلك أبلغ ما يقال في وجه عدو البلاد، الذي جعل من أسلحة هجومه أن يستخف بالحضارة العربية وبالثقافة العربية جميعا، وأن يدعي لنفسه الأصالة في مبادئ الحرية والديمقراطية والأخوة الإنسانية بين أفراد البشر.
وتنتهي الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، فتدخل حركة المقاومة - كما انعكست في الأدب - مرحلة ثالثة، فلئن كان قوام المرحلة الأولى كتابة هي أقرب إلى الخطابة السياسية، قصد بها استثارة الشعور الوطني، ثم كان قوام المرحلة الثانية رومانسية تنادي بالتحرر وفك القيود، وتضرب أمثالها من أبطال التاريخ، فقد جاءت المرحلة الثالثة لتقيم البناء الثقافي الجديد على نحو يبرز الخصائص القومية إلى جانب العناصر الحديثة، وها هنا تغيرت الأداة الأدبية الأساسية، فبعد أن كانت الأداة هي المقالة، أصبحت القصة والمسرحية؛ وذلك لأنهما الوسيلتان المواتيتان لتصوير المواقف والأشخاص: على أي نحو لا نريدها، وعلى أية صورة نريدها، وإن في اختيار الأداة الأدبية الجديدة لدليلا واضحا على توحيد العنصرين في حياة واحدة: ما نأخذه من الغرب وما نضيفه من أنفسنا، فلئن كنا قد أخذنا قالب القصة وقالب المسرحية من حيث هما طريقتان للتعبير، فقد عرفنا كيف نملأ القالبين بمضمون محلي أصيل، غلب عليه - فيما بين 1945م و1952م (سنة الثورة الاجتماعية الكبرى) - تصوير البؤس الذي أحاط بالناس، ثم شيء من الكفر بالحضارة الغربية في ماديتها؛ لأن هذه المادية فيها كانت هي الدافع الأول نحو حركات الاستعمار الأوروبي لشعوب الشرق، ولما كانت الحضارة الغربية المادية الحديثة قرينة العقل وما ينتجه من علوم وتقنيات ومكنات، فقد انقلب هذا الكفر بالحضارة المادية كفرا بالعقل وما يؤدي إليه، ودعوة إلى عودة الشرق إلى روحانياته التي ميزته إبان ازدهاره.
أما تصوير البؤس فقد كان في طليعة من اضطلع به الدكتور طه حسين في قصصه التي كتبها في تلك الفترة: «شجرة البؤس» (1944م) و«جنة الشوك» (سنة 1945م) و«المعذبون في الأرض» (سنة 1949م)، وكان قبل ذلك قد نشر قصته الأولى «دعاء الكروان» التي تسير في الاتجاه نفسه، فهذه القصص كلها تستفز الأريحية لما يصيب الإنسان الحر في كرامته على أيدي طغاة ملئوا دروب الحياة ومنعطفاتها، على أن هذا الإنتاج الأدبي الخاص، لم يحل دون أن يمضي عميد الأدب العربي في دراساته التي قصد بمعظمها إقامة النماذج المثلى، لتكون المقارنة صارخة بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، فقد كتب «الوعد الحق» (1950م) و«عثمان» (1947م) و«علي وبنوه» (1953م) و«الشيخان» (أبو بكر وعمر بن الخطاب) (1960م)، فضلا عن دعوته القوية نحو تكافؤ الفرص بين المواطنين في التعليم.
وأما الثورة على العقل - ما دام العقل هو ينبوع الحضارة المادية بكل تفريعاتها السياسية - فقد اضطلع بها توفيق الحكيم في مسرحياته التي صدرت إبان الفترة التي نشير إليها، فأصدر «سليمان الحكيم» (1943م) و«الملك أوديب» (1949م) وكلتاهما تبين أن العقل وحده لا يغني الإنسان عن الحق شيئا.
وكان من أبرز معالم هذه الفترة - وأعني الفترة التي توسطت بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة 23 يوليو سنة 1952م - ما أصدره العقاد من كتب سياسية يقاوم بها استبداد الحكم، وأخرى يصور بها النماذج الإسلامية الرفيعة، فمن المجموعة الأولى «هتلر في الميزان» (1940م) و«فلاسفة الحكم في العصر الحديث» (1950م)، ومن المجموعة الثانية، وهي من أهم ما كتب الكاتب في حياته الأدبية، عبقريات محمد (1942م ) وعمر (1942م) والصديق (1943م) والإمام علي (1943م) ... إلى آخر هذه السلسلة الطويلة التي شملت نحو خمسة عشر كتابا، أما طوال الخمسينيات، فقد أخذ يخرج الكتاب إثر الكتاب، دفاعا عن الإسلام، حتى يبطل ما يدعيه المستعمر في هذا الميدان، مما يتخذه ذريعة يبرر بها اعتداءه، ومن أهم هذه المجموعة كتب «الديمقراطية في الإسلام» (1952م) و«الإسلام والاستعمار» سنة (1957م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (1957م) و«التفكير فريضة إسلامية» (1957م) وغيرها.
وفي تلك الفترة نفسها ظهر عدد كبير من الأدباء الشبان، اشتد وعيهم بما كان في الحياة السياسية حينئذ من فساد، وبما كان بينها وبين الاستعمار من صلات وروابط، وهم أنفسهم الشبان الذين ظهرت في كتاباتهم بذور المعاني الاشتراكية التي جاءت ثورة 1952م لتخرجها إلى عالم الوجود، وقد امتد الوجود الأدبي ببعض هؤلاء الشبان إلى يومنا هذا فأصبحوا من كتاب الاشتراكية وشعرائها المرموقين.
ومن الكتاب الذين انعكست المقاومة في أدبهم نجيب محفوظ، الذي امتد إنتاجه في القصة من الثلاثينيات إلى يومنا الراهن، ولعل قمة أعماله - من الزاوية التي ننظر منها الآن إلى الأدب، وهي انعكاس الجهود التحررية على الأدب - أقول لعل قمة أعماله في هذا الميدان هي ثلاثيته الكبرى: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» ففي هذه الثلاثية صورة كاملة الدقائق والتفصيلات لحياة المجتمع المصري كله خلال الفترة التي تقع بين الحربين، نرى فيها كيف تطور مفهوم الوطنية عند الأجيال المتعاقبة، فالوطنية عند الجد الكبير كانت دفعا للتبرعات ودعاء من الله بنصرة الزعماء، والوطنية عند ابنه الكبير هي توزيع للمنشورات السياسية ومشاركة في المظاهرات حتى لقد لقي حتفه في إحداها، والوطنية عند ابنه الأصغر (كمال عبد الجواد) هي العمل من أجل الشعب، بل من أجل الإنسانية المكافحة داخل الوطن وخارجه على السواء، ثم ننتقل إلى الحفدة، فنرى مفهوم الوطنية قد ارتبط بالميدان الاقتصادي، فأعداء الوطن هم من يستغلونه في هذا الميدان، لا فرق بين أجنبي ومواطن إذا كان كلاهما من المستغلين، ومن هؤلاء الأشخاص جميعا، يهتم الكاتب - بصفة خاصة - بكمال عبد الجواد، الذي قال عنه «إنه يعكس أزمتي الفكرية، وهي أزمة جيل بأسره.»
وتحدث أحداث كبرى تشد حولها الكتاب والشعراء جميعا، من أهمها قيام إسرائيل (1948م) والعدوان الثلاثي على الجمهورية العربية المتحدة (1956م)، وثورة الجزائر، وغيرها من الثورات التي شملت الوطن العربي كله من أوله إلى آخره، فتفجرت عيون الأدب نثرا وشعرا، لتنصب على هذه المآسي الإنسانية الكبرى، كتبت القصص التي تصور روح الشعب الثائرة إزاء المستعمرين والمستبدين والإقطاعيين، نذكر منها قصة يوسف السباعي «رد قلبي» وقصة إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» وقصة لطيفة الزيات «الباب المفتوح»، وكتبت المسرحيات التي تصور القوة الغاشمة حين تنتهك حرمات العدل والحق، نذكر منها مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي «مأساة جميلة» ومسرحية ألفرد فرج «سليمان الحلبي» ومسرحية «اللحظة الحرجة» ليوسف إدريس ، ونظمت دواوين بأسرها تعبيرا عن الشعور الوطني الفياض، نذكر منها ديوان «قاب قوسين» للشاعر محمود حسن إسماعيل، وأعيدت ذكريات المآسي الماضية في شعر جديد، كحادثة دنشواي في قصيدة صلاح عبد الصبور «شنق زهران» وقصيدة «أوراس» عن ثورة الجزائر لأحمد عبد المعطي حجازي، الحق أن ما كتب ونظم في مأساة فلسطين وفي بطولة بورسعيد وفي معركة الجزائر ومعركة الكونجو وشتى ضروب المقاومة التي يبديها الوطن العربي بخاصة وتبديها أفريقيا وآسيا بعامة - لا تكاد تقع تحت الحصر، فالموضوع حاضر على أسنان الأقلام أيا كانت الصورة الأدبية التي تجري بها.
ومن الموضوعات التي تشغل الأقلام كذلك إبان هذه المرحلة الثالثة موضوع الوحدة العربية والقومية العربية، وهو جانب إيجابي يستهدف إقامة بناء جديد على أسس سليمة، ولا يقف عند مجرد الثورة الشعورية في مهاجمة الغاصب والمستعمر، فالدول العربية القائمة الآن - كما يقول الباحث العربي الكبير ساطع الحصري - «لم تتكون ولم تتعدد بمشيئة أهلها ولا بمقتضيات طبيعتها، وإنما تكونت وتعددت من جراء الاتفاقات والمعاهدات بين الدول التي تقاسمت البلاد العربية، وسيطرت عليها» ويوجه ساطع الحصري اللوم إلى أولئك الذين ثاروا ليتخلصوا من المستعمرين، حتى إذا ما ظفروا بشيء مما أرادوا، أصروا على أن تبقى لبلادهم الحدود التي حددها بها المستعمرون لصالح المستعمرين: «ما أغربنا نحن العرب، لقد ثرنا على الإنجليز والفرنسيين، ثرنا على من استولى على بلادنا واستعبدنا، وأثرنا الثورات الحمراء والبيضاء عدة عقود من السنين، وقاسينا في سبيل ذلك ألوانا من العذاب والتضحيات، ولكننا عندما تحررنا من نير كل هؤلاء، أخذنا نقدس الحدود التي كانوا قد أقاموها في بلادنا بعد أن قطعوا أوصالها، ونسينا أن تلك الحدود إنما كانت هي الحبس الانفرادي والإقامة الجبرية التي فرضوها علينا، لإضعافنا، وعزل قوى بعضنا عن أن تتحد بالقوى الأخرى» ومن أهم كتب الحصري في ذلك كتاب «آراء وأحاديث في القومية والوطنية» و«العروبة بين دعاتها وخصومها».
قلنا: إن أدب المرحلة الأخيرة - فيما يتصل بمقاومة المستعمر - قد اتسم بطابع إيجابي يبرز به خصائصنا الشخصية الفريدة، لكي نقف على أقدامنا ولا يجرفنا تيار الشمول، الذي يسود فيه القوي ويضيع بين أمواجه الضعيف، وكان من أهم ما عني به الأدباء في هذا الاتجاه الإيجابي البناء، استخراج أصولنا من لفائف التراث الشعبي، فأخذوا يتقصون الرسوم الشعبية والأغاني الشعبية والأساطير الشعبية، حتى لقد صدرت مجلة فصلية بإشراف الدكتور عبد الحميد يونس، لنختص في عرض التراث الشعبي وتحليله وتقويمه، ليفيد منه كتاب القصة والمسرحية كما يفيد منه المصورون والنحاتون والشعراء، فإذا أضفنا إلى هذه الحركة حركة أخرى لبثت قائمة منذ فجر نهضتنا في أول القرن وإلى يومنا، وأعني بها حركة نشر التراث العربي وتحقيقه، تبين لنا الأساس العريض المكين الذي نريد أن نقيم على ركائزه المجتمع العربي الجديد، وعندئذ لا نقول إن الجديد قد جاء ليعارض القديم ويدحضه، بل نقول إن الجديد قد جاء ليجد رواسيه في عروق الماضي وشرايينه، وبهذا يتصل بنا تاريخنا ماضيا بحاضر، فلا تكون فترة الاستعمار في هذا الطريق الطويل الموصول إلا بمثابة غشاوة طرأت حينا على الجسم عندما أخذته العلة وسرعان ما اختفت حين استرد العليل عافيته وقوته.
إرادة التغيير
إنه لمما توصف به الفاعلية الفلسفية أحيانا، هو أنها محاولات لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام ، بمعنى أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطا بين الغموض والوضوح، هي أشبه شيء بمدينة تراها على مبعدة فترى بروزا ممتدا في الأفق، تتبين معالمه الرئيسية من بناء مرتفع هناك ودخان متصاعد هنا، فتكون مما تراه على يقين أنك تقترب من مدينة، أما تفصيلاتها فلست منها على هذه الدرجة من اليقين، لكنك كلما دنوت منها ازددت إلماما بتلك التفصيلات، فما قد كان يبدو لك من بعيد بقعة كبيرة بيضاء، قد أخذ الآن يتبين في شيء من الوضوح أنه عمارة سكنية ارتفاعها عشرون طابقا، وتلك التي بدت لك من بعيد لمعة ضوئية ساطعة، قد ظهر لك الآن أنها سطح من زجاج يغطي مصنعا ضخما.
وهكذا قل في كثير جدا من المفاهيم التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل وفي مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة - فكرية أو عملية - متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدى علمنا بأن في الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها، وكثيرا ما تأخذنا الدهشة أن نرى من تلك التفصيلات والدقائق ما لم نتوقعه ولم يخطر لنا ببال، وعندئذ قد يحدث لمن أخذته الدهشة أن يثور في وجه من أخذ بيده وأطلعه على دقائق ما كان يتصوره في غموض وإبهام، متهما إياه بأنه يعقد البسيط، ويصعب السهل، ويغمض الواضح، والأمر في هذا شبيه بنا حين نستخدم الورقة والقلم والمنضدة والمقعد في بساطة تخيل إلينا أن هذه أشياء أولية لا تحتاج إلى تحليل، حتى إذا ما جاء عالم الفيزياء ينبئنا أنها في الحقيقة أشياء مركبة معقدة تنحل آخر الأمر إلى عناصر قوامها ذرات مؤلفة من كهارب موجبة وكهارب سالبة وكهارب محايدة، إلى آخر هذه القصة التي ترويها الطبيعة النووية؛ أخذتنا الدهشة، لكن العجب هنا هو أن الدهشة لا تنتهي بأصحابها إلى اتهام علماء الطبيعة بأنهم يعقدون البسيط ويصعبون السهل ويغمضون الواضح، بل ترى هؤلاء ينصتون في إعجاب، يريدون أن يعلموا ما لم يكونوا يعلمونه، على خلاف موقفهم في الحالة الأولى، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون.
ولعل السر في اختلاف الموقفين: موقف الناس بإزاء التحليل الطبيعي الذي يفكك الأشياء المادية إلى عناصرها الأولية، وموقفهم بإزاء التحليل الفلسفي الذي يفكك الأفكار العقلية إلى مقوماتها البسيطة: هو أن النوع الأول من التحليل لا يمس نفوسهم، وإنما ينصب على أشياء لا تمت لأنفسهم بصلة إلا صلة الأداة الجامدة بمن يستخدمها، وأما النوع الثاني من التحليل فهو في الأعم الأغلب ينصب على جوانب من صميم النفس الإنسانية وقيمها: العقل والروح والذكاء والتفكير والإرادة والعاطفة والانفعال والخير والشر والجمال والقبح والحق والباطل، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التصورات التي يستحيل عليك أن تجد إنسانا واحدا يجهلها كل الجهل، بدليل أنه ما من إنسان تكاملت له قدراته إلا وتصبح هذه التصورات جزءا من اللغة المتداولة المشتركة التي ترد في حديثه دون أن يقف عندها متسائلا: ماذا تعني؟ إلا أن يكون فيلسوفا أو سائرا في طريق الفكر الفلسفي.
و«إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه، تماما كما نقول «قراءة الكتب» و«كتابة الخطابات» و«رؤية الشمس»، وهما كلمتان قد أصبحتا مما نتداوله في الحديث، لا غناء لنا عنهما؛ لأنهما معا تكونان أحد المبادئ التي نستهديها في بناء حياتنا الجديدة، وهما - سواء أخذناهما مفردتين أو موصولتين في عبارة واحدة - من ذلك الضرب من المعاني التي أشرنا إليها؛ أعني ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجة وسطى بين الجهل والعلم، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟ ليس من الناس من يجهلها كل الجهل، ولكننا نزعم أيضا أن قليلا جدا من الناس هم الذين يعلمونهما كل العلم.
فماذا نعني بالإرادة؟ إنني لا أنوي أن أسوح بالقارئ في متاهات المذاهب المختلفة، وأوثر أن أعرض الأمر من وجهة النظر التي أراني أميل إلى قبولها، فأنا أحد الذين يؤمنون ببطلان نظرية «الملكات» التي كان أصحابها يظنون أن داخل الإنسان «قوى» لكل قوة منها كيان مستقل قائم بذاته، فهذا «عقل» وتلك «نفس»، وهذا «ذكاء» وتلك «إرادة» كأنما هي جمهرة من الأشباح ازدحمت في جوف الإنسان، لكل شبح منها عمله الذي يؤديه، وحتى إذا مرت به ساعة لا يؤدي خلالها ذلك العمل، فهو ما يزال هناك مستريحا أو معطلا، ينتظر اللحظة التي ينشط فيها لأداء عمله. كلا، لست من هؤلاء الذين يتصورون قوى الإنسان أشباحا قائمة بذواتها داخل الإنسان، تؤدي عملها حينا ولا تؤديه حينا آخر، إذ إنني ممن يأخذون في فهم الإنسان بالنظرة «السلوكية» التي تترجم أمثال هذه التصورات (عقل، نفس، ذكاء، إرادة ... إلخ) إلى نوع السلوك الذي يسلكه البدن في مواقف الحياة المنظورة المشهودة، وبهذا يكون «العقل» نمطا معينا من السلوك يسلكه الإنسان في مواقف بذاتها، وتكون «الإرادة» نمطا معينا آخر من السلوك، وهلم جرا، فلو سألتني: ما العقل؟ أخذتك من يدك إلى إنسان يحاول أن يلتمس الطريق إلى هدف - كائنا ما كان الهدف، وكائنا ما كان الطريق - وقلت لك: هذا الذي تراه من محاولة للوصول إلى هدف، هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي جاءت كلمة «عقل» لتضمها جميعا في حزمة واحدة. نعم إن أهداف الناس كثيرة ومنوعة بتنوع الأفراد والمواقف والظروف، وبالتالي فإن المحاولات لتحقيقها تختلف باختلاف تلك الأهداف، فالذي هدفه أن يشكل قطعة الحديد على صورة المفتاح، لا تجيء محاولته شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن ينسج من القطن قماشا، أو شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن يقسم تركة بين الوارثين ليعطي كلا ما يستحقه منها، لكن هذه كلها أمثلة تجسد ما نعنيه بالعقل؛ لأنها أمثلة لمحاولات يقوم بها أصحابها بغية الوصول إلى هدف مقصود، وبهذا نفهم «العقل» من زاوية السلوك المرئي المشهود وبهذا أيضا نفهم الصلة الوثيقة بين «الفكر» و«العمل»، فليس فكرا ما ليس يتجسد في عمل، وليس عملا موفقا مسددا نحو غاية ما ليس يسير على فكرة مرسومة.
وهكذا قل في «الإرادة»، فإذا سألتني ما «الإرادة»؟ أخذتك من يدك إلى إنسان استهدف هدفا، فلما سار إلى تحقيقه صادفته في الطريق معوقات، فراح يزيلها ليستأنف السير، إنه لا انفصال بين «الإرادة» و«العمل» حتى ليصبح من اللغو أن تقول عن إنسان إن له «إرادة» لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه، وإلا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام، أو يشرب ولا ماء! الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنت آلة مسخرة في يد صاحب الهدف، إنك في العمل الإرادي أنت الآمر وأنت المأمور، بل إنه لتشبيه مضلل أن نجعل منك آمرا ومأمورا، كما لو كنت جانبين أحدهما في الداخل - وهو ما يسمى بالإرادة - والآخر في الخارج - وهو ما يوصف بأنه تنفيذ للإرادة - والصواب هو أنك وأنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك فأنت عندئذ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.
ولعلك قد لحظت فيما أسلفناه لك عن «العقل» من أنه هو السلوك الذي يبدأ بفكرة عما نريد تحقيقه وينتهي بتحقيق تلك الفكرة بحيث تصبح كيانا مجسدا، وفيما أسلفناه لك عن «الإرادة» من أنها هي كذلك السلوك الذي يبدأ بالصورة الذهنية التي يراد إخراجها وينتهي بتحقيقها بحيث تصبح كيانا مجسدا، أقول لعلك قد لحظت في هذا القول عن العقل وعن الإرادة أن كليهما واحد، ففي كلتا الحالتين فكرة وتنفيذها في عملية واحدة متصلة أولها رؤية للهدف قبل وقوعه وآخرها وصول لذلك الهدف بعد أن صيرناه كائنا قائما بين الكائنات.
وهكذا الحياة الإنسانية وحدة عضوية قوامها فعل وحركة، لا فرق في ذلك بين تفكير العقل وإرادته.
إنك إذ تنظر إلى الإنسان وهو ينشط بأي ضرب من ضروب النشاط: إذ تنظر إليه وهو يكتب خطابا، أو يقرأ كتابا أو يأكل طعامه، أو يلعب الكرة أو الشطرنج، إذ تنظر إليه وهو يقيم الجدران ويرصف الطرق ويبيع ويشتري ويتكلم ويسمع، إذ تنظر إليه وهو يمشي ويجري ويقف ويجلس ويضحك ويبكي، لا يخطر ببالك أبدا أنك إزاء شطرين في كل عمل من هذه الأعمال التي تنظر إليها، فتقول لنفسك: هذا شطر «الإرادة» وهذا شطر «تنفيذها»؛ لأنك تعلم من خبراتك مع نفسك أن الإرادة هي تنفيذها، وأن الإنسان هو الكل العضوي الواحد الذي ينشط بهذا العمل أو ذاك.
وإذا كانت الإرادة هي نفسها الفعل، فقد أصبح واضحا أن قولك «إرادة الفعل» لا يزيد شيئا عن قولك «الإرادة» لأن هذه لا تكون بغير فعل، كما لا يكون الوالد والدا بغير ولد: ولا يكون اليمين بغير اليسار، ولا يكون البعيد بغير القريب، ولا الأعلى بغير الأدنى ... كل هذه متضايقات لا يتم المعنى لأحدها بغير أن تضاف إلى شقها الآخر.
ونخطو خطوة أخرى، فنقول إنه إذا كان لا إرادة بغير فعل، فكذلك لا فعل بدون تغيير، وسواء كان التغيير الحادث ضئيلا أو جسيما فهو تغيير، إنك لا تفعل الفعل في خلاء، بل تفعل الفعل - أي فعل كان - لتحرك به شيئا فيتغير مكانه ليتغير أداؤه وتتغير صلاته بالأشياء الأخرى: كان الحجر على الجبل فأصبح هناك جزءا من الجدار، وكان الماء هنا في النهر فأصبح هناك في أنابيب المنازل، كان المداد هنا في الزجاجة، فأصبح في جوف القلم، ثم انتثر على الورق كتابة يقرؤها قارئ إذا وقع عليها بصره، وكانت الأرض يبابا فزرعت، وكان الحديد خامة من خامات الأرض فصنع قضبانا ... كل إرادة فعل وكل فعل حركة وتغيير.
فقولنا «إرادة التغيير» لا يضيف شيئا إلى شيء، بل هو قول يوضح معنى الإرادة بإبراز عنصر من عناصرها، وكان يكفي أن تقول عن الإنسان إنه إنسان حي لنفهم من ذلك أنه ذو وحدة عضوية هادفة، وأنه في سيره نحو أهدافه كائن عاقل مريد، وأنه في إرادته فاعل، وأنه في فعله متحرك ومحرك، ومتغير ومغير.
وتسألني: هل تريد أن الإرادة هذه هي حالها دائما وتلك هي خصائصها، فلا فرق بين حالة تكون فيها مقيدة وحالة أخرى تكون فيها حرة؟ وأجيبك فأقول إنني أخشى أن يوقعنا وضع المشكلة على هذه الصورة التقليدية القديمة في لجاجة لفظية لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد، فلكم بحث الباحثون وكتب الكاتبون جوابا عن السؤال القائل: هل الإرادة حرة أو مقيدة؟ ومتى تكون الإرادة حرة ومتى تكون مقيدة؟ ولذلك فإنني أفضل النظر إلى المشكلة من زاوية الأهداف وتحقيقها لعلها تكون نظرة أجدى؛ فنقول إن الأصل في الإنسان - كما أسلفنا لك القول - هو أن يكون كائنا عضويا هادفا بجميعه في فعل وحركة، لكن قد ينحرف الأمر إلى أحد احتمالين آخرين ، أولهما أن ينشط الكائن العضوي لغير ما هدف، فيخبط في الأرض خبط الأعمى، وعندئذ لا إرادة لأنه لا هدف، وعندئذ أيضا ينتفي سؤالنا هل الإرادة حرة أو مقيدة لأنها ليست هناك، والاحتمال الثاني هو أن ينشط الكائن العضوي لهدف استهدفه سواه، وهنا أيضا لا إرادة؛ لأن الإرادة هنا هي إرادة من استهدف الهدف، فلا إرادة للعبد الرقيق حين ينفذ لمولاه ما يريد، ولا إرادة للبلد المستعمر (بفتح الميم) إذا أملى عليه المستعمر (بكسر الميم) ما يفعله وما لا يفعله، فلا إرادة إلا في حالة واحدة، هي أن يكون النشاط مرهونا بهدف وضعه الناشط لنفسه، أو وافق عليه، وفي هذه الحالة الطبيعية السوية يمتنع السؤال هل الإرادة عندئذ حرة أو مقيدة، وإذا فليس التعارض الحقيقي هو بين الحرية والقيد، بل التعارض الحقيقي هو في أن يكون ثمة إرادة أو لا يكون، وهي لا تكون إذا لم يكن هدف أو إذا كان هنالك الهدف لكنه هدف يستهدفه غير القائم بالعمل.
على أن نقطة هنا لا بد من توضيحها، وهي حين لا يكون الهدف مقصورا على فرد واحد، إذ قد تشترك جماعة بأسرها في هدف معين، تسعى إليه بكل أفرادها، حتى إن تنوعت الوسائل التي يتخذها كل فرد على حدة، فها هنا تكون الإرادة مكفولة كما لو كانت إرادة فرد واحد، وهذا يذكرنا بالإشكال الذي يتعرض له مؤرخو الفلسفة بالنسبة إلى مذهب إسبينوزا الذي يجعل الوجود كلا واحدا يسير نفسه بنفسه، بحيث لا يملك أي جزء على حدة إلا أن يسير مع الكل في مساره المرسوم، فهنا ينشأ السؤال: أيكون الإنسان في هذا المجموع المتكامل حرا أم يكون مجبرا على السير مع سواه في الخط المرسوم؟ والجواب الأصوب هو أنه حر ما دام جزءا في الكل الذي رسم الطريق لنفسه بنفسه ... وهكذا نقول بالنسبة للفرد الواحد في مجتمع وضع لنفسه بنفسه خطة للعمل تحقيقا لأهداف محددة، فما دام الهدف قائما، وما دام الهدف من وضعه هو - مشتركا فيه مع غيره - فهو في سعيه نحو الهدف كائن مريد.
إن من أهم ما نريد أن نقرره هنا - تمهيدا للنتائج التي سنستخرجها في الفقرة التالية من المقال، هو العلاقة بين الفرد والمجموع، تلك العلاقة التي تضمن للفرد حريته، وفي الوقت نفسه تضمن مشاركته للمجموع في رسم الأهداف، فما أكثر ما قاله القائلون بوجود التعارض بين أن يكون الفرد منخرطا في جهد جماعي يساير فيه مواطنيه، وأن يكون - مع ذلك - حرا في التماس الطريق الذي يراه ملائما له، والأمثلة كثيرة جدا على ألا تعارض بين الجانبين، إذا نحن فرقنا بين شيئين: الإطار الذي يحدد قواعد السير، ثم خطوات السير في حدود ذلك الإطار، فهنالك قواعد مشتركة بين لاعبي الكرة أو لاعبي الشطرنج، لا يسمح لأحد اللاعبين بالخروج عليها، ومع ذلك فلكل لاعب كامل الحرية في أن يحرك الكرة أو قطعة الشطرنج حيث أراد في حدود قواعد اللعب - خذ مثلا آخر: قواعد اللغة يلتزم بها كل كاتب بها أو قارئ لها، فليس من حق الكاتب العربي أن ينصب فاعلا أو أن يرفع مفعولا به، لكن هل يعني هذا حرمان الكاتب من حريته فيما يكتبه وفق تلك القواعد؟ إن لكل كاتب موضوعاته التي يعرضها، وأسلوبه الذي يعبر به عن نفسه، على أن يتم ذلك كله في حدود المبادئ المشتركة ... لا، بل إن كل عبارة يخطها الكاتب إنما يلتزم فيها بمبادئ كثيرة، دون أن يحد ذلك من حريته في اختيار مادتها وطريقة صياغتها، ففضلا عن قواعد اللغة نحوا وصرفا، هنالك مبادئ المنطق يلتزمها بحكم طبيعته نفسها، فهو لا يجيز لنفسه - مثلا - أن يقول إنه إذا أراد مسافر قطع المسافة التي طولها مائتا كيلو متر في ساعتين، فيكفيه قطار يسير بسرعة عشرين كيلومترا في الساعة، أو أن يقول إنه إذا أرادت البلاد تنفيذ خطة صناعية تكلفها مائتي مليون من الجنيهات، فيكفيها أن تجمع من المواطنين خمسين مليونا - الكاتب حر فيما يقول، ما دام قوله ملتزما لطائفة من مبادئ اللغة والفكر، وهكذا قل في المواطن الفرد بالنسبة للمبادئ والأهداف التي وضعها المجموع ، وكان هو أحد أفراد ذلك المجموع، فهو حر في طريقة سيره وأسلوب حياته، على أن تجيء مناشطه ملتزمة للمبادئ المقررة.
فرغنا حتى الآن من فكرتين: الأولى هي أن الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف المنشود، وأنه حيث لا عمل فلا إرادة، وأن كل عمل إنما هو تغيير لأوضاع الأشياء، وإذن فنحن إذا قررنا لشخص أو لجماعة «إرادة» فقد قررنا بالتالي أن هذا الشخص أو هذه الجماعة تعمل عملا تغير به من أوضاع الحياة قليلا أو كثيرا، والثانية هي أنه لا تعارض بين حرية الفرد الواحد في طريقة حياته، وبين أن يكون ملتزما بالأهداف والمبادئ والقواعد التي أقامها المجتمع الذي هو أحد أفراده.
وبقي لنا أن نستنتج النتائج من هذه المقدمات: إنه إذا كانت كل إرادة هي إرادة تغيير، إذن فليس السؤال هو: هل الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي إرادة تغيير أو إرادة شيء آخر، بل السؤال هو: ما دامت الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي بالضرورة إرادة عمل وتغيير (لأن هذا هو معنى الإرادة كما قدمنا) فما الذي نغيره؟ وما الهدف الذي من أجل تحقيقه نغير ما نغيره؟
إن القائمة لتطول بنا ألف ألف فرسخ، إذا نحن أخذنا نعد التفصيلات الجزئية التي يراد تغييرها، كأن نحصر الأفراد الذين يراد لهم أن يصحوا بعد مرض، وأن يعلموا بعد جهل، وأن يطعموا بعد جوع، وأن يكتسوا بعد عري، وكأن نحصر الطرق التي يراد لها أن ترصف، والحشرات التي لا بد لها أن تباد، والأرض التي لا بد أن تزرع والمصانع التي لا بد أن تقام ... تلك تفصيلات جزئية تعد بألوف الألوف، لكنها تندرج كلها تحت مبادئ محدودة العدد، ثم تندرج هذه المبادئ بدورها تحت ما يسمى بالقيم أو المعايير التي عليها يقاس ما نريده وما لا نريده لحياتنا الجديدة، فإذا أنت غيرت ما لدى القوم من معايير وقيم، تغير لهم بالتالي وجه الحياة بأسرها.
ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نوحد في أذهاننا توحيدا تاما بين العام والخاص، فتلك من أولى القيم التي لا بد من بثها في النفوس وترسيخها في الأذهان، فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي أحرص ما نكون على الملك الخاص، وأشد ما نكون إهمالا للملك العام، فالفرق في أنظارنا بعيد بين العناية الواجبة بالابن والعناية الواجبة بالمواطن البعيد، بين العناية بتنظيف الدار من داخل والعناية بتنظيف الطريق، الفرق في أنظارنا بعيد بين المال نملكه والمال تملكه الدولة للجميع، بين العيادة الخاصة يديرها الطبيب الذي يستغلها والمستشفى العام يديره الطبيب نفسه ولكنه يديره باسم الدولة، الفرق في أنظارنا بعيد بين معنى «أنا» و«نحن» وبين «هو» و«هم»، فما زال الذي يشغلنا هو هذه الأنا والنحن اللتان لا تعنيان أكثر من الأسرة وحدودها، وأما هو وهم اللتان تمتدان لتشملا أبناء الوطن جميعا فما تزالان في أوهامنا تدلان على ما يشبه الأشباح التي لايؤذيها التجويع والتعذيب.
ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نغير من معاني «الجاه»، فلمن تكون الصدارة في المجتمع: المكدود المنهوك بالعمل أم صاحب البطالة والفراغ؟ فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي نرفع من شأن من استطاع العيش الرغد بالعمل القليل، ونخفض من شأن من اضطره أكل الخبز إلى العمل المجهد الشاق، حتى لتخلع على أي رجل شئت منصبا رفيعا، فيقترن في ذهنه المنصب الرفيع بكثرة المعاونين والمرءوسين والحجاب ... وانظر مليا في كلمة «حاجب» لتعلم أن صاحب السلطان بحكم التقليد الاجتماعي يحتاج إلى من يحجبه عن الناس أو يحجب الناس عنه، ولا فرق في الجوهر بين تقليد يرفع الإقطاعي على رءوس أرقاء الأرض، هؤلاء يفلحون الأرض ويحملون الأثقال ويرعون الماشية، وذلك في حصنه المنيع محتجب عن الأنظار لا يدري الناس ماذا يعمل وكيف يعمل، لا فرق بين هذا وبين صاحب المنصب الكبير الذي يقيم الحجاب بينه وبين الناس.
ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا لم ننقل مواضع الزهو، فبدل أن يزهى المرء بنفسه لأنه ليس مضطرا للخضوع للقانون كما يخضع له عامة السواد، يزهى المرء بنفسه بقدر ما هو خاضع لقانون الدولة سواء جاء خضوعه هذا علانية أمام الملأ أو سرا في الخفاء، فنحن بحكم التقليد الاجتماعي الذي ورثناه ما نزال نعلي من مكانة الذين لا تسري عليهم القوانين سريانها على الجماهير، فإذا قيل - مثلا - يكون اللحم بمقدار أو يكون السكر والزيت بمقدار، رأيت صاحب المكانة الاجتماعية قد ملأ داره ودور أقربائه وأصدقائه لحما وسكرا وزيتا؛ لأنه لا يكون صاحب جاه - بحكم التقليد - إلا إذا كان في وسعه الإفلات من حكم القانون.
الإرادة هي نفسها إرادة التغيير، ولا يكون التغيير لمجرد تبديل وضع بوضع بغير قيود ولا شروط، بل يكون تبديل وضع أدنى بوضع أعلى، ومقياس التفاوت في العلو، إنما يقاس بعدد المواطنين الذين ينتفعون بالوضع الجديد، «إن السؤال الذي طرح نفسه تلقائيا غداة النصر العظيم في السويس هو: لمن هذه الإرادة الحرة التي استخلصها الشعب المصري من قلب المعركة الرهيبة؟ وكان الرد التاريخي الذي لا رد غيره هو: إن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.»
المهم في إرادة التغيير أن نعرف ماذا نغير من حياتنا وكيف نغيره، والذي نريد له أن يتغير هو القيم التي نقيس بها أوجه الحياة، وكيفية تغييرها هي أن نختار لكل موقف معيارا من شأنه أن يتحقق أكبر نفع وقوة وكرامة واستنارة وأمن لأكبر عدد من أبناء الشعب.
وحدة التفكير
مشكلة صادفتها الفلسفة في كل عصورها، وعلى أيدي رجالها أجمعين، وهي مشكلة قد تبدو بعيدة عن أرض الواقع، مع أنها - شأن سائر المشكلات الفلسفية - بهذه الأرض لصيقة اللمسة عميقة الجذور، وأعني بها مشكلة الوحدة التي تضم في طيها كثرة كثيرة الأجزاء والعناصر، فما من شيء حولك إلا وهو كثرة في وحدة: هذه المنضدة التي أمامي هي أجزاء صغرى تراكمت، وحالات كثيرة تعاقبت حالة في إثر حالة، أو تعاصرت حالة إلى جوار حالة، وهذا النهر المتدفق بمياهه، ما زال منذ أبعد العصور متجدد الماء، تتجمع فيه قطرات المطر ملايين ملايين، ثم تنساب تيارا واحدا يندفق في البحر ليتصل السير والجريان، وأنت وأنا وكل كائن حي من نبات وحيوان، كتلة جمعت من الأجزاء ما لا يكاد العدد يحصيه، لكن المنضدة التي أمامي «واحدة» والنهر العتيد «واحد» وأنت وأنا وكل كائن حي كيان «واحد» - ولقد تمضي عنك هذه الحقيقة لا تأبه لها، حتى يجيئك فيلسوف ينبهك إلى أن «واحدية الكثرة» مشكلة تريد النظر والتفسير، فكيف ترتبط كثرة الأجزاء والعناصر في كيان واحد؟
والأمر في هذه المشكلة كالأمر في سائر المشكلات الفلسفية، من حيث اختلاف الرأي وتعدد الحلول، وحسبنا هنا أن نذكر اتجاهين رئيسيين شائعين يقسمان الفلاسفة مجموعتين: فاتجاه منهما - وهو أكثر من الآخر شيوعا - يرى أصحابه أن لا مناص من افتراض وجود كائن يخفى على البصر، ويكمن وراء الظواهر الكثيرة في الشيء الواحد، هو الذي - بواحديته وثباته - يخلع الواحدية على الشيء مهما كثرت ظواهره، ويطلق الفلاسفة على هذا الكائن المختبئ وراء الظواهر البادية اسم «الجوهر»، ولا فرق في ذلك بين شيء وشيء، فلئن كنا نعتقد أن الفرد الواحد من بني الإنسان، يكمن في جوفه «روح» هو الذي يجعله فردا واحدا منذ ولادته وإلى أن يموت، بل وبعد أن يموت، برغم كثرة أجزائه وكثرة حالاته وتعدد مراحله التي يجتازها في نموه وذبوله، فقد لزم علينا أن ننظر النظرة نفسها إلى كل شيء آخر فيه واحدية تجمع ظواهره الكثيرة في كيان، وإنه ليجوز لك في هذه الحالة - بعد أن تجعل لكل شيء جوهرا يضم أشتاته - يجوز لك في هذه الحالة أن تفاضل بين جوهر وجوهر، أو ألا تفاضل، لكنك في كلتا الحالتين قد اخترت لنفسك طريقة الحل في مشكلة الوحدة التي تضم في ردائها كثرة.
وأما الاتجاه الثاني في حل المشكلة، فهو ألا نفرض وجود كائن غيبي وراء الظواهر الكثيرة ونحاول أن نرد الواحدية التي تجعل من الأجزاء الكثيرة شيئا واحدا، إلى شبكة العلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض، فحتى لو تشابهت الأجزاء الصغيرة وتجانست ، فهي من كثرة العدد بحيث نستطيع أن نتصور - على أساس رياضي - ملايين التشكيلات الممكنة التي يجوز لتلك الأجزاء أن تتشكل بها.
وسواء أأخذت بفكرة الجوهر أو بفكرة العلاقات في تفسيرك لواحدية الشيء الواحد، فالأمر الذي يهمنا هو أنك - لا بد - باحث عن وحدة تضم الأشتات فيما تظنه كيانا واحدا، ليس لك في ذلك اختيار، فمن الوجهة العملية لا تستطيع أن تستخدم الأشياء أو تنتفع بها إلا إذا تناولتها من حيث هي وحدات، غاضا بصرك عما تحتويه تلك الوحدات من أجزاء تدخل في تركيبها، فالمناضد والمقاعد والكتب والأوراق والأقلام والأشجار وأفراد الناس والمدن والقرى والأنهار والبحار إلخ لا مناص من النظر إليها - في العمل والتعامل - على أنها وحدات، تقول - مثلا - إنني أعيش في «القاهرة» ولا تبالي أن يكون هذا الاسم مطلقا على مجموعة كبرى من العناصر والأفراد، يدخلها كل ساعة ألوف الناس ويخرج منها ألوف، وتبنى بها بيوت وتهدم فيها بيوت، لكنها في العمل والتعامل قاهرة واحدة ... ومن الوجهة النفسية لا تستطيع إلا أن تنظر إلى نفسك بكل ما فيها من ألوف الخبرات والتجارب على أنها نفس واحدة، ثم تعود فتخلع واحدية نفسك هذه على سائر الأشياء، بل قد تخلع واحدية نفسك هذه على الكون كله فتجعله كونا واحدا على غرار ما تحسه في نفسك من واحدية تضم حالات الخبرة والتجربة في تيار واحد، ... ومن الوجهة المنطقية لا تستطيع أن تتحدث إلى سواك بجملة واحدة إلا إذا صغت كلماتك على نحو يوهم بواحدية الأشياء، تقول - مثلا - قابلت أخي وكتبت مقالا، وتناولت الغداء، وفي كل جملة من هذه الأقوال توحيد لما هو مكون من أجزاء كثيرة، ولو وقفت لتحلل كل وحدة إلى أجزائها قبل أن تنطق لتتفاهم، لما نطقت بجملة واحدة لمن تريد أن تتحدث إليه، ... ومن الوجهة الأخلاقية لا يتاح لنا أن نحاسب الناس على أعمالهم إلا إذا فرضنا في كل فرد منهم واحدية تجعل إنسان اليوم هو نفسه إنسان الأمس، وإلا لما تحمل إنسان اليوم تبعة الفعل الذي أتاه بالأمس ، ... ومن الوجهة الجمالية محال أن ينشأ في الأثر الفني جمال ما لم نلتمس في أجزائه وحدة تجعل منه كيانا واحدا، ... ومن الوجهة السياسية لا يستقيم أمر إلا إذا سلكت مجموعة من الأفراد في أمة واحدة، وقد تتداخل الوحدات السياسية، فما هو كل هنا قد يكون جزءا هناك، فالفرد الواحد كل من أجزاء، لكنه يعود فيكون جزءا واحدا من كل أعم وأشمل هو الأمة، والأمة الواحدة التي هي مجموع أفراد تعود فتصبح عضوا واحدا في وحدة سياسية أعم وأشمل وهلم جرا.
ومن أنواع الوحدة التي نوحد بها الأشتات لتستقيم لنا الحياة، وحدة التفكير التي نلتمسها عند الشخص الواحد أو عند الأمة الواحدة، لنربط بها وحدات فكرية صغرى تتفرق في موضوعاتها وفي وجهات النظر إلى تلك الموضوعات، لكنها على تفرقها وتباينها تنضم برباط لتكون حياة فكرية واحدة، وإلا لما تكاملت لأحد شخصيته الفريدة التي تميزه من سائر الأفراد ولا تكاملت لأمة خصائصها التي تفردها بين سائر الأمم.
وسر الوحدة الفكرية - فيما نرى - هو في غلبة أهداف على أهداف، فالإنسان كائن عضوي هادف، يوجه نشاطه الحيوي نحو غايات بعينها، تصبح هي الخيوط الرابطة لأوجه النشاط على اختلافها، فإذا وضعنا المعنى الذي نريده في جملة مركزة، مختصرة ، قلنا إن وحدة التفكير هي في وحدة الهدف، وإن ذلك ليصدق بالنسبة للفرد الواحد كما يصدق بالنسبة للأمة الواحدة، فإذا تعددت الأهداف تعدد النقائض، بحيث أراد الشخص الواحد شيئين نقيضين فقد وقع في تفكك وتمزق، يريد بعضه شيئا ويريد بعضه الآخر شيئا آخر، وليس ذلك بالنادر الحدوث، فما أكثر ما يريد الشخص أن يأكل الفطيرة وأن يظل محتفظا بها في آن واحد - كما يقولون - لكنها تعد حالة مرضية أن تتوزع النفس بين النقائض، وطريق الشفاء إنما تكون في أن يعرف المرء حقيقة نفسه ليعلم أي النقيضين يريد.
نقول: إن سر الوحدة الفكرية هو في غلبة أهداف على أهداف، أو بعبارة أخرى هو في تركيز الانتباه في غايات معينة وإقصاء ما يناقضها أو ما يعوقها عن مجال النظر ، وبغير تركيز الانتباه في هدف محدد، يتعذر - بل يستحيل - على الإنسان أن يختار من مختلف العناصر التي تعرض له في حياته ما يخدم الغرض المنشود، إذ كيف أختار الوسائل إلا إذا سبقت عندي الغاية التي أتوسل إلى بلوغها بهذا أو بذاك من العناصر التي تعرض لي في الطريق؟ ولا تناقض في أن ينشد الفرد الواحد سلسلة من الغايات يأتي بعضها في إثر بعض، فكلما حقق إحداها جعلها وسيلة لما بعدها.
فإذا سئلنا: متى تتوافر «للفردية» شروطها - سواء كانت فردية إنسان واحد أو مجموعة أناسي في أمة واحدة فريدة - أجبنا بأن أهم هذه الشروط التي تجعل من الفرد فردا هو أن يستهدف غاية معينة واحدة في الوقت الواحد، فلسنا نعني بقولنا عن كائن إنه كائن عضوي واحد، إلا أن في سلوكه توافقا بين الأجزاء يمكنه من أن يركز كيانه كله جملة واحدة في شيء واحد في الوقت الواحد، إن الكائن العضوي وهو ينشط بعمل معين، لا يرى من نفسه إلا فعلا، دون النظر إلى الأعضاء المتفرقة التي تتعاون في أداء هذا الفعل، خذ نفسك وأنت تنظر إلى شيء ما، فأنت لا تعي عندئذ إلا فعل الرؤية، دون أن تدرك شيئا من العين التي ترى ، بل الكيان العضوي كله الذي هو أنت حين تنظر لترى، فليس في وعي الفاعل وهو يؤدي الفعل إلا حالة الانتباه إلى هدف مقصود، وقد نستعين بعد ذلك بالتحليل العقلي لنعلم أن الانتباه الصرف هو الجانب الذاتي من مجمل الموقف، وأن الشيء الذي نصب عليه انتباهنا هو الجانب الموضوعي، أما لحظة الفعل فالموقف واحد؛ لأن الفاعل وفعله شيء واحد.
الحظ الفاعل المنتبه إلى موضوع فعله تجده قد اتخذ لجسده وضعا يلائم الفعل المقصود، بحيث يجعل من الجسد كله أداة واحدة، حتى ليسهل عليك أن تنظر إلى شخص وتقول: إنه مستغرق في حالة من الرؤية أو من الإنصات أو من التأمل؛ وذلك لأنك ترى من وضعه البدني ما يدلك على التركيز في هذا أو ذاك، وبغير هذا التركيز يتعذر الانتقاء والاختيار لما هو في صالح الموقف الذي يكون عندئذ مدار الانتباه، والانتقاء أو الاختيار إنما يتم بجانبيه الإيجابي والسلبي في آن واحد، فالشخص المنتقي لهذا هو في الوقت نفسه مجتنب لذاك، فالشاخص ببصره إلى شيء يمعن فيه النظر، تفوته رؤية بقية الأشياء، والمصيخ بأذنه إلى شيء يستمع إليه، يفوته سمع بقية الأصوات، وهذا التفويت ضروري ضرورة العنصر المختار، وإلا فقد تختلط العناصر المواتية وغير المواتية فيضطرب الأمر على الفاعل اضطرابا يشل قدرته على الأداء الناجح ... وإنه لسر للحياة عجيب أن يستجمع كل عضو من أعضاء الإدراك بقية الكائن العضوي ليركزه بأجمعه فيما يبتغي، إنك إذ تستغرق في سمع، تتعطل الرؤية أو تكاد، وإذ تستغرق في رؤية يتعطل السمع أو يكاد، والاستغراق في فعل معين كالاستغراق في فكرة معينة، كلاهما يستقطب الكيان العضوي كله بحيث لا يترك شيئا منه إلى سواه، وهل تستطيع - مثلا - أن تنوء بحمل ثقيل ثم تركز فكرك - في الوقت نفسه - في مسألة تريد حلها؟ أو هل تستطيع أن تدقق النظر في كتابة صغيرة الأحرف، وأنت تجري أو تقفز؟ كلا إنك لا تستطيع ذلك، لضرورة أن يتركز الكيان العضوي كله في عمل واحد في الوقت الواحد (ما لم يكن العمل آليا لا يسترعي من صاحبه الانتباه).
وخلاصة القول هي إن وحدة التفكير لا تتحقق إلا بوحدة الهدف؛ لأن هذا الهدف الواحد يقتضي بدوره أن نختار ما يوصل إليه وأن نجتنب ما يحول دون بلوغه، وفي وحدانية الهدف يكون الانتباه المركز، الذي بغيره لا تتوحد الشخصية الإنسانية في كيان عضوي واحد، وإن في قولنا عن شخص ما إنه مشتت الانتباه مقسم الجهود لقولا بأنه موزع النفس، مفكك الأوصال مفقود الوحدة متهافت البنيان.
وحدة التفكير هي التي تجعل من الفرد الواحد فردا ومن الأمة الواحدة أمة، ومن العصر الواحد من عصور التاريخ عصرا، فلولا أن أبناء العصر الواحد يلتقون عند مشكلات معينة يحاولون حلها، وعند أسئلة معينة يحاولون الإجابة عنها، لما وجد العصر ما يميزه من سوابقه ولواحقه، وإلا فعلى أي أساس نقول عصر اليونان الأقدمين والعصر الوسيط وعصر النهضة وعصر التنوير إذا لم يكن ذلك على أساس أمهات المسائل التي عندها اجتمعت جهود المفكرين، فلما حلت المسائل أو استنفدت فيها قدرات المفكرين، دون أن تحل، ثم نشأت مسائل أخرى تسترعي الانتباه، كان ذلك بمثابة زوال عصر وحلول عصر جديد، إن الذي يتغير في تاريخ الفكر عصرا بعد عصر ليس هو درجة الذكاء البشري بحيث نقول عن الأقدمين إنهم أقل ذكاء من الحاضرين، بل الذي يتغير هو النقطة التي يتركز فيها الانتباه لكونها هي المشكلة القائمة التي تتطلب من القادرين حلا، فإذا كان الأقدمون قد صرفوا انتباههم إلى العلم الرياضي حتى أنتجوا هندسة إقليدس ومنطق أرسطو، ثم إذا كان المحدثون قد أولوا العلم الطبيعي عنايتهم حتى كشفوا عن الذرة وحطموها فبنوا الصواريخ وأخذوا في غزو الفضاء، فإن الفرق بين الحالتين هو في موضوع الاهتمام لا في درجة القدرة الفكرية، وموضوع الاهتمام هو بمثابة الهدف الواحد في العصر الواحد، وتركيز الانتباه فيه هو بمثابة التفكير الموحد الذي يكسب العصر لونه وطابعه ومناخه العام، فليس المناخ الفكري في القرن السابع - عند المسلمين الأوائل - شبيها به في القرنين التاسع والعاشر، فبينما كانت مسائل الكفر والإيمان وحق الإمامة سائدة في الحالة الأولى، أصبحت مسائل الفلسفة والعلم سائدة في الحالة الثانية، وليست هاتان الحالتان معا بشبيهتين من حيث اللون الثقافي الغالب بالمناخ الفكري في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حين خشي على الثقافة الإسلامية من الضياع نتيجة لغزو التتار في الشرق وسقوط إسبانيا في أيدي المسيحية في الغرب، فما لبث اهتمام الباحثين والمفكرين أن تعلق بإنشاء الموسوعات والقواميس التي تجمع الثقافة الإسلامية وتصونها من عوامل الهدم والتخريب.
وإن عصرنا الراهن لقائم ماثل أمام أعيننا شاهدا على أن العصر إنما يتميز من سابقه بمشكلاته الخاصة التي تجتذب انتباه المفكرين، وتجمع جهودهم وتوحد اهتمامهم، فيكون للعصر بهذا كله طابعه الفريد، فلم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرا أطل على الناس بقوته الذرية الجبارة الماردة التي إما أن تميت الإنسانية، وإما أن تفتح لها أبواب حياة جديدة لا عهد للناس بمثلها من قبل، ولم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرا دق فيه الإنسان أبواب الفضاء بما ينطوي ذلك عليه من نتائج الله وحده أعلم بمداها، لقد كان يحاضرنا في التاريخ ونحن طلاب أستاذ صادق الحس نافذ البصيرة، فقال لنا ذات يوم وهو يحاضرنا عن رحلة كولمبس في كشف أمريكا: إنها جاءت رحلة ذات نتائج خطيرة لم تظهر كلها بعد، وكان بذلك يرمي إلى ما قد تغير الحضارة العلمية العملية الأمريكية من أسس الحضارة الإنسانية، فإذا صدق قول كهذا على رحلة كهذه كل ما صنعته هو أن عبرت المحيط من يابس إلى يابس، فإنه يصدق ألف ألف مرة على رحلة أخرى يخرج بها الراحلون عن نطاق الأرض كلها ليدنوا من أفلاك السماء، ونحسب كذلك أن لم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرا انشق فيه الرأي على نظم الحكم كيف تكون كما انشق عليها الرأي اليوم، ثم لم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرا اهتز بالثورات أشكالا وألوانا، فقد كانت خلافات الملوك - ولا أقول الشعوب - تحل قديما بالحروب، وأما اليوم فالخلافات قائمة لا بين ملوك وملوك، بل هي قائمة بين طبقة وطبقة وحضارة وحضارة؛ ولذلك فإنها تحل بثورات الشعوب على شتى أنواع الفوارق، وهكذا تستطيع أن تلتمس ملامح عصرنا التي ما ينفك فلاسفة العصر وأدباؤه يلتمسونها فيما يكتبون ويذيعون.
نريد أن ننتهي من هذا كله إلى سلسلة من الحقائق يترتب بعضها على بعض: فأولى الحقائق هنا أن كل فرد في هذا الوجود هو كثرة في وحدة، ويترتب على هذه الحقيقة حقيقة ثانية وهي أن الرباط الذي يربط الكثرة في وحدة واحدة هو - فيما نرى - تركيز الكائن الواحد اهتمامه وانتباهه في هدف واحد، وعن هذه الحقيقة الثانية، تتفرع نتيجة، هي أن الطابع المميز لأي كيان قائم بذاته هو الهدف الذي يصب عليه اهتمامه وانتباهه، يصدق هذا على الأفراد وعلى الأمم وعلى عصور التاريخ.
وفي ضوء هذا الذي ذكرناه نزداد فهما لما نردده بألسنتنا وبقلوبنا عن عقيدة وإيمان من أن الوحدة العربية صورتها وحدة الهدف (الباب التاسع من الميثاق) ووحدة الهدف هي وحدة التفكير، ووحدة التفكير هي في أن يتجه كل الانتباه وكل الاهتمام إلى المشكلات المشتركة، فلئن اختلفت الظروف السياسية في أجزاء الأمة العربية اختلافا جعل الثورة السياسية في جزء مختلفة عنها في جزء آخر، إذ ربما كانت ثورة على مستعمر هنا وثورة على حاكم مستبد من أهل البلاد نفسها هناك، فإن الظروف الاجتماعية في سائر أجزاء الأمة العربية سواء؛ لذلك كانت الثورة الاجتماعية - بعد مرحلة الثورة السياسية - هدفا مشتركا، يتطلب تفكيرا مشتركا موحدا.
إن وجود الوحدة العربية - مجرد وجود - أمر لا اختلاف عليه، «ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير» (الميثاق).
ولكن الذي يريد التحليل والتوضيح هو تحديد المشكلة التي نجعلها مدار الفكر والعمل، ونجعل حلها هدفنا الأخير، وإنه لهدف يساعد على الوصول إليه «وضوح المسائل التي لا بد من تحديدها تحديدا قاطعا وملزما في هذه المرحلة من النضال العربي» (الميثاق).
إن ثمة موازاة بين تكوين الفرد وتكوين المجتمع، حتى لنقول عنهما إنهما جملة واحدة كتبت في الفرد بأحرف صغيرة وكتبت هي نفسها في المجتمع بأحرف كبيرة، وإنك لتستطيع أن تفهم الفرد على غرار ما تراه في تكوين المجتمع، كما تفهم المجتمع على غرار ما تراه في تكوين الفرد، ويتوقف أمر الأسبقية على نوع المشكلة المعروضة، وقديما فهم أفلاطون في جمهوريته - معنى العدل في الفرد الواحد على ضوء فهمه لمعنى العدل في المجتمع؛ لأن هذا المعنى أوضح في العلاقات بين أبناء المجتمع منه في العلاقات الداخلية الكائنة بين مقومات الفرد الواحد، لكننا هنا نعكس الوضع لنفهم الجماعة على ضوء فهمنا للفرد الواحد، ولك أن تسأل نفسك: ما الذي يجعل مني فردا متكامل التكوين موحد الشخصية؟ لتجد أن الجواب هو ما أسلفناه لك في تحليل مستفيض، وهو أن الذي يجعلك كذلك وحدة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وحدة التفكير، وإذن فعلى هذا الأساس نفسه يكون الجواب على من يسأل - إذا كان هناك من يسأل - ما الذي يجعل من الأمة العربية أمة واحدة متكاملة التكوين موحدة الشخصية؟ إذ الجواب هنا أيضا هو: أن الذي يجعلها كذلك هو وحدة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وحدة التفكير.
يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟
إنني ها هنا لكمن يحمل في يده سراجا، ليدخل به غرفة مظلمة، تناثرت فيها الأشياء من كل صنف: أثاث وثياب، وكتب، وعدد وآلات، فيجعل همه - أول الأمر - أن يصنف هذا المحتوى المختلط بعضه ببعض، والمتداخل بعضه في بعض، وذلك بأن يضع الأثاث في أماكنه، ثم يجمع الثياب وحدها، والكتب وحدها، وكذلك العدد والآلات، ليعود بعد ذلك إلى الثياب فيصنفها: القمصان هنا، والمناديل هنا؛ وإلى الكتب فيرتبها: هنا الفلسفة، وهنا التاريخ؛ وهكذا، يفعل كل ذلك على ضوء السراج، ليعلم أولا - ماذا تحتوي عليه الغرفة، قبل أن يتاح له اختيار هذا دون ذاك، فحسبه الآن أن يعلم، ليجيء اختياره بعدئذ على بصيرة وهدى.
والحق أني لفي عجب أشد العجب، ممن يجدون في أنفسهم الجرأة على القذف بكلمات يحملونها أضخم المعاني، بغير أن يكونوا على بينة - ولو إلى حد محدود - مما يقولون ويكتبون، ألا إن الإيمان الذي لا ينبني على وضوح العقيدة التي نؤمن بها، لهو إيمان إن صلح على الإطلاق فلطائفة من الناس لا تريد أن تشغل أنفسها بما قد يعوق سير الحياة العملية، لكن الحياة العملية ذاتها تقتضي - دائما - أن يتمهل نفر إلى جانب الركب السائر، ليلقي الأضواء العقلية على الأفكار نفسها التي اتخذها الركب السائر محاور الدفع والحركة، ولماذا؟ ليكون ذلك بمثابة النقد الذاتي، الذي يصحح التصورات العقلية على هدى من تفصيلات التنفيذ العملي، وهكذا يسير الفكر والعمل رأسا إلى كتف.
و«اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يستعملان على نطاق واسع للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص: فهذه الفكرة من اليمين، وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك، ولقد تساءلت - مخلصا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب - ماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي إذا ما توافرت في شخص أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاولت الإجابة، وجدت الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية، ويسار في ناحية، لما كان للتقسيم مغزى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني ألاحظ أن ثمة صفتين أخريين - على الأقل - تلحقان باليمين على أقلام الكاتبين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضديهما كذلك يلحقان باليسار، فإذا هم وضعوا رجلا في زمرة اليمين، وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده - هكذا ألاحظ في الاستعمال الجاري - هو التقدمي وهو العلمي، وإذا كان هذا هكذا، فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.
وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يتخارج هذان القسمان تخارجا تاما، كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسا ولا النحاس ذهبا، أو هما متداخلان، كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه - هو الأغنية - تداخلا يجيز لك أن تعد الأغنية شعرا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت لأنها شعر وموسيقى في آن واحد؟ ذلك أنه يقال - فيما يقال عن أوجه الاختلاف بين العلم والفلسفة، عند من يمايزون بينهما في الأسس - إن قسمة الأنواع في العلم متخارجة، على حين أن قسمتها في الفلسفة متداخلة، ففي العلم إذا قلت عن شيء إنه أوكسجين لم يعد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه هيدروجين، لاختلاف الخصائص المميزة بين هذا وذاك، اختلافا يفصل أحدهما عن الآخر فصلا تاما، وأما في الفلسفة، فإذا قلت عن شيء إنه موجود، فقد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه معدوم؛ لأن الوجود والعدم يتداخلان في حالات تجمع بينهما في آن واحد، هي حالات «الصيرورة» والتغير، بحيث يكون الكائن الواحد المتغير موجودا ومعدوما معا ... وأعود فأقول: إن أول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر في هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يجعلون هذا التقسيم على أساس «علمي» يفصل اليمين عن اليسار في الفكر فصلا كاملا، بحيث يصبح محالا على من اتصف بصفات الفكر اليميني أن يتصف كذلك ببعض صفات الفكر اليساري، أو هم يجعلونه تقسيما على أساس «فلسفي» يجيز أن يجتمع الضدان معا في كائن واحد؟
وإنما اهتممت بهذا السؤال في بدء الحديث؛ لأن قسمة الفكر إلى يمين ويسار مرتبطة في الأذهان ارتباطا وثيقا بموقفين متضادين في مجال الاقتصاد والاجتماع، فالاقتصاد الاشتراكي من جهة، والاقتصاد الرأسمالي من جهة أخرى، بما يتبع هذا التقسيم من تصورين مختلفين للعلاقة بين الفرد والمجتمع، الأول يسار والثاني يمين على سبيل الاصطلاح المتفق عليه، وإلى هنا تكون القسمة مفهومة في المجال الاقتصادي والاجتماعي، لكن سؤالنا هنا هو: هل تمتد هذه التفرقة عينها إلى سائر جوانب الحياة الفكرية، بحيث تشمل الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ وهل تكون هذه التفرقة عندئذ واضحة المعالم وضوحها في مجال الفكر الاقتصادي والاجتماعي؟ ألدينا من معرفة الخصائص المميزة لليمين واليسار في نواحي الفكر، ما يجعلنا ننظر في فلسفة ابن رشد وفلسفة الغزالي - وهما كما نعلم متعارضان - فنقول أيهما في اليمين وأيهما في اليسار؟ وما يجعلنا ننظر في فن العمارة بمسجد ابن طولون، وفي هذا الفن في مسجد السلطان حسن - وهما متباينان - فنقول أي الفنين يمين وأيهما يسار؟ هل يعد زهير شاعرا تقدميا لأن شعره هادف، ويعد ذو الرمة شاعرا رجعيا لأنه معني بتصوير ما يشاهده تصويرا لا يهدف من ورائه إلى شيء غير جمال الصورة ... إنني لأعلم أيقن العلم بأن جماعة ستقرأ هذه التساؤلات ليأخذها الضحك الساخر من هذا الكاتب الجاهل، الذي لا يحسن أن يلقي الأسئلة في مواضعها، أو ليأخذها الضيق من هذا المفكر «الشكلي» - فهنالك من النقاد من لا يفترون عن رميي بهذه الصفة على أنها أشنع ما يعاب به مفكر - الذي يهتم بالشكل الصوري للمسائل دون مضمونها الحي، وليغفر لي الله وليغفر لهم، فدأبي هو التماس الوضوح، والوضوح قد يقتضي تعرية الأشكال عما يبهمها، ودأبهم هو أسلوب الخطابة المؤثرة، حتى لو بنيت هذه الخطابة على غير معنى مفهوم، تتغير له حياة الناس من ملبس ومأكل ... نعم قد تثير هذه التساؤلات ضحك من لا يؤرقهم غموض المعاني، وقد يقولون: لقد ذكرت لنا يا رجل أناسا ممن لا يطوف ببالنا أن ندخلهم في تقسيماتنا؛ لأننا نوجه أنظارنا نحو المعاصرين دون الغابرين، بل لعل الالتفات إلى الغابرين بكل ما قد تراكم عليهم من غبار أصبحوا من أجله غابرين، هو في حد ذاته «رجعية» لا نرضاها، لكنني أستطيع أن ألقي الأسئلة نفسها بالنسبة إلى رجال الثقافة المعاصرين، فأجدني في الحيرة نفسها: هل كان محمد عبده في «رسالة التوحيد»، ولطفي السيد في «المقالات»، وطه حسين في «الأيام»، والعقاد في «سارة»، وتوفيق الحكيم في «أهل الكهف»، من اليمين أو من اليسار؟ ماذا عن فن محمود سعيد في لوحاته ومختار في تماثيله، هل كانا إلى يمين أو إلى يسار؟ ... أسئلة أطرحها - أمام نفسي وأمام القراء - استثارة في نفسي وفي أنفسهم للرغبة في تحديد هذين المفهومين الخطيرين، لأنتقل إلى شيء من التفصيل.
وأبدأ بالفلسفة فأقول إنها - كما هو معلوم عند دارسيها - تتخذ إحدى وجهتين رئيسيتين (لكل منهما تقسيمات وفروع)، إحداهما «مثالية» والأخرى «تجريبية»، وأساس القسمة هو تحديد العلاقة بين الإنسان العارف والشيء المعروف، فهل يعرف الإنسان حقيقة العالم بفكره المحض، أو أن الحواس من بصر وسمع وغيرهما ضرورية في توصيله إلى تلك المعرفة؟ أما المثاليون فيقولون إن الفكر البحت وحده كاف لإدراك الحق، وأما التجريبيون فلا يرون كيف يتم إدراك بغير الحواس أولا، إن لم يكن أولا وأخيرا معا، وواضح أنك إذا أخذت بوجهة النظر الأولى، تحولت الحقائق كلها عندك إلى «أفكار»، وإذا أخذت بوجهة النظر الثانية، تحولت تلك الحقائق إلى «أجسام مادية» لأن هذه الأجسام وحدها هي التي يمكن أن تدرك بالحواس، لكنك لا تكاد تأخذ بإحدى وجهتي النظر هاتين، حتى تطبق عليك حلقاتها حلقة وراء حلقة؛ لأنها جميعا نتائج يلزم بعضها عن بعض، فلو أخذت بوجهة النظر المثالية، كان حتما عليك أن تأخذ بواحدية الكون؛ لأنه إذا كانت الكائنات كلها هي «أفكار» في رأسك عنها، ثم إذا كانت هذه الأفكار، حين نضم بعضها إلى بعض، تكون فيما بينها بناء متسقا موصول الأجزاء (ولا بد أن يكون الأمر كذلك، لأنه لو رفضت فكرة من الأفكار أن تتسق مع سواها، كان معنى ذلك أن هنالك فكرتين متناقضتين عن شيء واحد، كأن نقول عن شكل هندسي ما إنه مربع ومثلث معا، وهو محال) إذن فالوجود «واحد» وإن تعددت أجزاؤه؛ لأن ذلك يكون كما تتعدد الأجزاء في الكيان العضوي الواحد، وأما لو أخذت بوجهة النظر التجريبية فإنه يجوز لك عندئذ أن ترى العالم كثرة، لا يتحتم أن يكون بينهما رباط يوحدها، إذ من أين يأتي الرباط، وأنت لا تدري عن العالم إلا إدراكات حسية كثيرة تجيئك من حواس مختلفة: فهذه رؤية بالعين لشكل أو لون، وذلك سمع بالأذن وهكذا.
فكونك موحدا للعالم أو معددا، نتيجة تلزم عن اختيارك الأول لطبيعة «المعرفة » أهي عملية عقلية بحت، أم هي عملية تبدأ بانفعال الحواس (والحواس أجزاء من مادة البدن)؟ لكن الأمر لا يقف بك عند هذا الحد، بل إنه سرعان ما ينقلك إلى وضع الفرد الإنساني بالنسبة إلى المجموع، فالتوحيد عند المثاليين يقتضيهم أن يجعلوا الفرد خاضعا للمجموع خضوع العضو الواحد في جسم الإنسان للكيان العضوي في مجموعه، وعندئذ لا يكون الفرد حرا في اختيار موضعه من التخطيط الفكري العام، الذي يشمله ويشمل معه سواه - ولك أن تراجع مثلا جمهورية أفلاطون، لترى كيف يخضع الأفراد لما يخططه العقل - وأما التعدد عند التجريبيين فمن شأنه أن يؤدي بأنصاره إلى القول بحرية الفرد الواحد مستقلا عن غيره؛ لأن المجتمع عندئذ لا يكون كائنا عضويا واحدا، بل يكون مجموعة من أفراد تعاقدوا معا على العيش في حياة مشتركة.
هكذا تتسلسل النتائج عند هؤلاء وأولئك، ونحن نسأل - مخلصين - أيهما يمين وأيهما يسار؟ أنجعل الفلسفة المثالية - بكل تفريعاتها - يمينا، والفلسفة التجريبية - بكل تفريعاتها كذلك - يسارا؟ إننا إذا تحدثنا بلغة السياسة فنظرنا إلى غربي أوروبا وأمريكا على أنه هو اليمين، وإلى الروسيا والصين وما يتبعهما على أنه هو اليسار، أخذتنا الحيرة؛ لأن الفلسفة عند الفريق الأول ليست كلها مثالية موحدة (بكسر الحاء) ولأنها عند الفريق الثاني ليست كلها تجريبية معددة (بكسر الدال الأولى)، فعند الأولين: براجماتية، وواقعية، وتجريبية علمية (الوضعية المنطقية)، ووجودية، وكانتية جديدة، وظاهراتية ... وليست هذه كلها فلسفات مثالية، ولا هي كلها توحد الحقيقة الكونية في بناء واحد متسق مترابط الأجزاء، وعند الفريق الثاني مادية جدلية، فهي مع التجريبيين من حيث هي فلسفة «مادية»، وهي مع المثاليين في توحيدهم للحقيقة، من حيث هي فلسفة «جدلية» (لأن هذه الصفة فيها تربط المراحل بعضها ببعض ربطا يجعل الحقيقة تيارا واحدا متصلا آخره بأوله).
أم نعكس الموقف فنعد الفلسفة المثالية يسارا، والتجريبية يمينا؟ إننا لو فعلنا لما نجونا من الحيرة نفسها وهي أننا سنجد في اليمين السياسي بعض اليسار الفكري، وفي اليسار السياسي بعض اليمين.
وأخلص من هذا كله إلى نتيجة أراها محتومة حتما، وهي أن ليس هنالك فواصل فارقة - في ميدان الفلسفة - بين يمين ويسار.
أما أن يكون في «العلم» يمين ويسار، فذلك ما لست أعتقد أن يطوف لأحد ببال، وإلا لكانت لفظة «العلم» هذه لعبة يلعب بها اللاعبون كيفما أرادوا دون أن يكون لها شيء من التحديد الرادع، وهل يطوف ببالك - حين أتقدم إليك بقانون علمي يحدد مسار الضوء أو الصوت، أو يبين لك تركيب الماء أو الهواء - أن تسأل: ترى هل هو من قوانين اليمين أو من قوانين اليسار؟ ... لا إن ذلك ليمتنع على العقل أن يسأله، بل إنه ليمتنع على العقل كذلك أن يسأل سؤالا كهذا، حتى لو كان القانون العلمي المعروض خاصا بالإنسان (كقوانين علم النفس مثلا) لأنه إذا ثبت بالتجربة في أي جزء من أجزاء الأرض أن ذكاء الإنسان يمكن قياسه على النحو الفلاني، أو أن العادات السلوكية يمكن أن تتكون بالطريقة الفلانية، فذلك إنما يثبت على الإنسان في كل جزء آخر من أجزاء الأرض يسكنه إنسان.
أحسب ألا خلاف على ذلك، ولكن الخلاف قد يبدأ حين نترك «العلم» إلى «فلسفة العلم»، وهنا قد يسأل القارئ: وما العلم وما فلسفته؟ فأجيبه جوابا شديد الاختصار، بقولي إن فلسفة العلم محاولة «لتفسير» العلم - لا لتغييره ولا لإضافة شيء إليه أو حذف شيء منه - بل «لتفسيره» برد قوانينه إلى الأصول الجذرية التي عنها انبثقت، فقد يقول قائل - مثلا - إن قوانين العلم تصف العالم كما هو واقع، وقد يرد عليه آخر بقوله: كلا؛ لأن ما هو واقع فيه خشونة وتغير، على حين أن القوانين العلمية مصقولة في صيغ رياضية ثابتة، وإذن فالقانون العلمي على هذا الاعتبار يكون بمثابة الصورة الذهنية الكاملة، التي تصور ما «يمكن» لحالات الواقع أن تصل إليه - افتراضا لا حدوثا فعليا، وقد يقول قائل وهو يفحص قوانين العلم وما تدل عليه: إنني أستنتج منها أن يكون العالم الطبيعي مكونا من أجزاء كثيرة، ويسير نحو غاية مرسومة مدبرة، وهكذا، وهكذا ... كل ذلك دون أن يتأثر صرح العلم نفسه بتغير أو بزيادة ونقصان؟ إن العلماء في معاملهم لا ينتظرون حتى يتقرر لهم إذا كانوا يصفون الواقع الفعلي كما يقع، أو يصوغون صياغات فيها اكتمال يبلغ بالواقع الحادث حد الكمال الصوري، بل هم ماضون في علمهم على ما يقتضيه منهج البحث العلمي، بغض النظر عما يقوله عنهم «المتفرجون» من فلاسفة العلم.
هذه حقيقة هامة أنبه إليها الأذهان، ليتضح للقراء ما نحن بصدد توضيحه لهم، وهو أن العلم نفسه لا يتغير بتغير الآراء في فلسفته، ففلسفته - كما قلنا - «تفسير»، والتفسير لا يغير من «النص» شيئا، إذا جاز هذا التشبيه؛ وعلى ذلك فافرض أن فيلسوفين قد اختلفا في تفسير العلم، وافرض أيضا أننا قلنا على أحد التفسيرين إنه تفسير «يميني» وعن الآخر أنه تفسير «يساري» فما جدوى ذلك، وماذا عسى أن يحدثه من أثر في خبز الجماهير؟ هل يزيد هذا الخبز رغيفا أو ينقص رغيفا إذا نحن فسرنا العلم بما يفسره به المثاليون أو بما يفسره به التجريبيون من الفلاسفة؟ كلا، وإنما الذي يزيد من أرغفة الخبز أو ينقص منها، هو «العلم» نفسه، لا الطريقة التي نفسره بها، إن فلاسفة العلم الطبيعي في اليمين الأمريكي قد يفسرونه على نحو، وفلاسفته في اليسار الروسي قد يفسرونه على نحو آخر، لكن لا أولئك ولا هؤلاء، يقدمون شيئا من صواريخ الفضاء في اليمين تارة وفي اليسار أخرى.
أتسألني: وماذا تكون الغاية من «فلسفة العلم» إذن؟ إنني أجيبك بأن الغاية هنا هي نفسها الغاية عند كل محاولة للفهم والتوضيح، فهي تزيد الإنسان تمكنا مما يعرفه، وليس الفرق كبيرا بين أن أختلف مع زميلي في «التفسير» الفلسفي لقوانين العلم، وأن يختلف ناقد أدبي مع زميله في «تفسير» مسرحية للحكيم، أهي ترتكز على أزلية الزمن وأبديته أم لا ترتكز على شيء من ذلك؟ ... اختلاف ينشب بين النقاد في مستواهم الفكري، دون أن يزيد العمل الأدبي بذلك الاختلاف سطرا أو ينقص سطرا.
إن سؤالنا الأساسي المطروح للبحث هو: إذا كان التمايز الاصطلاحي بين ما هو يمين وما هو يسار واضحا في مجال الاقتصاد والاجتماع، فهل لهذا التمايز نفسه امتداد في الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ ولقد بحثنا في مجال الفلسفة فلم نجد حدا فاصلا، وبحثنا في مجال العلم، فقضينا بادئ ذي بدء باستحالة أن يكون هنالك حد فاصل بين علم يميني وعلم يساري، ورجحنا أن تكون التفرقة في هذا المجال منصبة على ما يسمونه بفلسفة العلم، لكننا رأينا أنه حتى على هذا الفرض، فليس هو بالاختلاف الذي يقيم مع الحياة العلمية نفسها شيئا قاعدا، أو يقعد منها شيئا قائما.
هنالك أساس آخر يتخذه بعض الكاتبين للتفرقة بين يمين الفكر ويساره، لكنه في الحقيقة أوهى من أن نقف حياله موقفا جادا، وذلك هو «علمية» التفكير، فلئن كان «العلم» نفسه مشتركا بين اليمين واليسار، فإن استخدام «النظرة العلمية» عند التفكير في ميادين الإصلاح الاجتماعي وغيرها من جوانب الحياة العملية، أمر يختص به - عند هؤلاء الكاتبين - أصحاب اليسار دون أصحاب اليمين، وهو قول - في رأينا - عجب من العجب، فما هي أهم الصفات التي تجعل من نظرة الإنسان إلى شئون الحياة نظرة علمية، لا نظرة تقوم على محض العاطفة والوجدان؟ في ظني أنها صفات كثيرة ينبغي أن تتوافر في الفكرة لكي تكون «علمية» إلا أن أهمها - فيما له صلة بالحديث الراهن - هو «إمكان التطبيق»، فالفكرة علمية إذا كانت تحمل في صلبها طريقة تطبيقها وتحقيقها على أرض الواقع، وهي حلم من الأحلام إذا لم يكن ذلك التطبيق والتحقيق ممكنا؛ ولهذا كانت هذه «العلمية» هي محك التفرقة بين يسار ويسار، لا بين يسار ويمين، وذلك لأن الحلم الاشتراكي طالما راود قادة الفكر الإنساني منذ أقدم القدم، لكنه كان طوال القرون السالفة أقرب إلى «الحلم» يحلم به صاحبه حين يتمنى لبني الإنسان حياة عادلة شريفة، وقد اصطلح على تسمية هذه الأحلام بالطوباويات (يوتوبيا) التي معناها الحرفي «بلاد لا وجود لها على أرض الواقع»، فلما جاء اشتراكيو عصرنا الحاضر، نفضوا أيديهم من أمثال هذه الأحلام التي إن جاءت تسلية لقارئها، فهي لا تنفع الضعفاء والمعوزين كثيرا ولا قليلا ، وراح هؤلاء الاشتراكيون يفكرون على أساس «علمي» يجعل خطتهم المرسومة للمجتمع خطة قابلة للتحقيق والتطبيق، وبهذه «العلمية» تميز اشتراكيو اليوم عن اشتراكيي الأمس، لكنهم بهذه «العلمية» وحدها لم يتميزوا عن أعتى النظم الرأسمالية التي كانت قائمة مطبقة، ومعنى قيامها فعلا وتطبيقها فعلا هو أنها كانت منبنية على أسس قابلة للتنفيذ، أي أنها أسس «علمية» بهذا المعنى الذي نبسطه.
وألخص الفائت في جملة واحدة قبل أن أستأنف المسير، إننا حين نفرق بين يمين ويسار، فإننا قد نصطلح على أن تكون هذه التفرقة قائمة على أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية من حيث مضمونها، ولكننا ما زلنا نطرح السؤال: هل لهذه التفرقة امتداد في نواحي الفكر الأخرى من فلسفة وعلم وأدب وفن؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا يكون أساس التفرقة؟
أما الفن والأدب فلعلهما أن يكونا مجالا خصبا لاختلاف النظر بين يمين ويسار؛ وذلك لأنه إذا كان العلم هو العلم بغض النظر عن أشخاص منتجيه، فالعلاقة وثيقة في الفن والأدب بين الآثار ومنتجيها، فلم ينتج قصة «كارامازوف»، إلا دستويفسكي، وقصة «الحرب والسلام» إلا تولستوي، وقصيدة «الأرض اليباب» إلا إليوت، و«الأناشيد» إلا إزراباوند، وهكذا، إن أستاذ الكيمياء في جامعة القاهرة قد يصل إلى النتائج نفسها التي وصل إليها أستاذ الكيمياء في جامعة لندن أو هارفارد أو موسكو، لكن شخصا واحدا فقط هو الذي أنتج أو سوف ينتج مسرحية «يا طالع الشجرة» وذلك هو توفيق الحكيم، وإذا كانت الصلة وثيقة العرى إلى كل هذا الحد بين الفن والفنان، وبين الأدب والأديب، فإن سؤالنا عن العلاقة بين اليمين واليسار في الفن والأدب يزداد أهمية؛ لأنه يجوز أن يصاغ على هذا النحو: إن الأديب أو الفنان ما دام شخصا بعينه متفردا متميزا، ثم ما دام هذا الشخص المعين لا بد أن يكون ذا نظرة معينة في دنيا الاقتصاد والاجتماع، تجعله اشتراكيا أو غير اشتراكي، أي تجعله - بحسب الاصطلاح الجاري - من أهل اليسار أو من أهل اليمين، فهل يتحتم بناء على ذلك أن يجيء أدبه أو فنه مصطبغا بما يدل على وجهة نظره الاقتصادية والاجتماعية؟ إن الأمر هنا مختلف عنه في حالة العلم والعالم؛ لأنك لا تستنتج شخصية العالم من علمه، وأما في الفن والأدب، فالمفروض أن تكون ثمة رابطة بين صاحب الأثر وأثره بحيث نستطيع أن نستنتج شخصه من أثره.
أحسب أن الطريق تتضح أمامنا معالمه إذا نحن حللنا الفن والأدب إلى شكل ومضمون - كما قد اعتاد رجال النقد أن يحللوهما - لأننا لا نكاد نفصل بين الشكل الفني أو الأدبي ومضمونه، حتى ندرك على الفور ألا علاقة بين الشكل من جهة وكون الفنان والأديب يساريا أو يمينيا في الاقتصاد والاجتماع من جهة أخرى، فللشاعر أن يختار أي القوالب شاء، وللمسرحي أو القصاص أن يختار الطريقة التي يبني عليها مسرحيته أو قصته، دون أن يكون لذلك أدنى علاقة بمذهبه في الاقتصاد والاجتماع، وإذن يكون الفرق كله كامنا في المضمون الذي يسوقه الفنان أو الأديب في إنتاجه، فالشاعر العمودي - مثلا - قد يكون اشتراكيا أو غير اشتراكي، وكذلك الشاعر غير العمودي قد يكون هذا أو ذاك، بحسب ما نستشفه من ميوله ونزعاته في مضمون القصيدة، وكذلك قل في القصة والمسرحية، غير أن الفن التشكيلي هو الذي يحتاج إلى شيء من الروية قبل الوصول إلى حكم صحيح؛ وذلك لأن المصور التجريدي أو التكعيبي أو ما يجري مجراه من المدارس الحديثة الكثيرة يحاول إسقاط «الموضوع» ليصب اهتمامه كله على اللون والخط والتكوين، كأنما قد أصبحت اللوحة على يديه محايدة حيادا تاما بالنسبة إلى المذاهب الفكرية من سياسة واقتصاد واجتماع، ومن ثم ينشأ السؤال: هل يجوز للفنان اليساري أن يحايد في لوحاته وتماثيله؟ إنه إذا كان الجواب بالنفي (وليس من الضروري أن يكون)، تحتم إذن على الفنان التشكيلي ألا يتبع هذه التيارات الفنية الكثيرة التي تلتقي كلها في تنحية «الموضوع» عن النشاط الفني، ولعل هذا هو ما يميل برجال الفن في البلاد الاشتراكية إلى النفور من الفن التجريدي بكل أنواعه، والتمسك بأن يكون التمثال أو اللوحة ذات «موضوع» يمكن تمييزه وإدراكه.
فإذا صح هذا، انتهينا إلى ما يحدد معنى اليمين ومعنى اليسار في الفكر، وفي الأدب والفن، إذ جعلنا التفرقة منصبة على مذاهب الاقتصاد والاجتماع، ثم على مضمون الأدب دون الشكل، ثم على مضمون الفن التشكيلي وشكله معا عند من يطالبون الفنان بأن يحمل فنه رسالة في الاقتصاد والاجتماع، وأما عند غيرهم، فيجوز للفنان التشكيلي أن يكون يساريا في اقتصاده واجتماعه، دون أن يتأثر فنه بذلك لا شكلا ولا مضمونا، وأما ما عدا ذلك من «علم»، و«علمية»، و«فلسفة» تجعل النشاط التحليلي مدارها، فلست أراه مما يتغير بين يسار ويمين.
على أنني أتصور تشكيلات من الفكر كثيرة، كلها جائز الحدوث، فأتصور أن يكون الرجل اشتراكيا في نظرته الاقتصادية والاجتماعية، فردانيا في أدبه وفنه، مثاليا أو تجريبيا في فلسفته، إذ ماذا يمنع أن يكون المواطن الواحد اشتراكيا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون شاعرا ينظم القصيد - أو لا ينظمه - في الحياة والموت، في الزوال والخلود، في حياة الملائكة أو حياة الشياطين؟ أو أن يكون المواطن اشتراكيا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون مصورا تجريديا أو سيرياليا أو تكعيبيا أو ما شئت أن يكون؟ هل هناك من تناقض في أن أصحو مع الناس مشاركا إياهم في زراعة وصناعة، وفي إنتاج وتوزيع، ثم أنفرد وحدي في حلم أشطح به مع خيال مبدع خلاق؟ ... تشكيلات من الحياة الفكرية تجعلنا نتردد مرتين قبل أن نطلق الأحكام في الناس إطلاقا لا حيطة فيه ولا تحفظ.
رجل الفكر ومشكلات الحياة
هنالك نفر من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب، إلا أن تكتب لهم على نحو ما يكتبون، وأن تذهب معهم في مذاهب الفكر كما يذهبون، ولست أدري كيف تصطدم الفكرة بالفكرة ليولد الصدام فكرة أعلى وأكمل، إذا لم تختلف في الرأي وجهات النظر؟ إن كل ما يطالب به الكاتب هو أن يكون مخلصا لنفسه أمينا على فكرته، وقصاراه أن يبسط الفكرة بكل ما وسعه من وضوح وإيضاح وفهم وإفهام، ولا عليه بعد ذلك أن تقع الفكرة من قارئها موقع القبول، بل لا على هذا القارئ نفسه إذا هو لم يقرأ ما يتفق مع هواه، وإلا لما أحدثت القراءة في نفسه حوارا داخليا وفاعلية منتجة، شريطة ألا يكون مصدر الاختلاف بين الكاتب والقارئ اختلافا في معاني الألفاظ التي يستخدمانها؛ لأنه لو حدث ذلك لكان أحدهما في واد والآخر في واد، لا يلتقيان ولا يتصادمان، إذا قال أولهما: هذا ثور، أجابه الثاني: إذن فاحلبوه! لأن الثور عنده يعني البقرة، فلا المتكلم الأول قد أفهم ولا السامع قد فهم عنه، أما أن يتفق المتحدثان - أو الكاتب وقارئه - على أن اللفظة الفلانية تعني كذا وكذا من العناصر التي تدخل في مكونات الشيء الذي جاءت تلك اللفظة لتسميه، ثم أن يختلفا بعدئذ على الحكم الذي ينتهيان إليه بالنسبة إلى ذلك الشيء المطروح أمامهما للبحث والنظر، فليس في مثل هذا الاختلاف بأس ولا ضرر، بل إن فيه لخيرا ونماء، لأنه اختلاف قمين - مع المحاورة والجدل - أن يجمع المختلفين على رأي مشترك.
إنني لو سئلت: ماذا ترى من الفوارق التي تميز كاتب اليوم من كاتب الأمس؟ لجاءتني الإجابة مسرعة بأن أول ما يميزهما من فوارق هو أن كاتب اليوم ألصق من زميله بالخبرة الحية، كأنما هو قد وضع أصابعه على عروق الحياة ليتحسس نبضها، ولا عجب أن رأينا كاتب اليوم يلجأ إلى القوالب الأدبية التي من شأنها أن تجسد الحياة بشخوصها الناطقة المتحركة، وأعني القصة والمسرحية، على حين أن كاتب الأمس كاد يقصر نفسه على «المقالة» لأن بضاعته التي يعرضها «أفكار» على شيء من التجريد قليل أو كثير، وكل ما تتطلبه الأفكار من باسطها هو أن يتناولها بالتحليل والتوليد حتى ينكشف مضمونها وفحواها، فلئن رأى كاتب اليوم نفسه مضطرا إلى الخوض في مواكب الناس الأحياء ليرى ويسمع ويحس ويتأثر، ثم يخلو إلى نفسه ساعة ليصور ما قد رأى وسمع وأحس، فإن كاتب الأمس كان في مستطاعه ألا يبرح غرفة مكتبه، مراجعه على رفوفها، والمصباح أمامه، فيأخذ في القراءة والمراجعة، حتى إذا ما وقع على شيء يستحق أن يعرض على الناس، كانت له القدرة على عرضه في مقالة يكتبها أو سلسلة مقالات تستوعب الموضوع إذا اتسعت رقعته وتباعدت أطرافه.
فإذا قلنا عن رجل اليوم: إنه «كاتب» بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة، كان الصواب أن نقول عن رجل الأمس إنه «قارئ» ما دامت كتابته عرضا لمادة قرأها وأراد لغيره أن يقرأها معه.
لكن هذه التفرقة لا تنصب إلا على أديب القصة والمسرحية من جهة، وكاتب المقالات التحليلية العقلية من جهة أخرى، على أساس أن الأول له السيادة اليوم، والثاني كانت له السيادة أمس، فها هنا يجوز القول عن أديب اليوم أنه - في المحل الأول - ينصت إلى أحاديث الدار والدوار والمصنع والطريق، في الوقت الذي كان فيه كاتب الأمس يرجع إلى الكتاب والندوة وقاعة الدرس وعزلة التأمل، كما يجوز كذلك أن نقول عن أديب اليوم إنه يمس «مشكلات الحياة» في حضورها المباشر؛ لأنها مشكلات عملية تجري من حولنا يوما بعد يوم وساعة إثر ساعة، وعن كاتب الأمس إنه كان يتعرض لمشكلات فكرية مجردة بعدت صلتها المباشرة عن واقع الحياة الجارية، بل إن رواد الأدب القصصي والمسرحي في جيلنا الماضي - وهم أنفسهم الذين ما تزال لهم الريادة في القصة وفي المسرحية بين أدباء اليوم - كانوا بالأمس يكتبون القصة أو المسرحية فيما لم يكن يتصل بالحياة الجارية من قريب، ثم أصبحوا اليوم يكتبون وفي أذهانهم مشكلات الحياة اليومية كما تلمسها الأصابع وتبصرها العيون.
لكن هل يعني هذا كله أن يوم الناس هذا قد خلا من كاتب المقالة العقلية التحليلية التي تتناول موضوعاتها تناولا مجردا، يعمم القول ولا يخصصه، ويبعد بالتجريد وبالتعميم عن المشكلات الحية كما تقع في المنزل والمصنع والطريق؟ كلا بل مثل هذا الكاتب موجود - كما كان موجودا بالأمس - لأن وجوده محتوم بحكم وجود «الأفكار» التي تريد التحليل والتوضيح.
والخلاصة التي نريد أن نكتبها بالأحرف البارزة لتظهر للأعمى وللأعشى وللمبصر على حد سواء - قبل أن نمضي في الحديث - هي اختلاف طريقتين في تناول المشكلات: طريقة «الأديب» وطريقة «المفكر»، فبرغم أن الأدب الخالص قد يجسد فكرا في ثناياه، وأن الفكر قد يصاغ في عبارة لها جمال الأدب وخصائصه، إلا أننا إذا ما تطرفنا هنا وهناك لنميز بين الطرفين رأينا أنه حتى لو جعل كل منهما «مشكلات الحياة» المباشرة موضوعا له، لكان لكل منهما طريقته الخاصة.
فالأدب تجسيد لما يجرده الفكر، والفكر تجريد لما يجسده الأدب، على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيع - لا يجعلان من «مشكلات الحياة المباشرة»، موضوعا لهما؛ لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية، فأما الأدب فيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية، وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شأنهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد.
لكن هناك نفرا من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب؛ لأنهم في اللحظة نفسها يكرسون أنفسهم فيها «للفكر المجرد» يسوقونه في مقالات قصيرة أو طويلة، ويضطرون - شأنهم في ذلك شأن عباد الله المفكرين - أن يعلوا عن تفصيلات المشكلات كما هي واقعة، أقول: إنهم في تلك اللحظة نفسها، يوجهون اللوم لغيرهم من رجال الفكر، على تقصيرهم في تناول «مشكلات الحياة»، وهل تكون للكاتب قيمة إلا بمقدار ما يواجه بفكره تلك المشكلات؟ هكذا يقول شبابنا الكاتب الغاضب، ولست على يقين من أنهم إذ يقولون ذلك قد وقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى أية صورة تئول مشكلات الحياة عندما تصبح موضوعات للنظر عند رجل الفكر؟ إذ يجوز أن تبعد الشقة - في الظاهر - بين ما يتداوله المفكرون في عصر من العصور من ناحية، وما يعانيه الناس ويكابدونه في ساحات الأخذ والعطاء وأسواق البيع والشراء من ناحية أخرى، على حين يكون الطرفان - في حقيقة الأمر - على صلة وثيقة أحدهما بالآخر، برغم اختلاف الصورة في حالة الفكر عنها في حالة لواقع بتفصيلاته وكثرة عناصره المتشابكة.
إن «الحياة» التي يريد شبابنا الغاضب أن نقصر الفكر والكتابة على «مشكلاتها» لا تجيء في واقع الأمر إلا مجسدة في «أحياء» كلهم أفراد، يلتقون أو يفترقون على صور وأشكال لا سبيل إلى حصرها: أعضاء الأسرة الواحدة، والعمال في المصنع، والركاب في سيارة أو قطار، ومجموعة الناس في السوق، والطلاب اجتمعوا في غرفة الدراسة وهكذا وهكذا، على أن هؤلاء الأفراد إذ يجتمعون قد تتفق بينهم الأهداف والأساليب وإذن فلا اختلاف، أو قد لا تتفق فيقع الصراع إما على الهدف ماذا يكون، وإما على الوسيلة كيف تكون.
وإني لأتصور «المشكلات» التي قد تقع للناس في حياتهم على نوعين رئيسيين، ثم يعود أحد هذين النوعين فينشعب شعبتين: فأولا قد تكون مشكلات الناس «خاصة»، وقد تكون «عامة»، ولا أحسب الشباب الكاتب الغاضب الذين يحثوننا على تناول «مشكلات الحياة» دون سواها، لا أحسبهم يريدون منا أن نعالج بمقالاتنا مشكلات الناس الخاصة لنعرضها على الملأ - رضي أصحابها أو كرهوا - فنعرض للزوج وقد اختلف مع زوجته على شأن من شئون الحياة، أو نعرض للجار وقد اعترك مع جاره، فتلك - على أبعد الفروض - صور مما قد تسرع إليه صحافة الخبر حين تكون الصحافة لاهية في أمة عابثة، وهي نفسها المشكلات التي إذا مستها أصابع الفن بسحرها حولتها إلى أدب من مسرحية وقصة، وفي كلتا الحالتين لا يكون لرجل الفكر - من حيث هو كذلك - شأن بها في حد ذاتها، وأما المشكلات العامة التي تمس أبناء الإنسانية كلها، أو أبناء الوطن الواحد جميعا، أو مجموعات ضخمة من هؤلاء وأولئك، فهي التي تنشعب شعبتين: إحداهما مشكلات هي من شأن البحوث العلمية المتخصصة وحدها؛ لأنه لا حيلة «للفكر» بمعناه الأعم حيالها، فماذا يصنع رجل الفكر في مواجهة الأمراض المتوطنة؟ ماذا يصنع في توسيع الرقعة الزراعية؟ ماذا يصنع في تحسين الطرق وإقامة الجسور؟ لا شيء، وإذن فأحسب أن الشباب الكاتب الغاضب لا يريدون منا أن نعالج أمثال هذه المشكلات، وإذن فقد بقي نوع واحد هو الذي يجوز، بل يجب أن يتناوله رجل الفكر بكل ما أوتيه من قدرة على التحليل والتعليل والحل، وهو المشكلات التي تكون عامة من جهة وتنصب على علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة أخرى، فماذا تكون العلاقة الصحيحة بين المواطن ومواطنه؟ بين المحكوم وحاكمه؟ بين المتعلم ومعلمه؟ ماذا تكون العلاقة بين الفرد الواحد وبقية الأفراد؟ بين الأمة الواحدة وبقية الأمم؟ وهكذا وهكذا.
إن هذه العلاقات الإنسانية كلها تتمثل في مواقف الواقع المحسوس، إما على صورة حسنة أو على صورة رديئة، لكن رجل الفكر إذ يتناولها يكاد لا يقف إلا لحظة قصيرة عندما قد وقع منها بالفعل، ليجاوزه إلى ما وراءه من مبادئ، ليقبل بعضها ويرفض بعضها، غير أنه بإزاء مناقشة المبادئ المجردة تراه وقد بعد عن أرض الواقع بعدا يوهم المشاهد المتعجل أنه - أي رجل الفكر - قد شطح مع الخيال إلى أبراج عالية لا يكاد يسمع منها أنات المعذبين الذين يعانون في حياتهم مشكلاتها ويكابدون أزماتها، انتظارا للفرج يأتيهم من حيث لا يعلمون.
تعالوا نطف بأبصارنا في تاريخ الفكر، لنرى كيف كانت وقفات المفكرين بإزاء مشكلات حياتهم؟ لعلنا نهتدي إلى الوقفة الصحيحة، حتى لا يلوم أحد منا أحدا على أنه يبلبل خواطر الناس دون أن يعالج لهم مشكلات الحياة التي يريدون لها حلولا على أيدينا.
هذا هو شيخ الفلاسفة سقراط يواجه مشكلة من أعوص «مشكلات الحياة»؛ وأعني بها طريقة التوفيق بين واجب المواطن الصالح في إطاعة قانون دولته، وواجبه - في الوقت نفسه - في نقد تلك القوانين ومحاولة تغييرها إذا وجد فيها مواضع نقص وضرورة تغيير، فهل يلجأ المواطن في ذلك إلى التماس المؤامرات أو اصطناع وسائل العنف؟ أو هل يظل المواطن مطيعا للقانون حتى يتمكن من إقناع مواطنيه بالحجة العقلية ليغيروا من أوضاعهم ما يراه معيبا فاسدا.
تناول سقراط هذه المشكلة الحية التي مست حياته هو مسا مباشرا، ذلك أنه وهو في سجنه ينتظر الموعد المحدد لموته بجرعات مسمومة - كما حكم عليه رجال القضاء - جاءه تلميذه الغني أقريطون يعرض عليه الفرار من الدولة وقوانينها الجائرة، بعد أن أعد له الطريق برشوة الحراس، لكن سقراط - رجل الفكر - سرعان ما أسقط من الموقف تفصيلاته التي هو جزء منها، وارتفع بالمشكلة إلى مستواها المجرد المطلق، الذي يصلح للإنسان كائنا من كان، مهما يكن مكانه وزمانه، فانتهى به التفكير إلى أنه لا مناص للمواطن من إطاعة قانون دولته إلى أن يتاح له تغييره - إذا استطاع - بالحجة والإقناع، وفي محاورة أقريطون الجميلة الرائعة، التي تصلح إلى يوم الناس هذا أداة فكرية رادعة لمن يدبرون وسائل العنف للحصول على ما يريدونه لأنفسهم من أوضاع أمتهم، في هذه المحاورة الجميلة الرائعة، يتخيل سقراط قوانين الدولة وقد تجسدت أمامه تسائله وتحاسبه إذا هو فر من وجهها، كيف يجوز له أن يتمتع بحماية القوانين، ثم يخونها ويخرج عليها غدرا؟ وهل تظل للدولة قوائمها ودعائمها إذا لم تعد لقوانينها قوة، وإذا قابلها الأفراد بالعصيان كلما حكمت عليهم بما لا يحبون؟
ها هنا كانت «مشكلة الحياة» خاصة برجل واحد في موقف واحد، لكنها تحولت عند رجل الفكر إلى مشكلة عقلية نظرية صرف، حتى لينسى قارئ المحاورة أن البحث قد بدأ خاصا بشخص معين في موقف معين؛ لأن هذا القارئ سيرى الماثل أمام عقله قضية عامة عن موقف المواطن كائنا ما كان موطنه - تجاه قوانين دولته التي قد لا يكون راضيا عنها. •••
ونسوق مثلا آخر من الفكر العربي القديم، فقد اعترضت رجال الفكر عندئذ المشكلة نفسها التي تعترضنا اليوم - وهي كذلك من صميم «مشكلات الحياة» - وهي: هل نأخذ عن ثقافة اليونان أو لا نأخذ اكتفاء بثقافتنا المنبثقة من ظروفنا الخاصة؟ كان السؤال عندئذ - كما هو اليوم - حادا يتطلب الجواب الحاسم؛ لأنهم كانوا يجتازون عصرا - كعصرنا - تتدفق فيه التيارات الثقافية من كل صوب، وبخاصة في ميدان التفكير الفلسفي، فعلى أية صورة تشكلت المشكلة عند المفكرين؟
إنها ما لبثت أن اتخذت صورا موسومة بالطابع النظري العقلي الذي ربما أنساك كيف بدأت؛ لأنك ستحصر النظر في موضوع البحث النظري وكأنه هو الموضوع، فها هما ذان رجلان يجتمعان في حضرة الوزير ابن الفرات (في منتصف القرن العاشر الميلادي) وهما أبو سعيد السيرافي الذي لم يكن يؤمن بضرورة النقل عن ثقافة اليونان، وأبو بشر متى الذي كان يرى ألا مندوحة عن ذلك، فبدأت بينهما مناقشة حول المنطق الأرسطي الذي كان أبو بشر متى من علمائه: هل ينفع المتكلم باللغة العربية في شيء؟ ولم يكد أبو بشر يقول عن ضرورة هذا المنطق اليوناني للإنسان بغض النظر عن لسانه؛ «لأنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان» حتى طفق السيرافي يتدفق حججا يقيمها على أن للغة العربية خصائصها المميزة، وصحة الكلام مرهونة بالإعراب من حيث اللغة، وبالعقل من حيث المعنى، ودراسة المنطق الصوري لا تغني أحدا عن التجربة الواقعية الفعلية بحقائق الأشياء المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور التي يدرسها المنطق، وتشبيه المنطق بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن بميزان، فإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لأحد فهو ملزم للمتكلم باللغة اليونانية التي على أساس تراكيبها قام ذلك المنطق، واختلاف اللغات بعضها عن بعض يقتضي حتما أن تكون هنالك صور مختلفة في تركيب اللفظ الذي يعبر عن معنى معين، والمعاني لا تكون يونانية ولا عربية إنما هي إنسانية عامة.
سهكذا تمضي المناقشة بين الرجلين، على نحو لو كان قد سمعه واحد من شبابنا الكاتب لغضب متسائلا: ما هذا النقاش النظري الذي لا يطفئ ظمأ الظمآن ولا يشبع جوع الجوعان، لماذا لا تصبان اهتمامكما على «مشكلات الحياة»؟ إلى أن ينبهه صديق هادئ بأن الجذور التي انبثق منها مثل هذا النقاش النظري، هي من صميم مشكلات الحياة؛ لأنها تمس المصادر التي يجوز أو لا يجوز للناس أن يغترفوا منها الفكر والثقافة. •••
واختر ما تشاء من أمثلة لرجال الفكر في عصرنا، اختر مثالك من فلاسفة الوجودية في فرنسا، أو من فلاسفة التحليل في إنجلترا، أو من فلاسفة البرجماتية في أمريكا، أو من فلاسفة المادية الجدلية في روسيا، تجدك أمام نقاش نظري مجرد، لا يذكر لك شيئا عن زيد في حقله وما يلاقيه هناك من مشكلات في ري الأرض وحرثها، ولا يذكر لك شيئا عن عمرو في مصنعه وما يعانيه هناك من طرق الحديد وتشكيل القضبان، لكنه نقاش إما يغوص بك في أغوار عميقة من النفس الإنسانية ليظهر ما كمن فيها من عوامل القلق والحيرة، لا نفس زيد ولا عمرو، لكنها «النفس» بمعناها المجرد المطلق، وإما يدخلك في دقائق جملة لغوية يحلو لرجل الفكر أن يحللها ليضع تحت المجهر طرائق الناس في لفتات تفكيرهم كيف تكون، وإما يرد لك كل شيء في حياتك إلى واقع مادي يتسلسل سيره في حلقات متتابعة من التطور النامي، ولن تجد في أية حالة من هذه الحالات أن «مشكلات الحياة» من أخذ وعطاء وبيع وشراء وطعام وشراب وثياب ومسكن قد حلت صعابها لا كثيرا ولا قليلا؛ لأن الذي يحل هذه الصعاب هم أصحاب التخصصات العلمية في الزراعة والصناعة وتبادل السلع ونسج الأقمشة وبناء البيوت، لكنها - برغم ذلك - مناقشات ينفذ أصحابها من خلال المشكلات الراهنة إلى الأسس والمبادئ التي اندست في طواياها، لنعود هابطين مرة أخرى من تلك الأسس والمبادئ إلى أرض الواقع فإذا هو مفهوم واضح، فنزداد بحياتنا وعيا ونزداد لمشكلاتها إدراكا.
وبعد هذا كله فإني أقرر أن رجل الفكر ملتزم أمام نفسه وأمام الناس، ملتزم بماذا؟ إنه ملتزم بالخوض مع الناس في مشكلاتهم، ولكن ذلك يتم له بطريقة «المفكر» لا بطريقة «الأديب» ولا بطريقة «العالم المتخصص» ولا بطريقة الصحفي الذي ينقل الخبر عن الشيء كما وقع، فلكل من هؤلاء طريقته إزاء المشكلة الواحدة، ومن الخير أن يلتزم كل منهم الطريقة التي يحسن أداءها، وقد يجتمع أكثر من طريقة واحدة في شخص واحد موهوب، فتراه يتعرض للمشكلة على صورة معينة هنا وعلى صورة معينة هناك، كما يحدث لسارتر - مثلا - أن يعالج مشكلة ما بالفكر المجرد حينا، وبالقالب المسرحي حينا آخر.
كل هؤلاء يلتزمون «الحق»، لكن معيار الحق متعدد الصور بتعدد طرائق القول، فلئن كان الحق عند الصحفي - وهو ينقل للناس خبرا عن مشكلة من مشكلات الحياة الجارية - هو أن يرسم صورة كلامية دقيقة التطابق مع تفصيلات الحادث كما وقع، فإن الحق عند الأديب - وهو يعرض للمشكلة عينها في قصة أو مسرحية - هو أن يجيد تصوير أشخاصه في تفاعلهم حتى ولو لم يلتزم، بل لا ينبغي له أن يلتزم تفصيلات الواقع كما وقع، والحق عند العالم المتخصص وهو يخطط للمشكلة حلا، هو نجاح التطبيق، وأما صاحبنا المفكر فصورة الحق عنده هي دقة التحليل والتعليل الذي يستطيع بهما أن يجاوز حدود الواقع إلى حيث المبادئ التي كانت كامنة وتجسدت في المشكلة الجزئية التي وقعت، أو إلى حيث النتائج القريبة والبعيدة التي عساها أن تترتب على تلك المشكلة.
خذ مثلا هذه المشكلة التي أعدها من أعقد مشكلات حياتنا الاشتراكية الجديدة، وأعني مشكلة التوازن بين احتفاظ الفرد بكيانه المستقل المسئول وبين ضرورة أن يكون هذا الفرد على صلات وثيقة بينه وبين سائر المواطنين بحيث ينصهر معهم في مجموع واحد متصل، وسل نفسك: كيف يمكن لرجل الفكر أن يتناول هذه المشكلة إذا هو قصر نفسه على ظواهرها البادية في حياة الناس اليومية، دون أن يتعمقها إلى أصولها وجذورها التي ربما ارتدت إلى الحياة القبلية الأولى؛ ذلك أننا إذ نلاحظ سهولة أن ينصهر الفرد منا في أسرته، نلاحظ أيضا إلى جانب ذلك صعوبة أن ينصهر ذلك الفرد نفسه في مجموعة المواطنين: من عرفهم منهم ومن لم يعرفهم على حد سواء.
أفإن فلسفنا الموضوع وشرحنا كيف تتحقق ذاتية الشيء - أي شيء - بوجوه وبصفاته وبعلاقاته مع سائر الأشياء، وأخذنا نوغل في الجانب الصوري الخالص، الذي يبين أن الكائن الواحد محال تعريفه إلا بربط الصلة بينه وبين سواه، أقول أفإن فعلنا شيئا كهذا قيل لنا: على رسلكم، واحصروا أنظاركم في مشكلات الحياة - ذلك هو ما يطالبنا به نفر من الشباب الكاتب!
طراز من الفردية جديد
لو أن كل تغير يطرأ على الحياة الإنسانية، يستتبع في ذيله فورا نمطا جديدا من الفكر، يساير ذلك التغير الظاهر على وجه الحياة، لما وقع الإنسان فيما يقع فيه دائما إبان مراحل الانتقال الكبرى، من تعارض بين حياته الخارجية البادية أمام أعين الناس، وحياته الداخلية التي يعيشها مع نفسه كلما فكر أو شعر، لكن أنماط الفكر الجديد قلما تساير تغيرات الحياة المادية الظاهرة، برغم العلاقة الوثيقة بين الفكر من ناحية وعالم الأفعال في دنيا السلوك من ناحية أخرى، إذ إن أنماط الفكر كثيرا ما تتلكأ خلف تغيرات الحياة الفعلية، جيلا أو جيلين على أحسن الفروض، وقرنا أو عدة قرون إذا ما ساءت الحال بالناس، أو لعلنا نكون أقرب إلى الدقة إذا نحن فرقنا في الأنماط الفكرية بين نوعين: القوانين العلمية في جهة، والقيم والمفاهيم التي تكون عند الإنسان نظرته العامة إلى نفسه وإلى الدنيا من حوله في جهة أخرى، فعندئذ نقول إن ما يطرأ على حياة الناس الظاهرة من تغيرات - كانتقالهم من الزراعة إلى الصناعة مثلا - لا بد أن تسبقه وتصاحبه بحوث علمية هي التي يستعان بنتائجها على ذلك التحول، لكن مثل هذا الانتقال من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى، يستلزم بالضرورة انتقالا آخر في الأسس والمبادئ، التي من خلالها ينظر الإنسان إلى العالم، والتحول في هذا المجال هو الذي نقول عنه إنه كثيرا ما يبطئ، إلى الحد الذي يترك الناس وكأنهم يعيشون في عالمين أو في زمانين: أحدهما هو الذي ينشطون فيه بأعمالهم المختلفة، والآخر هو الذي يقومون فيه الأشياء والمواقف بقيم ومبادئ تنتمي إلى عصر ذهب وانقضى.
هذا الفارق الذي يفصل - في حياة الإنسان الواحد - بين قواعد حياته العملية من جهة، ومبادئ حياته الخلقية والجمالية من جهة أخرى، أو إن شئت عبارة أخرى، فقل إنه الفارق الذي يفصل - في حياة الإنسان الواحد - بين نظرته العلمية ونظرته الفلسفية، فبالنظرة الأولى يخضع للواقع ويخضعه، وبالنظرة الثانية يجاوز دنيا الواقع الماثل إلى سواها مما قد يكون الزمن قد طواه في جوفه؛ أقول إن هذا الفارق هو الذي يشار إليه عندما يوصف إنسان العصر الحاضر بالقلق والضياع، فيقلقه أن يرى عقله في ناحية وقلبه في ناحية أخرى، ويلقي به في متاهات الضياع ألا يجد بين يديه من القيم والمبادئ ما يؤمن به إيمانا لا يزعزعه أن يراه متنافرا مع حقائق الواقع الذي يعيش فيه راضيا أو كارها.
وأمام هذين الشطرين: الحياة العلمية المتصلة بدنيا العمل والإنتاج من جهة، والحياة الوجدانية المتصلة بعالم المبادئ والقيم من جهة أخرى، ليس لنا الخيار فيما نأخذ وما نترك؛ إذ لا بد لنا - إن لم يكن بحكم العقل الصرف، فبمقتضى شواهد التاريخ - أن نبقي على ضرورات الحياة العلمية العملية، ثم نقسر الشطر الآخر - شطر المبادئ والقيم - على أن يغير من نفسه ليلائم الحياة الجديدة، والسعيد من الأفراد والأمم هو من جاءت معه هذه الملاءمة في أقصر أمد مستطاع، حتى تزول المعوقات من طريق التقدم الحضاري. وإنه لجدير بنا في هذا الموضع من الحديث أن ننبه الأذهان إلى أن «المبادئ» و«القيم» إن هي إلا أدوات للوزن والقياس - كالأقة والرطل والمتر والياردة بالنسبة للأشياء المادية - فلا يزكيها إلا ملاءمتها للمرحلة الحضارية التي يجتازها الإنسان، مضافا إلى ذلك ملاءمتها لأن تكون حافزا يحفزه إلى المرحلة التي تليها.
ونحن اليوم في مرحلة انشطار مخيف بين حاضر ماثل، واقع، ضاغط بكل ثقله على حياة العمل والإنتاج، وماض متلكئ ببقاياه في أذهاننا، متمثلا في مجموعة من الأفكار، هي التي تؤلف لنا وجهة النظر ... إننا نعيش مع «علم» القرن العشرين ب «فلسفة» تنتمي إلى قرون ماضية، أخشى أن أرتد بها إلى القرن العاشر الميلادي، أو قبله بقليل أو بعده بقليل؛ هذا بالنسبة إلينا نحن العرب، وإلى القرن السادس عشر بالنسبة إلى أوروبا، ذلك أن أوروبا في القرن السادس عشر كانت قد اجتازت - تقريبا - مرحلة التفكير الوسيط إلى مرحلة علمية تمثلت في جاليليو ونيوتن من الناحية العلمية، وفي فلسفة ديكارت من الناحية الفلسفية، وها هي ذي اليوم في دور اجتياز لهذه المرحلة، بحيث أصبح لها من العلم الطبيعي ما جاوز علم نيوتن، ومن الفلسفة ما خرج على فلسفة ديكارت، وأما نحن فحين دخلنا في عصر نهضتنا خلال السنوات المائة التي تمتد من أواخر القرن الماضي إلى أواخر هذا القرن - إذ لم يبق من هذا القرن إلا ثلثه - كانت النظرة الفلسفية التي تتحكم فينا هي نفسها التي سادت عصورنا الوسطى، بما فيها من ارتفاع وهبوط، فإذا ما هم دارس منا أن ينقل المرحلة الديكارتية من التفكير الأوروبي، عد مجددا، فما بالك بالذي ينقل ما بعد الديكارتية من نظرات وأفكار؟
إن رجال الفكر عندنا واجبهم مضاعف، إذا قيسوا إلى رجال الفكر في بلاد أخرى سبقتنا إلى النهوض بثلاثة قرون على الأقل، فلا جدال في أن «العلم» الذي نسايره هو علم القرن العشرين بكل ما يقتضيه من تقنيات (تكنولوجيا) وتصنيع، لكن الذي قد يثير جدالا، هو: ماذا تكون «الثقافة» التي نتثقف بها بحيث تتم الملاءمة بينها وبين العلم الحديث؟ بعبارة أخرى: ما هي «الفلسفة» التي نشيع بها نظرة عامة تتفق مع عصر الطبيعة الذرية وعصر التصنيع؟ أغلب الظن أننا مضطرون إلى امتصاص المراحل الفلسفية التي سبقت، لتتوافر لدينا «الأرضية» التي يمكن أن نقيم عليها النظرة الفلسفية المعاصرة للعلم الذري؛ لأننا لو اكتفينا بهذه الفلسفة الأخيرة دون مقدماتها التي تطورت عنها، فربما جاءت مبتسرة مبتورة يتعذر هضمها، وإذن فلا بد لنا من دراسة المرحلة الديكارتية التي أزالت أسس العصور الوسطى ومناهجها، ومن دراسة المرحلة الجديدة التي جاءت تحمل نظرة جديدة غير النظرة الديكارتية السابقة.
وخلاصة القول إن ثمة نظرات ثلاثا إلى العالم، انعكست في ثلاث مراحل فلسفية تعاقبت على مر الزمن، أستطيع الآن أن أجازف بأوصاف تميزها، فأقول إن النظرة الأولى كانت توجه اهتمامها إلى الكيف دون الكم، والنظرة الثانية كانت توجه اهتمامها إلى الكم دون الكيف، والنظرة الثالثة (وهي نظرة عصرنا الراهن) تحاول الجمع بين الكم والكيف على نحو يجعل اختلاف الكيف وليد اختلاف الكم؛ النظرة الأولى تتمثل في أرسطو، والثانية في ديكارت، والثالثة في فلاسفة التطور المعاصرين - ماركس، بيرجسون، هوايتهد، صموئيل ألكسندر وغيرهم - فإذا سئل أرسطو - مثلا - ماذا يميز الأنواع بعضها من بعض، ماذا يميز الإنسان من الحيوان، أو الحار من البارد، أو الذكاء من الغباء، أو اللون الأبيض من اللون الأسود، أو حكومة الفرد من حكومة يشترك فيها الشعب كله، أو ما شئت من هذا القبيل، أجابك بخصائص «كيفية» خالصة، كأن يقول مثلا إن الإنسان يتميز من الحيوان ب «النطق» والحار يتميز من البارد ب «الجفاف واليبوسة» وهكذا، أما إذا سئل أحد الديكارتيين مثل هذه الأسئلة، لجأ إلى «التحليل» الذي يفك كل فكرة من هذه الأفكار إلى عناصرها البسيطة، لنرى بأية «نسبة» ركبت هذه العناصر بعضها على بعض بحيث تكونت الفكرة المركبة آخر الأمر، فاختلاف الكيف مردود إلى زيادة النسب أو نقصها، وأما فلاسفة التطور المعاصرون، فيجعلون الخصائص الكيفية وليدة الزيادة في الكمية أو النقص فيها، لكنك إذا ما وصلت في الصعود (أو الهبوط) مرحلة كيفية جديدة، فلا سبيل إلى ترجمتها إلى كمية من هذا العنصر أو من ذاك، لأنك ستكون عندئذ قد انتقلت إلى مستوى جديد.
النظرتان الأولى والثانية، النظرة الأرسطية والنظرة الديكارتية على السواء، تتفقان في ثبات الخصائص التي تميز الكائنات على اختلافها، فخصائص الكائن المعين - وهي كيفية عند القدماء، كمية عند الديكارتيين - ثابتة على طول الزمان، لا يطرأ عليها تغير، فالإنسان هو الإنسان لا يغير من طبيعته اختلاف ظروفه، وأما النظرة الثالثة - وهي نظرة العصر الحاضر - فتختلف عن الأوليين في إصرارها على مبدأ التغير الذي لا يدع الحقيقة الواحدة ثابتة على صورة واحدة.
والنظرات الثلاث جميعا قائمات على قياس المماثلة والتشبيه في تصورها للعلم الطبيعي، فالنظرة القديمة اليونانية تقيم علمها بالطبيعة على مشابهة بين العالم الأصغر (الإنسان) والعالم الأكبر (الكون) فما يراه الإنسان في مجرى شعوره الداخلي، يخلعه على الطبيعة بأسرها، ففي الطبيعة «عقل» لأن فيه «عقلا»، وللطبيعة غايات لأن له غايات، وهكذا، والنظرة الديكارتية - نظرة عصر النهضة الأوروبية - تقيم علمها بالطبيعة على مشابهة بين صنعة الله في خلقه وصنعة الإنسان للآلات، وأما النظرة الراهنة السائدة في عصرنا، فهي تقيم علمها بالطبيعة على أساس المشابهة بين الطبيعة كما يدرسها العلماء، والتغيرات التي تطرأ على الحياة الإنسانية كما يدرسها المؤرخون؛ أي أن للطبيعة سيرة وتاريخا كما أن للإنسان - فردا أو جماعة - سيرة وتاريخا.
ولا شك أن نظرية التطور البيولوجي، وشيوعها في عصرنا، واتساع مجال تطبيقها، قد أكدت هذه النظرة «التاريخية» لحقيقة العالم، ومن نتائج نظرة كهذه أن نصف بالتغيير المستمر كل كائن وكل فكرة مهما تكن طبيعته أو طبيعتها، فلئن كان الأقدمون يقسمون الكائنات والأفكار قسمين: أحدهما ثابت لا يطرأ عليه التغير، والآخر متحول متبدل، بل كانوا بالإضافة إلى هذا التقسيم يجعلون الأفضلية للقسم الأول؛ لأنه وحده هو مجال البحوث العلمية - ما دام العلم يستهدف القوانين الثابتة التي لا تتأثر بظروف المكان والزمان - وأما الكائنات المتغيرة - ومنها المحسوسات بالبصر والسمع وغير ذلك - فلأنها لا تثبت على حال واحدة، فليست هي بذات أهمية تذكر بالنسبة إلى التفكير العلمي بمعناه الصحيح ... أقول لئن كان القدماء قد قسموا الكائنات هذا التقسيم، فإن النظرة المعاصرة تقتضي أن ندرج القسم الأول في القسم الثاني، لنجعل كل شيء متغيرا متحولا متطورا.
نعم إن الأقدمين - شأنهم في ذلك شأننا - كانوا يرون بحواسهم أن الأشياء متغيرة، فهم يتحركون بأجسادهم من مكان إلى مكان، ويزرعون الأرض فيكبر الزرع وتتحول عناصر التربة إلى ثمر، ويتبخر الماء لينعقد في السماء سحابا، ومن السحاب ينزل المطر، وهكذا وهكذا مما يدور حولهم من أحداث، لكن هذا التغير البادي أمام حواسهم، لم يصرفهم عن البحث «وراءه» عما هو ثابت ذو دوام، فإن كانت هذه «الشجرة» التي أراها، تتعرض للتغير في ظواهرها، فإنني إنما أبحث عن حقيقة الشجرة الكامنة وراء تلك الظواهر، ولا بد أن أقع في نهاية البحث على «جوهر» - هكذا كانوا يسمون الجانب الثابت الدائم من الشيء - لا بد أن أقع على «جوهر» يدرك العقل وجوده، وإن لم تدركه الحواس، وما تقوله في الشجرة تقوله في كل شيء آخر بما في ذلك الإنسان نفسه، فإذا كان ما يبدو للعيان منه حركة و«شكل» ولون وغير ذلك من «ظواهر» فإن له بغير شك «جوهرا» ثابتا هو الذي ينبغي أن نبحث عنه وراء تلك الظواهر، فإذا وجدناه كان هو حقيقته التي تخلع على شخصيته وفرديته طابعها الأصيل الدائم.
وإن نظرة كهذه لمن شأنها حتما أن تؤدي إلى تصور «للفردية» قد يبلغ أقصاه في فلسفة ليبنتز، الذي زعم أن جميع الكائنات «أفراد» مغلقة على نفسها، بحيث يصبح كل فرد - إنسانا أو غير إنسان - وكأنه قلعة مصمتة الجدران بغير نوافذ تصل داخلها بخارجها، ومن أين تأتي النوافذ إذا كان كل منا «جوهرا» قائما بذاته؟ أنت روح وأنا روح، أو أنت عقل وأنا عقل، أو أنت نفس وأنا نفس، وكل منا ذو كيان مستقل لا يؤثر في غيره ولا يتأثر به، نعم إننا قد نبدو وكأن أحدنا «يكلم» الآخر أو «يتعامل» معه في هذا الشأن أو ذاك، لكن هذا كله التقاء ظواهر بظواهر وقد قلنا إن الظواهر متغيرة، ونحن - في رأيهم - نبحث وراءها عما هو ثابت دائم، وتستطيع أن تصور لنفسك موقفا وصلت فيه «الفردية» - انبثاقا من الفلسفة القديمة والفلسفة الديكارتية على السواء - حدها المتطرف، يجعل الناس مجموعة من الأشرطة السينمائية، كل شريط منها ملفوف على قصة، وما على الأيام إلا أن تبسط هذا الشريط أو ذاك، فيخرج من جوفه ما كان كامنا فيه من أحداث، دون أن يكون لبسط هذا الشريط أي أثر في القصة الكامنة في الشريط الآخر.
إن كلمة «فرد» نفسها - إذا ما أردنا تعريفا دقيقا لها، بناء على النظرة السابقة - تتضمن الاكتفاء الذاتي، وعدم الانقسام؛ لأن ما يعتمد على سواه إنما تنقص فرديته بمقدار ما فيه من ذلك الاعتماد، ولم تكن كلمة «فرد» لتقتصر على أفراد الناس، بل إن كل ما يتألف منه «نسق» مكتمل الأجزاء مكتمل البناء، فهو «فرد» بمعنى الاكتفاء الذاتي الذي أشرنا إليه، ومن أجل هذا ظهر من الفلاسفة المثاليين - ومنهم هيجل - من يقول إنه ما دام الاكتفاء الذاتي لا يتوافر إلا للكون في مجموعه، فليس ثمة إلا فرد كامل واحد، هو الكون، وما عداه من أفراد - هذا الرجل أو تلك الشجرة - ناقص الفردية بمقدار اعتماده على بقية الأجزاء.
لكن الموقف يتغير تغيرا عميقا شاملا، إذا تغيرت نظرتنا الفلسفية بحيث نرى في الأشياء جانب التغير والتبدل والتطور، دون جانب الثبات والدوام، فعندئذ يمتنع البحث عن «جوهر» وراء الظواهر، وتصبح حقيقة الشيء هي مجموعة ظواهره - لكن هذه الظواهر متشابكة، إلى الحد الذي يستحيل علينا أن نفرد كائنا واحدا بمعزل عن سواه ونقول عنه إنه كيان واحد قائم بذاته، فوجودك الجسدي نفسه متوقف على تفاعلك مع ما يحيط بك، تأخذ منه الهواء شهيقا وتخرجه إليه زفيرا، تأخذ منه الماء لتشرب والطعام لتأكل، تأخذ من سواك اللغة التي تتحدث بها، فتجيئك هذه اللغة مثقلة بحضارة وثقافة وفكر وشعور، إذا تكلمت فلسامع، وإذا كتبت فلقارئ، إذا طغيت فعلى إنسان آخر ينصب عليه طغيانك، وإذا خضعت فلكائن آخر تخضع، وإذا تساويت فمع آخر تتعادل كفتك وكفته، إنك لا ترى بالعين إلا إذا كان ثمة شيء يرى وكان ثمة ضوء يقع عليه بأشعته، ولا تسمع بالأذن إلا إذا كان ثمة هواء يتموج، محال أن يكون لك فعل إلا إذا وجدته تفاعلا مع شيء أو شخص سواك، هذه الفردية المزعومة التي توصف وكأنها حصن منيع مصمت الجدران، ينطوي على لب في جوفه يستطيع أن ينعزل أو يستقل، هي وهم لا يمكن تصوره إلا على أساس فلسفة تفترض وجود «الثابت» من خلف المتغير - وهي فلسفة سادت ذات حين، ولم تعد لها سيادة ولا شبه سيادة في عصرنا الراهن.
إن لغة عصرنا في مجال التعبير العلمي، قد أضافت إلى نفسها ألفاظا تقابل بها هذا التصور الجديد، الذي يتعذر عليه أن يتخيل «فردا» إلا وهو في «مجال»، إن علم النفس اليوم قد أصبح «علما» بغير نفس؛ لأنه علم السلوك، والسلوك تفاعل بين السالك من جهة وما ينصب عليه السلوك من جهة أخرى، إن نظرية الجشطلت في علم النفس الحديث تنفي أن يكون هنالك إدراك حسي إلا «لتكوين» من أجزاء، وأما الجزء أو الجزيء فهو مطروح من حساب الإدراك، إن علماء الاجتماع في عصرنا يتحدثون عن «الثقافة» التي تظلل بجوها مجموعة بأسرها من الأفراد، ولما كان الفرد الواحد لا ثقافة له، فليس هو إذن بموضوع يطرح للبحث، الثقافة بحكم تعريفها نفسه حياة مشتركة بين أكثر من فرد واحد، من عرف وتقاليد وأوضاع للعيش، ومن عقائد ومشاعر وأفكار: إنه لا «عرف» بينك وبين نفسك، إنما العرف يكون بينك وبين الناس، ولا «تقليد» منك لنفسك؛ لأن التقليد يكون منك تقليدا لسواك - ممن يعيشون معك أو ممن عاشوا قبلك - ومواضعات العيش تشترط عدة أطراف يتم بينها الاتفاق على صور بعينها من الحياة، ما الذي يثير فيك شعور المرح حينا وشعور الكآبة حينا، إلا أن يكون ذلك على صلة وثيقة بما نشأت عليه من روابط تربطك بالأشياء والأشخاص؟ لا، إن الفردية كما تصورها فلاسفة الماضي، قد ذهبت حين ذهبت نظرة إلى الكائنات تؤمن بالثبات دون التغير، وبالسكون دون الحركة، وبالسرمدية دون السير الانتقالي طورا بعد طور وحالا بعد حال.
لكننا نضل سواء السبيل، إذا محونا فردية الماضي لنترك مكانها خلاء فارغا، فما يزال «الفرد» مسئولا أمام القانون الوضعي وأمام قانون الأخلاق، فمن ذا تسأل إذا لم يكن هنالك فرد معين توجه إليه السؤال؟ إذن لا بد من تصور جديد «للفردية» يحل محل تصور قديم، فإذا كان التصور القديم قد جعل الفرد جبهة وحده تجابه من عداه، فإن التصور الجديد يجعله جزءا مما عداه، فبدل أن نقول (مثلا) الفرد حيال المجتمع، نقول: الفرد في المجتمع، وبدل أن نقول: الفرد بإزاء الطبيعة والبيئة، نقول: الفرد وهو جزء من الطبيعة ومن البيئة، لقد كان المفكرون القدامى يتحدثون عن «الأضداد» وكأن كل «ضد» كيان قائم بذاته يواجه «الضد» الآخر فيقولون: الحار والبارد، والرطب واليابس، والمرتفع والمنخفض، ومن هذا القبيل نفسه أن يقال الفرد والمجتمع، لكن هذه الأضداد قد تحولت عند المفكرين المحدثين إلى حالات من حقيقة واحدة، فالحار والبارد كلاهما «حرارة» ترتفع درجتها حينا وتنخفض حينا، والارتفاع والانخفاض ليسا «شيئين» يواجه أحدهما الآخر ويضاده، بل هما درجتان من مقياس معين واحد نختاره، وكذلك قل في الفرد والمجتمع، فليس هناك الفرد الذي يقف هنا، والمجتمع الذي يقف هناك، يواجه أحدهما الآخر مواجهة الأضداد، بل هنالك جزء في كل، هل يجوز لك أن تقول عن أحد أضلاع المثلث إنه يواجه ويضاد المثلث؟ لا؛ لأنه لا مثلث بغير ذلك الضلع الذي نتحدث عنه، وكذلك لا يكون الضلع ضلعا إلا وهو منسوب إلى مثلث، ومضموم فيه إلى ضلعين آخرين، بحيث يكون من الأضلاع الثلاثة كيان واحد.
ولئن صدق هذا القول عن الأفراد في أي عصر مضى، فهو أصدق ألف مرة بالنسبة إلى عصرنا الراهن؛ لأنه عصر التجمع والتكتل بصفة خاصة، هو عصر «الشركات» في عالم التجارة، وعصر «المصارف» في عالم المال، وهذه وتلك يملكها الشعب كله أو جزء كبير منه، وعصر «جمعية الأمم» و«الاتحادات» في عالم السياسة، إنه لا يكاد يمضي يوم من عصرنا إلا وقد انعقد «مؤتمر» هنا أو هناك من أنحاء الأرض، لا، بل إن عصر الفردية التي تحتكر لنفسها كل شيء قد انقضى حتى في عالم الفكر والفن، فالبحث العلمي لا يقوم به «فرد»، بل تقوم به جماعة في معمل أو في معامل متعاونة، والصحيفة اليومية أو الدورية لا يحررها «فرد» والإذاعة لا ينفرد بها متحدث واحد، كان يمكن في عصر الزراعة اليدوية أن نتصور الزارع وحيدا في مزرعته يحرثها ويرويها ويبذر فيها البذور ويتعهد نباتها ثم يحصد ثمارها، أما في عصر الصناعة - والزراعة تتحول إلى زراعة بالصناعة - فلا يتم مصنع بعامل واحد، كان الفنان فيما مضى لا يبيع فنه في السوق، وإنما ينتج الفن لشخص معين يرعاه، فكان يمكن عندئذ تصوره في حياة فردية إلى حد ما، أما اليوم فهو بحاجة إلى جمهور ينفعل بفنه ليشتري ثمرات فنه، بل ماذا أقول في هذا العصر الذي ازداد فيه التجمع والتكتل؟ أأقول ما قد قاله سواي من أنه حتى الجريمة في عصرنا هذا لم تعد فردية، وإنما أصبحت نشاطا يتفق على القيام به «عصابة» بأسرها، لقد انهارت خصوصية الحياة الفردية، لا لأن شيئا جميلا قد ذهب ليحل محله شيء قبيح، بل لأن ضربا من الحياة قد انقضى ليحل محله ضرب آخر، ونظرة فلسفية معينة قد اختفت لتظهر مكانها نظرة فلسفية أخرى، كان السكن في عهد الزراعة خاصا للأسرة الواحدة، فجاء عهد الصناعة وحياة المدن ليقيم العمارة الواحدة تسع عشرات الأسر، كان الانتقال يتم للفرد الواحد بأن يمتطي ظهر دابة لا يشاركه فيه شريك، ثم جاءت السيارة الخاصة لتحل محل الدابة، لكن روح العصر تحملنا بخطوات سريعة إلى أن تحل وسائل الانتقال الجماعية، محل الوسائل الخاصة، فيكون القطار لمئات الركاب، والسيارة العامة لعدد كبير من الناس دفعة واحدة، ولم يعد الفرد الواحد يلهو في ساعات فراغه بما يعجبه وهو منعزل عما يشاركه الناس فيه؛ لأن وسائل اللهو من سينما وراديو وتلفزيون قد حتمت على الفرد أن يشترك مع مئات أو مع ألوف في الطريقة التي يقضي بها وقت الفراغ ... أصبح هناك «الرأي العام» الذي تكونه وسائل النشر المشتركة والأحداث المشتركة، مع أن «الرأي» كان لا ينسب إلا لفرد واحد هو صاحبه.
كانت البناءات الفكرية فيما مضى بناءات فردية، بمعنى الفردية الذي كان يتسق مع روح ذلك الماضي؛ ولهذا تستعرض تاريخ الفكر فتجدك أمام قمم، تقف القمة منها إلى جوار القمة الأخرى: أفلاطون، أرسطو، كانت ... إلخ، وحتى إن سارت طائفة من المفكرين مع علم من هؤلاء الأعلام، فهو سير التابعين لشيخ الطريق، لا سير المتعاونين على حل قضية واحدة كما يتعاون علماء التجارب المعملية اليوم على مشكلة واحدة حتى يفض إشكالها، وكانت حركات الإصلاح الاجتماعي في أيدي رواد أفراد، كما كانت الفتوحات العسكرية تدور حول مطامع هذا القائد العسكري أو ذاك: جنكيز خان، هانيبال، الإسكندر، نابليون ... وكانت الكشوف والرحلات يجوبها أفراد، وهكذا في كل منحى من مناشط الحياة، تجد «الفرد» ذا «الجوهر» الفريد الذي كانوا يعرفونه بعدم التعدد والانقسام.
وتغير العلم، فتغيرت الفلسفة، فتغيرت نظرات الناس إلى العالم بما فيه من كائنات حية وجامدة، فتغيرت معاني فكرات رئيسية أساسية، كان من بينها فكرة «الفردية»، فأصبح الفرد مجموعة علاقات، بعد أن كان عنصرا فريدا كافيا لذاته بذاته، ومستقلا بنفسه عما عداه، ولن يزول عن إنسان العصر ما يعانيه من قلق واغتراب وضياع، إلا إذا زالت مفاهيم الحياة الماضية من محيط الحياة الراهنة، إنني أكرر - ولا أمل من التكرار - بأننا جميعا نعيش في القرن العشرين بكثير جدا من مفاهيم القرن العاشر نعيش في عصر الصناعة والعلم، بمفاهيم ما قبل الصناعة والعلم، ومن هنا يأتي التمزق والتفسخ والحيرة: نعيش في عالم ونفكر في عالم آخر.
إنك ما تزال تسمع قائلا يقول عن الدافع الفردي وما أنتجه من ثراء للأفراد وللأمم وللعالم أجمع، ووجه المغالطة الكبرى في مثل هذا القول، هو أن غزارة الإنتاج الصناعي وازدياد التقدم الحضاري إنما يرجعان أساسا إلى الكشوف العلمية، التي خلقت تقنيات (تكنولوجيا) الآلات، وهذه بدورها فعلت ما فعلت في تغيير وجه الحياة، فإذا جاء رجل الأعمال «الفرد» يقيم الصناعة ويجمع من ورائها المال، فحقيقة الموقف عندئذ لا تكون أن ذلك الفرد قد صنع بدوافعه الفردية ما صنع ، بل الذي صنع هو البخار والكهرباء والقوة الذرية، والذي عرف كيف تستخدم هذه الأشياء هو عالم الطبيعة، والعلم جماعي دائما - كما ذكرنا - يتعاون على حل مشكلاته جماعات متعاونة من الباحثين، إن كل ما فعله رجل الأعمال في هذه الحالة هو تغيير في توزيع الثروة التي تنتجها الآلة، فبدل أن تكون تلك الثروة في عدد من الأكوام، تتجمع عنده في كومة واحدة، فالثروة «القومية» لا تزيد على يديه، بل الذي يزيد على يديه هو ثروته، وهنا كثيرا ما يقع الكتاب والشعراء في خطأ، فيظنون أنه ما دامت الآلات في عصر الصناعة قد أدت ما أدت إليه من تفاوت بشع في التوزيع، فسحقا لهذه الآلات وعصرها، وما كان أجمل الزراعة في ريف هادئ، ربما تفاوتت فيه الدخول، لكن حسب الناس عندئذ صلتهم بالطبيعة، وهي الأم الرءوم، هكذا قد يكتب الكتاب وقد يتغنى الشعراء، في سبيل مقاومة الآلات والمصانع، لكن الذي يفوتهم في هذا كله، أن الآلات ما هي إلا بمثابة القوة المخزونة، تطلقها من عقالها فتفعل لك الأعاجيب، كما أردت لها أنت، لا كما أرادت لك هي، وليس الذنب ذنبها إذا اخترت لها أن تكدس المال في فرد واحد دون سائر الأفراد.
أما بعد، فهل بعدنا عن موضوعنا الذي أردنا أن ندير حوله الحديث، وهو طراز الفردية الذي يتفق وظروف عصرنا، التي من أهمها العلم والصناعة؟ فربما سبق إلى ظن القارئ أنني بما قدمته أقول إن لا فردية بعد اليوم، وليس ذلك هو مبدئي، بل ولست أتصور كيف يكون ذلك؛ لأنني «فرد» وأنا أكتب هذه الصفحات نفسها، لم أشرك معي أحدا في كتابتها، وأنا «فرد» حين أختار من الكتب ما أقرأ، ومن المسارح ما أرتاد، ومن مطارح الطبيعة، أو من ندوات المدينة ما أقضي فيه وقت الفراغ، فليس إذن سؤالي هو: هل تكون فردية أو لا تكون؟ إنما السؤال هو: بأي معنى نفهم الفردية؟
ولكي أجيب عن السؤال، رأيت ألا مناص من عرض فكرة الفردية كما كانت، حين كان ينظر إلى الإنسان - وإلى غيره من الكائنات - من باطن لا من ظاهر، فيرى وكأنه «جوهر» ثابت يدوم ما دامت الحياة، بل وإلى ما بعد الحياة، وأما ما يبدو لأعين الناظرين من سلوكه الظاهر المتغير لحظة بعد لحظة، فكان يغض عنه النظر، باعتباره عرضا زائلا؛ ولذلك لم يكن ثمة تناقض بين أن يكون الإنسان فردا، وأن ينعزل راهبا في صومعة، لا بل إن الفردية بمعناها ذاك، لم يكن يؤكدها شيء بمقدار ما يؤكدها مثل ذلك الاعتزال الزاهد.
لكننا نغير النظرة إلى الإنسان وسائر الكائنات، فنجعل «الفرد» خطا متصلا من حوادث، كل حادثة منها متصلة بغيرها بمجموعة من علاقات، وبهذا يكون الفرد تاريخا تتعاقب فيه الأحداث بكل ما يربطها بمحيطها من روابط، فيصبح الفرد «مجموعة» صغرى مندمجة في مجموعات أكبر، ولا تكون ثمة فردية إلا ويمكن ردها إلى «معية» (من كلمة «مع») بمعنى أنك لا تعرف فردا إلا إذا عرفت مصاحباته ومتعلقاته، أي أنك لا تعرف فردا إلا مرتبطا بماض وحاضر ومستقبل، مرتبطا بأسلاف أنسلوه وبأسرة تعايشه وتعاصره - والأمة أسرة كبيرة - مرتبطا بأهداف مقبلة يتعاون في تحقيقها مع سواه.
علم جديد قوامه ذرة لا تفهم إلا على صورة مركبة من أطراف كثيرة وما بينها من علاقات رابطة، وفلسفة جديدة تساير العلم الجديد، قوامها تذويب «الجوهر الفرد» إلى أحداث سلوكية، كل حدث منها لا يفهم إلا وهو جزء من مجال، مرتبط بموقف، فيه ناس آخرون وأشياء أخرى يتصل بها وتتصل به، واقتصاد جديد يتمشى مع العلم والفلسفة الجديدين، قوامه المشاركة في المصنع والمتجر والمزرعة، ومجتمع جديد ينبني على ذلك كله، ويكون أقرب في صورته إلى الكائن العضوي المرتبط الأجزاء والأعضاء، منه إلى كومة الغلال التي لا ترتبط فيه حبة بحبة أخرى إلا بالتجاور في المكان، وفردية جديدة تجعل الفرد جزءا من نسيج المجتمع، كاللفظة الواحدة لا يتم معناها إلا وهي في عبارة تشملها وتشمل غيرها في بناء محكم الروابط والصلات.
الفرد، والمواطن، والإنسان
أما أن العالم قوامه - آخر الأمر - أفراد، فذلك ما لست أشك فيه لحظة واحدة، بل إنه ليأخذني العجب كلما صادفت أحدا ممن يشكون فيه، حتى لتراني - عندئذ - أوقن بيني وبين نفسي، أننا لا بد متحدثان عن أمرين مختلفين، بلغتين مختلفتين، وإن ذهب بنا الظن الواهم أن موضوع الحديث واحد، وأن لغة التفاهم واحدة، فدفاتر المواليد وحدها شاهد حاسم بأننا - عند الدولة وعند الناس - محسوبون أفرادا، لكل فرد منا اسمه الخاص، وساعة ميلاده الخاصة، من والدين معلومين، وعلى كل فرد منا - بمفرده - تقع التبعة الخلقية أمام ضميره وأمام الله وأمام الناس، عما يقول وعما يفعل، كما تقع عليه التبعة الجنائية أمام القانون، وإن المجتمع ليكافئ من أبنائه الفرد المحسن من حيث هو فرد، ويعاقب الفرد المسيء من حيث هو فرد كذلك.
فإذا كان الأمر بهذا الوضوح كله، فكيف - إذن - يقع في الرأي اختلاف؟ أغلب ظني أن موضع الخلاف إنما هو في طريقة فهمنا لكلمة فرد، لا في طريقة سلوكنا الفعلي في مواقف الحياة العملية، وحسبك - لكي تعلم أن أصحاب الرأيين جميعا متفقون على سلوك واحد - أن تجد هؤلاء وأولئك معا يلجئون في نشر الرأي الذي يرونه، إلى الكتابة أو إلى الخطابة، أو إلى أية وسيلة أخرى من وسائل النشر، مما يدل على أن كليهما سواء، في الرغبة في الاتصال بالناس، ولو كانت «الفردية» معناها عند فريق منهما عزلة تفصل صاحبها عن المجتمع، لما لجأ إلى نشر رأيه في هذا المجتمع نفسه، وبنفسه الطريقة التي يلجأ إليها الفريق الآخر.
إن ثمة اختلافا جوهريا بين منطق الفكر القديم ومنطق الفكر الحديث، في تصورهما «للفرد» - وهو اختلاف لو ألقينا عليه الضوء، لأمكن أن تتقارب وجهتا النظر بين «الفرديين» وغير الفرديين، فقد كانت الفردية قديما تعني ذاتا غير منقسمة، كأنما هي كيان قائم بذاته، لا يعتمد في وجوده على سواه، حتى ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذه الفردية لا تتحقق ولا تكتمل إلا في الوجود كله مأخوذا على أنه وحدة واحدة، ولكن من الفلاسفة كذلك من كان يعدد الذوات المفردة دون أن يجد في هذا التعدد تناقضا، على أن هؤلاء وأولئك لتركيز اهتمامهم على النواة التي يمكن تصورها مستقلة بذاتها، لم يوجهوا إلا قليلا من اهتمامهم إلى «العلاقات» التي تربط الذوات بعضها ببعض، وإنه لمن الفوارق الرئيسية بين الفكر الحديث والفكر القديم، أن الفكر الحديث كاد يرد كل شيء وكل فرد إلى مجموعة من علاقات، على خلاف الفكر القديم الذي كان أميل إلى النظر إلى الشيء المعين أو إلى الفرد المعين وكأنه وحدة قائمة برأسها، خذ - مثلا - فكرة «الذرة» قديما وحديثا، فربما اتفق مفكر قديم (مثل: ديمقريطس) ومفكر حديث على أن العالم مركب من ذرات، لكن الاختلاف بينهما يبدأ حين تناقشهما في معنى «الذرة»، فعندئذ تجد التصور القديم هو أن الذرة الواحدة كيان مصمت مستقل قائم بذاته، هي «جوهر فرد» كما كان يقال، وأما التصور الجديد فهو - كما نعلم - يخلخل الذرة إلى كهارب سالبة وكهارب موجبة، أهم ما فيها «العلاقات» التي تربطها بعضها ببعض.
هكذا نجد الفكرة عن «الفردية» قد تغيرت، فبعد أن كانت تدل على وحدات مستقل بعضها عن بعض كيانا ووجودا، أصبحت تدل على «علاقات»، من مجموعها يتكون هذا الذي نسميه فردا، دون أن يصح القول بأن الفردية قد زالت وانمحت، إذ الذي تغير هو المعنى الذي نفهم به الكلمة، وعلى أساس المعنى الجديد، الذي نفهم به الفردية على أن قوامها علاقات، نجد أن «الأفراد» - أو إن شئت فقل «المفردات» - تتفاوت سعة وضيقا، فإسماعيل الطالب بكلية الآداب «فرد»، ثم كلية الآداب بكل طلابها «فرد»، ثم جامعة القاهرة بكل ما تضم من كليات مختلفة «فرد»، ثم القاهرة بكل ما تزخر به من الأشياء والأحياء «فرد»، وهكذا وهكذا تستطيع أن توسع من نطاق «الفرد» توسعة قد تنتهي إلى ضم الإنسانية كلها في حقيقة واحدة.
ولكي تفهم ما نعنيه بقولنا إن «الفرد» في التصور الحديث هو مجموعة علاقات، اختر من شئت من أفراد، وحاول أن توسع علمك به لتلم بحقيقته، تجد أنك - عندئذ - قد أصبحت أمام شبكة متشابكة الخيوط من علاقات، تمتد بك في كل اتجاه، فعلمك بهذا «الفرد » يزداد إذا علمت ابن من هو؟ ومن أفراد أسرته؟ وأين يسكن؟ وماذا يعمل؟ ... إلى آخر ما يتصل به من أشخاص ومن أمكنة ومن أشياء، إذا استطعت أن تصل في هذا كله إلى آخر.
إنها تفصيلات وتفصيلات لا أول لها ولا آخر، كل تفصيلة منها تنطوي على علاقة تربط «الفرد» بشيء معين أو بشخص معين، أو بنقطة معينة من مكان أو بلحظة معينة من زمان، ومن مجموع هذه التفصيلات يتكون «هذا الفرد»؛ لأن هذه التفصيلات هي تاريخ حياته، هي «سيرته» التي سارها خطوة خطوة، ويوما يوما، لكن مجموعة التفصيلات التي تؤلف سيرة حياة، هي مجموعة فريدة متفردة، يستحيل عمليا ونظريا، أن تتكرر مرتين في فردين على طول الزمان وامتداده وعرض المكان واتساعه.
ومن هنا كان «تفرد» الفرد الواحد هو بما لا يشاركه فيه فرد آخر من حيث مجموعه الكلي، ولكن من هنا كذلك كان ارتباط الفرد بسواه حتما وضرورة، إذ ما دامت حقيقة مجموعة «علاقات»، فلا بد أن تكون هنالك أطراف أخرى يتعلق بها، وهذه الأطراف الأخرى قد تكون أشياء - فتكون ما نسميه بالبيئة الطبيعية - وقد تكون أناسا من أهل وجيرة وأصدقاء وغير ذلك، ومن هؤلاء من هو حي، ومنهم من مات فأصبح جزءا من تاريخه - ومن هؤلاء وأولئك تتكون بيئته الاجتماعية، ثم تمتد البيئتان الطبيعية والاجتماعية إلى حدود معلومة فيكون الوطن، وإلى غير حدود فيكون العالم وأسرته الإنسانية بأسرها.
كلام واضح وبسيط إلى حد السذاجة، لكنه يزيل أكثر الخلاف بين الرأيين في «الفردية» و«الجماعية» فالقائلون بالأولى يقصدون ما في مجموعة العلاقات المكونة للفرد الواحد، من تفرد لا يتكرر في سواها، والقائلون بالثانية يقصدون ما في قوام الفرد الواحد من علاقات تربطه بسواه، والجانبان - كما ترى - مرتبط أحدهما بالآخر أشد ارتباط وأوثقه، ولقد كان هذا الارتباط لتنفصم عراه، لو أمكن للفرد أن ينعزل انعزالا تتقطع معه كل صلاته بالآخرين، لكن تصور هذه العزلة - مجرد التصور - أمر محال، وإذن تصبح المسألة تفاوتا في درجة التوشج والتشابك، فمن الناس من تزداد وشائجه وصلاته، ومنهم من تقل في حياته هذه الوشائج والصلات، على أن هذا التفاوت لا يعني إلا تفاوتا في غزارة الحياة وخصوبتها بين الأفراد.
فإذا اتفقنا على أن العالم قوامه أفراد - مع اتفاقنا على أن الفرد ينحل إلى شبكة من علاقات تربطه بالأشياء والأحياء من حوله - فقد اتفقنا في الوقت نفسه على أن لكل فرد محلا من مكان ولحظة من زمان، بهما تتعين حدوده ويتحدد وجوده، فليس منا من يعيش خارج مكانه وزمانه، مهما شطح به الوهم وطار الخيال؛ لأن وهمه هذا أو خياله هو «حالة» نفسية أو ذهنية قائمة راهنة، فهو دائما «هنا» و«الآن»، إذا أعاد الماضي بذاكرته، فقد أصبح الماضي عنده «حاضرا»، وإذا تشوف المستقبل بخياله، فقد ارتد المستقبل «حاضرا» كذلك.
ومعنى ذلك أننا «محليون» ليس لنا من «المحلية» فكاك، فإذا تحدث منا متحدث، أو كتب كاتب، جاء ما يتحدث به أو ما يكتبه مرتبطا بمحله الذي يعيش فيه، وبلحظته التي يحياها، والرابطة هي اللغة التي يستخدمها في حديثه أو كتابته - على أقل تقدير - إن لم تكن كذلك هي المضمون الذي تحمله تلك اللغة في طيها، لا، بل إن هذا المضمون نفسه ليتأثر باللغة التي تحمله تأثرا شديدا؛ لأن اللغة ليست مجرد ترقيمات خاوية، بل هي أوعية مليئة بخبرة أصحابها على مر تاريخهم، ومن هنا كانت ترجمة المضمون من لغة إلى لغة أخرى ضربا من المحال، اللهم إلا على سبيل التقريب (وتخرج من هذا الحكم العام حقائق العلم التي تصاغ في رموز غير لغوية) وقل أية جملة شئت، مهما بلغت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغة أخرى، تجدك قد اضطررت إلى نقص هنا وزيادة هناك، مما تقتضيه «ثقافة» تلك اللغة الأخرى، قل مثلا: ثم انقل هذا المعنى إلى الإنجليزية «الكتاب على المنضدة»
The book is on table ، تجد هنا كلمة دالة على «الكينونة» - هي كلمة
is - لا يناظرها شيء في التركيب العربي، ولكي تعلم خطورة هذه الإضافة التي قد تبدو لك تافهة يسيرة، فلتعلم أن وراء هذه الكلمة من الدلالات الثقافية ما صدرت فيه - ولا تزال تصدر - مؤلفات بعد مؤلفات، فما بالك إذا لم تكن الجملة المراد نقلها بهذه البساطة كلها، وكانت مما يحمل في ألفاظه وفي طريقة تركيبه انفعالات وعواطف، أعني مما يحمل شعرا أو عقيدة؟
نعم إننا محليون، ليس لنا من المحلية فكاك، بحكم اللغة التي نتحدث بها، وما يتعلق بألفاظها من مضمونات ثقافية تتصل بتاريخنا وبواقعنا، ولا غرابة أن تكون اللغة أقوى العوامل جميعا، التي تتحدد بها «القومية»؛ لأنه إذا اختلف قوم عن قوم في اللغة، فقد اختلفا كذلك في الحصيلة الثقافية التي ينظران بها إلى الحياة بأسرها، وسؤالنا الآن هو هذا: مع اعترافنا بأن الترجمة من لغة إلى لغة أخرى هي دائما نقل على وجه التقريب فحسب، فهل يمكن لجماعة من الناس أن تنقل ثقافتها إلى جماعة أخرى، عن طريق الترجمة، بحيث تصبح الثقافة المنقولة في لغتها الجديدة مثيرة لاهتمام الجماعة المنقول إليها، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الشروط التي لا بد من توافرها ليكون للثقافة المنقولة هذه القوة؟ ونعيد هذا بعبارة أبسط فنقول: هل يمكن للفكر والأدب المحليين أن يصبحا فكرا وأدبا عالميين؟ ومتى يكون ذلك؟
إنه ليبدو لي أن المسألة المطروحة هنا تكون أوضح ظهورا، إذا وضعناها في أصغر نطاق ممكن لها، فنقول: متى يتحدث الإنسان عن نفسه، فإذا بحديثه هذا يثير اهتمام الآخرين، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون من بني قومه الذين يتكلمون لغته ويتثقفون بثقافته؟ أحسب أن اهتمام هؤلاء الآخرين يتحرك لحديث المتحدث، إذا كان لهذا الحديث علاقة بحياتهم على أية صورة من الصور؛ لأنه بغير هذه العلاقة، يصبح المتكلم وكأنه يتكلم بلغة يفهمها هو وحده، وإنما يكون لحديث المتحدث علاقة بحياة السامع من أحد وجهين، أو من كلا الوجهين معا: أولهما أن يجيء الحديث كاشفا عن حقيقة صاحبه، فيعلم السامع أي نوع من الناس يكون هذا المتحدث، ليعلم - بالتالي - كيف يعامله في الحياة المشتركة بينهما، وثانيهما أن يجيء الحديث كاشفا للسامع عن حقيقة نفس السامع ذاته، بحيث يخيل إليه أن المتحدث إذا تحدث عن إنسان ما، فهو إنما كان يتحدث في الوقت نفسه عن السامع؛ لما بينهما من تشابه في الطبع والتكوين، ومن هنا نستطيع أن نصوغ التعميم الآتي: إذا تكلم متكلم عن حالة محلية خاصة، ثم وجد الناس - من قومه ومن سائر الأقوام - أن هذه الحالة برغم محليتها وخصوصها، هي حالتهم كذلك، فإن كلام المتكلم حينئذ يجاوز محليته وخصوصه، ليصبح عاما مشتركا في كشفه عن جانب من طبيعة الإنسان، أنى كان وأينما كان.
لقد يسهل على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، أو عن سواه، حديثا يروي به ما شاء من أحداث، لكن العسير هو أن يجيء حديثه هذا حاملا من دقائق الحياة الفردية ما يجاوز نطاق الفرد المروي عنه، ليصبح ذا دلالة إنسانية عامة، فما أهون على الإنسان أن يروي عن أحد الأفراد أنه تزوج من امرأة أحبها وأحبته، لكن ما أصعب أن يقع الراوي على حادثة يتزوج فيها الابن من أمه وهو لا يعلم أنها أمه، وكل ما يعلمه أنها امرأة أحبها (قصة أوديب)، فعندئذ تمتلئ الحادثة بالدلالة الإنسانية؛ لأنها تكشف عن طبع أصيل في جبلة الإنسان، وهو هذه العلاقة الغريزية بين الابن وأمه، أقول: ما أصعب أن يقع الراوي على حادثة كهذه ، إما من الواقع المحيط به، أو من خلق خياله المنبني على علمه بسر الحياة الإنسانية، ذلك السر الذي قد يخفيه الواقع الظاهر وراء أقنعة من التحريمات الاجتماعية، فها هنا لا تكون الحادثة المروية منحصرة في حدود مكانها وزمانها، بل تجاوز تلك الحدود لتصبح كاشفة عن الطبع المستقر الراسخ بغض النظر عن المكان والزمان.
وما أهون على الإنسان الراوية أن يروي عن أب يحب بناته حبا يحفزه إلى قسمة أملاكه بينهن قبل أن يستوفي الأجل، ولكن ما أصعب أن يقع هذا الراوية على حادثة يرد فيها البنات على مكرمة الوالد بمثل ما ردت بنات الملك لير على صنيعه (في مسرحية الملك لير لشكسبير) من نكران للجميل نكرانا أبرز الطبيعة الإنسانية على حقيقتها، إن الراوية الذي لم يرزق موهبة الأديب في قدرته على النفاذ إلى أعماق الطبيعة الإنسانية، قد يخدعه ما يدور على الألسنة من عبارات مصكوكة جاهزة، يتناقل فيها الناس ما بين الوالد والولد من حب متبادل، لكن الأديب الموهوب النافذ البصر، هو الذي ينفخ هذه القشور الظاهرة على السطح، لينظر إلى الراسخ وراءها، أهو حب صاف أم هو حب مشوب بكراهية، وعطف مختلط بالمنافسة والحسد والنفور؟ أيا ما كانت الحال، فإن من يكشف للناس عن هذا السر الإنساني الراسخ وراء السطح الظاهر، فإنما يكشف لهم عن حقيقة لا تتقيد بمكانها وزمانها، بل تتعدى ذلك إلى التعميم الشامل الذي يكشف عن فطرة الإنسان من حيث هو إنسان.
وما أهون على الإنسان الراوية أن يروي عن عالم فذ من علماء الطبيعة، كيف يعيش حياته العلمية في وقار العلماء، حتى ليحسبه تلاميذه وخلصاؤه أنه إلى خصائص الملائكة أقرب منه إلى خصائص البشر، لكن ما أصعب أن يقع هذا الراوية في حياة هذا العالم على حقيقة عجيبة، وهي احتفاظه في مكتبته ببعض الكتب التي تخاطب الغريزة في أحط دركاتها، لينفس عن نفسه بها أثناء خلوته (اقرأ قصة «العبقري والإلهة» لأولدس هكسلي)، ففي الكشف عن مثل هذا الضعف وأمثاله في طبيعة البشر، ما يبصر الإنسان بحقيقة نفسه، كائنا من كان ذلك الإنسان، وإني لأذكر قصة رواها لي صديق عن أستاذين من أجل أساتذته - ومن أجل من نعرف من أساتذة - خيل إليه عنهما، حين لم يكن يراهما إلا في قاعات الدرس، وبين الكتب وفي غمار البحث العلمي، خيل إليه أنهما صنف من الكائنات يستغني عما يضطر إليه سائر الناس من طعام وشارب، حتى كان ذات يوم، رآهما معا - وكانا صديقين متلازمين - يمصان القصب في جانب من الطريق العام، فهاله ما رأى لأنه لم يكن يتوقعه، لكنها الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من رفعة وانخفاض ومن قوة ومن ضعف، إذا كشف لنا عنها كاشف، جاء كشفه هذا متخطيا لحدود المكان والزمان.
لماذا انتشرت حكايات ألف ليلة وليلة، في أرجاء العالم أجمع، لا تنحصر في عصر بعينه، ولا في أمة بذاتها، ما لم تكن قد بسطت في حوادثها كثيرا مما تنطوي عليه النفس البشرية حين تنساب في أحلاك يقظتها فيما هي محرومة منه؟ إن هذه النفس - لا سيما إبان المراهقة - إذا كانت تعاني فقرا في العيش، وحرمانا من لذائذه، راحت تمزق بخيالها جدران القصور، لترى هناك الموائد قد مدت بأشهى الطعام، والأماسي قد زخرت بأجمل النساء، فإذا وقع قارئ مراهق - بحكم السن أو بحكم الطبع - على هذه السرحات التي لا تصدها حوائل، لا من المجتمع ولا من الطبيعة، فبساط الريح ينقله أينما أراد، والخاتم السحري ينقل إليه كل ما شاء، فإذا هو يحيا حياة يتمناها ولا يجدها، فإنه مستمتع بما يقرأ، بغض النظر عن الجنس والوطن واللغة والعصر الذي يعيش فيه.
فتحدث كيف شئت عن نفسك، أو عمن حولك، حديثا تغترفه من الواقع الفعلي، أو من خلق الخيال، فأنت بالضرورة «محلي» في نوع التفصيلات التي تسوقها، لكنك تجاوز هذه المحلية إذا كشفت للناس عما لم يكونوا قد رأوه من أنفسهم، ثم يلمحون فيه الصدق بمجرد روايته لهم.
وليس الأمر في ذلك مقصورا على الأدب، بل إنه ليشمل سائر ضروب الفكر والفلسفة والسياسة والفن، ولنبدأ حديثنا بالفن من تصوير ونحت، فلئن كان الأدب مرتكزا على اللغة، التي هي بدورها مشحونة بالخبرة المحلية إلى الدرجة التي يتعذر نقلها كاملة إلى أية لغة أخرى، وبذلك لا يتاح للأدب أن يتخطى حدوده المحلية تخطيا كاملا، إذ لا بد أن يبقى منه جزء لصيق بأرضه وبأهله، فإن الفن التشكيلي من نحت وتصوير متحرر من هذا القيد؛ لأنه لا يحتاج من متذوقه إلا إلى الرؤية المباشرة، وبلمحة بصرية نافذة، يجوز للفن المحلي أن ينتقل كاملا إلى المتذوق من أي موطن جاء ومن أي عصر، إن كل صورة وكل تمثال مما تركه لنا الفنان المصري القديم، يجسد الروح المصرية الفرعونية تجسيدا لا تخطئه حتى النظرة السريعة العابرة، فتنتقل قيمه الفنية كلها إلى الإنسان الرائي، لا تحول دون ذلك حواجز المكان والزمان، وكذلك قل في الفن الإسلامي، وما ينطبع به من طابع يميزه في كل جزء منه، وكذلك قل في كل فن أصيل، من فنون الشرق والغرب والشمال والجنوب، فالحدود المحلية تذوب ذوبانا بحيث يصبح - بالإضافة إلى كونه حاملا لكافة الخصائص المحلية - فنا يتذوقه كل إنسان، وهل حال شيء دون أن يستوحي الفن الحديث الفن الأفريقي بكل ما فيه من بساطة ورمز وتجريد؟ ولك أن تقول ذلك وأكثر منه بالنسبة إلى الموسيقى، فقد يكون العزف أفريقي المنشأ، فيرقص له الإنسان النشوان في كل مكان.
والفلسفة على ما فيها من موضوعية وتجريد يحررانها من قيود مكانها وزمانها، حتى ليصغي إلى الفيلسوف سكان الأرض جميعا، وفي كل العصور بغض النظر عن موطنه وعصره، فإنها مع ذلك متأثرة بمكانها وزمانها تأثرا يجعل الفلسفة في إنجلترا غيرها في فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو الروسيا، أريد أن أقول إن الفيلسوف برغم موضوعيته في النظر، متأثر بطابع قومه في التفكير، ومع ذلك فلأنه يعكس في فلسفته خصائص العقل الإنساني من إحدى نواحيه، فهو مقروء في غير أرضه وفي غير أمته، وإذن فالعبرة دائما هي في الوقوع على جذر عميق من جذور الفطرة الإنسانية، ثم دقة التعبير عنه وصدق التصوير والتحليل، وذلك وحده كفيل للأثر الفكري أو الأدبي أو الفني بأن يجاوز حدود الإقليمية إلى حيث الإنسانية كلها، مع احتفاظه بكل خصائص الإقليم.
وانتقل من مجال الأدب والفن والفلسفة إلى مجال الفعل، تجد الظاهرة نفسها، ولنأخذ مثلا من ضروب الفعل ثورات الشعوب، فكم من شعب ثار داخل إقليمه على هذا أو ذاك من أوضاعه التي أثارت فيه الغضب، ولكن ما كل ثورة تجاوز حدود إقليمها إلى غيره من الأقاليم؛ وذلك لأن من الثورات ما ليس يحمل من القيم إلا ما يهم أهل إقليمه وحده، كأن يثور الثائرون على حاكم بعينه، حتى إذا ما تبدل حاكم بحاكم انتهى الأمر، لكن من الثورات كذلك ما هو مترع بالقيم الإنسانية، التي من أجل تحقيقها قامت، والقيم الإنسانية لا تخص إقليما دون إقليم ، فسرعان عندئذ ما تطغى موجتها عبر حدود وطنها، لتجتاح غيره من الأوطان التي تتعطش للقيم الجديدة ذاتها، وكانت تنتظر القيادة لتنفجر، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تجيء القيادة الثورة من داخل أو من خارج، وما الرسالات السماوية في الديانات إلا ثورات من هذا القبيل، جاءت لتستبدل قيما بقيم، وضربا من الحياة بضرب؛ ولذلك لم تقتصر رسالة منها على إقليمها، بل امتدت كلها حتى شملت رقعة فسيحة من الأرض، في هذا الاتجاه أو ذاك، وكذلك الحال بالنسبة للثورات السياسية، فالثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة المصرية كلها من ثورات القيم، التي لا تكاد تنبثق في مكان، حتى تجد الأشياع في كل مكان.
ليس في الجمع بين المحلية والعالمية سر ملغز، فسره مكشوف واضح، وهو العثور على أصل من أصول الفطرة البشرية - في قوتها أو في ضعفها - من حيث الذوق، والشعور، أو منطقية الفكرة، أو القيم، وفي كل حالة من هذه الحالات ينضح الكاتب أو الفنان أو السياسي أو الفيلسوف، من بيئته المحلية، إذ لا يسعه غير ذلك، ثم يتوقف الأمر في عالمية الإنتاج على مضمونه: فهل يمس فطرة الإنسان في أصل من أصولها؟ وإن الفطرة البشرية لهي من الخصوبة والغنى بحيث لا يستنفدها الأدب والفكر في أمة واحدة أو في عصر واحد، فهي قد تعلو إلى معارج الملائكة في روحانيتها وصفائها، وقد تسفل إلى مهاوي الشياطين في خبثها وخستها وشرها، وإنه ليكفينا من المفكر أو الأديب لمحة صادقة واحدة، يضيء لنا لها جانبا مظلما من هذا العالم الرحيب، فإذا ما فعل ذلك ووفق فيه، اجتاز من فوره حدود مكانه وزمانه ليرحب به العالم أجمعين.
لكنني أتساءل ها هنا: لماذا نقرأ نحن هنا في الوطن العربي لأدباء العالم ومفكريه - وبخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية - أكثر ألف ألف مرة مما يقرأ ذلك العالم لأدبائنا ومفكرينا؟ لماذا اجتاز أدبهم وفكرهم حدود المحلية ليصبحا أدبا وفكرا عالميين، ولم يجتز هذه الحدود أدبنا وفكرنا، حتى ليقرأ بعضنا لبعضنا وكأننا نتهامس في غرفة مغلقة، لقد وفقنا في ثورتنا السياسية والاجتماعية أن نجعلها ثورة إنسانية تتأثر بها بلاد كثيرة جدا في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كأننا كنا نثور لهم ولنا في آن واحد، لكونها ثورة تقوم على قيم ومبادئ، فلماذا يخوننا التوفيق في دنيا القلم؟ ألأن الأدب والفكر عندنا لم يستطيعا لمسة الإنسان من حيث هو إنسان، واقتصرا على المواطن وعلى الفرد من جوانبهما التي لا تعمق حتى تمس جذور الفطرة المشتركة العامة؟ أم أنها هي اللغة التي نكتب بها، والتي قلما تجد من يترجمها إلى لغات أوسع انتشارا؟ إننا نحن الذين نترجم لأنفسنا من اللغات الأخرى إلى لغتنا العربية، فهل يطلب منا كذلك أن نترجم لأنفسنا من لغتنا العربية إلى اللغات الأخرى؟ يخيل إلي ألا مناص لنا من أن نفعل ذلك، برغم أن الأقرب إلى الطبيعي أن ينقل عنا الراغبون فينا، كما هي الحال دائما في حركات النقل الثقافي صغراها وكبراها على السواء.
على أن ترجمة آثارنا الأدبية والفكرية ليست هي الوسيلة الوحيدة في إخراجنا من المحلية إلى العالمية؛ لأن ثمة من الوسائل الأخرى ما يمكن اللجوء إليه، من أهمها نقل الفنون التي لا يحتاج تذوقها إلى لغة تترجم أو لا تترجم، فثقافتنا المحلية التي فيها بعض القدرة على أن تكون رسالة عالمية، مبثوثة في ثمرات التصوير والنحت، وفي عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية والتليفزيونية، حيث تكفي رؤية البصر، وفي بعض معزوفاتنا الموسيقية والغنائية التي يكفي لتقويمها إنصات الأذن، وإذن فلزام علينا أن نعرض على العالم كل ما يمكن عرضه لنحطم حواجز المحلية التي تحصرنا في نطاق أنفسنا أو تكاد.
إن من حقنا الطبيعي أن نثبت ذواتنا، في إنتاج يحمل خصائصنا المحلية، بكل ما فيها من ألوان تميز الأفراد من حيث هم أفراد، وتميزهم من حيث هم مواطنون، لكن خطوة ثالثة وأخيرة لا بد من اجتيازها لتكون لنا رسالة فكرية وهي أن تطلع العالم على ذلك الجانب من ذواتنا، الذي يتجلى فيها «الإنسان» من حيث هو إنسان ذو فطرة عامة شاملة، وذو قيم ومبادئ تسعى إلى تحقيقها الإنسانية في سيرها الدائب نحو الكمال، لا تعرف لنفسها في ذلك قيودا من مكان ولا حدودا من زمان.
من هو المثقف الثوري
استوقف نظري فيما قرأت منذ قريب، قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة، فيها من الخصوبة والثراء ما يوحي للفكر المتأمل بمعان كثيرة غزيرة، من بينها معنى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمثقف الثوري من ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفا وكفى، ومتى يكون مثقفا وثوريا معا؟ أما أحد القولين فقد صادفته خلال قراءتي لديوان ابن عربي «ترجمان الأشواق» الذي تولى فيه ابن عربي بنفسه شرح شعره، ليبين مراميه في الرموز التي لجأ إلى استخدامها في ذلك الشعر، وقد أورد في غضون هذا الشرح حديثا للنبي عليه السلام يقول فيه: «ما ابتلي أحد من الأنبياء بمثل ما ابتليت.» مشيرا بذلك - فيما يقول ابن عربي - إلى رجوعه من حالة الرؤية - رؤية الحق - إلى دنيا الناس ليخاطب فيهم من ضل ليهديه سواء السبيل؛ أي أن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الطريق، وإنما يكملها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.
وأما القول الثاني فقد وجدته عند محمد إقبال، حينما عاودت قراءة كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلا، ثم رجع إلى الأرض، قسما بربي لو بلغت هذا المقام لما عدت أبدا.» وهي عبارة قالها - فيما يحكي محمد إقبال - ولي مسلم عظيم، هو عبد القدوس الجنجوهي، ثم يمضي إقبال في القول بأنه من العسير - في ظنه - أن نجد في الأدب الصوفي كله ما يفصح في عبارة واحدة عن مثل هذا الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين نمطين مختلفين من أنماط الوعي: أما أحدهما فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة، وأما الآخر فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف، ففي هذه الحالة الثانية - حالة التصوف - ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق، تمنى ألا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد - كما لا بد له أن يعود - جاءت عودته غير ذات نفع كبير للناس؛ لأنه سينحصر في ذات نفسه، منتشيا بما قد شهد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغير، وأما في حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوع إلى الناس في دنياهم، لا ليقف النبي مما يجري حوله موقفا سلبيا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يغيره التغيير الذي يخلصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال كما ارتسم في إدراكه الواعي لحظة الشهود.
إن إدراك الحق عند الصوفي هو غاية يوقف عندها، وأما عند النبي فهو بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قوى تهز أركان العالم هزا ليستفيق من سباته، فيبدل قيما بالية بقيم جديدة، فكأنما عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل، هي بمثابة مقياس يقيس شيئين في وقت واحد: يقيس مدى ما تنطوي عليه المثل العليا التي شوهدت في حالة الرؤية الروحية، من قدرة على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب حتى تزيل حياة فسدت لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.
هذان هما القولان اللذان صادفتهما فيما قرأت منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطة واحدة مشتركة، هي التفرقة بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى.
ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورة على التمييز بين حالتي التصوف والنبوة، فلست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث نجعلها تفرقة بين المثقف الذي ينعم بثقافته ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئا، والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية، يكون المثقف مثقفا وثائرا معا.
لكن هذه التفرقة تحتاج إلى مزيد من التحديد؛ لأن «الثقافة» كلمة خلقها من خلقها من صناع الكلام ، لتنقلب على خالقها نفسه شيطانا مريدا تغالبه فتغلبه، فهو هو الذي صنعها، لكنه بعد صنعها عجز عن تحديدها وتقييدها، وكلما حاول، وحاول الناس معه، أن يحددوها ويقيدوها، اتسعت فيها رقعة الغموض واشتد الظلام، كأنها المارد الذي انبثق من قمقمه لينتشر دخانا يملأ صفحة السماء قتامة وسوادا، لكننا - لكي نمضي في حديثنا الراهن - سنفرض أنها كلمة يقصد بها حصيلة العلم والمعرفة التي حصلها الإنسان بالموهبة أو بالكسب أو بهما معا؛ وعلى هذا الاعتبار يكون عالم الرياضة وعالم الكيمياء وغيرهما من رجال العلم أفرادا من زمرة المثقفين، كما يكون المؤرخ والشاعر والفيلسوف، فهل يجوز لنا أن نقارن بين عالمين من علماء الرياضة، أحدهما درس الرياضة ولم يطبقها في بناء الجسور، والآخر درسها ثم طبقها، أقول هل يجوز لنا أن نقارن بين هذين العالمين، فندعو ثانيهما دون أولهما بأنه مثقف ثوري لأنه طبق ما قد تعلم، بمثل ما نقارن بين فيلسوفين أو عالمين من علماء الاجتماع أو الاقتصاد، أحدهما عرف واكتفى، والثاني عرف وطبق معرفته على مشكلات الحياة الجارية ليحلها، فنصف هذا الثاني - دون الأول - بأنه مثقف وثوري معا؟ أحسب أن ثمة اختلافا ظاهرا بين الحالتين، حالة الرجلين من رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، وحالة الرجلين من رجال العلوم الإنسانية، بحيث تكون صفة «الثورية» حين تضاف إلى المثقف، أكثر انطباقا على ميدان العلوم الإنسانية منها على ميدان العلوم الطبيعية، فإذا صح هذا، كانت التفرقة التي أسلفناها، لنميز بها بين «المثقف» المكتفي في ذاته بثقافته، و«المثقف الثوري» الذي يجاوز ذاته بثقافته ليمس بها مجرى الحياة من حوله، تفرقة مقصورة - في الأعم الأغلب - على أصحاب الثقافة الإنسانية؛ لأنها هي التي تشتمل على القيم، والقيم هي التي يصيبها التغير حين يقال إن ثورة قامت وغيرت وجه الحياة.
هذا - إذن - وجه من وجوه التحديد، لكنه وحده لا يكفي؛ لأن الذي يغير وجه الحياة وفق أفكار مختزنة في رأسه، قد يغيره راجعا به إلى وراء، لا دافعا به إلى أمام، وأظن أن لا خلاف على أن صفة «الثورية » حين تضاف إلى المثقف، إنما يراد لها أن تقصر على من يدفع الحياة الإنسانية إلى الأمام، تقابلها صفة «الرجعية» لمن يريد من أصحاب المعرفة أن يرد الحياة إلى الوراء، لكننا ما دمنا ننشد الدقة الدقيقة في استخدام كلماتنا، فلا بد لنا من البحث عن الفرق بين «الأمام» و«الوراء»؛ لأن هذه التفرقة لا تكون مفهومة إلا بالنسبة إلى هدف معلوم، فإذا كان هدفي - وأنا ساكن القاهرة - هو الوصول إلى الإسكندرية، فالسير إلى الشمال سير إلى الأمام، والسير إلى الجنوب سير إلى الوراء، لكن قد يكون هدفي هو أسوان، فعندئذ يكون السير إلى الشمال سيرا إلى الوراء، والسير إلى الجنوب سير إلى الأمام، وإذن فاستخدام «الأمام» و«الوراء» لا يتم معناه إلا مقرونا بالهدف المنشود، فما هو الهدف الذي يجعل التغيير الذي يحدثه المثقف في الحياة تقدما إلى الأمام، أو رجوعا إلى الوراء؟ يخيل إلي أن الفيصل هنا هو مسار التاريخ، فلو وقعنا في مسار التاريخ على خصائص بعينها، كان تأييدها وتعميقها دفعا بالحياة إلى أمام، وتعويقها دفعا بالحياة إلى الوراء، ويخيل إلي كذلك أن ثمة طائفة من ملامح، لا اختلاف عليها، هي التي يجاهد التاريخ في تحقيقها، كالحرية لأكبر عدد ممكن من الناس ، والعلم لأكبر عدد ممكن من الناس، وهكذا ... لقد كان هنالك حرية دائما، لكن الفرق هو في عدد من يتمتعون بها، وقد كان هنالك علم دائما، لكن الفرق هنا أيضا هو في عدد من يتاح لهم تحصيله، والتاريخ سائر نحو توسيع الرقعة من فرد واحد إلى قلة إلى كثرة، إلى كل أفراد البشر إذا كان ذلك مستطاعا، وبهذا يتحدد معنى «المثقف الثوري» فيما أرى: هو من أدرك مثلا جديدة للحياة الإنسانية، ثم لم يقف عند مجرد الإدراك، بل حاول تغيير الحياة وفق ما أدركه، شريطة أن يجيء هذا التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ، من حيث توسيع الرقعة البشرية التي تتمتع بما كان مقصورا على القلة من جوانب القوة والحرية والعلم وسائر أوجه الكمال كما ارتسمت في تصور الإنسان منذ أقدم عصوره.
على أن المثل الجديدة التي ترتسم في ذهن المثقف المعتزل فيكفيه ارتسامها، والتي يحاول المثقف الثوري أن يجاوز بها حدود ذهنه إلى حيث العالم الخارجي؛ ليرغم هذا العالم على أن ينقاد للمثل الجديدة وأن يتشكل على أساسها، ليست مجرد رغبات وأمنيات يرغب فيها المثقف لنفسه ويتمناها لذاته، وإلا لما استحقت أن تسمى «مثلا» أي «نماذج» تحتذى، ولكم وددت في هذا الموضع من الحديث أن كانت تكون لي القدرة في اللغة العربية لأجد لفظتين متقاربتين في الجرس، متباينتين في المعنى، أقابل بهما كلمتين في اللغة الإنجليزية هما:
ideals، ideas ، فالأولى «أفكار» ترتسم في ذهن صاحبها، والثانية «أفكار تتحول إلى نماذج» لصاحبها ولغير صاحبها على السواء، وها هنا يكمن الفرق البعيد بين ما يتمناه الإنسان لنفسه ولحياته بحيث لا يعنيه أن يتغير من الناس سواه، وبين ما يتمناه للناس جميعا، على تفاوت الدوائر في الاتساع، فأحيانا يكون جميع الناس هم أبناء الوطن الواحد، وأحيانا أخرى يكون جميع الناس هم أفراد الأسرة البشرية كافة، إن «الفكرة» لا تكون «مثلا أعلى» إلا إذا آمن بها صاحبها إيمانا يدعوه إلى تطبيقها على نفسه أولا، ثم إلى العمل الجاد في تطبيقها على سائر الناس، فلو كنت - مثلا - أتمنى لنفسي منزلا أملكه وأسكنه، كانت هذه فكرة مبطنة برغبة، وأما إذا تمنيت لكل أسرة على أرض الوطن أن تملك مسكنا، فعندئذ تتحول الفكرة مثلا أعلى، وبعد ذلك قد أقف عند ارتسام هذا المثل الأعلى في صفحة ذهني، لكنني قد أجاوز ذلك إلى محاولة التنفيذ والتحقيق بكل ما عندي من إرادة مصممة، وها هنا أصبح «المثقف الثوري» الذي يرد المثل الأعلى بذهنه ويسعى إلى تجسيده في الحياة الفعلية بإرادته.
وما أبعد ما يختلف به «المثقفون الثوريون» فيما يحاولون تطبيقه على حياة الناس من أفكار، رأوها، ثم عاشوها، ثم هموا بتحويل مجموعة الناس على أساسها، وهاك بعض الأمثلة الموضحة نسوقها من تاريخ الفكر الفلسفي بصفة خاصة:
سقراط هو مثلنا الأول، نسوقه نموذجا للمثقف الثوري الذي تتمثل فيه الخصائص التي بيناها في الأسطر السابقة، هاله أن يرى الناس يسلكون في حياتهم على غير مبدأ، فما يفعله هذا عن إيمان قد يفعل نقيضه آخر وعن إيمان كذلك، كأنما أمور العيش مرهونة بأمثال هذه النزوات المجنونة الهوجاء، وكأنما أمور العيش هذه يستحيل عليها أن تنطوي تحت أحكام عقلية يتساوى فيها جميع الناس على حد سواء، فهل يجوز لرجلين أن يذهب كل منهما على هواه في زوايا المثلث كم يكون مقدارها؟ كذلك - فيما أعتقد سقراط - ينبغي أن تكون حالهم في أمور الحياة الجارية، فإما أن تكون الفكرة صوابا، على أساس علمي عقلي، فيأخذ بها الجميع، وإما أن تكون خطأ فيرفضها الجميع، تلك إذن هي الصورة التي ارتسمت في ذهن سقراط وكان يمكن أن يقنع بها ويستريح، لكنه بدأ بنفسه أولا وأخضع تلك النفس إخضاعا، لا هوادة فيه، لأحكام العقل في كل صغيرة وكبيرة من صغائر الحياة وكبائرها، وهنا أيضا كان يمكن أن يرضى بذلك ويستريح، لكن صوتا قويا أخذ يدوي في فؤاده، ألا يستريح وألا يطمئن، حتى يحمل سائر الناس، على قبول ما قد ارتسم في ذهنه، فطفق يجوب في الطرقات وبين المتاجر، ويطوف بالأصدقاء ويجتمع حوله التلاميذ، يناقش ويناقش، ويحاور ويحاور، حتى يتبين له وللناس جميعا وجوب أن يكون زمام الأمر كله لمبادئ العقل؛ أعني وجوب أن تؤسس الحياة على العلم، فلا نزوة ولا رغبة ولا عاطفة أجدى على الإنسان من عقله، فلئن كانت التفرقة متعذرة بين نزوة ونزوة، ورغبة ورغبة، وعاطفة وعاطفة، ففي ميدان العقل وحده لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ها هنا يكون الفرق واضحا بين الصواب والخطأ، بين الهدى والضلال.
غير أن الحياة بدفعة العاطفة سهلة ميسرة، وأما الحياة مقيدة بقيد العقل ولجامه فصعبة عسيرة، ما أهون أن تحب شيئا فتأخذه وأن تكره شيئا فتنفر منه وتتركه، لكن ما أشق أن يصرفك العقل عن شيء تحبه، وأن يرغمك العقل على شيء تكرهه؛ ولذلك جاءت دعوة سقراط إلى احتكام الناس إلى عقولهم في أمور الحياة اليومية مضنية مرهقة، فما استراح الناس عندئذ إلا بعد أن جرعوه السم ليموت وتموت معه دعوته، فينصرفوا من جديد إلى دفعة النزوة والهوى بغير وازع من العقل ولا رادع من العلم، فلو كان سقراط «مثقفا» وكفى لنعم بفكرته وعاش، لكنه أبى إلا أن يكون «مثقفا ثوريا» يحاول تغيير الناس وتبديل الحياة، فمات ضحية دعوته، لكنه مات سعيدا برسالته.
ومثلنا الثاني للمثقف الثوري هو أفلاطون، ارتسمت في ذهنه صورة عقلية للدولة المثلى كيف تكون بحيث تجيء دولة قائمة على دعامة العدل، وأخذ في محاورة «الجمهورية» يفصل القول في صورة هذه الدولة العادلة، بادئا ببحث مستفيض - على طريقة المحاورة - عن معنى العدل الذي يريده، متناولا بالتحليل معنى بعد معنى، وزعما في إثر زعم، حتى ينتهي إلى ما ظنه هو معنى العدل المقبول عند العقل، وهو أن تتاح الفرصة لجميع الأفراد، بحيث يوضع كل فرد في المكان الذي يلائم طبيعته واستعداده وقدراته، قائلا في ذلك إن الدولة هي فرد كتب بخط كبير، فما يكون في الفرد الواحد يكون في الدولة، إلى آخر ما ذهب إليه من تفصيلات في رسم الصورة المثلى، مما أحسبه قد بات معرفة شائعة عند أوساط المثقفين.
ولو اكتفى أفلاطون بهذه الصورة العقلية للدولة يتصورها ويرسمها كتابة مفصلة، لعددناه «مثقفا» يرى «الفكرة» ويحللها ويصل إلى النتائج التي يطمئن إليها، فيسترخي ويستريح، لكنه كان «مثقفا ثوريا» بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يلتمس طريق التنفيذ لفكرته التي ارتآها، فما أرسل إليه ديونيسيوس الشاب، الذي آل إليه الحكم في سرقوسا - بجزيرة صقلية - بعد أبيه، أقول ما أرسل إليه هذا الحاكم الشاب يدعوه لتطبيق فكرته على دولته، حتى لبى الدعوة فرحا؛ لأنه أراد أن يشهد فكرته مجسدة في حياة، ولكن الملك الشاب سرعان ما ضاق بالفلسفة وقيودها، وكاد يبطش بالفيلسوف لولا أن الفيلسوف قد لاذ بالفرار عائدا إلى أثينا، وتمضي أعوام، ويعود ديونيسيوس مرة أخرى إلى دعوة أفلاطون، ليحاول تطبيق فكرته محاولة ثانية، ويقبل فيلسوفنا الدعوة برغم ما كاد يتعرض له من أذى في الدعوة السابقة؛ وذلك لشدة رغبته في أن يجاوز بفكرته حدود ذهنه إلى حيث العالم الحي، لكن الذي حدث للحاكم الشاب من ضيق في الزيارة الأولى، عاوده في الزيارة الثانية، وفر أفلاطون من تعذيب أوشك هذه المرة أيضا أن يناله من الحاكم العابث، كما فر في الدعوة الأولى.
والحاكم الشاب هنا في ضيقه، هو كشعب أثينا في حالة سقراط حين ضاق الشعب بدعوته إلى الأخذ بأحكام العقل دون نزوات الهوى، ففي كلتا الحالتين «مثقف ثوري» يدرك الفكرة، ولا يريد قصرها على نفسه ليتركها حبيسة رأسه، بل يخرج بها إلى الحياة الواقعة، فيجد الناس على عناد وتشبث بما ألفوه، فيكون الصراع وما يؤدي إليه الصراع من غلبة هنا أو هناك، فقد تكون الغلبة لصاحب الفكرة فتتغير الحياة برغم عبيد العادات المألوفة، أو قد تكون الغلبة لهؤلاء على صاحب الفكرة، فتختفي الفكرة حتى ينهض لها على مجرى التاريخ داعية جديد.
وفي ظني أن الغزالي - في تاريخ الفكر الإسلامي - هو خير الأمثلة التي تضرب للمثقف الثوري؛ لأنه غير بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون، فليس الفرق بين «المثقف» و«المثقف الثوري» فرقا في الكم، بحيث يكون الثاني أغزر إنتاجا من الأول، أو أكثر فكرا منه، بل هو فرق في «الكيف» لأن الأول والثاني معا كليهما «يعلم» لكن الثاني وحده هو الذي ينقل العلم إلى عمل وسلوك، فالجاحظ وأبو حيان التوحيدي يمثلان قمة ما وصل إليه «المثقف» العربي في العصور القديمة، بمعنى الثقافة العام، الذي لا يتخصص في فلسفة أو لغة أو فقه أو نحو ذلك، لكن لا الجاحظ ولا أبو حيان كان ثوريا في ثقافته؛ لأنك تقرأ لهما فتزداد «علما» لكنك لا تدري كيف تغير من أوضاع حياتك وفق هذه الزيادة العلمية، وأما الغزالي فشأنه غير هذا؛ لأنك تقرأ له، فإذا أخذت بوجهة نظره، كان لا بد لك من تغيير أسلوب الحياة والنظر، فها هو ذا رجل يقول لك إن التجربة النفسية - لا المنهج العقلي - هي طريقك إلى رسم خطة الحياة، وإن الحياة المثلى هي الحياة الروحية العملية في آن، فالروحانية بغير عمل خواء، والعمل بغير روحانية جفاف ويأس، وألف الغزالي كتاب «الإحياء» ليبث به في «علوم الدين» حياة جديدة يتحقق بها ما قد أوصلته إليه تجربة نفسية مارسها وعاناها.
ونعبر القرون لنصل إلى تاريخنا الثقافي الحديث، فنرى الأمثلة واضحة للمثقف المعتزل، والمثقف الثوري، وأبدأ بجمال الدين الأفغاني، الذي هو «سقراط» حياتنا الفكرية الحديثة، يطوف كما كان يطوف سقراط، ويجادل ويناقش كما جادل سقراط وناقش، ويخلق التلاميذ والأتباع كما خلق سقراط تلاميذه وأتباعه، يشعل الروح كما أشعل، ويوقظ النفوس كما أيقظ، نعم إن رسالة الأفغاني لم تكن هي رسالة سقراط، لكن الأداء واحد في الحالتين، كانت رسالة سقراط - كما أسلفنا - أن يكون الاحتكام في أمور الحياة كلها إلى العقل في تجريده المنطقي الخالص، وكانت رسالة الأفغاني أن يكون الاحتكام إلى القومية الدينية المفهومة على ضوء العقل، لا على ضلال الخرافة، لكن طريقة الأداء عند الرجلين متشابهة، فكلاهما مثقف ثوري؛ لأن كليهما لم يكفه أن «يعرف» لنفسه، بل أراد أن يعرف للناس من حوله.
ويجيء بعد الأفغاني إمامنا محمد عبده، فيكون هو «أفلاطون» حياتنا الفكرية الحديثة، فهو تلميذ الأفغاني كما كان أفلاطون تلميذا لسقراط، وهو يستقر للكتابة والدرس والمحاضرة بعد تطواف أستاذه الأفغاني، كما استقر أفلاطون للكتابة والدرس والمحاورة بعد تطواف أستاذه سقراط، كان مستقر الإمام هو الأزهر، وكان مستقر أفلاطون هو الأكاديمية، كلاهما يتصور بعقله حياة جديدة، ويجعل وسيلته إلى إقامتها تعليم الناس وتنوير العقول، لم يكن الإمام محمد عبده يدرس ما يدرسه ليزداد فقها لنفسه، بل كان يفعل ذلك ليزداد فقها بما يغير دنيا الناس، كان يفعل ذلك ليصلح وليبني ولينشئ وليعلم وليربي، لم يكن «مثقفا» وكفى، بل كان «مثقفا ثوريا».
وقل هذا في قاسم أمين، وفي لطفي السيد، فالأمر فيهما أوضح من أن يحتاج إلى شرح وتوضيح، الأول يكتب ليغير أوضاع الحياة بالنسبة إلى نصف الشعب، المرأة، والثاني يكتب ليؤصل حياة سياسية على أصول ديمقراطية، كلاهما مثقف ثوري، يحصل العلم، لا ليضعه في رأسه كما توضع الآثار في المتحف، بل ليتخذ منه أداة فعل وعمل وتطوير وتغيير.
إن التفرقة بين «المثقف» و«المثقف الثوري» هي نفسها التفرقة بين «العلم للعلم» و«العلم للمجتمع»، نعم، إنه لا مراء في أن العلم في حد ذاته قيمة، فمن يعلم خير ممن لا يعلم، مهما تكن مادة علمه، لكن العلم الذي من شأنه أن يعالج مشكلات الناس في حياتهم اليومية، فيه علم وزيادة، فيه قيمة العلم مضافا إليها قيمة التطبيق، والحق أني - بحكم ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفة عامة - لا أعترف بعلم لا تكون فيه قابلية التطبيق، بل لا أدري كيف يكون ذلك، اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن يجعل الدارس من نفسه «ذاكرة» تحفظ ما قاله الأولون، وعندئذ لا يكون ثمة «علم» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل يكون في رأس الدارس «مكتبة» يرجع إليها كما يرجع إلى الكتب المرصوصة فوق الرفوف.
العلم علم بشيء، ولا يتم لك مثل هذا العلم إلا إذا ألممت بذلك الشيء حلا وتركيبا، ومن ثم تصبح لديك القدرة على التصرف فيه تصرفا تخدم به أغراضك؛ ولذلك قيل إن «العلم قوة» أعني أن العلم «قدرة»، قدرة على تغيير جزء من العالم الخارجي - جزء كبير أو جزء صغير - تغييرا يصيره بيئة صالحة لحياة أفضل، قدرة على أن أجعل من الماء مصدرا للري ولتوليد الكهرباء وتسيير السفن، وعلى أن أجعل من الهواء أجنحة للطيران، وأسلاكا تنقل الصوت والصورة من مكان إلى مكان، ليس العلم حالة بكماء خرساء، نقف بها إزاء الدنيا متفرجين لما يحدث، دون أن نغير بها تيار الحوادث ونوجهه كيفما نشاء، فما لم يكن العلم «قوة» أو «قدرة» على إخصاب الأرض، وإزالة المرض، وتنقية الماء والهواء، وتيسير الانتقال، وغير ذلك من إقامة جوانب الحياة، فماذا يكون؟
هذا ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفة عامة، حتى لأرفض «التأمل» بالمعنى الذي يركز المفكر به فكره في لا شيء - وأعني لا «شيء» بالمعنى الحرفي لكلمة شيء - فكل علم متعلق ب «شيء»، ب «ظاهرة»، ب «مشكلة» بموقف من مواقف الحياة، لنبقيه على حاله إذا كان صالحا لأغراضنا، أو لنغيره بما يخدم تلك الأغراض، وإذن فعندي أن المثقف لا يتم تكوينه إلا بأن يكون مثقفا يستخدم ثقافته في حياته، على أن أصحاب الثقافة يعودون بعد ذلك فيتفاوتون، فمنهم من يقصر استخدام ثقافته على حياته الخاصة، ومنهم من يتأرق وكأنه يرقد على شوك، ما لم يستخدم تلك الثقافة في رقعة أوسع من حياته الخاصة، رقعة قد تمتد حتى تشمل الوطن، وقد تمعن في الامتداد لتشمل الإنسانية كلها، فعندئذ يكون مثل هذا الرجل أجدر الناس بصفة «المثقف الثوري».
ضوء على معنى الصراع الفكري
لا تكون الفكرة - كائنة ما كانت - إلا جوابا عن سؤال، إذ إنها لا تكون فكرة - بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - إلا إذا جاءت حلا مقترحا لمشكلة قائمة، والمشكلة المعينة هي بمثابة سؤال مطروح ينتظر الجواب، سواء صيغ هذا السؤال صياغة معلنة صريحة، أم ظل مضمرا في ذهن صاحبه، فإذا قلت - مثلا - إن الحرية حق فطري للإنسان، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: ما هو مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ أو قلت: إن الشمس هي التي تعكس ضوءها على سطح القمر، كان ذلك إجابة عن سؤال يسأل: من أين يأتي الضوء إلى القمر مع أنه بطبيعته جسم معتم؟ وهكذا، وقديما بحث الفلاسفة في صنوف الأسئلة التي يمكن أن تسأل عن الشيء الواحد، وأطلقوا مصطلحا خاصا هو كلمة «المقولات»، ويذكر أرسطو من هذه المقولات عشرا، وهو بذلك يعني أنك تستطيع أن تسأل عن الشيء الواحد عشرة أنواع من الأسئلة، فقد تسأل عن جوهره بقولك: ما هذا؟ أو عن كميته بقولك: ما لونه وما طعمه؟ إلى آخر الأسئلة العشرة التي ذكرها أرسطو منذ قديم.
وواضح أن لكل ضرب من ضروب السؤال لغة خاصة يجاب بها عنه، غير اللغة التي يجاب بها عن غيره من الأسئلة، فإذا سألتك عن طول الجدار، توقعت منك أن تستخدم لغة العدد لا لغة الألوان والطعوم، وإذا سألتك عن مكان شيء أو عن زمانه، كان لكل حالة لغتها الخاصة، هذا واضح، أما الذي يحتاج إلى توضيح فهو أن «الصراع الفكري» بين رجلين أو جيلين من الناس، لا يكون إلا إذا ألقى عن شيء معين سؤال معين، فأجاب كل من الرجلين إجابة غير التي أجاب بها الآخر، كأن تسأل: ما مصدر الحرية التي يتمتع بها الإنسان؟ فيجيب أحد الرجلين بأنها فطرية تولد مع الإنسان، ويجيب الآخر بأنها حق تمنحه له إحدى السلطات - في مثل هذه الحالة وحدها يكون الحكم بالصواب على إحدى الإجابتين، مؤديا حتما إلى الحكم بالخطأ على الإجابة الأخرى.
لكن هذه الحالة هي واحدة من أربع حالات ممكنة الحدوث، ومن ثم يجيء الخلط ويقع الخطأ، فهنالك حالة يطرح فيها سؤال معين، فإذا برجلين يجيبان عنه إجابتين مختلفتين، كل منهما صادق إلى حد، باطل إلى حد، أي أن كلا منهما صواب بعض الصواب لا كله، وعندئذ يكون الجانب الذي أصاب فيه الأول ليس هو نفسه الجانب الذي أخطأ فيه الثاني، فها هنا لا يكون بين الفكرتين «صراع» لأننا قد نجمع الصوابين معا، ونبعد الباطلين معا، أي أن الإجابتين يمكن أن يتكاملا وأن يتعاونا على تكوين الإجابة الصحيحة، خذ لذلك مثلا ما نشب - وما يزال ناشبا - بيننا من خلاف في الرأي: هل نترجم العلوم - كالطب - إلى العربية أو لا نترجمها؟ قد يجاب عن هذا السؤال بإجابتين متطرفتين، إحداهما تطالب بالترجمة العربية ترجمة كاملة تشتمل على كل ما يرد في العلوم من عبارة ومن مصطلح، محتجة بأنه لا حياة للغة القومية إلا إذا حملت علوم عصرها ... والأخرى تطالب بألا ترجمة في هذا المجال، وبوجوب أن تدرس العلوم في لغة أجنبية - كالإنجليزية مثلا - هاتان إجابتان مختلفتان عن سؤال واحد، لكن الصواب في أي منهما قد لا يكون صوابا كاملا، والخطأ في الأخرى قد يكون خطأ كاملا، بحيث يجوز أن يكون الموقف الأصح هو الجمع بين جانب من هنا وجانب من هناك، كأن نقول - مثلا - إننا نترجم من المصطلح ما نجد له ترجمة عربية وافية، ثم نعرب ما يستعصي على الترجمة وما يحسن تركه على نطق قريب من نطقه الأصلي المشترك بين اللغات المختلفة (فالترجمة هي وضع لفظ عربي مرادف للفظ الأجنبي، والتعريب هو وضع الصوت الذي تنطق به اللفظة الأجنبية في أحرف عربية) إنني هنا لا أؤيد رأيا ولا أعارض رأيا، لكنني أعرض نوعا من اختلاف الرأي في مشكلة مطروحة، تتعاون فيه الإجابتان المختلفتان، دون أن ينشأ بينهما ما يصح تسميته ب «صراع».
وهنالك حالة ثالثة من حالات الخلاف الفكري يكون فيها السؤال المطروح سؤالا واحدا محددا، فتجيء عنه إجابتان يظن أنهما مختلفتان على حين أنك لو حللتهما، وجدتهما مترادفتين متساويتين، وكل ما في الأمر بينهما هو أنهما وضعتا في عبارتين مختلفتين، ولا زلت أذكر سؤالا ألقاه علي أبي إذ كنت غلاما، إذ سألني: أيهما تفضل؟ برتقالة مقشرة أم برتقالة بغير قشر؟ فاندفعت مجيبا: أفضل برتقالة بغير قشر، فقال مازحا: ولماذا لا تأخذها مقشرة؟ فقلت: لكي أضمن نظافتها، وعندئذ لفت ذهني إلى أن البرتقالة بغير قشر هي نفسها البرتقالة المقشرة، والاختلاف هو في اللفظ لا في المعنى.
ومن أحدث الأمثلة في حياتنا الفكرية، على مثل هذه الحالة تلك المشكلة التي ما تفتأ تثار بين فريقين من الكتاب، وهي: أنعد اشتراكيتنا اشتراكية عربية أم نعدها تطبيقا عربيا للاشتراكية؟ فيجيب فريق بالإجابة الأولى حرصا على أن تكون اشتراكيتنا مطبوعة بطابعنا الخاص المتأثر بظروفنا الخاصة، ويجيب الفريق الآخر بالإجابة الثانية حرصا على وحدانية المبدأ الاشتراكي وعدم تجزئته، على أن الفريقين معا متفقان على أن الاشتراكية معناها بصفة عامة عدم استغلال الإنسان للإنسان، وفي اعتقادي أن الإجابتين مترادفتان برغم ما يبدو على ظاهرهما من تباين، فافرض - مثلا - أنني طرحت سؤالا عن القطن العربي ما طبيعته: أهو قطن عربي أم نبات عربي للقطن؟ فأجاب مجيب بالصيغة الأولى وأجاب مجيب آخر بالصيغة الأخرى، فهل ترى بينهما من خلاف في المعنى؟ كان اختلاف الرأي بين الفريقين عن الاشتراكية العربية ليكون ذا معنى لو أن كل فريق منهما عرف مفهوم الاشتراكية تعريفا يخالف تعريف الآخر له، أما وقد اتفقا على التعريف، بأنها هي عدم استغلال الإنسان للإنسان، ثم أراد كل منهما أن يميز التعريف العام بصفة تجعله خاصا بحال معينة، وكذلك أراد كل منهما أن تكون صفة «العربية» هي المميزة، فأي فرق بين أن تصف الاشتراكية بأنها عربية أو تصفها بأنها تطبيق عربي؟ المهم في كلتا الحالتين أن ثمة فكرة عامة متفقا عليها، ومميزا خاصا يقيد الفكرة العامة، وهو أيضا متفق عليه، فسيان بعدئذ أن تعبر عن هذا المعنى على هذا النحو أو ذاك ... هل مجلة الفكر المعاصر مجلة عربية؟ أو هي تطبيق عربي لفكرة المجلات؟ هل تعد تماثيل مختار نحتا عربيا أو تعد تطبيقا عربيا لفن النحت؟
وهنالك حالة رابعة، لعلها أن تكون أعوص الحالات، وأحوجها إلى دقة التحليل وحسن التوضيح، وأعني بها الحالة التي نتلقى فيها إجابتين مختلفتين من شخصين، على ظن منهما بأنهما يجيبان عن سؤال واحد، ويعالجان مشكلة معينة مشتركة بينهما، على حين أنهما في حقيقة الأمر يجيبان عن سؤالين مختلفين، كل منهما يتناول مشكلة غير المشكلة التي يتناولها الآخر، وسرعان ما تتعقد الخيوط الفكرية وتتداخل فتتعذر الرؤية الواضحة، وإنما يوقعنا في مثل هذا الخلط، أن يقدم لنا السؤال واحدا في صياغته اللفظية، لكنه في حقيقته يدمج سؤالين أو أكثر عن موضوعات مختلفة، فلو أردنا سلامة السير في مثل هذه الحالة، لوجب منذ البداية أن نفك المدمج، لنضع كل سؤال فرعي على حدة، وغالبا ما يحدث هذا الازدواج، حين ترد في السؤال المطروح لفظة ينقصها التحديد، بحيث يستطاع فهمها على أكثر من وجه واحد؛ أعني أن تكون هذه اللفظة الواحدة بمثابة لفظتين أو أكثر، كل لفظة منها تستقل وحدها بمشكلة قائمة بذاتها، فافرض - مثلا - أن المسألة المطروحة هي عن «الحقيقة» ما سبيلنا إليها؟ فعندئذ ترى من الفلاسفة من يقول إن السبيل إليها هو «الحدس»، ومنهم من يقول إن السبيل إليها هو «العقل» وآخرون يقولون بل السبيل إليها هو «الحواس»، أفلا يجوز في هذه الحالة أن يكون سر الخلاف بين أولئك وهؤلاء أن كلمة «الحقيقة» ينقصها التحديد، بحيث يندمج في هذه الكلمة الواحدة مشكلات عدة، فأخذ كل فريق من الفلاسفة مشكلة غير المشكلة التي أخذها الفريق الآخر؟ إذا تبين ذلك، كان ما بينهم من اختلاف هو أبعد ما يكون عن «الصراع»؛ لأن كلا منهم يلعب لعبته في ميدان مستقل.
تلك حالات أربع من اختلاف الرأي عند أصحاب الفكر، ألخصها لتكون مرئية للقارئ بنظرة واحدة، فيسهل عليه أن يرى الزعم الذي نزعمه، وهو أن «الصراع الفكري» لا يتحقق إلا في حالة واحدة دون سائر الحالات: (1)
مشكلة يقترح لها حلان، بحيث إذا أصاب حل منهما تحتم أن يكون الآخر باطلا، وها هنا يكون صراع فكري. (2)
مشكلة يقترح لها حلان، لكن كل حل منهما لا يتناول من المشكلة إلا جانبا واحدا، وهنا لا يكون صواب أحدهما نافيا لصواب الآخر؟ (3)
مشكلة يقترح لها حلان، لكنهما لا يختلفان في المعنى وإن اختلفا في الصياغة اللفظية، وهنا يكون صواب أحدهما هو نفسه صواب الآخر. (4)
سؤال يدمج في صياغته أكثر من مشكلة واحدة، فيعالج أحد المفكرين مشكلة منها، ويعالج مفكر آخر مشكلة أخرى، وهنا يكون لكل منهما صوابه أو خطؤه مستقلا عن صواب الآخر أو خطئه، فلا صراع بينهما ولا ما يشبه الصراع.
وسبيلنا الآن إلى مزيد من الأمثلة، نأخذها من حياتنا الفكرية، توضيحا لهذه الحالات الأربع.
لو نظرنا إلى الحياة الفكرية - كما ينبغي أن ينظر إليها - باعتبارها مرحلة نظرية لا بد أن تلحقها مرحلة التنفيذ والتطبيق؛ أعني لو نظرنا إلى الحياة الفكرية، لا على أنها لهو ومتاع لأصحابها، بل على أنها هي مرحلة التخطيط التي تنتهي بالتصميم ثم بالتنفيذ، وجدنا أن الحالة الأولى من الحالات الأربع المذكورة - أعني حالة الصراع الفكري بمعناه الدقيق - هي الحالة الوحيدة التي يؤدي اختلاف الرأي فيها إلى اختلاف في طرائق التنفيذ، وبالتالي فإن اختلاف الرأي فيها معناه اختلاف فيما نغيره أو لا نغيره من أمور الواقع، ومن ثم تجيء أهميتها وخطورتها بالقياس إلى زميلاتها، إذ لا يؤدي اختلاف الرأي في الحالات الثلاث الأخرى إلى أي ضرب من ضروب التغيير على أرض الواقع، وإذن فهو - على أحسن تقدير - لا يعدو أن يكون رياضة ذهنية يلهو بها أصحابها كما يلهو لاعبو الشطرنج، ولنضرب أمثلة من «صراعاتنا» الفكرية الحقيقية والمزعومة ليتضح المعنى الذي نريد.
إن أقرب مثل حي نسوقه للصراع الفكري في أتم معناه، هو هذا الذي حدث ويحدث في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية منذ قيام الثورة، فقد كانت تلك الحياة قبلها تقوم على فكرة أو أفكار أساسية، وجاءت تلك الحياة بعدها لتقوم على فكرة أو أفكار تنقض الأولى لتحل محلها، فإذا كانت الفكرة السابقة تأخذ بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الرئيسية، فإن الفكرة الجديدة تأخذ بالملكية العامة لتلك الوسائل، وبين الفكرتين من الاختلاف ما يحتم الأخذ بإحداهما دون الأخرى، فإما هذه وإما تلك، مع استحالة الجمع بين الفكرتين في شيء واحد بعينه، وإذن فقد كان بين الفكرتين صراع، كانت الغلبة فيه للفكرة الجديدة، وهي غلبة لا تقف عند حد الرياضة الذهنية، بل يكون لها طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، بحيث تتغير الأمور على أرض الواقع تغيرا يجعل لها صورة غير التي كانت، وبهذا يصبح لكلمة «ثورة» معناها العيني المحسوس.
خذ مثلا ثانيا لمثل هذا الاختلاف الذي يحتم علينا أن نأخذ بأحد الطرفين دون الآخر، لما بين الطرفين من تناقض يمنع الجمع بينهما في لحظة واحدة، الاختلاف على مبدأ التعليم، أيكون واجبا على الدولة إزاء المواطنين بحيث تتكفل الدولة بنفقاته في كل مراحله، أم يكون من الخدمات التي تباع لمن يملك المال لشرائها؟ ها هنا كذلك «صراع» بين الفكرتين؛ لأن قبول الفكرة الأولى بالنسبة إلى مرحلة معينة من مراحل التعليم، يقتضي رفض الفكرة الثانية، فلو فرض أن كان لكل من الفكرتين أنصار، كان بين الفريقين صراع فكري، وهنا نلاحظ للمرة الثانية أن الصراع عندئذ إذا انتهى إلى انتصار فكرة على فكرة، كان معنى ذلك تغيرا حقيقيا في دنيا الواقع.
وهاك مثلا ثالثا للصراع الفكري حين يتم معناه، قضية المرأة وحريتها حين أعلنها قاسم أمين، فهل تخرج المرأة - التي هي من أوساط لم تكن تسمح للمرأة فيها بحقوق معينة - هل تخرج تلك المرأة إلى حيث تظفر بحقوقها تلك، من سفور ومن تعليم ومن مشاركة في الأعمال العامة؟ هنا تكون الإجابتان بالإيجاب والنفي إجابتين متعارضتين تعارضا يجعل صواب الواحدة منهما مؤديا بالضرورة إلى خطأ الأخرى، ونلاحظ للمرة الثالثة أن مثل هذا الاختلاف الفكري مؤد إلى تبديل صورة الحياة الواقعة إذا ما كتب النصر للفكرة الجديدة على الفكرة القديمة.
ومثل رابع وأخير للصراع الفكري بمعناه الذي حددناه له، تلك المشكلة التي ثارت في أربعينيات هذا القرن عن الكتابة العربية: أنبقي عليها كما هي بأحرف عربية، أم نبدل هذه الأحرف بأحرف لاتينية؟ ها هنا أيضا ترى كيف يجيء الأخذ بإحدى الفكرتين مبعدا للفكرة الأخرى، وفي هذه القضية قد حدث أن كان النصر للفكرة القديمة فاختفت الفكرة الجديدة، فلبثت صورة الواقع على حالها لم يصبها تغير.
ونستطيع أن نمضي في ضرب الأمثلة لما قد حدث في حياتنا الفكرية خلال هذا القرن من «صراعات» حقيقية بين أفكار تتصل بهذا الجانب أو ذلك من جوانب حياتنا، وهي صراعات يتحتم فيها الأخذ بأحد الطرفين المتصارعين دون الآخر، مع استحالة الجمع بينهما في مشكلة واحدة بعينها، وقد كتبت الغلبة في معظم الحالات للفكرة الجديدة، فتغيرت الحياة فيما يتصل بالفكرة الغالبة، لكن تلك الغلبة أحيانا لم تكن من نصيب الفكرة الجديدة، فظلت الفكرة القديمة غالبة سائدة، وبالتالي لم تتغير الحياة في جانبها المتصل بتلك الفكرة، وهنا ينبغي أن نذكر حقيقة هامة، وهي أن «التغير» في ذاته ليس هو المقصود، إنما المقصود هو التغير الذي يحدث تطورا وتقدما ونموا، فإذا كانت الفكرة الغالبة في الصراع، محققة للتطور، كانت خيرا من زميلتها، بغض النظر عن أيهما جديد وأيهما قديم.
أما الحالة الثانية من الحالات الأربع التي أسلفنا ذكرها، فهي حين يتناول كل من المتجادلين جانبا من المشكلة المعروضة غير الجانب الذي يتناوله الآخر، وعندئذ لا يكون بين الطرفين «صراع» بقدر ما يكون بينهما تعاون وتكامل، حتى ليجوز لنا ضم الصواب الجزئي الذي أدركه أحدهما إلى الصواب الجزئي الذي أدركه زميله، ليكون لنا بذلك الضم الصواب كله، أو شطر من الصواب - على أية حال - أكبر من كل من الصوابين على حدة، وقد ضربنا لذلك مثلا مشكلة العلوم وترجمتها، فهل ننقلها إلى العربية أو نتركها على أصلها في أيدي طلابنا ودارسينا، ونسوق الآن مثلا آخر أو مثلين.
فالمشكلة ما زالت قائمة، والنزاع ما زال محتدما، حول الفصحى والعامية بأيهما نكتب في مجال القصة والمسرحية والشعر بصفة خاصة، وسؤالنا الآن هو هذا: أحقا نحن بإزاء طرفين نقيضين لا يلتقيان؟ هل المسألة هي إما أن نكتب بالفصحى ولا عامية وإما أن نكتب بالعامية ولا فصحى؟ ألا يجوز أن يكون هنالك موقف يجمع بين الفصحى في سياق والعامية في سياق؟ ماذا لو كتب متن القصة - مثلا - بالفصحى وحوار العامة بالعامية؟ ماذا لو أخذنا من الفصحى بطرف ومن العامية بطرف كالاقتراح الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم؟ إن ما يقوله أنصار الفصحى لا ينقض بالضرورة ما يقوله أنصار العامية، كلا ولا ما يقوله أنصار العامية بالذي ينقض ما يقوله أنصار الفصحى، بدليل أننا قد رأينا بالفعل آثارا أدبية التقى فيها الطرفان على وجه من الوجوه.
وقريب من هذا مشكلة الشعر القائمة المحتدمة بين قديمه وحديثه، ويحلو للقائمين بها أن يسموها «صراعا» كأنما لو نظم الشعر شاعر على النسق التقليدي تحتم ألا يقرضه شاعر آخر على أي نحو شاء! نعم كأنما في العربية كلها شاعر واحد وهو إما أن يقول الشعر على هذه الصورة أو على نقيضها! هب أن سائلا سألك: أتريد للناس أن يأكلوا اللحم أو الأرز؟ أفلا يكون الجواب: أريد لهم أن يأكلوا اللحم والأرز ومائة صنف آخر غير اللحم والأرز إذا أسعفتهم جيوبهم وبطونهم، ولقد شهدنا في هذه «المعركة» عجبا، إذ شهدنا شاعرا ينظم الشعر على صورته التقليدية من وزن وقافية، ولأن شخصه محبب لدى أنصار الشعر الجديد، رأوا في شعره شعرا جديدا - إنني أؤكد لقارئي أنني لا أكتب هذا مؤيدا لجديد أو قديم، بل أكتبه لأبين ألا «صراع» في مثل هذه المشكلات؛ لأن الطرفين المتنازعين لا يزيح أحدهما الآخر، بل يأتي ليقف إلى جواره، كأنما أنت صاحب منزل ذي ثلاث غرف فأضفت إليها غرفة رابعة.
ولقد شهدنا كذلك معركة عنيفة في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته بين أنصار الجديد وأنصار القديم - وكان الجديد والقديم عندئذ معناهما على التوالي: الثقافة الأوروبية والتراث العربي - وكان بيننا من انتصر للأولى انتصارا تاما، ومن انتصر للتراث العربي انتصارا تاما، ولو كان المتقاتلون ذوي بصر وسمع، لرأوا بين ظهرانيهم - حتى في ساعة احتدام المعركة - أدباء اجتمعت في قلوبهم وفي عقولهم أطراف الثقافتين معا، مما يدل دلالة قاطعة على أن المسألة ليست إما هذا أو ذاك ولا اجتماع بين الجانبين، بل هي على صورتها الأصح: هذا وذاك معا، فهل تعد طه حسين مثلا مشربا بالثقافة العربية وحدها أو تعده مشربا بالثقافة الأوروبية وحدها؟ هل تعد العقاد من الفريق الأول أو من الفريق الثاني؟ وكذلك قل في هيكل والمازني وغيرهما، وها هي ذي الأعوام قد كرت بنا إلى يومنا الراهن، فإذا الثقافتان اليوم يتلاقيان في وحدة - إلا تكن قد تمت فهي في طريقها إلى أن تتم - بحيث يتكون منهما ما يصبح ثقافة جديدة مطبوعة بطابعنا الحديث.
وكذلك ليس من ضروب «الصراع» الفكري أن تختلف العبارتان في اللفظ لكنهما تترادفان في المعنى، وقد أسلفت لذلك مثلا هذا الخلاف الظاهري الذي تجري به أقلام طائفة من كتابنا اليوم عن «الاشتراكية العربية» و«التطبيق العربي للاشتراكية»، وأريد الآن أن أزيد من الأمثلة لعلها توضح ما نريد، فمن المشكلات القائمة بيننا اليوم مشكلة «الالتزام» في الأدب والفن، بل وفي الفكر بصفة عامة، وإن الحديث في المشكلة ليوحي بأن هنالك فريقين: أحدهما يقول بوجوب الالتزام ويقول الآخر بعدم وجوبه، على أن ثمة مسلمة متفقا عليها، وهي أن الالتزام لا يقصد به الإلزام، بمعنى أن الحركة تنبع من داخل المفكر أو الأديب، ولا تفرض عليه من عوامل خارجية، وإذن فقد انحصر الخلاف «المزعوم» في أن فريقا يقول: إنه لا بد أن يكون عند الأديب أو المفكر هدف يلتزم بلوغه بالوسائل التي يراها، على حين أن الفريق الآخر يقول - في زعم الزاعمين - إنه لا هدف هناك عند الأديب أو المفكر، ولذلك فلا وسائل معينة محددة، وتسأل الزاعمين: ترى هل يمسك المفكر غير الملتزم - أو الأديب - قلمه، ويغمض عينيه، ويخبط بالقلم على الورق كيف اختلجت الأصابع، كأنه قط وجد أمامه آلة كاتبة فراح يخبط على مفاتيحها بمخالبه؟ فيكون جواب الزاعمين عن سؤالك هذا - فيما أظن - هو شيء كهذا: لا بل إن غير الملتزم هو من يفكر للفكر نفسه، ومن يصنع أدبا للأدب نفسه، وفنا للفن نفسه ... أي أن الأهداف «داخلية» لا «خارجية» - إن جاز هذا الوصف - ونحن نقول لهؤلاء: إن هذا هو التزام، ولا فرق - من حيث «الالتزام» ذاته - بين أن يكون الهدف هو داخل الأثر الفكري أو الأدبي، أو خارجه، كلاهما التزام لصاحب الأثر بما أراد أن يصنعه، فإذا كان هنالك بعد ذلك اختلاف بين قائل بأن الهدف لا بد أن يكون خارج الأثر المصنوع، وقائل آخر بأنه إنما يكون داخلا في كيان الأثر ذاته، فليس الاختلاف عندئذ على «الالتزام» وجودا وعدما، بل الاختلاف على موضع الهدف الذي يراد التزامه، وإذن فلا فرق - من حيث الالتزام - بين عبارتين: إحداهما تقول إن الأدب هو للأدب، وأخرى تقول إن الأدب للمجتمع، إذ العبارتان كلتاهما تقرران الالتزام على حد سواء وبمعنى واحد، وإن اختلف فيهما الشيء الذي نلتزم به، وإنه لمما يزيد هذا الأمر وضوحا، أن القائلين بأن الأدب الملتزم معناه التزام بمشكلات المجتمع، لا يفوتهم أن يؤكدوا بأن هذا الالتزام بمشكلات المجتمع لا يعفي الأديب من أن يلتزم «أيضا» بما يوجبه الفن الأدبي من قواعد وأصول، وحتى لو أخذنا بهذا التفسير، فإن الخلاف بين الفريقين لا يكون خلافا على وجوب الالتزام أو عدم وجوبه، بل يكون على «عدد» الالتزامات، ففريق يقول إنهما التزامان: التزام بقواعد الفن الأدبي أولا، والتزام بأن يكون المضمون هو مشكلات المجتمع ثانيا، على حين أن الفريق الآخر يطالب بالتزام واحد، هو التزام بقواعد الفن الأدبي، ولا شأن لنا بعد ذلك بالمضمون ونوعه، فإذا كانت هذه هي حقيقة الموقف، أفلا يكون الفريقان معا على اتفاق في فكرة الالتزام من حيث هو كذلك؟ وإلا فأين هو الأديب الواحد أو الفنان الواحد أو المفكر الواحد، على طول التاريخ الثقافي كله، الذي لم «يلتزم» في عمله شيئا ما؟ فإذا قال قائل هنا: لا، بل نريده أن يلتزم كذا لا كيت، كان ذلك «إلزاما» لا «التزاما» ... وقد اعترفنا جميعا بأنه لا إلزام.
وأسوق مثلا آخر وأخيرا، لاختلاف الرأي الموهوم، حين تختلف العبارات في لفظها، حتى إذا ما أمعنت النظر في مدلولاتها، ألفيتها تستهدف هدفا واحدا، والمثل الذي أسوقه هو اختلاف القائلين بالفردية والاجتماعية، ففي ظني أنه لو ترك التقابل بين الطرفين هكذا مطلقا من القيود، لأفرغناه من معناه، فالمعنى الحقيقي المقصود هو ألا ينشط الفرد في ميادين العمل والفكر إلا بما عساه أن يخدم المجموع، لكن هذا نفسه لا ينفي أن يكون الفرد في نشاطه فردا، وإنما هو مطالب بنوع معين من النشاط الذي يحقق به فرديته والذي يفيد المجتمع في الوقت نفسه، إذ قد ينشط الفرد بما يهدم المجتمع، وإذن فليس الشرط هو ألا ينشط الفرد من حيث هو فرد، بل الشرط هو أن يوجه نشاطه الفردي نحو خدمة الناس، افرض أن الفرد الذي نخاطبه بهذا الكلام يحترف مهنة الحكم في لعبة الكرة، فكيف يمكن أن يمارس حرفته إلا من حيث هو فرد؟ لهذا فنحن لا نطالبه بأن يحد من فرديته، بل نطالبه بأن يوجه نشاطه الفردي في أدائه لحرفته نحو هدف معين يخدم اللاعبين جميعا، إن أشد أنصار الفردية تعصبا لرأيه، لا يطرح الناس من حسابه، بدليل أنه يتكلم ليعبر عن رأيه ذاك، ويرسل كلامه إلى المطبعة ليطبع وينشر، وهو حين يتكلم وحين يعمل على نشر كلامه، إنما يتوجه به نحو الناس، وإذن فالقائلون بالفردية والقائلون بالاجتماعية، إنما يقولان شيئا واحدا، إذا كان المراد هو أن يكون النشاط الفكري أو العملي ذا صلة بالمجتمع كله أو بعضه، ولا يكون بينهما فرق إلا إذا قصرنا معنى الفردية على النشاط الذي يهدم المجتمع، ويعارض مصالحه، لكن من أين يتحتم هذا المعنى؟ وعلى كل حال، فلو كان دفع المجتمع أو تعويقه هو موضع الحديث، كان لمثل هذا الاختلاف معنى، أما أن يكون المحوران هما الفردية والاجتماعية، من حيث هما، فلا اختلاف هناك في حقيقة الأمر؛ لأن الفردية لا تكون إلا في مجتمع.
وإن أغمض الحالات جميعا عن الرؤية، هي الحالة الرابعة - من الحالات التي أسلفنا ذكرها - حين يكون لكل متحدث مشكلته التي يتصدى لها، وبرغم ذلك يظن المتحدثان أنهما يتصديان لمشكلة واحدة بعينها، وأن أحدهما، إذا أصاب الرأي، تحتم أن يوصم زميله بالخطأ.
وأعيد القول مرة أخرى، بأن الخلاف لا يكون بين رأيين، إلا إذا كان الرأيان مما يتعلقان بسؤال واحد، أي أنهما معا يندرجان في مقولة واحدة، فإذا سئلنا - أنت وأنا - عن جدران هذه الغرفة، فقلت أنا إنها بيضاء، وقلت أنت إن ارتفاعها أربعة أمتار، فليس هذا الذي بيننا هو خلاف في الرأي؛ لأنك بمثابة من يجيب عن سؤال غير السؤال الذي أجيب أنا عنه، أنت تتحدث عن «الكيف» وأنا أتحدث عن «الكم» وهما مقولتان مختلفتان.
وحسبي هنا مثل واحد أسوقه لاختلاف الرأي المزعوم، حين لا يكون في حقيقة الأمر اختلاف؛ لأن كل رأي من الرأيين متصل بمشكلة غير المشكلة التي يتصل بها الرأي الآخر، وليكن هذا المثل هو اختلاف النقاد على مبدأ النقد الأدبي ماذا يكون؟ فها هنا تجد إجابات كثيرة، ناقد جعل مبدأ البحث عما تحمله القطعة الأدبية من رسالة فكرية، وناقد آخر يجعل مبدأ البحث عن القالب الذي صبت فيه تلك الرسالة إذا كان ثمة رسالة، وناقد ثالث، ورابع وخامس إلى آخر الصف الطويل، ويزعمون أنهم مختلفون في مشكلة واحدة بعينها، وليس الأمر كذلك؛ لأن كلا منهم يهتم بشيء غير الشيء الذي يهتم به الآخر، افرض أننا أربعة أصدقاء دخلنا معا مكتبة ليبحث كل منا عن كتاب غير الكتاب الذي يبحث عنه الآخر: واحد يريد كتاب الوجود والعدم لسارتر، وآخر يريد كتاب مبادئ الهندسة لإقليدس، وثالث يسأل عن الأيام لطه حسين ورابع يطلب ديوان العقاد، فهل يكون بيننا خلاف على رأي؟ وهكذا قل في أربعة نقاد يتناولون قصة أو مسرحية، بمبدأ نقدي لكل منهم غير المبدأ الذي يأخذ به زميله، فالقصة المنقودة هي الدكان الذي سيدخلونه جميعا، لكن لكل منهم فيها مأربا، إن وجده كان خيرا وإلا فهو يخرج منها بغير زاد ... اختلفت المطالب، أي اختلفت الأسئلة فاختلفت الإجابات بالضرورة، فلا صراع هناك كما قد يظن المغرمون بالصراع الفكري، حيث يكون، وحيث لا يكون بغير تمييز.
أزمة القيم في عصر الانطلاق
لا أريد أن هنالك أزمة قائمة بالفعل بين جديد القيم وقديمها، لكني أريد أزمة نقيمها ونخلقها خلقا، فليس أهون على الإنسان من أن يحيا في عالمين: فعالم خارجي عام يضطرب فيه مع الناس في أوجه النشاط والعمل، يحكمه في التعامل معهم مجموعة من القوانين واللوائح، وعالم داخلي خاص يعيش فيه مع أهله وخلصائه، تضبطه معهم مجموعة من المعايير، قد تتفق وقد لا تتفق مع معايير العالم الخارجي حيث سائر المواطنين الذين لا تربطه بهم صلة القربى القريبة أو الصداقة الحميمة، فإذا كان مما يجوز له هنا أن ينفض نفسه نفضا بحيث يمدح ما يمدحه عن صدق ويذم ما يذمه عن صدق، فلا يجوز له هناك أن يمدح أو يذم إلا ما يريده له الناس من مدح وذم، وإذا كانت علاقته هنا مع أفراد أسرته ومع أصدقائه هي أن يقف الواحد منهم إلى جانب الآخرين في صف واحد، أقدامهم كلهم دائسة على الأرض، ورءوسهم كلهم معتدلة القامة لا تنحني تحت حمل يثقلها من أعلى، فعلاقته هناك مع سائر المواطنين في المكتب والمصنع والشركة والمصرف، بل وفي الملعب وفي الطريق هي أن يقفوا في عمود رأسي، الواحد منهم على أكتاف من دونه، وإذا كان مما لا يجوز له هنا أن يسرق الوقت والجهد والمال من سواه، فتلك كلها أمور جائزة له هناك، لا يمنعه من أدائها إلا خشية العقاب.
نعم، ليس أهون على الإنسان من أن يعيش في عالمين، لكل عالم منهما قواعده وقوانينه، ويغلب أن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الخارجي العام هي تشريعات مسنونة من صاحب السلطان، وأن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الداخلي الخاص هي مواضعات خلقية وعرف وتقليد، ويغلب كذلك أن تكون للأولى من ألوان العقاب المقررة ما يردع الناس عن مجاوزة الحدود المشروعة، وألا يكون للثانية من ألوان العقاب إلا لذعات الضمائر واستهجان الآخرين، وإنه لمن المألوف لهذا الازدواج أن يكون هو الحالة الطبيعية التي لا تثير دهشة عند أحد (إلا أن يكون من المشتغلين بفلسفة الأخلاق) في العلاقات بين أمة وأمة أخرى، كأنما ليس ثمة من ضير على الإنسان أن يعامل مواطنيه على نحو، وأن يعامل أبناء البلاد الأخرى على نحو آخر، فالفعل الواحد المعين يفعله في بلده فيكون خيانة كبرى يستحق عليها الإعدام، والفعل نفسه يفعله في بلد آخر فيستحق به من مواطنيه أوسمة التقدير ... أقول إنه من المألوف لهذا الازدواج في القيم أن يكون هو الحالة الطبيعية بين أفراد أمة مع أفراد أمة أخرى، لكنه لا يكون هو الحالة الطبيعية بين أبناء الأمة الواحدة إلا إذا كان في الأمر جانب خبيء يحتاج لأن يكشف عنه الغطاء لتقع عليه الأبصار في ضوء النهار، وكشف الغطاء عما في أنفسنا من ازدواج في القيم، من شأنه أن يحدث الأزمة التي أشرت إليها في أول المقال.
وأهم ما يحدث ازدواجا في القيم بين أبناء الأمة الواحدة، هو أن تكون تلك الأمة في مرحلة انتقالية من مراحل نموها وتطورها، والمعلوم في مثل هذه الحالة أنه وإن تكن أسس التعامل بين الناس منبثقة آخر الأمر من شبكة العلاقات الاقتصادية، فإذا تغيرت هذه العلاقات كان التغير في أسس التعامل كلها لاحقا ضرورة وحتما، إلا أن التغير المادي الاقتصادي أسرع دائما من نتائجه الخلقية، حتى لكثيرا ما يحدث أن يجيء التغير الخلقي بعد أسبابه من التغيرات الاقتصادية بسنوات طوال، بل إنه قد لا يجيء، ويظل الإنسان في حالة قلقة بين ما يكسب به العيش في عالمه الخارجي وبين ما يدخل الطمأنينة والسكينة على نفسه في عالمه الداخلي، لقد سارت الإنسانية في تطورها من اقتصاد الرعي إلى اقتصاد الزراعة، ومن هذا إلى اقتصاد الصناعة، وكان لها في كل طور من هذه الأطوار أخلاق تلائم المحيط الاقتصادي، لكن ما أكثر ما تخلف في كل مرحلة من أخلاق المرحلة السابقة عليها؛ ففي مجتمعنا الزراعي هنا في مصر، كانت تسود - إلى جانب ما تقتضيه حياة الزراعة من أخلاقيات - بقايا من مجتمع البداوة الرعوية احتفظ بها العرب من عهد بداوتهم ونقلوها إلى المجتمعات التي كانت قد استقرت في زراعتها أمدا طويلا، وها نحن أولاء في حالة انتقال من طور الزراعة إلى طور الصناعة، لكننا ما زلنا مثقلين بأخلاقيات المجتمع الزراعي جنبا إلى جنب مع ما تدعو إليه الحياة الجديدة - بعلمها وصناعتها - من أخلاقيات جديدة.
لقد استقرأ «روستو» في كتابه «مراحل النمو الاقتصادي» مراحل السير التي اجتازتها البلاد - على اختلاف مكانها وزمانها - في تطورها الاقتصادي بما يستتبع ذلك من تطور اجتماعي وثقافي وسياسي، فوجدها خمس مراحل، هي: المرحلة التقليدية، تتلوها مرحلة التحول، ثم مرحلة الانطلاق، وهذه تتلوها مرحلة النضج، وأخيرا تجيء مرحلة الرفاهية على المستوى الحضاري الرفيع.
في المرحلة التقليدية الأولى، تكون أوضاع الحياة محددة ضيقة المجال، لكل شيء قيوده من التقاليد والعرف، ولكل حركة طريقها المرسوم، حتى لا يجوز للسائر أن يمشي بأسرع ولا بأبطأ مما ينبغي، ولا للضاحك أن يضحك بصوت أعلى مما يجب، العمل الرئيسي في هذه المرحلة زراعة، والسلطان الحقيقي في أيدي ملاك الأرض، وصالح الأسرة في هذه المرحلة فوق صالح الأمة، ولكل أسرة مستواها الطبقي، فلا يؤذن لأبنائها أن يشرئبوا بأعناقهم إلى ما هو أعلى ... ثم تسري أشعة العلم في جسم الحياة - إما قليلا قليلا أو دفعة سريعة - فيتبع العلم صناعة تشغل بعض الأيدي عن فلاحة الأرض، وتجعل المدينة مركز القوة دون الريف وقراه، بل إن حركة التصنيع لتمس الزراعة نفسها، فإذا الحقل بمكانته وجراراته كأنه مصنع، وإذا القرية كأنها مدينة صغيرة، وتلك هي معالم المرحلة الثانية: مرحلة التحول.
حتى إذا ما كملت عملية التحول، واستكمل المجتمع خلالها ملامح وجهه الجديد، دخل في مرحلة الانطلاق، وفيها تتجدد خلاياه كلها لتلائم الحياة العلمية الصناعية الحضرية الجديدة، فتتغير العلاقات الإنسانية بأسرها، وتتغير الحقوق والواجبات، تتغير قيمة العمل بالسواعد بالنسبة إلى أصحاب الفراغ، وتتغير مهمة الحاكم بالنسبة إلى المحكوم، وتتغير العلاقة بين الرجل والمرأة، بين أهل الريف وأهل الحضر ... يتغير كل شيء في مرحلة الانطلاق لتندفع الملامح الجديدة التي نشأت في مرحلة التحول، حتى تبلغ مداها، وهذه هي المرحلة التي نقف اليوم على مشارفها، لنجتازها في عدد من السنين يكثر أو يقل بحسب دوافع التطور، ثم لننتهي منها إلى المرحلتين الأخيرتين: مرحلة النضج ومرحلة الرفاهية على مستوى حضاري رفيع.
وأوضح ما يلفت أنظارنا في مرحلة الانطلاق هذه، ازدواج القيم التي نعيش على هداها: فقيم تخلفت من المرحلة الأولى (مرحلة العرف والتقليد) وصمدت عبر المرحلة الثانية (مرحلة التحول) وقيم تقتضيها حياة العلم والصناعة: في الأولى تكون الأولوية لمن يملك على من لا يملك، وفي الثانية تكون لمن يعمل على من لا يعمل؛ في الأولى تواكل واستسلام للقدر، وفي الثانية اعتداد بحرية إرادة الإنسان، وتسليم بنتائج العلم؛ في الأولى تغليب للوجدان على منطق العقل، وفي الثانية تغليب للعقل على مشاعر الوجدان؛ في الأولى تشويه للماضي بالتهويل والخرافة، ثم الاحتماء بهذه الصورة المشوهة والتمسك بها لذاتها، وفي الثانية تنقية للماضي ليكون في أيدينا سلاحا للحاضر وعدة للمستقبل؛ في الأولى شخصية ضائعة هضيمة لمن يلتهمها، وفي الثانية تثبيت للشخصية واعتزاز بها في غير صلف أعمى؛ في الأولى قبول للواقع كما يقع لأنه من صنع القدر، وفي الثانية تغيير للواقع عما وقع لأنه من صنع أيدينا.
أقول إن أول ما يلفت أنظارنا، ونحن على مشارف المرحلة الثالثة من مراحل السير: مرحلة الانطلاق، ازدواج القيم، فنحن مشدودون اليوم بين قديم وجديد ، نعمل بأجسادنا على نحو، ونفكر بعقولنا ونحس بقلوبنا على نحو آخر، كمن يعزف على القيثارة لحنا لكنه يغني لحنا آخر، نعم إنها سنة الحياة أن يبطئ التغير الخلقي بحيث لا يلحق بالتغير المادي إلا بعد أمد قد يطول، فواجبنا أن نستحث الخطى لنسرع نحو التئام الفجوة بين خارج الإنسان وداخله.
وحتى لا يكون حديثنا على مستوى التجريد والتعميم، ندعمه بأمثلة مجسدة معينة مما وقع لنا في خبراتنا الحية، أمثلة تبين أننا نقول بألسنتنا ما لا نحس صدقه بقلوبنا، إذ نردد بالألسنة معايير المرحلة الجديدة من مراحل حياتنا، لكننا ما زلنا معلقين في قلوبنا بمعايير أخرى ذهب زمانها:
جاءني من مكتب حكومي خطاب يحدد لي موعدا في الساعة التاسعة من صباح يوم معين، وذهبت قبل التاسعة ببضع دقائق لأكون حاضرا عند تمام التاسعة كما ذكر لي في الخطاب، لكنني وصلت لأجد المكان خاليا من كل أثر للحياة والأحياء، وأصخت السمع فإذا صوت رجلين يتحدثان في غرفة بعيدة، فسرت نحو مصدر الصوت مارا في ممر ضيق يفصل غرف المكاتب عن يميني ويساري، لا يقع فيها البصر إلا على مناضد ومقاعد قد خلت من آهليها، ووصلت إلى مصدر الصوت فإذا خادمان يسمران، وحييت استحياء؛ لأنني شعرت بالذنب الذي يشعر به من يخوض حرما مقدسا لم يكن من حقه أن يخوضه، وسألت مستفسرا: أين عساي أن أذهب؟ وأبرزت لهما الخطاب الذي جاءني بتحديد الموعد، وتناول أحدهما الخطاب وقرأ، وناوله لزميله ليقرأ، ثم رداه إلي، وأحدهما يقول - والآخر يكرر قوله كأنه الصوت والصدى - هم يقولون التاسعة، لكنهم لا يقصدون التاسعة، هم لا يحضرون قبل الحادية عشرة، فإذا كان وراءك مشوار فاذهب واقض حاجاتك ثم عد، وإلا فانتظر في البهو الخارجي ...
آثرت أن أنتظر في البهو الخارجي، فجلست على مقعد كسيح القوائم معفر الأجزاء، إلى جوار منضدة فرشت بقطعة من «الجوخ» الأخضر، ويا ليتها ما فرشت ... وبعد نصف ساعة جاء موظف ودخل غرفة من الغرف التي تفتح على البهو الذي كنت أجلس فيه، فانتظرت حتى رأيته قد استقر في جلسته وشرب قهوته، وبدأ يفتح الخزائن من حوله ليخرج من جوفها أوراقا، ثم استأذنت في الدخول ودخلت، وأبرزت له الخطاب الذي جاءني وسألت: ترى هل أخطأت المكان أو أصبت؟ فنظر في الخطاب، وقال وهو لا ينظر إلي: «بل أصبت، فانتظر حيث كنت، حتى يجيئوا» ... ترى من هم ... أولئك الذين لا يتحدثون عنهم إلا بضمائر الغائب في نغمة كأنها توحي بأنهم سيهبطون علينا من عالم مجهول؟ ومر نصف ساعة آخر، ودخل رجل يحمل حقيبة، لكنه كان زبونا مثلي - وإن يكن أحرص مني لأنه انتفع من زمنه بساعة كاملة أضعتها أنا عبثا - وجلس على مقعد بجواري، وكأنه ألف أن يقصد إلى هذا المكان لينتظر، وهكذا أخذت أنصاف الساعات وأرباعها تمضي، والقادمون يحضرون واحدا فواحدا، ويدخلون الغرف المختلفة، وقاربت الساعة الحادية عشرة، وحالي هو كحالي منذ قدمت في الساعة التاسعة، إلا مللا وسأما أخذت يزدادان معي حتى كدت أنفجر، وكنت عندئذ قد سمعت حديثا عالي النبرة وضحكات صادرة عن قلوب خالية من الهموم، فرجحت من جرأة الحديث والضحكات أنها لا بد صادرة عمن لا يخشون أحدا، وإذن فلا بد أن يكونوا «هم» الذين أشير إليهم بضمير الغائب ... وجررت قدمي جرا في حذر، إلى حيث الغرفة التي انبعث منها الحديث والضحك، فإذا ثلاثة يجلسون على ثلاثة مكاتب، وعليهم جميعا سمات الوقار والتهذيب، فأملت خيرا، ونقرت الباب نقرة خفيفة، وحييت وسألت السؤال نفسه الذي سألته قبل ذاك مرتين، فما كان أشد دهشتي أن رد علي في عنف شديد أحد الرجال الثلاثة، قائلا: من تكون أنت؟ فقلت: أنا فلان - قلتها في هدوء شديد، وشاء لي حسن الحظ أن يكون اسمي معروفا له، وأن يكون قد قرأ لي شيئا ما، فانقلب غضبه رقة عذبة، وراح يعتذر لي، معاتبا إياي: كيف لمثلي أن يجلس في البهو منتظرا، وكان ينبغي له أن يفصح عن شخصيته فور قدومه، وأصر إصرارا شديدا على أن أجلس معهم قليلا، وأن يستضيفني بفنجان من القهوة، ولعله أراد أن يعيد إلي الثقة في نفسي، ففتح موضوعا في الفلسفة زعم أنه يشغله منذ زمن بعيد، وأراد أن ينتهز فرصة وجودي معهم ليستوضحني بما يزيل عنه الشك والقلق ... وبعد ذلك فحص أوراقي التي من أجلها جئت.
انظر إلى هذه القصة العابرة وما قد تجسد فيها من قيم، تجدها كلها قيما هي نفسها قيم المرحلة الأولى من المراحل الخمس التي أسلفت لك ذكرها، أعني مرحلة الاقتصاد الزراعي بكل ما تحمله من صفات، وحسبي هنا أن أستخلص منها قيمتين اثنتين: الأولى هي قيمة الزمن، والثانية هي قيمة التفاوت الطبقي بين المواطنين: أما عن الأولى فلم يكن في اقتصاد الزراعة فرق بين الساعة التاسعة والساعة الحادية عشرة؛ لأن الزرع لا يختلف نموه إذا جاءه الري مبكرا ساعتين أو متأخرا ساعتين، وهنا أذكر ملاحظة عجيبة كنت قرأتها منذ أمد بعيد في كتاب الاستعماري الأكبر اللورد كرومر عن «مصر الحديثة» يقول فيها إنه على يقين من أن مصر لن تتحول في أي يوم من الأيام بلدا صناعيا؛ وذلك لسبب عنده عجيب، هو أن الصناعة مرتكزة في أساسها وصميمها على دقة التوقيت، على حين أن المصريين تنقصهم هذه الدقة، إن العامل الصناعي وهو واقف أمام الآلة الدائرة ليضع فيها شيئا أو ليأخذ منها شيئا كل دقيقة مرة أو كل دقيقتين مرة، لا يستطيع أن يغفل عنها قائلا للآلة: اصبري حتى أتهيأ لك، ومن ثم كان عنصر الزمن من أهم الأمور في مرحلة الصناعة.
وأما عن القيمة الثانية: قيمة التفاوت الطبقي بين المواطنين، فقد كانت كذلك نتيجة طبيعية في مرحلة العرف والتقليد التي سادها الاقتصاد الزراعي؛ لأن الزراعة بطبيعتها عندئذ كانت تتطلب صاحب أرض يسود وجماعة من الفلاحين يفلحون له الأرض ويسادون، وليس من المعقول عندئذ أن يتساوى في العرف سيد ومسود، فللسيد معاملة وللمسود معاملة أخرى دون أن يحس السيد أو المسود شذوذا في هذا التفاوت، ولكم سمعت آذاننا في آلاف المواقف رجلا يظن أنه قد أهين، فيسأل من وجه إليه الإهانة: أتعرف من أنا؟ وذلك لأنه لا يكفيه أن يكون مواطنا كسائر المواطنين، وأن تكون المعاملة الاجتماعية قائمة على أساس المواطنة وحدها بغض النظر عمن تكون أنت، ومن أكون أنا من حيث العمل الذي يؤديه كل منا.
هاتان قيمتان اثنتان استخرجناهما من موقف واحد: قيمة الزمن وقيمة التفاوت الطبقي، لندل بهما على ما زعمناه، وهو أننا نعيش في مرحلة الانطلاق بعلمها وصناعتها، على قيم المرحلة البائدة، ولن تستقيم الأمور وتتناغم جوانب حياتنا إلا إذا أحدثنا الثورة في القيم، كما أحدثناها في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وإنها لثورة لا تتم لنا إلا إذا خلقنا - نحن رجال الفكر والأدب - أزمة في نفوس الناس ليحسوا حدة التناقض القائم.
لكن رجال الفكر والأدب منا ليسوا - فيما أحسب - على تصور واضح بعد، ماذا تكون القيم الجديدة التي يحللونها فيما يكتبون، ويجسدونها فيما ينشئون من قصص ومسرحيات، وينشدونها فيما ينظمون من قصائد، ولأضرب لك على اختلافهم في تصور القيم الجديدة مثلا واحدا، إن عصر الصناعة يقتضي حتما أن تزول الفوارق شيئا فشيئا بين القرية والمدينة، ذلك أن آلات الصناعة ستدخل شيئا فشيئا إلى الزراعة كما دخلت في سواها، ووسائل التعليم والإعلام واحدة هناك، فما يثقف فلاح المزرعة في القرية هو هو نفسه ما يثقف عامل الصناعة في المدينة، ووسائل المواصلات أسرعت وازدادت، وطرق سيرها رصفت، بحيث اشتدت حركة الانتقال بين القرية والمدينة شدة كادت تمزج الفريقين في جماعة واحدة كل يوم، إن الصحف التي تظهر في القاهرة تظهر في اللحظة نفسها في معظم القرى، والخبر المذاع في القاهرة يذاع في كل ركن من كل منزل في طول البلاد وعرضها في آن واحد ... أفلا يكون من الطبيعي والحالة هذه، أن تختفي قيمة قديمة كانت تتغنى ببراءة الريف وتندب حظ المدينة من الشر والسوء، لتظهر قيمة جديدة لا تمتدح البراءة في ريف (لاحظ جيدا أن البراءة هنا تنطوي على سذاجة) ولا تندب شرا وسوءا في مدينة؟ لقد كان بعض السر في القيمة القديمة أن يرضى أهل الريف بما هم فيه من طريق للحياة مسدود، لئلا تنفتح أعينهم على لذائذ العيش في المدينة، أما اليوم وقد سرنا في طريق يجعل القرية مدينة صغيرة، فلم يعد ما يبرر أن يتغنى الشاعر بالريف دون المدينة، ولا يبرر أن يكتب القصصي فإذا هو يرسم شخصيات الريف على أنها البريئة التي لم تفسدها المدنية بعد، هذه وجهة نظر أعرضها، قد تجد من يعارضها من القراء ومن يؤيدها، فلا تكون معارضة المعارضين وتأييد المؤيدين إلا إثباتا لما أزعمه، وهو أننا لسنا جميعا على تصور واضح بعد، ماذا تكون القيم التي ندعو إليها ونحللها ونجسدها فيما نكتب.
فليس رجال الفكر والأدب منا على اتفاق بعد في الأهداف، نعم، إننا جميعا على اتفاق ما دام الأمر أمر أحكام عامة مجردة، لكن اهبط من هذا التعميم والتجريد إلى حيث التفصيلات الجزئية، تجدنا قد تفرقنا شيعا وجماعات، وهل منا - مثلا - من يعارض في أن تكون الاستنارة العقلية - أعني التعليم بكل معانيه - من أولى القيم التي يجب أن نذيعها بكل قوانا؟ لكن سل هذا وهذا وذاك: ماذا تعده وسيلة للتنوير العقلي؟ تجدهم قد تباينوا رجالا ثلاثة: فرجل يجد التنوير في بعث القديم، وثان يجده في الاغتراف من غربي أوروبا، وثالث يجده في الاغتراف من شرقيها، وربما وجدت رابعا يأخذ بالأحوط، فيقول: آخذ من كل شيء بطرف بحيث تجتمع لي الثقافة التي تتناسب مع مشكلاتنا الخاصة وتحدياتنا الخاصة.
وأخلص من هذا كله بنتيجة هي أننا بحاجة شديدة إلى احتكاك الآراء بكل ما استطعنا من حدة الجدل؛ لكي تتبلور في أذهاننا صورة متجانسة عن القيم المطلوبة للعصر الجديد، وعندئذ نصب جهودنا في كل مقال وفي كل قصة وفي كل مسرحية وفي كل قصيدة من الشعر، وفي كل صورة أو تمثال، نصب جهودنا في هذا كله لنوجد في صدور الناس أزمة نفسية يحسون بها ضرورة الانتقال في دنيا القيم كما انتقلوا في دنيا العمل، حتى لا يستنيموا للازدواج القائم أمدا طويلا.
بأي فلسفة نسير؟
هي خطوات ثلاث يخطوها الإنسان - فردا أو جماعة - ليكتمل له النضج والوعي، وقد يقف عند أولاها، أو عند ثانيتها، فلا يكون له من النضج والوعي إلا بمقدار ما خطا، أما الخطوة الأولى فهي التي يخوض فيها غمار الحياة العملية: يزرع أو يصنع أو يتاجر فيما قد زرع أو صنع، يعلم أو يتعلم، يجد أو يلهو، يخوض فيها غمار هذه الحياة العملية خوضا موفقا هنا مخفقا هناك ... لأنه وقع هنا على الفكرة الصائبة، وأخطأها هناك، لكنه في كلتا الحالتين لا يستطيع أن يضع إصبعه على الفكرة المنبثة في عمله، بل هو لا يعرف أن في تضاعيف عمله قد انبثت فكرة، تلك هي الخطوة الأولى التي يلتف فيها الفكر في ثنايا العمل فلا يظهر قائما وحده، وأما الخطوة الثانية فهي حين يعن للإنسان أن يسترجع تلك المناشط التي نشط بها في دنيا العمل، ليتأملها لعله مستخرج منها ما كان قد انطوى فيها من أفكار، لقد أقام جدران بيته عمودية حتى لا تنهار، لكنه لم يتنبه عندئذ إلى فكرة «الزاوية القائمة» التي تقع بين سطح الأرض والجدار، وكان قد زرع القمح في أرضه، لكنه لم يفرغ عندئذ ليبحث في الزرع كيف يغتذي بعناصر الأرض وكيف ينمو ويثمر، وربما كان قد مرض أثناء ذلك، بل ربما كان قد أدرك أن الذي أمرضه هو بعوضة حطت على جسده، لكنه لم يخل لنفسه يومئذ ليستخلص العلاقة بين البعوضة والمرض، وأما الآن فقد عن له أن يسترجع أوجه حياته العملية ليخرج منها الأفكار التي كانت مطوية فيها، حتى إذا ما تكاثرت بين يديه وتنوعت أخذ في تصنيفها وتبويبها علوما علوما، فهذا علم الرياضة الذي يبحث في الخطوط والزوايا والمثلثات، وهذا هو علم النبات الذي يبحث في الزرع كيف يتغذى وينمو، وذلك هو علم الطب الذي يبحث في المرض وكيف يعالج، وبينما يكون الإنسان في هذه المرحلة التي يستخرج فيها الأفكار من ثنايا الحياة العملية ليقيمها في عالم وحدها هو عالم العلوم، أقول إنه بينما يكون الإنسان في هذه المرحلة الفكرية، ترى أقدار الناس قد تفاوتت درجات، فبعضهم يكفيه أن نصنف الأفكار علوما، ولكن بعضهم الآخر قد تأخذه النشوة فيمضي في هذا التجريد - أعني استخراج الفكرة من العمل الذي كانت تجسدت فيه - يمضي في هذا التجريد مرحلة أخرى وراء العلوم، يتناول فيها تلك العلوم نفسها ليستخرج من مبادئها وقوانينها مبادئ أعم وقوانين أشمل، فيكون عندئذ في مرحلة فكرية هي التي نسميها بالفلسفة.
بهذا تنتهي الخطوة الثانية من خطواتنا الثلاث (كانت الخطوة الأولى عملا مجسدا أخفى في تلافيفه أفكاره، وكانت الخطوة التالية استخراجا لتلك الأفكار لتقوم وحدها وكأنما هي شيء مستقل عن العمل الذي كانت تجسدت فيه) وتبقى خطوة ثالثة بغيرها لا تتم الدورة ولا يكتمل النضج والوعي، وهي أن نعود إلى أعمالنا الأولى نفسها - فتيارها مستمر لم ينقطع - نعود إلى زراعتنا وإلى صناعتنا، إلى علمنا وتعليمنا، إلى جدنا ولهونا، لكننا هذه المرة نعود إلى تلك الأعمال وقد عرفنا كوامن أسرارها، فلا يصبح التوفيق والإخفاق مرهونا بالحظ الذي يواتينا حينا ولا يواتينا حينا آخر، بل إننا هذه المرة نمسك بالزمام فنوجه تيار الحياة العملية إلى حيث شئنا لا إلى حيث يقذف بنا الموج.
إننا إذ نكون في الخطوة الأولى، لا نفرق بين نظرية وتطبيق، فهنالك بين أيدينا مواقف تتتابع علينا من بيئة تحيط بنا، وعلينا أن نرد عليها موقفا موقفا بما يلائمها، وهنالك تكوينات اجتماعية نجد أنفسنا أطرافا في بنائها وعلينا أن نتفاعل مع بقية الأطراف تفاعلا من شأنه أن يصون ذلك البناء، نجد أنفسنا - مثلا - أعضاء في أسرة، وأبناء في أمة، فنجد أمامنا قواعد وضعها لنا أسلافنا لنسلك على هداها داخل تلك التكوينات لنصونها، فعلى الوالد كذا وكذا من الواجبات نحو ولده، وعلى الولد كيت وكيت من الواجبات نحو والده، والزواج يكون صحيحا إذا اتبعت فيه القواعد الفلانية وهكذا، ومن خرج على القواعد المرعية في معاملاته مع أفراد أسرته أو أفراد أمته أو أفراد الإنسانية جمعاء، فهو معرض لعقوبات القانون إذا كان خروجه مما نص عليه القانون، ومعرض لاستهجان الناس إذا كان خروجه مما لم ينص عليه القانون، ولكنه متروك للأصول الخلقية تسيره وتتحكم فيه، وفي كل حالة من هذه الحالات «فكر» تقمص سلوكا مجسدا، وقد يفيدنا فائدة كبرى أن نستخلص «الفكر» من قميصه السلوكي، لنضعه وحده، فيكون لنا بذلك مبادئ القانون أو مبادئ الأخلاق، وعندئذ - كما أسلفنا القول - نكون قد تركنا الحياة العملية الحية المتشابكة الخيوط، تركناها مؤقتا لندخل في دار أخرى لا فعل فيها ولا تفاعل، وهي دار لو أمعنا في تسلق درجاتها كانت بذلك منزلا للفلسفة.
ولكم تسمع من الناس اتهامات يوجهونها إلى «الفيلسوف» لظنهم أنه قد ترك معترك الحياة العملية في تفاعلاتها ومناشطها، وفي حلوها ومرها، كأنما هذا «الفيلسوف» قد لجأ إلى عزلته لينسج ثوبا من هواء، وكأنما هو لم يعتزل وفي جعبته خيوط الحياة الواقعة، ليحاول أن يستخلص منها هي نفسها «الفكر» المبثوث فيها؛ لأنه بغير هذا يكون محالا عليه وعلى سواه أن ينقد الفكرة القائمة ليستبدل بها فكرة جديدة إذا رأى في الأولى نقصا يعاب، فالذين يحسبون «الفلسفة» بعدا عن الحياة العملية، إنما يقتطعون الخطوة الوسطى من بين الخطوات الثلاث التي أسلفنا ذكرها، ويبترون ما بينها وبين الواقع الذي عشناه في الخطوة الأولى والواقع الذي نريد أن نعيشه في الخطوة الثالثة - في الخطوة الأولى كان الواقع مقبولا بغير نقد وتحليل، وفي الخطوة الثالثة سيكون الواقع واقعا بمشيئتنا وإرادتنا وتخطيطنا وتصميمنا.
في الخطوة الثانية - خطوة التفكير المجرد الذي نصوغ به قوانين العلم ومبادئ الفلسفة - ننزع الفكرة من دنيا المكان والزمان لنجعلها مطلقة من قيودهما، ففي المكان الفعلي والزمان الفعلي أحجار تسقط ومياه تتدفق وهواء يهب، كل هذا نمارسه ونحن في مستوى الحياة العملية (الخطوة الأولى)، لكن قد يعن لواحد منا أن يعتزل حينا لعله يصوغ قانون الحركة مهما يكن الجسم المتحرك، حجرا كان أو ماء أو هواء، وإذا وفق فيما أراد، كان له - ولنا - بذلك «فكرة» تحررت من قيود المكان والزمان؛ لأنها تنطبق على كل مكان، وكل زمان، تنطبق على أي حجر ساقط وأي ماء دافق وأي هواء عاصف، فهل نقول لمثل هذا العالم الذي اعتزل دنيا الواقع حينا لعله يجد لنا هذه الصياغة التي تصور الفكرة الكامنة في وقائع العالم، إنه رجل قد تركنا في واقعنا النابض الحي ليعيش وحده في عالم مجرد، أليس الأصوب أن نقول إنه تركنا ليعود إلينا، تركنا ومعه واقع بغير نظرية وسيعود إلينا بنظرية يجريها على الواقع، وما نقوله عن العالم نقوله عن الفيلسوف مع اختلاف في درجة التجريد؛ لأن الفيلسوف كالعالم يبدأ من الواقع الذي تشابكت فيه المادة بالفكرة، ثم يعتزل حينا ليفصل الفكرة عن مادتها، والتبعة بعد ذلك تقع على من يقف عند هذا الحد من الطريق، إذ لا بد من استكمال الشوط، فنعود بالفكرة - بعد نقدها وتمحصيها - إلى الواقع مرة أخرى فنجريه على غرارها، ونحن على وعي وصحو وإدراك لما نحن فاعلون.
إنه إذا اختلف الفلاسفة - وهم يختلفون - فليس الاختلاف منصبا على إدراكهم للواقع كما يقع بل هو منصب على تأويله، أي أنه منصب على «الفكرة» التي استخرجوها من ذلك الواقع المشهود المحسوس: فالفيلسوف - كسائر عباد الله - ذو بصر وسمع ولمس وشم وذوق، إنه كسائر عباد الله يرى الماء الدافق في مدراه ويحس الهواء العاصف من حوله، إنه يجوع ويظمأ، إنه يعرف كيف تتكون الأسرة في مجتمعه وعلى أي أساس تقوم الحكومة، إنه يعلم كثيرا من طرائق البيع، والشراء، ويلمح كثيرا مما يحرك الناس في تفاعلهم بعضهم مع بعض، من حب وكراهية ورضى وسخط وسكينة وغضب، بل إن الفيلسوف كسائر عباد الله يعيش ويعاني ويفرح ويحزن، وإذا نظر فيلسوفان (من مذهبين مختلفين) إلى شيء معين من هذا كله، فسيتفقان - كما يتفق أي إنسانين آخرين - على ما يريانه، فإذا كان ما يشخصان إليه بالبصر لونا أصفر، اتفق الاثنان معا على أنه المرئي لون أصفر، وإذا كان ما يسمعانه صوتا زاعقا أو صوتا هامسا، فسيتفقان - كما يتفق أي إنسانين آخرين - على ما يسمعانه، لا، لا، ليس اختلاف الفلاسفة على الوقائع المرئية المسموعة المحسوسة، لكنهم إذ يختزنون هذا الواقع لينصرفوا إلى تحليله ابتغاء فصل «الفكرة» عن جسدها، فها هنا يقع الاختلاف في طريقة التحليل وفي نوعية الفكرة التي ينتهي بهم التحليل إليها - ولا تسلني قائلا: ولماذا أفصل الفكرة عن المواقف السلوكية التي تجسدت فيها؛ لأن الجواب قد أسلفناه لك، وهو أننا نفصل الفكرة وحدها لنتمكن من نقدها، فإذا كان فيها تناقض أزلناه، وإذا كان فيها قصور أكملناه! فانظر مثلا إلى الطريقة التي نصلح بها نظام الأسرة أو نظام المدرسة أو نظام الحكم أو نظام التجارة أو ما شئت من نظم، فماذا نصنع؟ إننا نعيش على مستوى الواقع في كل هذه الأمور، كلنا نشارك في أسرة وفي مدرسة وفي حكم وفي تجارة وفي غير ذلك من نظم المجتمع الذي نعيش فيه، وفي كل نظام من هذه النظم تتشابك الفكرة مع مادة الواقع، لكننا - آنا بعد آن - نضع أمامنا «المبادئ» أو «الأسس» أو «الأفكار» التي تقوم عليها الأسرة أو المدرسة أو الحكومة، لنرى هياكلها كيف أقيمت، وهل يراد لها التغيير وماذا يكون ذلك التغيير، إنا ساعتئذ لا نضع أمامنا على منضدة البحث «أسرة» فعلية أو «حكومية» فعلية أو «مدرسة»، بل نضع «فكرة» الأسرة أو «مبدأها»، وإذن فقد كان لا بد لنا من باحث يجعل همه استخلاص الفكرة من لبوسها المادي، لنتمكن من نقدها ومن تعديلها ومن تبديلها حسب ما يحقق أهدافنا.
وأعود فأقول إن الفلاسفة إذ يختلفون في مذاهبهم، فاختلافهم ليس على الواقع كما يقع، بل هو على الفكرة التي يستخلصونها منه لينقدوها نقدا قد يؤدي إلى وضع فكرة جديدة مكان فكرة قديمة، وإن اختلافهم ليرتد آخر الأمر إلى ما يأتي: هل الواقع يسبق فكرته؟ أو الفكرة تسبق واقعها؟ أو أن الواقع والفكرة كليهما كائن واحد ذو وجهين تنظر إليه من هذا الوجه فإذا هو ما نسميه واقعا، وتنظر إليه من ذلك الوجه فإذا هو ما نسميه فكرة؟
فإذا تذكرنا أن الفكرة إنما تكون في رأس إنسان، وجدنا أننا لو قلنا إن الواقع يسبق فكرته، كان معنى قولنا هذا أن الواقع مستقل بوجوده، يغير نفسه بنفسه، دون أن يكون للإنسان أقل أثر في تحويره وتبديل مجراه، إذ كيف يحوره الإنسان ويبدله إذا كان قصاراه منه أن يجيء بعد وقوعه ليعلم كيف وقع، إن الإنسان عندئذ يتخذ من الواقع الخارجي موقف المتفرج، ولا فرق بين درجة عليا من التفكير أو درجة دنيا إلا أن الأولى فيها إدراك لما حدث أشد وأوضح مما في الثانية، لكنهما معا متفرجان لا يغيران من الأمر شيئا، كمتفرجين في مسرح، أحدهما ناقد نافذ البصيرة في الفن المسرحي، والآخر بريء ساذج، فسيعلم الأول - دون الثاني - أين يكمن سر القوة وسر الضعف في التمثيل، لكن لا الأول ولا الثاني بقادر على أن يغير ما قد حدث، وذلك هو نفسه الموقف حين نقول عن الواقع إنه يسبق فكرته، وبمثل هذا القول يأخذ فلاسفة المذهب الواقعي بشتى تفريعاته، ومن تفريعاته مذهب المادية الجدلية التي تجعل الإنسان بالنسبة لتيار الواقع كشاشة السينما، بالنسبة لشريط الفيلم، فهناك شريط الحوادث في الخارج يدور، سواء أكانت هناك الشاشة التي تتلقاه أم لم تكن، ووجود الشاشة لا يغير من محتوى الشريط ولا من طريقة دورانه شيئا؛ لأن للشريط مكنة مستقلة تقوم بدورها وتدور في حلقاتها بقوانين خاصة بها لا دخل للشاشة فيها سوى أن تتلقى وتعلم وتتابع، ومن تفريعات المذهب الواقعي كذلك مدرسة الواقعية الجديدة التي تزعمها برتراند رسل.
ذلك عن قول القائلين بأن الواقع يسبق الفكرة، وأما القائلون بأن الفكرة تسبق الواقع فهم الذين اصطلحنا على تسميتهم بالفلاسفة المثاليين (بالنسبة لبعضهم) وبالفلاسفة العقلانيين (بالنسبة لبعضهم الآخر) - والفرق بين أولئك وهؤلاء، هو أن المثاليين يجعلون الحقيقة كلها أفكارا لا يلزم بالضرورة أن تخرج إلى حيز الواقع المجسد في أشياء ومواقف - كما هي الحال في الرياضة مثلا - على حين أن العقلانيين وإن جعلوا الحقيقة كلها أفكارا عقلية إلا أن هذه الأفكار عندهم تنعكس على الواقع، ويكون لها وجود خارجي مجسد هو قسيم الوجود الذهني المجرد - على أن المثاليين والعقلانيين معا يتفقون على أن الفكرة العقلية هي الأساس وهي التي لها الأولوية على تطبيقاتها المادية، ومن شأن الفكرة - كائنة ما كانت - أن تكون مبرأة من أوجه النقص التي لا بد من حدوثها في عالم الأشياء، ففكرة الدائرة - مثلا - كاملة، وأما الدوائر التي نرسمها في دنيا الواقع فلا مناص لها من أن تجيء على درجة بعيدة أو قريبة من ذلك الكمال الصوري؛ لأن درجة كمالها مرهونة بجهاز الرسم، فكلما دق الجهاز اقتربت الدائرة المرسومة من الكمال، وكذلك قل في كل فكرة أخرى، فقد تتصور لنفسك فكرة عن رحلة تقوم بها، ثم تهم بتنفيذ الرحلة في دنيا الواقع، فإذا التنفيذ يصادفه من التفصيلات ما لم يكن في الفكرة المخططة، وهذه الفجوة بين الفكرة في كمالها من جهة، والواقع في نواحي نقصه من جهة أخرى، هي التي جعلت الفلاسفة المثاليين، والعقلانيين يتشبثون بقولهم أن لا علم ولا يقين ولا دقة إلا لعالم الأفكار دون عالم الأشياء والحوادث، وأمثال هؤلاء الفلاسفة هم الذين يصدق عليهم إلى حد كبير اتهام عامة الناس للفلاسفة عموما بأنهم ساكنو أبراج معزولة عن مجرى الأحداث.
ها هما - إذن - مجموعتان من الفلاسفة تقفان إحداهما من الأخرى على طرفي نقيض! الأولى تجعل مادة الواقع الخارجي بقوانينها الذاتية التي تحركها هي كل شيء، والأخرى تجعل الأفكار الذهنية في كمال تكوينها واتساق بنائها هي كل شيء، الأولى تجعل المادة هي الأصل وعنه تتفرع العقول بأفكارها كأنما هذه ظل يساير تلك، والثانية تجعل العقول وأفكارها هي الأصل وعنه تتفرع المادة كأنما هذه المادة بكل صلابتها ليست بذات وجود إلا من حيث هي فكرة في أذهاننا.
لكن إلى جانب هاتين المجموعتين مجموعة ثالثة تجعل المادة والفكر طرفين لشيء واحد كأنهما بطن اليد وظهرها، وهنا لا تكون الفكرة إلا تمهيدا لفعل، ولا يكون الفعل إلا ذيلا لفكرة، وهنا أيضا تبطل الحقائق المطلقة، وتصبح كل حقيقة على درجة من الصواب بقدر تمهيدها للعمل الذي جاءت لترسم له الطريق، فليست «الفكرة» هنا صورة مرآوية ترتسم على صفحة الذهن كما ترتسم الصور في المرايا، منزوعا منها قوة الحركة وقوة الدفع، بل «الفكرة» هنا هي عزيمة وإرادة، هي بداية تنفيذ وتحريك وتغيير.
قلنا: إنه مهما يكن المذهب الذي يريده الفيلسوف لنفسه، فهو لا بد أن يجعل الواقع نقطة ابتداء لمسيره، لكنه - في هذه الحالة - الواقع الفج الخام الغفل الغشيم، الواقع الذي يحياه الناس حين يكونون في المرحلة التي لا ينفصل فيها فكر عن عمل ولا عمل عن فكر، إذ يكون «الفكر» في هذه المرحلة مجسدا في مواقف، لم يبلغ بعد أن يتجرد وحده في نظرية صورية متحررة من تفصيلات مكان الوقوع وزمانه ... نعم لا بد للفيلسوف - مهما يكن مذهبه - أن يبدأ من هذه القاعدة الدنيا، ليستخلص مما يرى ما قد اندس فيه من نظريات، وأفكار ومبادئ، ليضعها - وهي في صورتها المجردة - موضع النقد والتحوير والتبديل، حتى إذا ما صقل لنفسه «فكرة» وسواها، عاد بها - أو قدومها للناس ليعودوا بها - إلى عالم الواقع مرة أخرى، فأعملها في ذلك العالم وأجراها في أحشائه ليتغير وجهه على النحو المرتجى.
أبدا لا يريد الفيلسوف أن يقف من العالم عند حد التأمل، بحيث يظل يدير الأمر في دخيلة فؤاده، ثم لا شيء بعد ذاك، إذ لو فعل ذلك لما زاد على أن يشد العالم من خارجه إلى داخله، وأن يكتفي بأن يكون هو على وعي وفي صحو ويقظة، فهو في هذه الحالة يتأثر ولا يؤثر، ويأخذ ولا يعطي، نعم، إن ذلك قد يجعل منه هو إنسانا أكثر تهذيبا مما كان وأنفذ بصيرة، لكن وجوده بين الناس يساوي عدم وجوده بالنسبة إليهم؛ لأن دنياهم لن تتغير بسبب ما قد يكون في رأسه من فكرة أو مبدأ، على أن مثل هذا الفيلسوف الذي يحرص على أن تدور مكنة الفكر داخل رأسه دون أن يخرج للناس طحنها ليقبلوه أو يرفضوه، لا أعرف له وجودا إلا فيمن أخذ دنياه مأخذ الهزل، وهؤلاء هم الصغار.
وسؤالنا الآن هو هذا: كيف يختلف وقع الفكرة الفلسفية باختلاف المذاهب، وقد لخصنا هذه المذاهب في ثلاثة: مذهب يجعل الأولوية للواقع المادي وأما الفكر فظل له وتابع، ومذهب يجعل الأولوية للفكر الذي ينبع من طبيعة العقل ذاتها، وأما عالم المادة فظل له وتابع، ومذهب ذلك يجعل الواقع والفكر في حوار، فلا فكر إلا ما له صلة بالواقع، ولا واقع إلا ما له صلة بالفكر، ولا واقع ولا فكر معا إلا بما له صلة بالإنسان وحياته.
لو كان الفيلسوف واقعيا، بالمعنى الذي يجعله ينظر إلى الطبيعة ومجراها على أنها أمر مفروغ منه ولا قبل لنا بتغييره، كان في رأيه أن كل ما في وسعنا هو أن نوائم بين أنفسنا وبين الطبيعة وقوانينها، فكل حركة في جسد الإنسان نفسه هي جزء من تيار الحوادث المحتوم، لا يغير منها أن يسر لها أو يحزن، فليسر ما شاء أو ليحزن، فذلك لن يغير من الأمر شيئا، وإذن فالتفكير الإنساني في هذه الحالة مسألة ذاتية بحتة لا تخص إلا صاحبها؛ ولذلك يغلب على الفيلسوف الواقعي أن يكون - في فلسفته - بمعزل عن دنيا العمل والنشاط، ولماذا يتدخل - بفلسفته - في مجرى الحوادث وهو يعلم أن تيارها محتوم بقوانين الواقع، والخير كل الخير هو في أن نخلي بين العلماء وبين هذا الواقع المحتوم المطرد، ليبحثوا لنا عن قوانينه فنفيد منها ما استطعنا، وقصارى الإنسان أن يضبط نفسه ليمسك بزمامها، لأنه لن يستطيع أن يمسك بزمام القدر ومصيره.
وأما صاحبنا الفيلسوف المثالي الذي يجعل الأولوية للفكرة النابعة من جوف الدماغ لتفرض نفسها على الخارج، فأمره مختلف، لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن «الفكرة» - أي فكرة - هي بطبيعتها مبرأة من أوجه التفاوت والنقص التي نراها عادة في الأشياء كما تقع فعلا، «ففكرة» الحصان هي دائما أكمل من أي حصان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الإنسان هي دائما كذلك أكمل من أي إنسان نراه في دنيا الواقع، و«فكرة» الخط المستقيم أكمل من أي خط مستقيم نرسمه في دنيا الواقع، و«فكرة» الحكومة، و«فكرة» الأسرة و«فكرة» المدينة كلها أكمل من قسائمها التي تقع فعلا، ولا عجب في ذلك، إذ إننا في حالة «الفكرة» نحن الذين نطهو الأكلة على مزاجنا، وأما في حالة الأمر الواقع فعلينا أن نتقبل أشياء تفرض نفسها علينا دون أن تكون هي المرجوة المشتهاة - ففيلسوفنا المثالي يسوي لنفسه عالما فكريا، يراه دائما أكمل من أي واقع، فيعيش فيه، كأنما هو ينتظر حتى يعلو الواقع إلى حيث يعيش، وحتى إن هم ونزل عن عالمه الفكري ليصلح عالم الواقع ويغيره، فسيكون قياسه دائما إلى أفكاره المثلى ومعاييره الكاملة، فيصعب عليه أن يملأ الفجوة بين الواقع في نقصه من جهة ومعاييره في كمالها من جهة أخرى، وعندئذ إما أن ييأس ويلوذ مرة أخرى بعالمه الفكري، وإما أن يتعب الناس بغير طائل قريب.
لكن الزميل الثالث الذي يجعل الأمر حوارا بين الفكر والواقع رجل عملي (ونحن نفرق بين «العملي» و«الواقعي») لا يعجبه تطرف الواقعية من جهة، ولا تطرف المثالية من جهة أخرى، فلماذا أجعل للواقع المحتوم كل هذا السلطان الذي يشل قدرة الإنسان على تغييره؟ ولماذا أجعل للأفكار المثلى كل هذه الرفعة التي تعلو بها على الواقع الناقص فلا تفيده شيئا برفعتها وكمالها؟ فهذه هي بيئة معينة أريد أن أحيا فيها، لكنها قد توافق أهدافي في جانب، وتعارض أهدافي في جانب آخر، وأريد أن أغير الجانب المعارض بحيث يخدم تلك الأهداف، وإذن فلا بد من تفاعل معها أقبل به ما أقبله وأرفض ما أرفضه لأغير ما أغيره! إنه لا جدوى في أن أركن إلى شيء سواي أنا وبقية الزملاء في المجتمع ليغير لي ما أريد تغييره من البيئة التي نسكنها، ثم لا جدوى في أن أخط للتغيير خطة فكرية مثلى معصومة من الخطأ ومن النقص، حتى إذا ما وجدت تطبيقها محالا، انطويت على نفسي لأعيش في أحلامها؛ ولذلك لا جدوى في أن أفرض أن للأشياء طبائعها التي لا تتغير، بل الجدوى هي في تناول المشكلات واحدة واحدة، لأدرس تفصيلاتها، ثم أقترح لحلها فكرة تناسبها، وقد أعود إليها من جديد مرة بعد مرة، إذا كان الحل لا يأتي إلا على درجات.
إن المعركة بيننا وبين الواقع دائرة الرحى، الأرض القاحلة يراد لها أن تزرع، والمادة الخامة يراد لها أن تشكل وتصاغ، والطرق يراد لها أن تمهد، والترع أن تشق والمرض أن يعالج والأمية أن تزال وغشاوة الجهل والخرافة أن تنقشع، ولن يغني إزاء هذه المعركة الدائرة الرحى أن ينعزل الفيلسوف المثالي بفكره الذي لا يتعرض للخطأ، ولا أن ينظر الفيلسوف الواقعي إلى الواقع على أن هذه هي طبائع الأشياء فيه فلا يتغير منه شيء إلا وفق قوانين الواقع المادي نفسه، فالمثاليون سادة مترفعون، والواقعيون سلبيون متفرجون، مع أننا نريد الرجل الذي ينزل معنا في المعمعة ومعه الفكرة التي تصلح سلاحا في القتال! قد يكون السيف أصلح هنا والمدفع أصلح هناك، الطائرة النفاثة مطلوبة هنا والدبابة مطلوبة هناك ... أعني أن لكل مشكلة ظروفها وطريقة علاجها المؤقتة، حتى إذا ما اتخذت وضعا أكثر ملاءمة عدنا إليها بطريقة علاج أخرى، وهلم جرا، ليست الحياة كمالا ولكنها سير نحو الكمال، عند المثاليين مراهقة طال أمدها، واحترام الواقع عند الواقعيين قناعة وعجز.
الفلسفة العملية هي فلسفة التجربة والخطأ، هي فلسفة النقد والإصلاح، هي فلسفة النظرة النسبية إلى المواقف والمشكلات، فلكل موقف ما يناسبه ولكل مشكلة ما يعالجها، وعندئذ يكون هذا وذاك هو «الحق» في هذه اللحظة، وقد لا يعود هو «الحق» غدا بالنسبة للموقف نفسه وللمشكلة نفسها، فإذا كانت المشكلة - مثلا - هي مشكلة التعليم، واجهتها بما يناسبها الآن، فأجعل التعليم الإلزامي إلى السن الفلانية، ودخول الجامعة بالنسبة الفلانية، ثم قد يتغير الموقف غدا فأكون أكثر تقدما وأغزر ثراء، فأتناول المشكلة نفسها مرة أخرى بحل جديد.
إن «الحق» حاصل ضرب بين طرفين، هما نحن والموقف الذي نريد أن نقبله أو أن نغيره، وأي فكرة نقحمها على هذين الطرفين تفسد علينا الفاعلية والعمل، سواء أتينا بالفكرة من تراث موروث عن الأسلاف أم جئنا بها من أمم تختلف ظروفها عن ظروفنا، وهذا هو معنى قولنا إن فلسفتنا نابعة - أو يجب أن تنبع - من واقعنا، والفكرة المقحمة علينا من زمان غير زماننا، أو من مكان غير مكاننا، حتى وإن كانت أكمل من فكرتنا الطارئة علينا، فهي بمثابة الفكرة عند الفلاسفة المثاليين، يأخذونها لكمال بنائها، لا لصلاحيتها لمعالجة موقف بذاته يعترض طريقنا.
لكننا أمة ورثت فيما ورثته مجموعة من القيم العليا التي نحس في أعماقنا أنها قيم ثابتة ودائمة ومطلقة من قيود المكان والزمان، فنقول عنها إنها قيم تصلح للإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن مكانه وزمانه ومواقفه ومشكلاته، فهل هنالك تناقض بين قبولنا لتلك المعايير الثابتة، المطلقة من جهة، وقولنا من جهة أخرى إن الحق يتغير بتغير الموقف الذي يصادفنا والمشكلة التي نعالجها، فما قد يكون معيارا صالحا اليوم قد لا يصبح معيارا صالحا غدا؟
أحسب أن لا تناقض، وهذه نقطة تريد التوضيح، إن الإنسان في رحلة الحياة شبيه به في أي رحلة صغيرة يرتحلها، فافرض أن رحلتك هي أن تعبر الصحراء حتى تصل إلى نقطة معينة على شاطئ البحر الأحمر، فالهدف الأخير ثابت أمامك لا يتغير، ولكن أهدافا جزئية فرعية ستنشأ خلال الطريق، فهذه حفرة عميقة أمامك، تريد اجتنابها، فعندئذ تحصر تفكيرك في طريقة اجتنابها قبل أن تستأنف السير، وهنا تكون هذه المشكلة الجزئية هي وحدها التي تتحكم في منهج التفكير، ويكون معيار صلاحية الفكرة هو نفعها في تجنيبك ما تريد اجتنابه، وكلما زاد نفع الفكرة زاد نصيبها من الحق، لكن سواء كانت معالجتك لهذه المشكلة الطارئة سليمة أو معيبة، فهل يؤثر ذلك في هدفك الأخير؟ كلا، فذلك هدف ثابت تضعه نصب عينيك كالبوصلة التي ترسم لك وجهة السير، دون أن تتدخل في طرائق معالجتك لمشكلاتك الصغرى أثناء الطريق ... وهذا ما يعمله قبطان السفينة وما يصنعه قائد الطائرة، وهو ما يصنعه قائد الجيش في المعركة حين يفرق بين «الإستراتيجية» و«التكتيك»، فالأولى هي خطة القتال، والثانية هي معالجات المواقف الجزئية التي تنشأ أثناء تنفيذ تلك الخطة.
هكذا الأمر بالنسبة إلى قيمنا الخالدة الثابتة من جهة، وقيمنا النسبية المتغيرة من جهة أخرى، الأولى هي بوصلة السير، والثانية هي المعالجات الضرورية للمشكلات الطارئة.
ولو أننا فرقنا هذه التفرقة، فربما وجدنا أننا بحاجة إلى النظرات الفلسفية الثلاث في آن معا، ولكن لكل نظرة منها مرحلة ومهمة غير مرحلة النظرتين الأخريين ومهمتيهما: فلكي نسير في تغييرنا للمجتمع على هدى وبصيرة ووعي، لا بد لنا أولا من مرحلة واقعية نرصد بها ملامح الواقع كما هي، دون أن نشوه الصورة بأوهام أو أحلام أو خيال، شريطة ألا نقع في غلطة الفلاسفة الواقعيين حين يظنون أن للواقع طبيعته المحتومة، ويتلو هذه المرحلة مرحلة ثانية نتأمل فيها الأفكار والمبادئ - على نحو شبيه بما يفعله الفلاسفة المثاليون - تلك الأفكار والمبادئ التي توجهنا في طريق السير نحو تغيير الواقع الذي رصدنا ملامحه ولم نرض عنها ونريد تغييرها، شريطة ألا نقع في غلطة المثاليين حين يظنون أن تلك الأفكار والمبادئ مبتورة الصلة بعالم الواقع، وفي هذه المرحلة التأملية أيضا تجيء مهمة القيم الثابتة الخالدة التي ورثناها ونريد الحفاظ عليها، إذ هي التي تشير إلى اتجاه السير، دون أن يكون لها شأن بالمشكلات الفرعية التي نلقاها في الطريق، وثالثا وأخيرا تجيء المرحلة العملية التي نحصر فيها انتباهنا في كل مشكلة فرعية على حدة، نبحث لها عن علاج مرهون بظروفها، دون أن نغير في اتجاه سيرنا الذي رسمته لنا بوصلة القيم الموروثة في ثباتها وتجريدها وإطلاقها.
فلو سألتني بعد ذلك كله: أي مذهب فلسفي تختار؟ أجبتك سائلا بدوري: في أي مرحلة من مراحل السير؟ فأنا واقعي في مرحلة رصد المشكلات، ومثالي في مرحلة تحديد اتجاه السير، وعملي تجريبي في مرحلة معالجة المشكلات.
قيادات الفكر المعاصر
ليس يرى شكل السحابة أو لونها صاعد الجبل وهو يخوضها، فكل ما يدركه عندئذ هو أن رؤية الأشياء من حوله تزداد وضوحا أو تقل، وأنه يتبين مواضع خطوه على الطريق إلى مدى بعيد أو إلى مدى قريب، حتى إذا ما اجتاز السحابة التي تكتنفه ثم نظر، رآها وقد تحدد شكلها وتميز لونها بحيث يستطيع وصفها وهو على ثقة بصدق ما يقوله عنها.
وكذلك قل في مرحلة معينة من التاريخ حين يتحدث عنها أبناؤها الذين يعانون آلامها وينعمون بطيباتها، فهؤلاء إذا تحدثوا عن عصرهم جاء حديثهم أقرب إلى التعبير عن ذوات أنفسهم، منه إلى التقرير الموضوعي الذي يسجل الواقع كما يقع، بل إن أبناء المرحلة المعينة من مراحل التاريخ، لا يكادون يتصورون الأحداث التي تتتابع حولهم صفحة من التاريخ سيكتبها اللاحقون ... ترى ماذا تكون معالم عصرنا البارزة، التي لن يخطئها مؤرخ المستقبل إذا ما نظر وحلل؟
هل نخطئ الحدس لو ظننا أنه سيصف عصرنا هذا - أول ما يصفه - بأنه قد كان مرحلة انتقال هائل من حياة إلى حياة؟ من حياة أقيمت على أساس التفاوت بين البشر من حيث القوة والضعف والغنى والفقر، بياض البشرة وسوادها، الأصول العرقية والأنساب، الذكورة والأنوثة، العقائد والشعائر، وغير ذلك ... إلى حياة تقام على أساس المساواة مع التنوع، بل كانت مرحلة انتقال هائل من حياة تقسم الناس في كل بلد واحد قسمة عمودية، فالأعلون هم من كانت حرفتهم رياضة العقل، والأدنون هم من كانت صنعتهم استخدام البدن، إلى حياة تجعل جميع الناس في البلد الواحد عاملين، سواء أكان العمل منصبا على فكرة نظرية أم كان منصبا على تطبيقها.
ولو رأى مؤرخ المستقبل هذه النقلة الفسيحة في عصرنا من نظرة إلى نظرة ومن حياة إلى حياة، فسيرى كذلك أنها نقلة لم تهبط على الناس هبة من السماء ينعمون بها دون أن يكافحوا هم أنفسهم في سبيل تحقيقها؛ إذ يرون أن عصرنا هذا قد كان عصر ثورات خارقة ثارت لتغير أوضاعا بأوضاع، وأن هذه الثورات لم تكن لتمضي إلى أهدافها بغير مقاومة عنيفة ممن ارتبطت صوالحهم بالأوضاع القديمة المراد تغييرها، وأن هذه الثورات وأضدادها لم تكن لتجري مجراها بغير أن يكون لكل من الجانبين فلسفة نظرية يستند إليها في محاجة الطرف الآخر؛ ومن ثم نشأت صراعات مذهبية بين الفريقين، ولا يكون العيش في جو الصراع الفكري مستقرا هادئا بل لا منجاة له من القلق والتوتر.
فإذا كانت صورة عصرنا شيئا قريبا من هذا، فماذا نتوقع أن نجد في نشاطه الفكري إلا اختلافا في وجهات النظر أشد ما يكون الاختلاف، حين يتناول أصحاب الفكر بأنظارهم مصير الإنسان نتيجة لهذا الصراع؟ فأمام المسألة الواحدة نجد النظريتين المتناقضتين وجها لوجه: فهذا هو العلم الذري قد أطلق صواريخه تدق أبواب الفضاء، فهل يكون من شأن هذا الغزو العلمي لأسرار الكون أن يشيع في أنفسنا الطمأنينة أو القلق؟ هنا تختلف الإجابة بين متشائم ومتفائل: هذا يرى أنه انقلاب علمي لا بد أن ينتج انقلابا في حياة الناس نحو الأفضل، وذلك - على خلاف هذا - من رأيه أن التقدم العلمي الضخم وإن يكن قد غزا الفضاء الفسيح، إلا أنه بقدر ما وسع لنا من آفاق الكون، قد ضيق علينا من آفاق النفس؛ لأنه أبعد الإنسان عن صلته الحميمة بذاته.
فمن هم أولئك القادة الذين يمسكون بأزمة الفكر في عصرنا ليتجهوا به يمينا أو يسارا؟
لقد جرى العرف - أو كاد يجري - على أن تكون هنالك تفرقة بين من نطلق عليهم اسم «المفكرين» - أو قادة الفكر - من جهة، والباحثين العلماء من جهة أخرى، ولعل أميز ما يميز الطائفة الأولى هو أنهم جماعة استنارت فأرادت أن تنير، جماعة عرفت ثم جعلت همها أن تنشر المعرفة في الآخرين، ولكن أي معرفة؟ إنها ليست المعرفة الأكاديمية التي تستند إلى تجارب المعامل العلمية أو إلى الوثائق والمراجع، بل هي المعرفة التي تنبع عند صاحبها من الخبرة الحية، ويكون لها أصداؤها في شعور الإنسان، وبالطبع لا تناقض هناك بين أن يجتمع في الرجل الواحد أن يكون من أصحاب البحث العلمي على الصورة الجامعية، وأن يكون في الوقت نفسه من «المفكرين» بمعنى الكلمة الذي نريده لها، لكن التمييز والتفريق بين الموقفين من شأنه أن يزيدنا دقة ووضوحا فيما نحن بصدد الحديث فيه.
فالباحث العلمي على الطريقة الجامعية لا يعد من «المفكرين» لمجرد أنه مختص بدراسة الفلك وطبقات الأرض، ولا بمجرد كونه ذا مهنة تقوم على أسس علمية، كالمهندس والطبيب والكيماوي وغيرهم، بل لا بد لطائفة المفكرين من صفة أخرى وهي أن يجاوزوا حدود الاختصاص الدراسي إلى حيث ينظرون إلى الكون وإلى الحياة نظرة شاملة تعتمد - إلى جانب اعتمادها على العقل المنطقي واستدلالاته - على الإدراك الحدسي العياني المباشر، ومقتضى هذه النظرة أن تجيء ذاتية مرتكزة على الخبرة الخاصة بصاحبها؛ ولهذا يتحتم أن تجيء نظرات «المفكرين» متصلة أوثق صلة بالحياة الفعلية الجارية من حولهم، بأفراحها وآلامها؛ لأن الكاتب إذا نضح من خبرته الذاتية المباشرة، جاءت كتابته - بالضرورة - تعبيرا عما قد تراكم في نفسه من آثار حياته بكل ما فيها من متاع وحرمان، فإذا درست كتابا في الرياضة أو الكيمياء، لم تدر هل كان مؤلفه مقترا عليه في الرزق أو من ذوي اليسار، لكنك إذا قرأت كتابا مما يكتبه «المفكرون» استطعت أن تلتمس وراء الكتابة أي طراز من الناس كان كاتبه.
وإنه لمما يستحق الذكر هنا، أن «المفكرين» بالمعنى الذي حددناه، تختلف أقدارهم في الأمم المختلفة، فليسوا هم دائما الطائفة التي تتولى زمام الريادة، ففي إنجلترا وفي فرنسا - وفرنسا بصفة خاصة - تكون القيادة «للمفكرين» من رجال الأدب والفن والثقافة والفلسفة غير الأكاديمية، وفي ألمانيا تترك القيادة الفكرية في أيدي أساتذة الجامعات، فقد ينبغ فيهم الكاتب والشاعر والفنان، لكن الناس إذ يأتمون فإنما يأتمون بأصحاب التخصص العلمي، وفي أمريكا تكون أولوية الرأي للخبراء؛ أعني للذين مارسوا العلم تطبيقا، وكأنما «المفكرون» يعالجون شئون الحياة الإنسانية في مؤلفاتهم ورواياتهم ليسدوا حاجة المثقفين في ملء أوقات الفراغ على المستوى الرفيع، لا ليرسموا لهم اتجاه السير، وزمام القيادة في روسيا متروك لرجال السياسة، فهم يشقون الطريق ومن ورائهم يسير التابعون، وأما في معظم أرجاء الأرض بعد ذلك - ومعظمها بلاد تحررت من مستعمريها منذ قريب: في آسيا وفي أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية - فالقيادة الفكرية غالبا ما تكون في أيدي قادة الثورات الذين كانوا هم العاملين على تحقيق ذلك «التحرر» من قيد المستعمر، فاضطلعوا بعد ذلك بتحقيق «الحرية» بعد التحرر، والفرق بين المرحلتين هو الفرق بين السلب والإيجاب: ففي المرحلة الأولى رفعت القيود، وفي المرحلة الثانية تقام عمليات البناء؛ إذ لا معنى للحرية إلا أن تكون حرية الأداء والعمل. «المفكرون» في إنجلترا يغلب أن يكونوا كتابا أحسوا أنهم المسئولون قبل غيرهم عن تغيير المجتمع، فالمجتمع هناك قد كبلته تقاليده التي لم تعد صالحة لعصرنا؛ ولذلك وجبت الثورة عليها لتتغير صورة الحياة، ولقد نجد من الساخطين من يقف عند السخط لا يعدوه إلى مقترحات للبناء الجديد، ولكن القادة الكبار لا يكتفون بما يكتفي به الشباب الساخط، بل تراهم فيما يكتبونه يصورون العلة ويقدمون العلاج، على اختلاف بينهم في تشخيص العلة وفي وصف الدواء، فمنهم من يرى أن مكمن الداء عندهم هو الفجوة العميقة بين الفطرة الإنسانية من ناحية، والسلوك المتكلف المتصنع من ناحية أخرى، وقد كانت هذه الفجوة عندهم هي التي تفصل بين الهمجية والتمدن وبالغوا في ذلك حتى نتج ما هو معروف عنهم من نفاق يبطن شيئا ويظهر شيئا آخر، أقول إن من قادة الرأي عندهم من يرى أن مكمن الداء هو في اصطناع ضروب من السلوك الاجتماعي بعيدة بعدا شديدا عن الدوافع الفطرية، وإذا كان ذلك فالعلاج هو عودة الإنسان إلى فطرته، ومنهم من يرى الداء كامنا في فتور الإيمان الديني؛ ولذلك فالعلاج هو في أن يقوى هذا الإيمان في النفوس وبذلك نضمن تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس سليم، ومنهم من يرى رأيا قريبا من هذا لكنه مختلف وذلك هو ضرورة أن تخفف وطأة العلم على حياة الإنسان بجرعة كبيرة من التصوف، فإذا اجتمع في الإنسان عفة المتصوف وحضارة العالم كان هو الإنسان الكامل.
فالمفكر الإنجليزي «ملتزم» نحو المجتمع التزاما غير مباشر؛ لأنه وإن يكن يحاول إصلاح جوانب النقص برسم صورة كاملة، إلا أنه لا يفرض على نفسه أن يعالج المشكلات الفعلية القائمة، فقد يفعل ذلك وقد لا يفعل، بل قد يتخذ موقفا فرديا انعزاليا سلبيا لعقيدة شائعة عند كثيرين من مفكريهم أن الواحد منهم هو تجسيد للمدنية الإنسانية بأسرها، فعنه تؤخذ المعايير وهو لا يأخذ عن أحد.
وأما المفكرون في فرنسا فهم أشد المفكرين «التزاما» حتى لقد أصبح التزامهم هذا خصيصة تميزهم منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فلا يكاد يكتب كاتب شيئا إلا ونصب عينه هدف يريد تحقيقه للإنسان الفرنسي على وجه الخصوص، ولقد نجد في كل بلد آخر - إلا فرنسا - شيئا من الريبة تساور نفوس الناس نحو طائفة «المفكرين»، برغم أن «المفكر» الفرنسي أكثر من أقرانه في سائر البلاد مسايرة لأحكام العقل، والاحتكام إلى العقل هو الذي من شأنه أن يثير ريبة عامة الناس؛ لأن هؤلاء أميل إلى الأخذ بنوازع الوجدان.
واحتكام المفكر الفرنسي إلى عقله هو الذي يزيد من جرأته على التمرد ومع ذلك كله ترى الناس يشخصون هناك بأبصارهم وقلوبهم إلى هداية «المفكرين» في شتى مشكلات الحياة: فردية واجتماعية وسياسية على السواء؛ ولذلك رأينا عددا كبيرا من مفكري البلاد الأخرى يهجرون أوطانهم ليعيشوا في فرنسا، ولينعموا بشيء من سلطان الفكر الذي يعلو هناك على كل سلطان.
ولا أظنني أجاوز الحق إذا زعمت أن مفكري إنجلترا وفرنسا معا يشتركان في قضية رئيسية واحدة، يعالجونها من جميع أطرافها، وهي قضية الحرية التي يمكن أن يظفر بها الإنسان الفرد إذ هو يعيش في جماعة سادها العلم واستحكمت فيها الصناعة، مما أضاع على الفرد حرية المبادأة، فمتى وأين وكيف يتحقق له قسط من هذه الحرية في حياته؟ •••
ليس «المفكرون» - بالمعنى الذي حددناه للكلمة - هم القادة في ألمانيا أو الولايات المتحدة، فالعقل الألماني عقل منهجي دارس متعمق - يجب أن تؤخذ الأمور مأخذا صارما يتعقبها إلى جذورها، ولا يكون ذلك إلا على أيدي الأساتذة الباحثين الذين لا يصدرون في أحكامهم عن خواطر تعن لهم بحكم تجاربهم الشخصية في الحياة اليومية الجارية - فالخواطر التي من هذا القبيل قد تصلح للتسلية عن طريق الصحافة، وأما ما هو هام وجاد فيترك أمره إلى الدراسة الجادة المتعمقة، ومثل هذه الدراسة إنما تتم في الجامعات على الأغلب الأعم، لا في دور الصحافة، ولئن كان لهذا الوضع حسناته من حيث دقة العلم، فله سيئاته التي من أهمها أن هؤلاء الدارسين في العادة موظفون في معاهد تتبع الدولة، وإذن فيغلب عليهم أن لا يكون لهم شأن بمجرى الأحداث؛ لأن الأحداث تتصل بالسياسة من قريب أو من بعيد، حتى لقد أجاب أستاذ جامعي في ألمانيا ذات يوم وهو بصدد الاعتراف بأنه يستغرق نشاطه كله في بحوثه العلمية ولا يتدخل في السياسة، أجاب هذا الأستاذ حين قال له قائل: لكن الأمور قد تتحرج فماذا أنت صانع؟ ألا تمتد يدك للمساعدة إذا اشتعلت النار في منزلك؟ فأجاب بقوله كلا، إنني ساعتئذ أستدعي رجال المطافئ لأنهم هم المختصون في إطفاء الحريق، وكذلك الأمر في السياسة والاقتصاد، لا يجمل بكل إنسان أن يدعي القدرة فيهما؛ لأنهما يحتاجان إلى معرفة وتدريب - فإذا أردنا تعقب القيادة الفكرية في ألمانيا فعلينا بما يكتبه الدارسون.
وأما الولايات المتحدة الأمريكية فتؤمن بالعمل والنجاح فيه إلى الحد الذي يجعلهم يحتكمون في كل شيء إلى التجربة والتطبيق، أو بعبارة أخرى فهم يحتكمون إلى صاحب المهارة العملية في الميدان المعين، لا إلى صاحب البحوث النظرية ولا إلى صاحب النظرات الحدسية في دنيا الأدب والفن. •••
ونوجه أنظارنا إلى روسيا فنذكر أول ما نذكر أن الكلمة الإفرنجية التي تعني «المفكرين» - وهي كلمة
Intelligentsia - كلمة روسية نشأت هناك في القرن الماضي، حين نفرت جماعة متمردة ناقمة لتبذر بذور ثورة فكرية تمهد لانقلاب اجتماعي سياسي شامل، وهي جماعة قريبة الشبه في المهمة التي اضطلعت بها بفلاسفة التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، ولقد وفقت كلتا الجماعتين فيما أرادت أن تحققه؛ فقامت الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، وقامت الثورة الروسية في أوائل القرن العشرين.
وبحكم الرابطة القوية في روسيا بين المفكرين والثورة، كان لا بد من اتصال الفكر بالشعب اتصالا مباشرا، بمعنى أن تمتد جذوره في الأرض الروسية وله بعد ذلك أن يرتفع كيف شاء، نعم قد كان في الروسيا في القرن الماضي جماعة أخرى من المثقفين أرادت وصل ثقافتها بأصول يلتمسونها في غربي أوروبا، لكن هؤلاء لم يكونوا ليحدثوا في الشعب ثورة مهما علت ثقافتهم واتسع مداها.
قامت الثورة الروسية وتغيرت أوضاع الحياة فيها وفق التصور الجديد، فأصبح من المفارقات التي تلفت النظر أنه بينما يستبد القلق والضجر والرغبة في التغيير بأوروبا الغربية، ترى الأمر في الروسيا على عكس ذلك يريد أن يستقر حتى يصلب عوده ويضرب في الأرض بجذوره، وكان لهذا نتائجه في منحى الفكر، ففي الغرب يكثر الأفراد الشذاذ الذين يأبون التجانس مع محيطهم، وفي الروسيا يشتد التجانس بين الأفراد حتى ليوشك الشذوذ الفردي أن يمتنع، ومعنى ذلك أن نتوقع رومانسية في الأدب والفن في غربي أوروبا، وكلاسية في الروسيا، ذلك أن الثقافات في سيرها يتناوب عليها الرومانسية والكلاسية واحدة بعد الأخرى في تتابع لا ينقطع، فرومانسية إبان فترة التغير، وكلاسية إبان فترة الثبات، وفي فترات التغير يكثر ظهور الأفراد المتمردين اللامنتمين إلى محيطهم وما يسوده من قيم، وفي فترات الثبات يقل ظهور هؤلاء الأفراد أو ينعدم، ويسود التجانس بين أبناء المجتمع الواحد؛ لأنهم يلتقون جميعا على قيم واحدة؛ ولذلك فزمام الفكر في الحالة الأولى قمين أن يتولاه أفراد، وزمام الفكر في الحالة الثانية يغلب أن تتولاه الهيئات صاحبة السلطان.
وفي آسيا وفي أفريقيا موقف مختلف، فها هنا كان المستعمر لفترة من الزمن تقصر هنا وتطول هناك، يفرض ثقافته على «الصفوة»، وبذلك انقطعت الصلة بين الفروع العليا والجذور، حتى كادت الفروع تذوي والجذور تذبل لولا ما فيها من حيوية، وما إن ثارت هاتان القارتان ثوراتهما العارمة التي أطاحت بالمستعمر - والثائرون غالبا من القلة المثقفة - حتى وجد الناس أنفسهم فجأة حيال تبعات جسام في إقامة البناء الجديد، فمن ذا الذي يتم البناء؟ فلا عامة الشعب لديها القدرة، ولا المثقفون الذين أشعلوا الثورات بادئ الأمر قد أعدوا للبناء، فكان حتما أمام ضغط الموقف الناشئ أن تنتقل الريادة من جماعات «المفكرين» إلى قادة الثورات، وكان بعضهم من المفكرين وبعضهم لم يكن، أعني أن تنتقل الريادة من ميدان الأدب والفن إلى ميدان السياسة، فيكون الرائد سياسيا يخطط للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، لا كاتبا يتصور أو رساما يصور، بل ولا عالما باحثا قد ينعزل في بحوثه عن تيار الحياة المتجددة ... وعند هؤلاء القادة في آسيا وأفريقيا نلتمس مصادر الفكر المعاصر .
وفي عالم اليوم، الذي تسوده وسائل الإعلام التي تنقل المعرفة من طرف إلى طرف بسرعة البرق، يصعب القول أن في هذا الركن من أركان الدنيا كذا وفي ذلك الركن كيت؛ لأن الفكرة الواحدة سرعان ما تدور حول الأرض فتعم أركانها جميعا في لحظة، إلا أننا مع ذلك نستطيع القول في إجمال وتعميم أن الفكر المعاصر في أوروبا وأمريكا مشغول بإيجاد هدف واضح يعيش من أجله الناس ويكافحون عن طواعية، وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فهو مشغول بالبناء والتصنيع والتقدم العلمي وإدخال التقنيات الفنية لأن الهدف أمامه واضح، وهذه كلها هي وسائل تؤدي إليه.
ولا تتم صورة الفكر المعاصر لمن أراد تصويرها كاملة، إلا إذا أدخل في حسابه أقطار الأرض جميعا.
روح العصر من فلسفة
ليس الحديث عن خصائص العصر وسماته البارزة من الهينات التي يسهل فيها أن تقول القول فيصادف عند الناس قبولا خالصا؛ ذلك لأن نسيج الحياة كثير الخيوط، فيها المتشابه وفيها المتباين، بحيث لا تكاد تصف العصر بسمة عامة حتى تصادفك شواهد نقيضها، فقرب المسافة بيننا وبين معالم عصرنا يحول دون الرؤية الواضحة من جهة، ويميل بنا نحو النظرة غير المنزهة عن أهوائنا من جهة أخرى، هذا على فرض أن الناس ما داموا يعيشون في فترة زمنية واحدة فهم ينتمون جميعا إلى عصر حضاري واحد تتجانس فيه الخصائص والسمات، مع أنه فرض بعيد عن الصواب.
وإذن فلا مناص للكاتب وهو يصف روح العصر من نظرة ذاتية، قد يختلف عنه فيه كاتب آخر ينظر بمنظار آخر، وعندئذ لا يعني تعدد وجهات النظر إلا أن الحق متعدد الجوانب، تنظر إليه من هنا فإذا العصر يسوده العلم بنظرته الموضوعية، وتنظر إليه من هناك فإذا العصر يسوده «العبث» و«اللامعقول»، أهو - يا ترى - عصر القوميات المستقلة، أم هو عصر التكتلات والأحلاف، وعصر المؤتمرات الدولية وعصر جمعية تضم «أمما متحدة»؟ هل يغلب على عصرنا - كما يبدو في نتاج الفكر والفن - رغبة في أن تكون الأولوية للجماعة على الفرد، أو تغلب عليه الرغبة في أن تكون الجماعة وسيلة لسعادة الفرد وتحقيق ذاته؟ بل أنت لا تدري إذا كان الناس اليوم في اهتماماتهم الفكرية أكثر انشغالا بتراث ماضيهم أم بإرسال البصر إلى بناء مستقبلهم؟
إنك إذا جعلت رائدك في الحكم هو ما تنشره المطابع وما يعرضه أصحاب الفنون، وما يتحدث به الناس في الندوات وحلقات الدرس، ألفيت عصرنا يضم كل صنوف البشر: ففي الأدب سلفي وثائر، وراض وساخط، وفي الفلسفة تعد ألوان المذاهب بأكثر من أصابع اليدين مجتمعتين: برجماتية، وواقعية، ووضعية، ووجودية، وظاهراتية، وكانتية جديدة، ومادية جدلية، ومثالية، وطبيعية، وشخصانية، وحدسية ... فضلا عما ينشعب تحت هذه الرءوس من فروع.
لكننا - بعد هذا التمهيد - نحاول إبراز العناصر التي قد يصل فيها اختلاف الرأي إلى حده الأدنى فأحسب أن لا اختلاف بين أصحاب الفكر المعاصر - إلا اختلافا جد يسير - على أن عصرنا قد ساده العلم التطبيقي سيادة لم يسبق لها نظير، تمكن بها من التغلغل إلى كل ركن من أركان حياتنا اليومية، فهو ماثل في وسائل النقل والانتقال، وفي الصناعة والزراعة وفي نشر الثقافة والفنون، وفي ميادين العمل وساعات الفراغ.
فلقد تجد لكل عصر اهتماماته العلمية على اختلاف أنواع العلوم التي تشغل الناس في كل عصر على حدة، لكنك لن تجد عصرا فيه «التطبيق» العلمي على شئون الحياة المادية والفكرية معا، يدنو من عصرنا، حتى ليجوز القول بأن الحياة العملية قد تأثرت بالعلم في المائة السنة الأخيرة أضعاف ما قد تأثرت به خلال ستين قرنا مضت قبل ذلك.
الحق أننا نقول ما يشبه اللغو لو مضينا نتحدث عن آثار العلم التطبيقي في حياتنا الراهنة، فلننظر - إذن - فيما قد تأثرت به الفلسفة المعاصرة.
والفكر الفلسفي في كل عصر هو الذي يبرز الجذور العميقة الدفينة في الجو الثقافي السائد، إذ ماذا تكون الفاعلية الفلسفية إذا لم تكن محاولة استخراج المبادئ المتضمنة في أوجه النشاط السلوكي الظاهر؟
وكلما تبدل لون النشاط كان ذلك دليلا على أن المبادئ المتضمنة قد تغيرت، لكنها تكون مبثوثة مندسة في سلوك الناس، حتى إذا ما جاء المفكر الذي يحلل هذا السلوك تحليلا يغوص به وراء السطح الظاهر البادي إلى حيث الجذور، كان هذا المفكر هو فيلسوف العصر، وقد تتعدد - بل لا بد أن تتعدد - أوجه النشاط الظاهر، فعندئذ تتعدد المبادئ الأولى التي يكشف عنها التحليل، ومن ثم تتعدد الاتجاهات الفلسفية في العصر الواحد، وإن يكن يجوز لهذه الاتجاهات المتعددة بدورها أن ترتد إلى أرومة واحدة تتكشف فيها روح العصر كله.
ففي عصرنا هذا يسود علم، ولكن فيه أيضا أصوات تنبعث من هنا وهناك متمردة تعلن عصيانها، وتود لو تخفف الناس في حياتهم من آثار العلم هذه التي يخشى أن تطمس فردية الإنسان، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد أن تتوقع قيام أكثر من مبدأ واحد في أغوار النفوس، وبالتالي قيام أكثر من اتجاه فلسفي واحد، فاتجاه تصل فاعليته إلى الكشف عن المبدأ الأول للنشاط العلمي، واتجاه آخر تصل فيه الفاعلية إلى الكشف عن مبدأ آخر يصدر عنه الإنسان المعاصر في تمرده وعصيانه لينجو بشخصيته من الطوفان.
فماذا تكون الفلسفة التي تصب اهتمامها على النشاط العلمي لترده إلى جذوره الأولى؟ إنها هي الفلسفة - بفروعها الكثيرة - التي اتخذت من «المعرفة العلمية» موضوعا لدراستها، بمعنى أنها هي الفلسفة التي تحاول أن ترد هذه «المعرفة» إلى أصولها ومقوماتها، وأهم الاتجاهات المعاصرة في هذا السبيل: الواقعية الجديدة، والبراجماتية، والوضعية المنطقية، وكلها متفق على ضرورة أن تكون الصلة وثيقة بين «الفكرة» من جهة وتطبيقها على أرض الواقع من جهة أخرى، كأنما الفكرة وهي في رأس صاحبها، وتطبيقها الفعلي أو الممكن على الدنيا الخارجية بأشيائها ووقائعها، طرفا عصا لا يتصور فيهما قيام أحد الطرفين دون الآخر.
أما المذهب الواقعي فقد اشتدت موجته على الفكر المعاصر، حتى لتوشك أن تكون لفظتا «واقعي» و«معاصر» مترادفتين في عالم الفكر، وإنما استمد هذا المذهب قوته من معارضته للفلسفة المثالية، معارضة مؤسسة على مقتضيات التفكير العلمي، ومحور التضاد بين الواقعية والمثالية هو: ما مصدر العلم وأين نلتمس شواهد صدقه؟ وعن هذا السؤال تجيب الواقعية بأن مصدره وقائع العالم وحوادثه، وشاهد صدقه هو صلته بتلك الوقائع والحوادث، على حين أن جواب المثاليين في الفلسفة يختلف، إذ يقولون في ذلك: إن مصدر العلم هو مبادئ فطرت في العقل الإنساني، وشاهد صدقه هو ما ينبثق من تلك المبادئ، بحيث تجيء النتائج المنبثقة متسقة من الوجهة الرياضية مع مقدماتها.
فالواقعية تعلي من شأن الحواس والتجارب، في معارضة المثالية التي كانت تنطوي في دخيلة الذات تستمد من فطرتها كل ما أرادت من معرفة.
وكذلك البراجماتية جاءت معبرة عن نزوع عصرنا نحو العمل والتطبيق، إذ جعلت ما يترتب على أي فكرة من آثار عملية هو نفسه المعنى الذي يكسب الفكرة قيمتها، فليست من الفكر في شيء فكرة ترتسم في الذهن ولا يكون أمام صاحبها سبيل إلى تنفيذها، لا لقيام العوائق المادية التي تحول دون ذلك التنفيذ، بل لشيء في طبيعة الفكرة المزعومة نفسها، يجعلها مقصورة على الذهن لا تخرج منه إلى ضوء الواقع في صورة عمل يؤدى.
فقل لي ما مدى انتفاع «الإنسان» انتفاعا عمليا في حياته، بفكرة عندك تعرضها، أقل لك ما مدى قيمتها من حيث هي فكرة بالمعنى الصحيح - على أن كلمة «الإنسان» هنا يراد بها المجتمع، ولا يراد بها كل فرد على حدة.
ومع الواقعية والبراجماتية تسير الوضعية المنطقية في نفس الطريق، إذ تلتقي معهما في وجوب الربط الوثيق بين الفكر من جهة والتجربة العملية من جهة أخرى، مع طابع خاص يميزها، هو تفرقتها بين العلم الطبيعي والعلم الرياضي، تفرقة تجعل العلم الطبيعي وحده - دون العلم الرياضي - مستندا إلى شواهد التجربة.
وبهذا يكون العلم إما علما طبيعيا قائما على التجربة، وإما علما رياضيا، صدقه في طريقة بنائه، وأما ما لا يكون من هذا ولا من ذاك فلك أن تسميه بما شئت من أسماء، لكنه ليس «علما».
هذه اتجاهات رئيسية ثلاثة في الفلسفة المعاصرة تستطيع أن تبلورها معا في وجهة نظر مشتركة تقول عنها إنها تمثل روح العصر من أحد جوانبه وهي وجهة النظر التي تربط الفكر بالعمل، تصل الإنسان بالواقع، توحد بين العقل والإرادة، فلم تعد القيمة للقابع في صومعته «يتأمل»، بل عادت القيمة كل القيمة لمن يتبع الفكر بالتنفيذ؛ ولذلك تراها هي وجهة النظر المسيطرة اليوم على ميادين النشاط في السياسة والتربية والاقتصاد والاجتماع.
ففي السياسة - وخصوصا في البلاد الناهضة التي همت بتغيير أوضاع الحياة فيها بأسرع ما تستطيع - ترى هذه «العلمية»، وهذه «الواقعية» وهذه «الإرادة» ماثلة في وضوح، فالحرية التي تنشدها هذه البلاد، يراد لها أن تكون حرية خلاقة لبناء مجتمع جديد، ولا يراد لها أن تظل أغنية يتغنى بها الناس ومعاشهم باق على حاله.
وحسبنا في هذا الصدد مثال نسوقه من الميثاق الوطني، وذلك حين أكد أن النصر في معركة السويس كان معناه الحقيقي استخلاص الشعب لإرادته، يصطنع بها الحرية، أي أن «الحرية» شيء «يصنع» لا شيء «يقال» والإرادة - لا مجرد التأمل - هي أداة ذلك الصنع ...
وفي التربية كذلك تسود هذه النزعة نفسها التي تربط بين الفكر والعمل، وإذا قلنا: «التربية.» فقد قلنا: «الجيل القادم.»، فلم يعد أساسه الاهتمام بالمادة العلمية من حيث هي، بل أصبح الأساس هو أن يتحول العلم المدروس إلى فعل ينصب على مشكلات المجتمع، فأولا: لا بد من نقل مركز الاهتمام إلى الفرد الإنساني نفسه الذي يتعلم ويتربى، بعد أن كان الاهتمام بالمادة العلمية التي تلقن، وذلك بأن تهيأ الفرصة لإمكانات كل فرد من الناس أن تنمو وفق طبيعتها وحدودها ليجيء في نهاية الأمر أصلح ما يكون استعدادا للقيام في المجتمع بما يلائم طبيعته من عمل، وثانيا: لا بد من ربط الصلة القوية في كل ما يتعلمه المتعلم بين الدرس والنظري والعمل التطبيقي، وما ليس له مجال في دنيا التطبيق على مشكلات الحياة الواقعة، لا يكون له مجال في برنامج الدرس النظري.
وفي هذا يقول ميثاقنا الوطني عن هدفنا من التعليم إنه قد أصبح في ظل الثورة «تمكين الإنسان الفرد من القدرة على إعادة تشكيل الحياة» ...
وتلك هي روح العصر من إحدى نواحيها.
وناحية أخرى شديدة الصلة بالأولى، وإن تكن تنقل بؤرة النظر من «المعرفة العلمية» وتحليلها إلى «المجتمع البشري» وماذا تكون طريقة بنائه؟ وها هنا كذلك نجد للمسألة جذورا في أعماق النفس عند أبناء هذا العصر، تحتاج إلى فكر فلسفي يخرجها من مكمنها الخبيء إلى ضوء العلن - وتلك هي فلسفة المادية الجدلية، وهي التي قد تسمى ب «المادية التاريخية» أحيانا، وب «الماركسية» أحيانا أخرى، لهذه النظرة الفلسفية جوانب متعددة، تتكامل كلها في نسق فكري واحد، ومن أهم هذه الجوانب فكرة «المادية التاريخية» التي مؤداها أن الإنسان لا بد له أولا من غذاء وكساء ومأوى قبل أن يتاح له المشاركة في الحياة العقلية والروحية من سياسة وعلم وديانة وفن ...
ومن هنا كان النظام الذي يسود إحدى الجماعات في طريقة إنتاجها للسلع وتوزيعها وتبادلها، وما يترتب عليه من نظام اجتماعي، ذا تأثير حاسم محتوم في تشكيل أوجه النشاط السياسية والاجتماعية والثقافية، فإذا أردت أن تلتمس الدافع الأساسي إلى تحول المجتمع وتطوره، فلا تلتمسه فيما قد تجمع لديه من معرفة، بل التمسه فيما قد وقع لهذا المجتمع من تغير في طرق إنتاج السلع وتوزيعها، فإذا كان المجتمع - كائنة ما كانت صورته - هو كيان عضوي متكامل الأجزاء في بناء واحد، فإن الرباط الذي يخلع عليه وحدته تلك هو نظامه الاقتصادي، ولئن كان لكل عصر مجموعة أفكاره الرئيسية التي تسيره، فإن تلك الأفكار هي دائما أفكار الطبقة التي تكون لها السيادة عندئذ، وهي أفكار تتلون بالضرورة بما يتفق ومصالح تلك الطبقة المسيطرة من حيث طرق إنتاج السلع وتوزيعها، وإذن فمحال على التاريخ أن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا إذا حدث تحول في تلك الطرق وحدث بالتالي تحول في الأفكار التي توحي بها الأوضاع الجديدة ...
فأمر التاريخ في سيره وفي تطوره مرهون بتغير مجموعة الأفكار الرئيسية، وهذه بدورها مرهونة في تغيرها بتغير العلاقات الاقتصادية في إنتاج السلع واستهلاكها، ومن ثم جاءت عبارة «المادية التاريخية» اسما للمذهب الذي نشير إليه، وأما تسميته ب «المادية الجدلية» فتجيء من النظر - لا إلى الجانب التاريخي - بل إلى الجانب الوجودي «الأنطولوجي» من حقيقة العالم، فحقيقة العالم «مادة» لا «روح»، فالمادة هي الأصل، وما عداها يشتق منها، لكنها ليست هي المادة الجامدة الموات، ذات الخصائص السكونية السلبية، بل هي المادة التي ما تنفك دائبة التغير مرحلة في إثر مرحلة، وكأنما هذه المراحل المتعاقبة «مجدول» بعضها في بعض في تيار واحد متصل؛ ولذلك كانت حقيقة العالم «مادية» و«جدلية»: مادية في طبيعتها جدلية في تشابك خيوطها وعناصرها، فقد كانت تستطيع تلك الحقيقة الكونية أن تكون مادية وساكنة، لا مادية ومتطورة، حتى إذا ما رمزنا لها برمز «س» مثلا، ظلت س إلى الأبد هي س فلا تغير ولا زيادة ولا نقصان، لكنها مادية ومتطورة، بحيث تتحول «س» لتصبح «لا-س» أي لتصبح شيئا غيرها، ولنا الآن أن نسأل: هل يجري هذا التحول ذو الخطوات «المجدول» بعضها في بعض وفق قوانين، وماذا تكون؟
يقول أصحاب هذا المذهب إن قوانين ثلاثة تضبط سير المادة في تطورها الجدلي: أولها قانون تحول الكم إلى كيف، وثانيها قانون صراع الأضداد ووحدتها، وثالثها قانون نفي النفي.
أما تحول الكم إلى كيف فمقتضاه أن التغيرات الكمية بالنسبة لصفة معينة ينتج عنها نشوء صفة جديدة يستحيل ردها إلى الصفة الأصلية التي عنها نشأت ...
فالكائن البشري يزداد نموا من حيث الكم، فيصبح عند مرحلة معينة من الزيادة رجلا بعد أن كان طفلا، بحيث يستحيل أن يرتد الكائن الجديد الذي نشأ من تتابع الزيادة في النمو إلى الكائن الأصلي الذي كان، وبذرة الشجرة تتحول إلى شجرة، والواحد يزداد بالإضافة الكمية فيصبح اثنين، بحيث تتغير خصائص العدد الجديد عن أن تكون مجرد مضاعفة لخصائص العدد الأول، وإلا لقلنا عن صفة «الزوجي» التي تصف العدد، إنها هي صفة «الفردي» مكررة مرتين، واختصارا فإن كل زيادة في صفة ما من شأنها - عند حد معين - أن تجاوز كونها مجرد زيادة كمية، لتصبح تغيرا في الكيفية ذاتها - أي تصبح صفة أخرى متميزة في خصائصها من الصفة الأولى.
أما قانون صراع الأضداد ووحدتها فمؤداه أن كل شيء مركب في حقيقته من عناصر يضاد بعضها بعضا، ومن ثم فهو دائما في حالة من التوتر تميل به نحو التغير والتحول ...
لأن الشيء المعين إذا ما كان مؤلفا من عنصر واحد متجانس لما كان في بنيته الداخلية ما يدعوه إلى التغير، فنحن نخطئ فهم «الواحدية» في الشيء الواحد، إذا ظننا أنها التجانس الذي يخلو من التناقض، وإذا رمزنا إلى شيء ما برمز، فلا ينبغي أن نقول إنه «س» وكفى بل نقول إنه «س» و«لا-س» في وقت واحد، ومن هذا التدافع الداخلي بين النقيضين تنشأ الحركة، ومن ثم ينشأ التغير، على أن تفهم الحركة أو التغير بأنها منبثقة من طبيعة الشيء نفسه، وليست هي بالمفروضة عليه من خارجه، لقد كان يقال إن الأصل في الشيء أن يظل ساكنا حتى يحركه محرك، فأصبح يقال إن الأصل في الشيء أن يظل متحركا حتى يرغمه عامل خارج طبيعته على الوقوف والسكون ... يصدق هذا على كل شيء، وعلى كل فكرة، وعلى كل نظام اجتماعي على حد سواء.
فإذا كان صراع الأضداد داخل الشيء الواحد أو الحالة الواحدة يولد الحركة والتغير، ثم إذا كان المضي في هذا التغير إلى حد معين يحتم أن يصبح الشيء شيئا سواه - لا من حيث الدرجة وحدها بل من حيث النوع أيضا - فإن ذلك إن ضمن لنا سير التاريخ وتغير مراحله، فلا يضمن لنا أن يجيء التغير إلى أرقى وأفضل وأعلى وأكمل.
وهنا يأتي القانون الثالث: قانون نفي النفي، الذي يقضي بأن ينتهي النقيضان المتصارعان إلى وحدة يذوب فيها التناقض، وبزوال التناقض يصبح الوليد الجديد «أعلى» درجة من سابقيه؛ لأن فيه ما كان فيهما، ثم أضاف إليه تآلفا بعد تعارض ...
لكن هذا الوليد المتآلف بدوره سرعان ما تنشأ فيه الأضداد وهلم جرا، وهكذا ترى العالم يسير في مراحل مثلثة الخطوات، فحالة مثبتة ذات خصائص معينة، تتلوها حالة تنفيها بأن تتحول إلى خصائص جديدة مختلفة كيفا، ثم يعقب هذا النفي نفسه حالة جديدة تنفيها، فتكون بمثابة نفي النفي، وهنا نعود إلى «إثبات » جديد ارتقينا فيه عن «الإثبات» الذي بدأنا به السير.
وقد نسأل: من أين جئنا بهذه القوانين الثلاثة التي تضبط سير العالم، أهي تصورات ذهنية أولية انبثقت من طبيعة العقل وفطرته، كما كان بعض الفلاسفة الآخرين يعتقدون في وجود مبادئ فطرية في العقل يجري التفكير على مقتضاها؟ أم هي استدلالات انتزعناها من مشاهدتنا الخارجية لمجرى التاريخ؟ والجواب عند الماديين الجدليين هو هذا، لا ذاك.
فليست مراحل السير الجدلي مقصورة على الفاعلية العقلية الصورية المنطقية وحدها - كما هي الحال عند هيجل - بحيث يكون الانتقال من «فكرة» إلى «فكرة» بل هي مراحل في سير الواقع المادي، كما نستطيع أن نستدله من شواهد التاريخ وتطور الجماعات.
وأصحاب هذا المذهب يصفون مذهبهم هذا بأنه الفلسفة العلمية بمعناها الصحيح، على أنهم حين يصفونه ب «العلمية» فإنما يستخدمون هذه الكلمة لتعني «المادية» - وعلى هذا تكون «المعرفة العلمية» هي الموقوفة على الواقع المادي وحده، مما ينتهي به إلى النتيجة القائلة إن كل ظاهرة لا بد من ردها إلى أصلها المادي لتتم لنا دراستها دراسة علمية، فالحالات العقلية والوجدانية ترد إلى ظاهرات فسيولوجية، وهذه بدورها ترد إلى أصول لا عضوية، وهكذا - على أن أهم ما يعنى به أنصار المادية الجدلية هو ردهم للتاريخ إلى العناصر الاقتصادية، وبهذا تصبح حقيقة الإنسان لا في وعيه بنفسه ولا في تأمله النظري الصرف - بل في «العمل» أي في نشاطه الاقتصادي، لكننا لو تركنا هذا النشاط ينطلق على أساس الملكية الفردية، نشأت بالضرورة طبقة تتجمع فيها رءوس الأموال وهي القلة القليلة، ويصبح معظم الناس أتباعا لتلك القلة يخدمونها بعملهم وإنتاجهم، وبهذا يحدث لهذه الأكثرية «انسلاخ» يبعدهم عن نتائج عملهم، فيبعدهم عن الحياة الطبيعية كما ينبغي أن تكون، ولا علاج لهذا إلا بأن تئول وسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع كله، فينتج المنتج لصالح الجماعة كلها وعندئذ تتحطم الحواجز بين الطبقات، وتزول الفوارق ليذوب الكل في طبقة واحدة.
تلك هي خلاصة الفلسفة المادية الجدلية، التي لا أظن أن مجتمعا واحدا في أرجاء الأرض بأسرها، قد خلا من التأثر بها تأثرا صغيرا أو كبيرا، وإذن فهذه ناحية أخرى من روح العصر.
لئن اختلفت الناحيتان الرئيسيتان اللتان ذكرناهما في أن الأولى تناولت روح العصر من جانب «المعرفة العلمية» على حين تناولتها الثانية من جانب «التاريخ والمجتمع» بما ينطوي تحتها من سياسة واقتصاد، فإن الناحيتين معا تتفقان في وجوب أن ينصرف اهتمام الفكر إلى العلم ومنهجه وقضاياه وتطبيقه باعتباره أبرز معالم العصر إطلاقا، ومثل هذا التركيز على العلم وعلى العقل وما يتبعهما من ظواهر كالتخطيط والتصنيع وانخراط الأفراد في عمل واحد مشترك وضعت لهم خططه وأهدافه، لم يكن ليمضي بغير تمرد ممن يحرصون على فردية الشخصية الإنسانية، وتمييزها من سائر ظواهر الطبيعة بالإرادة الحرة التي تختار لنفسها وتكون مسئولة عن اختيارها، ومن هنا نشأت في بعض النفوس ثورة على العقل نفسه وعلى العلم وصرامة أحكامه، وكان لهذه الثورة أكثر من صورة واحدة ظهرت بها، فهنالك من لاذوا بالتصوف دون العلم، وبالوجدان دون العقل، وهنالك الشكاك الذين أخذوا يتشككون في قدرة العقل على الوصول إلى الحق، وهنالك الوجوديون الذين أصروا على أن يكون الفرد - كل فرد - مسئولا عن اختياره، ولا تتحقق هذه المسئولية بغير حرية اختيار.
نعم هنالك من لاذوا بالتصوف بمعناه الفلسفي ، وأعني التنكر للعقل ومنطقه والركون إلى ما يسمى اصطلاحا ب «الحدس»، وهو المعاينة بالروح معاينة مباشرة، ولعل أميز ما يميز الحدسيين المعاصرين عن أسلافهم القدماء - فكثير جدا هم الفلاسفة الحدسيون في التاريخ، منذ أفلاطون فنازلا على مدارج الزمن - هو أن القدماء كانوا يعدون حدسهم ضربا من الفاعلية العقلية على حين ترى المحدثين إذ يلجئون إلى إدراكهم الحدسي، يعدون ذلك ثورة على العقل.
فهو عندهم من قبيل الفاعلية اللاعقلية القائمة على أساس الانفعال والتعاطف الوجداني والرغبة، احتجاجا منهم على ما يرونه طغيانا للعقل وللعلم على حياة البشر.
ومن قبيل الثورة على العقل أيضا مذهب الوجوديين فيما يختص بطبيعة الإنسان وحقيقته، فلئن كان في مستطاع العلم والعقل أن يحكم على «الأشياء» بأحكام عامة تضم أفراد النوع الواحد في تعريف واحد، فما كذلك الإنسان لأن كل فرد يختلف بفرديته عن كل فرد سواه، بحيث يصنع كل فرد حقيقته من مجموعة ما يصدره لنفسه من قرارات يلتزم تنفيذها بإزاء المواقف التي تعرض له، وليس بنا حاجة هنا إلى ذكر الآثار البعيدة المدى في ثقافة عصرنا، التي أحدثتها الفلسفة الوجودية في نظرتها إلى الإنسان وتحليل مواقفه ومشكلاته، وحسبك نظرة إلى الحركات الأدبية والمدارس الفنية في العالم كله، لترى إلى أي حد أصبحت لفتة الأديب ولفتة الفنان إلى دخيلة نفسه ليتصيد منها ما يخرجه للناس فردا مشخصا فريدا، فإن كان الناس على اختلافهم يتفقون عادة على «الموضوعات» الخارجية، فهذه شجرة وتلك بقرة؛ أعني أنه إذا كان الناس يتفقون في حياة الصحو فهم إنما يختلفون أشد الاختلاف حين ينطوون إلى دخائل نفوسهم كما يحدث لهم في أحلامهم.
ومن هنا اتجه رجال الأدب والفن في حالات كثيرة إلى ما يشبه الأحلام من حياة الإنسان.
وكان مما أيد الثائرين على العقل في فكرنا المعاصر، النظرية الفرويدية في التحليل النفسي وغيرها من النظريات النفسية التي ردت نشاط الإنسان إلى مصادر خبيثة غير ظاهرة، كالغرائز أو اللاشعور أو ما إلى ذلك؟
فكم أديبا في القصة والمسرحية وكم شاعرا وكم مصورا جعل مادته الأساسية محاولة إخراج هذه الكوامن الدفينة في حياة الإنسان لتظهر في الآثار الأدبية والفنية ظهورا يلقي الضوء على حقيقة الإنسان!
وأحسب أن من الخصائص التي قد يتميز بها هذا العصر - نتيجة للعلم بكل جوانبه: الطبيعي والاجتماعي والنفسي، أن أخذت تتسرب فكرة النسبية عند النظر إلى القيم وإلى الثقافات، فإذا كانت العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء لم تعد تأخذ بالقطعية الجازمة التي كان يظن أنها تصف نتائج التفكير العلمي، وإذا كانت التحليلات النفسية قد مايزت بين الأفراد على نحو لا تستطيع معه أن تقول: إن «أحلام» هذا أفضل من «أحلام» ذلك، فماذا ينتج عن هذه النسبية في نظرة الإنسان إلا أن تتعادل الثقافات المختلفة في قيمها مهما تنوعت أشكالها، فأصبح الفن الإفريقي كالفن الأوروبي أو الآسيوي من حيث الرتبة والقيمة، ولم يعد حرج أن يستوحي فن هنا فنا هناك، فازداد اعتزاز الأمم المختلفة بتراثها وبتقاليدها وبفنونها الشعبية وبلغتها وثيابها وطعامها وشرابها.
وهذه نتيجة تبدو - في ظاهرها - عجيبة، لا تتفق مع أمارات التوحيد التي تدل على أن العالم - في نفس الوقت الذي تؤكد كل قومية شخصيتها المميزة - يسير نحو أن يكون مجتمعا دوليا واحدا.
وإني لأتخيل راكب الصاروخ من صواريخ الفضاء التي تدور حول الأرض في بضع دقائق أتخيله، وقد نظر إلى الأرض كلها فرآها من بعيد كالبندقة الصغيرة السابحة في فضاء الكون الفسيح، يسأل نفسه متعجبا: أتكون هذه البندقة الصغيرة حاملة على ظهرها كل هذا التمزق والخلاف بين شعوبها، ألا إن اليوم آت عما قريب، حين يتآخى المتخاصمون على صالح مشترك.
والحق أن هنالك من الدلائل ما ينبئ بهذا، فهو عصر يسوده العلم، ومن شأن العلم أن يوحد الناس على منهاج واحد ونتائج واحدة، بل يوحدهم على أدوات للعيش واحدة تصدرها المصانع بالأعداد الكبيرة، لتنتشر هنا وهناك، فلا يكون فرق بين حضر وريف، وكذلك هو عصر المؤتمرات الدولية التي تلتقي فيها الشعوب جميعا على آراء ينتهون إليها في معظم الحالات ليتم تنفيذها في كل أرجاء الأرض برضى من الجميع، وهنالك جمعية الأمم المتحدة التي إن كانت قد أخفقت في مواضع فقد نجحت في مواضع أخرى، وبخاصة في ميادين الثقافة والتعاون الاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك.
لكن العجب الظاهر سرعان ما يزول عنا حين ندرك أنه لا يرجى للعالم إخاء صحيح إلا على أساس الشخصيات المستقلة لأممه، بل لأفراده، وعندئذ تختفي هذه الظواهر التي لاكتها ألسنة المعقبين على خصائص العصر من قلق وتمزق وشك وسخط.
الماركسية منهجا
ليس يعبر عن روح العصر - من بين مذاهب الفلسفة القائمة - إلا تلك المذاهب التي تنتهي إلى وجهة من النظر تجعل العالم في حركة دائبة لا تعرف السكون، وفي تغير دائم وتطور مطرد، لا يستقر معهما على حال واحدة لحظتين، فالعالم اليوم ليس هو العالم الذي كان بالأمس، ولن يكون هو العالم الذي سيصبح غدا، فالليل يعقبه النهار، والشتاء يتلوه الربيع، والوليد ينمو، والبذرة تنبت، ومحال عليك أن ترى في هذا الكون الرحيب كائنا واحدا اعتزل وحده وأفلت من مجرى هذا التيار الدافق: تيار التغير والتطور والسير والحركة والنماء.
نعم إن العين المجردة قد تنظر إلى هذه الشجرة أو ذلك البناء، فيخيل إليها أنها بإزاء شيء ثابت قد انغرس في مكانه لا يتحول عنه يوما بعد يوم، لكن الرائي لا ينخدع بهذا الثبات الظاهر؛ لأنه يعلم أن الشجرة كانت بذرة ثم نمت على مر الزمن جذورا وجذوعا وفروعا وأوراقا وثمارا، ويعلم أن البناء لم يكن قائما ذات يوم ولن يكون قائما بعد حين، فالتغير الذي قد لا يتراءى للعين إلا بعد أن يتراكم، لا يقفز من العدم إلى الوجود بوثبة واحدة، بل هو في تدرج بطيء لا ينفك لحظة واحدة عن الحدوث، وإن تعذرت على العين المجردة رؤيته لحظة لحظة.
وليست فكرة التغير هذه بالأمر الجديد، الذي أدركه إنسان هذا العصر وغفل عنه أهل القرون الماضية، بل هو مما أدركه الإنسان منذ كان إنسانا يفكر، وإن يكن إنسان هذا العصر يمتاز على أسلافه بأن بين يديه علما للطبيعة يبين له أن قوام المادة ذرات دائمة الحركة، فلا صلابة فيها ولا سكون بين أجزائها؛ ومن ثم سهل عليه أن يدرك فكرة التغير إلى أعماقها، ويبني عليها تصوره عن العالم، أما أسلافه فكانوا يرون الحركة والتغير في الأشياء الظاهرة أمام حواسهم، فيحاولون أن يجدوا وراء هذا الظاهر المتحرك المتغير جوهرا ثابتا؛ إذ لم يتصوروا أن تكون هذه الحركة الدائبة والتغير المستمر هما حقيقة الوجود، فراحوا يبحثون عن تلك «الحقيقة» التي لا يطرأ عليها التبدل والتحول، والتي إن خفيت عن البصر فقد تكشف عنها البصيرة.
والماركسية - شأنها شأن سائر المذاهب الفلسفية التي تصور عصرنا من مختلف جوانبه - هي فلسفة تغير وتطور، وهي بهذا تعبر عن روح عصرنا، مع سائر المذاهب التي تجعل التغير والتطور محورا وأساسا، وإنها لتحلل الطريقة التي يتم بها التغير من حال إلى حال، ولا تترك الأمر على إجماله وإبهامه، وتلك الطريقة عندها هي ما يسمى بالمادية الجدلية عندما يكون التغير في الطبيعة وكائناتها، وبالمادية التاريخية عندما يكون التغير في المجتمع البشري ونظمه وأوضاعه.
على أن التغير هنا لا يقصد به مجرد التبدل حالا بعد حال، بل لا بد فيه من التطور النامي الذي يجعل الخطوة اللاحقة «أعلى» من الخطوة السابقة؛ إذ لا يكون الفرق بين الخطوتين فرقا في الكم وحده، بحيث يصبح الصغير كبيرا والقليل كثيرا وكفى، بل يكون انتقالا من الأدنى إلى الأعلى انتقالا إلى ما هو جديد مختلف في النوع عن المرحلة التي تمخضت عنه وأنتجته.
ولهذا التغير الذي يسير بالطبيعة نحو الأعلى، قوانينه التي تضبط سيره، ومن أولى مهام الفلسفة الجدلية أن تستخرج هذه القوانين، ليمسك الإنسان بالزمام، ويتجه بالحركة فيما قدر لها أن تسير فيه، حتى يجنبها المعوقات، ويهيئ لها سبل الإسراع نحو هدفها المقصود، وإن هذه المهمة لتصبح أشد إلحاحا، حين يكون الأمر أمر الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من تفصيل وتعقيد، فهي تتطلب عناية الطرائق العلمية ودقتها حتى لا تترك في تخبطها الذي كانت تتلكأ به في حنايا الطريق، ولا يضير الطريقة العلمية حين نطبقها على مشكلات المجتمع أن تخطئ أحيانا خلال المحاولة، فيكفي الإنسانية ما قد عانته في القرون الطوال الماضية من كثرة اللغو اللفظي الذي لا يشفع ولا ينفع، فالمجتمع لا يشفى من علله بالمواعظ، وإنما يشفى بالعلم نظرية وتطبيقا.
ولعل ماركس أن يكون من بناة علم الاجتماع على الأسس المنهجية الصحيحة؛ لأنه أراد أن يستخلص القانون الذي بمقتضاه يسير المجتمع في حركة التقدم، دون أن يلجأ في ذلك إلى الميل والهوى، ولا إلى العاطفة والرغبة؛ لأن هذه كلها عوامل نفسية باطنية لا ينبغي أن يكون لها شأن بقانون علمي يصاغ لحركة موضوعية خارجية، قانون يبنى على العلة والمعلول، وعلى إمكان التنبؤ بما عساه أن يحدث في الواقع مستقبلا إذا توافرت ظروف بعينها.
هذا كله مقبول منه محمود له، لكننا نقف منه موقف الحيران المتسائل، حين نراه يقرن شيئين متناقضين أحدهما بالآخر، فلا ندري كيف ينزع نتائجه من مقدماته، وذلك حين يضم هاتين الفكرتين إحداهما إلى الأخرى في سياق واحد، وهما: فكرة التغير الذي لا بد للمجتمع أن يتطور به صاعدا من أدنى إلى أعلى، في مراحل تجيء كل مرحلة منها بجديد لا يكرر ما قد كان قائما في المرحلة السابقة؛ وفكرة الجبرية التي لا بد من افتراضها لو قبلنا مبدأ السببية الصارمة في سير التاريخ، بحيث يتحتم للسبب أن ينتج نتيجته الضرورية التي تلزم عنه؛ لأن جبرية التاريخ معناها أن الماضي كان يحمل الحاضر في جوفه، وأن الحاضر يحمل المستقبل، بحيث لو حللنا أية لحظة من لحظات التاريخ، استطعنا أن نقرأ فيها كل ما هو آت على مراحل الزمن، تماما كما يستطيع الفلكي أن ينظر إلى أجرام السماء في لحظة ما، فيقرأ فيها أن كسوفا للشمس أو أن خسوفا للقمر أو غير ذلك من الظواهر الفلكية سيحدث حتما في الوقت الفلاني من مقبل الأيام، ولو كان الأمر كذلك في سير التاريخ، لما كان هناك «جديد» ينبثق في مراحل التطور الصاعد، فإحدى اثنتين: إما أن يكون التاريخ محتوم المسار، وبذلك لا يكون في خطواته «جديد» يبديه ، وإما أن يكون فيه «الجديد» يظهره مرحلة بعد مرحلة، وبذلك لا يكون محتوم المسار.
إن «الحتمية» لا تتفق مع «إرادة التغيير»؛ لأنه مع الحتمية لا تكون إرادة من جانب الإنسان؛ إذ لا يبقى لهذا الإنسان إزاء تطور التاريخ إلا أن «يتفرج» على ما يحدث له وللمجتمع وللطبيعة على حد سواء، مع أننا نرى ماركس حريصا على ألا يقف الناس - والفلاسفة منهم بوجه خاص - موقف المتفرج المتأمل، بل لا بد لهم أن يغيروا العالم، يقول: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة، مع أن المهم هو أن نغيره.» فكيف أغيره إذا لم يكن هنالك احتمال آخر، وهو أن أتركه على حاله بغير تغيير؟ مع أن هذا الفرض الثاني ممتنع إذا كان التاريخ محتوم الوسيلة محتوم الأهداف.
وهنا قد يقال إن تدخل الإنسان بإرادته في مجرى الأحداث مطلوب، لا ليحدث ما لم يكن ليحدث من تلقاء نفسه، بل ليسرع في حدوثه، بأن يزيل من طريقه المعوقات ويضيف عوامل الإسراع؛ لكي تصل إلى الأهداف المرجوة قبل أوانها الطبيعي، ولكنه قول يناقض بدوره زعما آخر زعمه ماركس، وهو أن الأفكار والقيم ليست سببا يسبق وقوع الأحداث، بل هي نتيجة تتفرع عن ذلك الوقوع، فإذا كان هذا هكذا، فبأي شيء تريدني أن أتدخل في سير التاريخ لأسرع من مجرى أحداثه، إلا أن يكون ذلك بما أحمله في رأسي من أفكار وقيم؟ لكن الترتيب بين الفكر والواقع وأيهما يكون أسبق من أخيه، يريد شيئا من التفصيل؛ لأنه نقطة أخرى نجد فيها شيئا من الخلط يدعونا إلى الحيرة والتساؤل.
لكننا قبل أن ننتقل إلى هذه النقطة لمناقشتها نريد أن نعقد مقارنة بين «الحتمية التاريخية» بمعناها الماركسي الذي أسلفناه، والذي أشرنا إلى التعارض بينه وبين أن يكون للإنسان إرادة للتغيير يتدخل بها في مجرى الأحداث بأية صورة من الصور، أقول إننا نريد أن نعقد مقارنة بين هذا المعنى الماركسي للحتمية التاريخية، وبين معناها في السياق الذي وردت فيه في ميثاقنا، حين وردت في الباب السادس «في حتمية الحل الاشتراكي» عبارة تقول: «إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر - وصولا ثوريا إلى التقدم - لم يكن افتراضا قائما على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير، كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين» - ومضى حديث الميثاق بعد ذلك يفصل الظروف التي سادت، والتي حتمت أن تكون الاشتراكية هي سبيلنا الوحيدة إلى هدفنا الجديد، وهو تحقيق الحرية الاجتماعية.
فالحتمية هنا هي حتمية وسيلة لا بد منها لتصل بنا إلى هدف مقصود، وليست هي حتمية ممتدة على مراحل التاريخ، ففي الحالة الأولى يكون العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا عرضيا، كان يمكن ألا يكون، وأما في الحالة الثانية فإن العائق الذي يحول دون وصولنا إلى هدفنا ضرورة مكتوبة علينا منذ الأزل، لم يكن منها بد، في الحالة الأولى نشأت حتمية الوسيلة من مصادفة حرمتنا الحرية الاجتماعية، فكان لزاما علينا أن نتصدى لها، وكان من الجائز ألا يتسلل إلى حياتنا المستبدون والمستغلون والمستعمرون فلا ينشأ في حياتنا الحرمان الذي سلبنا حريتنا الاجتماعية، وعندئذ كانت تختفي ضرورة الوسيلة نظرا لتحقق الهدف، وأما في الحالة الثانية فالمزعوم هو أن تسلل المستبدين والمستغلين والمستعمرين إلى حياتنا أمر كان لا بد من وقوعه بحكم حتمية التاريخ، وبالتالي كانت الوسيلة التي يلزم اتخاذها للوصول إلى الحرية الاجتماعية المفقودة، لتكون هي الأخرى حتمية من حتميات التاريخ.
ومثل هذه المقارنة يصدق أيضا على الفرق في المعنى بين ما يسميه ماركس ب «حتمية الثورة»، وما يرد في ميثاقنا تحت اسم «ضرورة الثورة»، فالحتمية في الحالة الأولى منظور إليها بنظرة تخضع التاريخ كله بشتى مراحله لحتمية تحتم أن تتتابع المراحل على صورة معينة، وأن تكون الثورة - ثورة الجماهير العاملة على أصحاب رءوس المال - إحدى تلك المراحل المحتومة، وأما «الضرورة» التي نصف بها ثورتنا، فهي ضرورة نشأت بحكم ظروف طارئة كان يمكن ألا تقع، فقد كان يمكن ألا يستعمرنا مستعمر يقهرنا، وألا يستغلنا المستغلون، وكان يمكن أن يطرد تقدمنا العلمي الذي بدأناه في شباب أمتنا العربية، فلا نتخلف، لكن هكذا حدث - حدث أن استبد المستعمر الدخيل واستغل المستغل وتخلفنا بسبب هؤلاء، فوجبت لذلك الثورة، لتحطم القيد، وليرفع نير الاستغلال، ولنلحق بالمتقدمين في مضمار العلوم.
ذلك - فيما أرى - فارق هام بين الفلسفة الماركسية من جهة، وفلسفتنا الاشتراكية من جهة أخرى: فهذه الأخيرة علاج لمشكلة قائمة، وأما تلك فتعتمد على نبوءة تاريخية نستدل بها مرحلة لاحقة من مرحلة سابقة، الفلسفة الماركسية تخلط بين «التنبؤ العلمي» وبين «النبوءات التاريخية» وتجعل هذه من تلك، مع أن التنبؤ في الحالة الأولى قائم على تجربة عينية محددة، نعلم منها أنه إذا حدث كذا وكذا من الظروف، نتج كذا وكذا من النتائج، كأن تقول مثلا إنه إذا توافرت في الجو الظروف الفلانية نزل المطر، فنحكم على ما سيحدث بناء على ما قد حدث، لما بين الحدثين من تشابه وتجانس، وأما «النبوءة» التاريخية، فلا تجربة فيها ولا مشاهدة، إذ ماذا تشاهد وماذا تجرب إذا كان المستقبل المرتقب في مراحل التاريخ الآتية، هو شيء مختلف عن الماضي المنقضي من مراحل التاريخ التي انطوت صفحاتها؟ إنما النبوءة التاريخية قائمة على «افتراض» أن التاريخ سيسير في خط معين معلوم، وهي لا تختلف كثيرا عن «قراءة الكف» حين ينظر القارئ إلى خطوط في كفك فيتنبأ لك بكذا وكذا في مستقبلك، وذلك على «افتراض» أن خط الحياة يسير على نحو معلوم، فالفرق الكبير بين الفلسفة الماركسية وبين فلسفتنا الاشتراكية في هذا الصدد، هو أن الماركسية تقول للناس: «سيحدث» كذا وكذا ولا قبل لكم بتغيير هذا المصير المحتوم، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقول لنا: لقد «حدث» بالفعل كذا وكذا من المواقف والمشكلات، وفي وسعنا أن نغير ما حدث، الماركسية تجعل الإرادة الحرة بغير عمل تؤديه، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتترك المجال أمام الإرادة فسيحا؛ ذلك لأن الماركسية تصب حتمية الحدوث على المشكلات نفسها بله طرائق علاجها، وأما فلسفتنا الاشتراكية فتقصر الحتمية على وسائل العلاج؛ لأننا نواجه مشكلات قائمة بالفعل، تحتم علينا أن نسلط عليها إرادتنا بطرائق فعالة لتزيلها من الطريق، الفرق بعيد بين رجل يعطيك نظرية مؤداها أن منطق التاريخ يحتم عليك أن يجيئك المستقبل البعيد أو القريب بضائقة مالية أو بعلة مرضية لا قبل لك بردها، ورجل يفتح عينك على ما هو قائم حولك بالفعل من أمثال هذه المشكلات، ليوجه انتباهك إلى ضرورة حلها.
ونعود الآن إلى تحليل المنهج الماركسي في تناوله لمسألة الترتيب المنطقي بين الفكر والواقع؛ لأننا نلمس في هذا التناول شيئا من الخلط والتناقض، فالنظرية الماركسية في هذه المسألة تتلخص في أن الجانب الشعوري من الإنسان ليس هو الذي يحدد موضعه (أعني موضع الإنسان) من الوجود الخارجي، بل إن موضعه من الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد جانب الشعور منه، أي أن الجهاز العقلي كله بجميع ما فيه من خواطر ومشاعر وأفكار وعواطف ورغبات وقيم جمالية وأخلاقية وغير ذلك، هو حصيلة نتجت عن المجتمع وطريقة تكوينه، وليس العكس هو الصحيح، أي أن ذلك الجهاز العقلي من الإنسان لا أثر له في خلق المجتمع وطريقة بنائه، أو بعبارة أخرى أقرب إلى الطريقة الهيجلية في التعبير، إن المجموع - متمثلا في الدولة أو في الأمة أو في المجتمع على أية صورة من صوره - أسبق من أفراده، وهو أعلى منهم رتبة في درجات الحق والواقع، على أن المقصود بالمجتمع في النظرية الماركسية، من حيث تأثيره على الأفراد وتشكيله لأفكارهم ومعاييرهم، هو النظام الاقتصادي السائد في ذلك المجتمع، وما يقتضيه هذا النظام من علاقات بين الأفراد.
لقد نشأ ماركس نشأة هيجلية - وهو في ذلك شبيه بالكثرة العظمى من فلاسفة عصرنا - فتأثر بهيجل حتى وهو يثور عليه ويقلب آراءه رأسا على عقب، من ذلك تمييزه بين ما هو «حقيقي» وما هو «ظاهري»، لكن بينما ذهب هيجل (وجميع الفلاسفة المثاليين من قبله ومن بعده) إلى أن عالم الفكر هو الجوهر وهو الحقيقة، وأن عالم المادة هو العرضي وهو الظاهر، عكس ماركس الوضع والترتيب، فجعل الجوهر والحقيقة في عالم المادة (أي النظام الاقتصادي السائد وبخاصة أدوات الإنتاج) وجعل العرضي والظاهر في عالم الفكر أو العقل أو الشعور، أي أنك تستطيع أن تفسر أية فكرة تريد، بردها إلى أصلها التي نشأت عنه من النظم الاقتصادية القائمة لا أن تفسر هذه النظم الاقتصادية بردها إلى نظريات وأفكار في رأس الإنسان، وفي عبارة مختصرة نقول إن النظرية الماركسية تعطي أولوية الوقوع للأوضاع المادية خارج الإنسان الفرد، وعنها يتفرع ما ينبثق منها من أفكار ومشاعر كائنة ما كانت.
وليس من همنا في هذا المقال أن نناقش النظرية الفلسفية من حيث هي بل من حيث اتساقها في منهج البحث، على أن أول ما يلفت نظرنا ونود أن نثبته - ولو على سبيل الفكاهة - أن النظرية الماركسية «نظرية» أي أنها «فكرة» وقد جاء من جاء بعدها ممن آمنوا بصوابها، فحاولوا أن يترجموها من «عالم الفكر» إلى «عالم التنفيذ والتطبيق»، وبقدر ما كتب لهم من نجاح في ذلك، فهم قد وجدوا «فكرة» سبقت «النظام الاقتصادي» الذي يحاولون أن يخرجوه على غرار تلك الفكرة، والحق أني إذا تصورت طائفة كبيرة من القيم والمعايير في حياة الناس قد نشأت نتيجة لازمة لشبكة العلاقات الاقتصادية القائمة، ولنوع أدوات الإنتاج المستخدمة، فإنه لمن المتعذر جدا علي أن أرى كيف تكون الحياة العقلية كلها نتيجة لتلك الأوضاع المادية الخارجية؟ ففي هذه الحياة العقلية - مثلا - حساب وجبر وهندسة، وفيها علم بالضوء والصوت والحرارة والمغناطيس والكهرباء، وفيها قياسات للأفلاك وأبعادها وسرعاتها ... فهل هذه «الحياة العقلية» كلها نتيجة لزمت بالضرورة عن كون المجتمع القائم يصنع القماش بهذه الأداة أو تلك، ويزرع الأرض بهذه الوسيلة أو تلك؟
أريد للقارئ أن يتصور معي أن كارثة الحروب الذرية قد شاء لها القدر الأعمى أن تقع فتمحو نظامنا الاقتصادي كله بما فيه من أدوات الإنتاج جميعا، ونظامنا الاجتماعي كله بما فيه من أوضاع وتقاليد، ولم يبق إلا على طائفة من قوانين العلم في رءوس نفر من العلماء، أو في صفحات الكتب أفلا يرى القارئ معي أنه من الجائز والممكن والمحتمل في هذه الحالة أن يهتدي الناس بتلك المعرفة العلمية فيعيدوا النظام الاقتصادي في الصناعة كما كان؟ ... لكن اعكس الفرض وتصور أن ما قد شاءت المصادفات المنكودة أن تمحوه، هو المعرفة العلمية في جميع مظانها وشتى مصادرها، مبقية على ما هناك من مصانع وآلات، فماذا يكون المصير؟ إنه يكون كما تضع رجلا يجهل كل شيء عن هذه المصانع كيف تدار وكيف تصلح، تضعه فيها وتقول له هاك! إنه لن يمضي إلا وقت قصير، ثم تندثر الصناعة إلى غير عودة.
لو قال ماركس إن العلاقة بين الفكر والمادة علاقة متبادلة، لكان - فيما نرى - أقرب إلى الصواب، فالواقع المادي يوحي بالفكرة، والفكرة بدورها تؤثر في الواقع وتعيد تشكيله، وإننا لنرى هذه العلاقة المتبادلة بين الفكرة العقلية وتطبيقها المادي في جميع المستويات على تفاوتها واختلافها، فكم من ثورة سياسية قامت، حين أثار الواقع الكريه أنفس الناس، فتبلورت في رءوسهم فكرة، فثاروا ليخرجوها إلى الواقع، وهكذا يكون الترتيب: واقع ففكرة فواقع، ثم واقع ففكرة فواقع، وماذا يكون البحث العلمي إلا السير على هذا الترتيب نفسه: واقع نشاهده ونحلله، ففكرة تنشأ، فتطبيق جديد لها لنطمئن على صوابها، ثم ماذا يكون التخطيط لأي مستقبل قريب أو بعيد، في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة، إلا سيرا على هذا الترتيب: موقف واقعي راهن، ففكرة لتغييره، فإخراج لتلك الفكرة إلى دنيا الواقع لتبدل الموقف القائم بموقف واقعي جديد.
وها هنا كذلك يعن لنا أن نذكر فلسفتنا الاشتراكية كما تبلورت في الميثاق الوطني، إذ نجد هذه العلاقة المتبادلة بين الفكر والتطبيق، بين الفكر والواقع، ركنا من أركانها، يقول وهو في معرض «التطبيق الاشتراكي ومشاكله»: «... إن ذلك يكفل دائما أن يكون الفكر على اتصال بالتجربة، وأن يكون الرأي النظري على اتصال بالتطبيق التجريبي، إن الوضوح الفكري أكبر ما يساعد على نجاح التجربة، كما أن التجربة بدورها تزيد في وضوح الفكر وتمنحه قوة وخصوبة تؤثر في الواقع وتتأثر به، ويكتسب العمل الوطني من هذا التبادل الخلاق، إمكانيات أكبر لتحقيق النجاح ...»
إن ما نسميه ب «السياسة» إن هو إلا خطة للعمل في هذا الميدان أو ذاك، نرسمها لنقوم بتنفيذها ابتغاء تغيير الواقع بواقع آخر أفضل منه فهي دائما «فكرة» يراد لها أن تهدي السائرين في طريق التنفيذ، فلو أصررنا على أن الواقع الاقتصادي أولا فالفكر ثانيا، نتج عن ذلك حتما أن تنتفي «السياسة» ويبطل أثرها، ويصبح محالا على قوم أن يغيروا ما بهم حتى وإن غيروا ما بأنفسهم؛ أعني أنه يكون محالا عليهم أن يغيروا واقعهم حتى وإن تغيرت أفكارهم، والواقع المشهود صارخ بما في ذلك من بطلان.
لقد يختلف الدارسون لماركس في فهم ما يريده بالنسبة إلى العلاقة بين الفكر من جهة والواقع من جهة أخرى، أهو من الفلاسفة الواحديين الذين يردون كل شيء إلى أصل واحد (والأصل الواحد في هذه الحالة هو المادة) أم هو من الفلاسفة الثنائيين الذين يردون الأشياء إلى أصلين، هما المادة والعقل معا، فلو كان ماركس من الفريق الأول صراحة، لكانت ظواهر العقل كلها في رأيه فروعا تتفرع عن أصل مادي، ولو كان من الفريق الثاني صراحة، لكان العقل (أو الروح) والمادة عنده أصلين متساويين في درجة الأصالة، لا يتفرع أحدهما عن الآخر.
لكن ماركس يقف من ذلك موقفا فيه بعض اللبس، مما يجعل حكمنا على العلاقة بين الفكر والواقع المادي في مذهبه أمرا محفوفا بالشكوك، فهو يقول «إن الديالكتيك في كتابات هيجل يقف على رأسه، ولا بد لنا من أن نقلبه عقبا على رأس ليعتدل» ... ومعنى ذلك أن هيجل يجعل الرأس (أي الأفكار) أساسا أوليا، منه تتفرع سائر الجوانب، وأما ماركس حين يطالب بأن نقلب الوضع ليقف الديالكتيك على قدميه لا على رأسه - بحيث يكون الرأس إلى أعلى، فهو يريد بذلك أن تكون الأفكار هي الفرع الذي يتفرع عن أصل، فالأساس هو مادة الواقع الصلبة، وأما أفكار الرأس ففي الهواء كالطابق الأعلى من بناء مرتفع، ما لم يرتكز على أساس مكين في الأرض، لما كان له وجود، وفي هذا يقول ماركس في العبارة نفسها التي أسلفنا منها شطرا، «أن الجانب الفكري ما هو إلا الجانب المادي بعد أن انتقل إلى الرأس وترجم فيه إلى صورة أخرى» ... وليس من الواضح هنا إذا كانت هذه «الصورة الأخرى» مما يمكن أن يستقل بنفسه، بحيث تكون لدينا نسختان، أو صورتان كتبتا بلغتين مختلفتين، أم أن هذه «الصورة الأخرى» كان يستحيل لها أن توجد إلا إذا سبقها الأصل الذي تفرعت عنه، بعبارة أخرى، هل يمكن للإنسان أن يكتفي بالقدمين الراسختين على أرض الواقع، مستغنيا عن الرأس وما فيه من أفكار ما دامت هذه الأفكار ترجمة للصورة المادية الواقعية؟
الظاهر أن ماركس - وإن يكن يصر على أن تكون الأولوية للواقع المادي - إلا أنه يعلق أهمية على الجانب الفكري بعد ذلك، على اعتبار أنه هو المستوى الذي تتم فيه الحرية بمعناها الصحيح، كأنه يتابع هيجل في توحيده بين الحرية والروح ، وفي أن الإنسان لا يظفر بالحرية إلا من حيث هو كائن روحاني، لا من حيث هو كائن من لحم ودم، برغم أن الأساس البدني لا بد أن يرسخ ويستقر أولا، إن هذا الأساس البدني شرط ضروري يجب توافره قبل أن تكون هنالك حرية للجانب الروحاني، وذلك الأساس البدني هو الجانب الذي يخضع لحتمية السببية وضرورة تتابع حلقاتها ومراحلها على وجه معين لا يتغير، والمجتمع الذي ما يزال في مرحلة إشباع حاجاته المادية، هو بمثابة من لا يزال في مضمار الضرورات البدنية التي تخضع للحتمية وللضرورة، لكن الهدف الأسمى بعد ذلك هو أن نجاوز مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، وهذه لا تكون إلا في جانب الروح، أو العقل، أو الفكر.
وإذا كان ذلك كذلك، إذن فمنهج الحتمية العلمية مقصور على جانب من الإنسان دون جانب، فهو إن مكننا من إجراء النبوءات التاريخية لحياة المجتمع وهو في نشاطه الاقتصادي من إنتاج واستهلاك، فهو لا يجاوز الحدود التي بها يكون حاضر الحياة الاجتماعية نتيجة حتمية لماضيها، وأما حين يجاوز الإنسان بحياته نطاق الضرورة ليدخل نطاق الحرية (وهاتان التسميتان من عند ماركس) فيبطل عندئذ تطبيق المنهج العلمي بحتميته؛ لأننا ها هنا لا نتعقب كل شيء إلى أسبابه ، إذ قد تنشأ إحدى الحالات العقلية الحرة عن غير سبب يسبقها ويحتم ظهورها.
وبعبارة أراها أكثر وضوحا، إن الأفكار صنفان: أفكار تجيء انعكاسات للحياة المادية الواقعية - أعني للحياة الاقتصادية في الظروف القائمة من إنتاج واستهلاك - وأفكار أخرى تتحرر من هذا القيد، والنوع الأول من الأفكار وحده هو الذي يجوز القول فيه بأنه خاضع للحتمية العلمية وضروراتها، وهو وحده الذي يجوز أن يكون «أيديولوجية» تلزم صاحبها بالقبول، وهو وحده الذي نعنيه حين نقول إن تاريخ الإنسان في حياته المادية وفي حياته الفكرية على السواء، مسير بأوضاع حياته الاقتصادية ... فهل وقع ماركس في تناقض منهجي حين افترض نطاقا للضرورة ونطاقا للحرية، وجعل الأول للحياة المادية والثاني للحياة الفكرية، ثم لم يفرق في هذه الحياة الفكرية بين ما يجيء انعكاسا للأساس المادي، فيرتبط بحتميته وما يجيء إبداعا أصيلا فيتصف بالحرية من روابط الحتمية وضروراتها؟
بغير التعرض للجانب الموضوعي من النظرية الماركسية، أريد أن أحصر اهتمامي في منهج السير من مقدمات النظرية إلى نتائجها؛ لأسأل: هل تلزم تلك النتائج حتما عن المقدمات؟
إنه ليجوز القول إن ماركس قد سار في تفكيره خلال خطوات ثلاث: ففي الخطوة الأولى يحلل طرق الإنتاج في ظل الرأسمالية، ليجد أنها مؤدية - بما فيها من تنافس حر لا تضبطه ضوابط - إلى أن تأخذ الأموال في التركيز على نفر قليل، يظل على مر الزمن يزداد قلة كلما صرع التنافس صرعاه في ميدان التسابق، وهذا بدوره يزيد من عدد من لا يملكون مالا، وإن هذا الاتجاه المزدوج - الإمعان في قلة من يملكون، وفي زيادة من لا يملكون - ليشتد كلما ارتقت وسائل الإنتاج، وبالتالي شدة التنافس على توزيعه، وبالتالي كذلك سقوط من يسقط في ميدان التسابق، ليبقى ذلك النفر القليل المالك، فكأن النتيجة المحتومة هي زيادة في ثروة الأثرياء، وزيادة في شقاء الأشقياء، ومن الطبيعي أن تكون القلة الثرية هي الطبقة الحاكمة، وأن تكون الكثرة الفقيرة هي الطبقة المحكومة.
وفي الخطوة الثانية يبين - بناء على النتيجة التي وصل إليها في الخطوة الأولى - ضرورة أن يئول الأمر إلى طبقتين اثنتين: بورجوازية غنية حاكمة من جهة، وعمال فقراء محكومون من جهة أخرى، فكأنما تحدث - بالتدريج - عملية استقطاب في المجتمع، بحيث تقسمه إلى هذين القطبين وحدهما؛ لأن سائر الأفراد - إذ هم يخوضون معركة التنافس والتسابق، إما أن ينجحوا فينخرطوا في جماعة الحاكمين الأثرياء، وإما أن يخفقوا فينضموا إلى المحكومين الفقراء، وأن طبيعة الموقف عندئذ تحتم أن تتوتر العلاقة بين القطبين مع ضرورة أن يكون النصر عند الصدام للكثرة العاملة المحكومة الفقيرة؛ وذلك لأنه بينما لا يتم وجود لصاحب المال إلا بوجود العامل الذي يعمل لينتج له، فإن وجود العاملين المنتجين يمكن أن يتم بغير وجود صاحب المال، وإذا فمن غير المتصور أن تنمحي الطبقة العاملة، لكن من المتصور أن تنمحي طبقة أصحاب رءوس الأموال، ومن ثم كان النصر محتوما آخر الأمر للطبقة التي لا مناص من وجودها، على الطبقة التي يمكن زوالها.
وأخيرا تجيء الخطوة الثالثة التي يرتبها على نتيجة الخطوة السابقة، فما دام صراع الحاكمين الأغنياء المالكين لأدوات الإنتاج، والمحكومين الفقراء العاملين بتلك الأدوات لصالح أصحابها، قد انتهى بانتصار حتمي للطبقة العاملة، إذن فالنتيجة هي قيام مجتمع لا طبقي يتجانس أفراده، هو الذي يملك وسائل الإنتاج وهو كذلك الذي ينتج في آن معا، وتلك هي مرحلة الاشتراكية.
ونحن نسأل: هل تجيء هذه الخطوات الثلاث في تسلسل منطقي يحتم علينا ضرورة الأخذ بكل خطوة ما دمنا قد أخذنا بالخطوة التي سبقتها؟ إنه مع التسليم بما جاءت به الخطوة الأولى من أن التنافس الحر في الاقتصاد الرأسمالي، لا بد مؤد إلى تراكم الثروة في قلة من الناس من جهة، واتساع الشقاء والفقر في كثرة من الناس من جهة أخرى، نسأل: هل ينتج عن ذلك حتما أن تختفي كل الطوائف إلا طبقتين اثنتين: طبقة البرجوازيين الأغنياء، وهي قليلة العدد، وطبقة الجماهير العاملة التي تمتص سائر الطوائف الأخرى، أين نضع رجال العلم ورجال الفن في هذا التقسيم؟ أين نضع المهنيين من أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم؟ أين نضع أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة؟ في ظني أن استقطاب الناس في محورين: فحاكم غني هنا ومحكوم عامل وفقير هناك، قد يصور الموقف في محيط الصناعة وحدها، لكن ذلك لا يلزم عنه اختفاء طوائف أخرى في بناء المجتمع ليست تندرج في ذلك المحيط.
وإذا سلمنا بصواب الخطوة الثانية في أن المجتمع لا مناص له من هذا الانقسام إلى طرفين: صاحب أدوات الإنتاج وعامل مأجور، وأن النصر محقق للثاني على الأول، فهل يلزم حتما أن تظل الطبقة العاملة التي هي عندئذ المجتمع كله، متجانسة تجانسا يخليها من الصراع؟ أليس هناك - من الوجهة المنطقية الصرف، فضلا عن شواهد الواقع - احتمال بأن تسير هذه الطبقة المتجانسة في نفس المراحل مرة أخرى، حتى وإن اتخذ السير صورة أخرى، وذلك بأن يعلو فريق على فريق إن لم يكن بكثرة المال وبملكية وسائل الإنتاج، فبغير ذلك من عوامل الجاه والسلطان، ثم سرعان ما تربط روابط المشاركة في المصلحة أفراد أولئك وأفراد هؤلاء؟ نقول إن ذلك محتمل وليس مؤكد الحدوث وما دامت المقدمة الواحدة تؤدي بك إلى أكثر من احتمال واحد، فمن التحكم أن تختار أحد الاحتمالات الكثيرة على أنه النتيجة المؤكدة.
فمهما يكن من أمر النظرية الماركسية من حيث موضوعها ومادتها، فأحسب أن بها ثغرات في منهج استدلالاتها.
Shafi da ba'a sani ba