فمن هم أولئك القادة الذين يمسكون بأزمة الفكر في عصرنا ليتجهوا به يمينا أو يسارا؟
لقد جرى العرف - أو كاد يجري - على أن تكون هنالك تفرقة بين من نطلق عليهم اسم «المفكرين» - أو قادة الفكر - من جهة، والباحثين العلماء من جهة أخرى، ولعل أميز ما يميز الطائفة الأولى هو أنهم جماعة استنارت فأرادت أن تنير، جماعة عرفت ثم جعلت همها أن تنشر المعرفة في الآخرين، ولكن أي معرفة؟ إنها ليست المعرفة الأكاديمية التي تستند إلى تجارب المعامل العلمية أو إلى الوثائق والمراجع، بل هي المعرفة التي تنبع عند صاحبها من الخبرة الحية، ويكون لها أصداؤها في شعور الإنسان، وبالطبع لا تناقض هناك بين أن يجتمع في الرجل الواحد أن يكون من أصحاب البحث العلمي على الصورة الجامعية، وأن يكون في الوقت نفسه من «المفكرين» بمعنى الكلمة الذي نريده لها، لكن التمييز والتفريق بين الموقفين من شأنه أن يزيدنا دقة ووضوحا فيما نحن بصدد الحديث فيه.
فالباحث العلمي على الطريقة الجامعية لا يعد من «المفكرين» لمجرد أنه مختص بدراسة الفلك وطبقات الأرض، ولا بمجرد كونه ذا مهنة تقوم على أسس علمية، كالمهندس والطبيب والكيماوي وغيرهم، بل لا بد لطائفة المفكرين من صفة أخرى وهي أن يجاوزوا حدود الاختصاص الدراسي إلى حيث ينظرون إلى الكون وإلى الحياة نظرة شاملة تعتمد - إلى جانب اعتمادها على العقل المنطقي واستدلالاته - على الإدراك الحدسي العياني المباشر، ومقتضى هذه النظرة أن تجيء ذاتية مرتكزة على الخبرة الخاصة بصاحبها؛ ولهذا يتحتم أن تجيء نظرات «المفكرين» متصلة أوثق صلة بالحياة الفعلية الجارية من حولهم، بأفراحها وآلامها؛ لأن الكاتب إذا نضح من خبرته الذاتية المباشرة، جاءت كتابته - بالضرورة - تعبيرا عما قد تراكم في نفسه من آثار حياته بكل ما فيها من متاع وحرمان، فإذا درست كتابا في الرياضة أو الكيمياء، لم تدر هل كان مؤلفه مقترا عليه في الرزق أو من ذوي اليسار، لكنك إذا قرأت كتابا مما يكتبه «المفكرون» استطعت أن تلتمس وراء الكتابة أي طراز من الناس كان كاتبه.
وإنه لمما يستحق الذكر هنا، أن «المفكرين» بالمعنى الذي حددناه، تختلف أقدارهم في الأمم المختلفة، فليسوا هم دائما الطائفة التي تتولى زمام الريادة، ففي إنجلترا وفي فرنسا - وفرنسا بصفة خاصة - تكون القيادة «للمفكرين» من رجال الأدب والفن والثقافة والفلسفة غير الأكاديمية، وفي ألمانيا تترك القيادة الفكرية في أيدي أساتذة الجامعات، فقد ينبغ فيهم الكاتب والشاعر والفنان، لكن الناس إذ يأتمون فإنما يأتمون بأصحاب التخصص العلمي، وفي أمريكا تكون أولوية الرأي للخبراء؛ أعني للذين مارسوا العلم تطبيقا، وكأنما «المفكرون» يعالجون شئون الحياة الإنسانية في مؤلفاتهم ورواياتهم ليسدوا حاجة المثقفين في ملء أوقات الفراغ على المستوى الرفيع، لا ليرسموا لهم اتجاه السير، وزمام القيادة في روسيا متروك لرجال السياسة، فهم يشقون الطريق ومن ورائهم يسير التابعون، وأما في معظم أرجاء الأرض بعد ذلك - ومعظمها بلاد تحررت من مستعمريها منذ قريب: في آسيا وفي أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية - فالقيادة الفكرية غالبا ما تكون في أيدي قادة الثورات الذين كانوا هم العاملين على تحقيق ذلك «التحرر» من قيد المستعمر، فاضطلعوا بعد ذلك بتحقيق «الحرية» بعد التحرر، والفرق بين المرحلتين هو الفرق بين السلب والإيجاب: ففي المرحلة الأولى رفعت القيود، وفي المرحلة الثانية تقام عمليات البناء؛ إذ لا معنى للحرية إلا أن تكون حرية الأداء والعمل. «المفكرون» في إنجلترا يغلب أن يكونوا كتابا أحسوا أنهم المسئولون قبل غيرهم عن تغيير المجتمع، فالمجتمع هناك قد كبلته تقاليده التي لم تعد صالحة لعصرنا؛ ولذلك وجبت الثورة عليها لتتغير صورة الحياة، ولقد نجد من الساخطين من يقف عند السخط لا يعدوه إلى مقترحات للبناء الجديد، ولكن القادة الكبار لا يكتفون بما يكتفي به الشباب الساخط، بل تراهم فيما يكتبونه يصورون العلة ويقدمون العلاج، على اختلاف بينهم في تشخيص العلة وفي وصف الدواء، فمنهم من يرى أن مكمن الداء عندهم هو الفجوة العميقة بين الفطرة الإنسانية من ناحية، والسلوك المتكلف المتصنع من ناحية أخرى، وقد كانت هذه الفجوة عندهم هي التي تفصل بين الهمجية والتمدن وبالغوا في ذلك حتى نتج ما هو معروف عنهم من نفاق يبطن شيئا ويظهر شيئا آخر، أقول إن من قادة الرأي عندهم من يرى أن مكمن الداء هو في اصطناع ضروب من السلوك الاجتماعي بعيدة بعدا شديدا عن الدوافع الفطرية، وإذا كان ذلك فالعلاج هو عودة الإنسان إلى فطرته، ومنهم من يرى الداء كامنا في فتور الإيمان الديني؛ ولذلك فالعلاج هو في أن يقوى هذا الإيمان في النفوس وبذلك نضمن تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس سليم، ومنهم من يرى رأيا قريبا من هذا لكنه مختلف وذلك هو ضرورة أن تخفف وطأة العلم على حياة الإنسان بجرعة كبيرة من التصوف، فإذا اجتمع في الإنسان عفة المتصوف وحضارة العالم كان هو الإنسان الكامل.
فالمفكر الإنجليزي «ملتزم» نحو المجتمع التزاما غير مباشر؛ لأنه وإن يكن يحاول إصلاح جوانب النقص برسم صورة كاملة، إلا أنه لا يفرض على نفسه أن يعالج المشكلات الفعلية القائمة، فقد يفعل ذلك وقد لا يفعل، بل قد يتخذ موقفا فرديا انعزاليا سلبيا لعقيدة شائعة عند كثيرين من مفكريهم أن الواحد منهم هو تجسيد للمدنية الإنسانية بأسرها، فعنه تؤخذ المعايير وهو لا يأخذ عن أحد.
وأما المفكرون في فرنسا فهم أشد المفكرين «التزاما» حتى لقد أصبح التزامهم هذا خصيصة تميزهم منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فلا يكاد يكتب كاتب شيئا إلا ونصب عينه هدف يريد تحقيقه للإنسان الفرنسي على وجه الخصوص، ولقد نجد في كل بلد آخر - إلا فرنسا - شيئا من الريبة تساور نفوس الناس نحو طائفة «المفكرين»، برغم أن «المفكر» الفرنسي أكثر من أقرانه في سائر البلاد مسايرة لأحكام العقل، والاحتكام إلى العقل هو الذي من شأنه أن يثير ريبة عامة الناس؛ لأن هؤلاء أميل إلى الأخذ بنوازع الوجدان.
واحتكام المفكر الفرنسي إلى عقله هو الذي يزيد من جرأته على التمرد ومع ذلك كله ترى الناس يشخصون هناك بأبصارهم وقلوبهم إلى هداية «المفكرين» في شتى مشكلات الحياة: فردية واجتماعية وسياسية على السواء؛ ولذلك رأينا عددا كبيرا من مفكري البلاد الأخرى يهجرون أوطانهم ليعيشوا في فرنسا، ولينعموا بشيء من سلطان الفكر الذي يعلو هناك على كل سلطان.
ولا أظنني أجاوز الحق إذا زعمت أن مفكري إنجلترا وفرنسا معا يشتركان في قضية رئيسية واحدة، يعالجونها من جميع أطرافها، وهي قضية الحرية التي يمكن أن يظفر بها الإنسان الفرد إذ هو يعيش في جماعة سادها العلم واستحكمت فيها الصناعة، مما أضاع على الفرد حرية المبادأة، فمتى وأين وكيف يتحقق له قسط من هذه الحرية في حياته؟ •••
ليس «المفكرون» - بالمعنى الذي حددناه للكلمة - هم القادة في ألمانيا أو الولايات المتحدة، فالعقل الألماني عقل منهجي دارس متعمق - يجب أن تؤخذ الأمور مأخذا صارما يتعقبها إلى جذورها، ولا يكون ذلك إلا على أيدي الأساتذة الباحثين الذين لا يصدرون في أحكامهم عن خواطر تعن لهم بحكم تجاربهم الشخصية في الحياة اليومية الجارية - فالخواطر التي من هذا القبيل قد تصلح للتسلية عن طريق الصحافة، وأما ما هو هام وجاد فيترك أمره إلى الدراسة الجادة المتعمقة، ومثل هذه الدراسة إنما تتم في الجامعات على الأغلب الأعم، لا في دور الصحافة، ولئن كان لهذا الوضع حسناته من حيث دقة العلم، فله سيئاته التي من أهمها أن هؤلاء الدارسين في العادة موظفون في معاهد تتبع الدولة، وإذن فيغلب عليهم أن لا يكون لهم شأن بمجرى الأحداث؛ لأن الأحداث تتصل بالسياسة من قريب أو من بعيد، حتى لقد أجاب أستاذ جامعي في ألمانيا ذات يوم وهو بصدد الاعتراف بأنه يستغرق نشاطه كله في بحوثه العلمية ولا يتدخل في السياسة، أجاب هذا الأستاذ حين قال له قائل: لكن الأمور قد تتحرج فماذا أنت صانع؟ ألا تمتد يدك للمساعدة إذا اشتعلت النار في منزلك؟ فأجاب بقوله كلا، إنني ساعتئذ أستدعي رجال المطافئ لأنهم هم المختصون في إطفاء الحريق، وكذلك الأمر في السياسة والاقتصاد، لا يجمل بكل إنسان أن يدعي القدرة فيهما؛ لأنهما يحتاجان إلى معرفة وتدريب - فإذا أردنا تعقب القيادة الفكرية في ألمانيا فعلينا بما يكتبه الدارسون.
وأما الولايات المتحدة الأمريكية فتؤمن بالعمل والنجاح فيه إلى الحد الذي يجعلهم يحتكمون في كل شيء إلى التجربة والتطبيق، أو بعبارة أخرى فهم يحتكمون إلى صاحب المهارة العملية في الميدان المعين، لا إلى صاحب البحوث النظرية ولا إلى صاحب النظرات الحدسية في دنيا الأدب والفن. •••
Shafi da ba'a sani ba