أن يكون البحث وراء الحقيقة غرضه في الحياة.
وكثيرا ما شك منا المفكرون، وكثيرا ما عمد المؤلفون إلى اتباع خطى ديكارت، ولكنهم ظلموه ظلما كبيرا، فهل منهم من اتبع هذه القواعد خلال شكه قبل أن يصل إلى الحقيقة؟ ومن الذي وصل إلى الحقيقة منهم؟ بل من ذا الذي يدعي أنه عرف شيئا من أطراف الحق، ليكون سلمه إلى الحقيقة.
حقا لقد ظلم ديكارت، وفي سبيل الحق ما حاق به من ظلم حيا وميتا.
الحظ والعبقرية
من الأشياء التي لا أومن بها حكم المصادفة في تسيير أعمال النوع الإنساني، والمصادفة يدعوها الناس حظا، فهل يمكن أن يكون للحظ كما يفهمه الناس أثر في تحديد الحالات التي تقع في الحياة، ويكون لها أثر في إسعاد الجماعات والأفراد، أو في بؤسهم وشقائهم؟ من الجائز أن يكون لاتفاق وظروف الحياة وتوافق الأعمال الإنسانية أثر في خلق ظروف تجعلنا ننظر في بعض الأحيان إلى الحياة نظرة القانع بأن ظروفها مجموعة من المصادفات التي ليس لنا من قدرة على الاحتكام فيها، أو تصريف وجوهها. غير أن في الحياة أشياء أخرى غير هذه من الممكن أن ننظر فيها هذه النظرة ذاتها، وهي مع ذلك ليست نتاجا لمجموعة من الظروف التي تخلفها الأعمال الإنسانية، بل تلوح لنا في صورة تجعلنا نوقن بأن لنظام الطبيعة الأبدي ضلعا كبيرا في إحداثها.
أحاطت مثل هذه الظروف بالعديد الأورفي من أبناء آدم، منذ أن أشع في العقل الإنساني أول شعاع من أشعة الفكر الخالد، غير أن الحظ لم يخدم إلا بضعة أفراد من أبناء آدم، ليكونوا أول من يجني ثمار الحظ الذي انطوت عليه أسرار الطبيعة الأبدية. ولا حاجة بنا لأن نذكر أسماء يغيب عن أذهان القراء ذواتها، بل نعمد إلى أكبر من أبرزت البشرية من أصحاب العقول الفذة، فلديك أولا أرسطوطاليس، فإن وضعه لعلم المنطق فيه من الحظ بقدر ما فيه من النبوغ والمهارة؛ لأنه لا يتكرر في التاريخ مطلقا أن يجد شخص غير أرسطوطاليس عقلا إنسانيا يحتاج إلى قانون يحكمه. وكذلك غاليليو، لأنه لا يتكرر على الإطلاق أن يجد غيره نظاما فلكيا معكوسا فيقومه. ثم نيوتن، فإنه لا يتكرر في التاريخ أن يجد شخصا غيره سيارات تدور حول الشمس محتاجة إلى تعليل يعلل دورتها. ثم داروين؛ لأنه لا يتكرر أن يجد شخص غيره أنواعا حية يحتاج العقل إلى معرفة كيفية نشوئها.
أما أمثال هؤلاء فقلائل في التاريخ البشري، وهم لا شك أكبر الناس حظا، كما أنهم أكثرهم عبقرية ونبوغا.
قيام المدنيات وسقوطها
للأستاذ الكبير مستر «فلندرز بتري» المؤرخ الإنجليزي المعروف، نظرية في قيام المدنيات وسقوطها، أطلق عليها اسم «نظرية الدورات المدنية». والحقيقة أن الناظر في قيام المدنيات وسقوطها على مر العصور القديمة يلحظ دائما أن المدنية كانت ذات دورات كاملة، وأنها كانت متنقلة غير مستقرة، فمن مصر إلى روما إلى الكلدان إلى آشور إلى الهند إلى اليونان إلى الصين. وكانت كل مدنية من هذه المدنيات، تدور دورتها الكاملة ثم تسقط سقوطا فجائيا لا تستطيع أن تتلمس له من سبب أو تقع له على مصدر يقنع به العقل أو يرضى به المنطق.
ومن غريب الأمر أن سقوط المدنية في تلك الأزمان كان يعقبه إحدى حالتين، فإما أن يبيد الشعب الذي تسقط مدنيته وتضمحل، وإما أن يصيبه الجمود الشديد، فتتحجر ملكاته ومواهبه، ويظل واقفا حيث هو، فلا يتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا يفيد الإنسانية بفائدة ما ماديا أو أدبيا. ومثال الحالة الأولى الشعب اليوناني والشعب الفينيقي القديم، فكلاهما باد تماما ولم يتركا من خلف يرث عنهما ميراثهما العظيم، الذي اقتسمته عنهما الإنسانية. ومثال الحالة الثانية الشعب الهندي والشعب الصيني، وهما شعبان يمثلان حقيقة أن من السلالات البشرية فئة تفقد مواهبها، إذا اضمحلت مدنياتها، وتتحجر مواهبها لأسباب غير معروفة، وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل يكون نصيب المدنية الحديثة كنصيب المدنيات التي تقدمتها على مر العصور، أم إن الأسباب التي كانت تفسد المدنيات قد فنت مع تقدم العلوم والمعارف واتساع مناطق الاستكشاف في كل فروع المرافق الإنسانية.
Shafi da ba'a sani ba