ويلي ذلك قصة جماعة من الموسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، ودخل عليهم فوجدهم مبهوتين صامتين لا يتكلمون ولا يتحركون، ولا يرفعون أبصارهم, فظن أول الأمر أن رب الدار قد رزئ بخطب فادح، وقد أتت هذه الجماعة لتواسيه، وعقد الحزن ألستنهم، وران على قلوبهم, فتركهم واجمين، ولكن خاب ظنه هذا، فسأل: هل ثمة معضلة عويصة عرضت لكم وأنتم تبحثون تقدم أوربا في الصناعات، وانتشار تجارتها, وكيف تصل مصر إلى هذه المنزلة، فأجابوا بالنفي، فقال: ربما تفكرون فيما يزيد ثروتكم, ويعود بالنفع والخير عليكم وعلى أمتكم, فقال رب الدار: هذا أمر لا يهمنا, فإن البلاد إذا تقدمت أو تأخرت لا تفيدنا شيئا أحسن مما نحن فيه، وأما عن ثروتنا وزيادتها فعندنا من الثروة الكفاية؛ وهكذا صار يسألهم وهو في حيرة من أمرهم حتى اكتشف أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي "الكيف"، والمنبهات وغير ذلك، وعللوا لاجتماعهم هذا بأن: "الكيف" لا يفرح إلا إذا تعاطاه الإنسان في مجالس، ويختم النديم هذه القصة التي سماها # "سهرة الأنطاع" بقوله: هكذا تكون حال من لم يتهذب صغيرا, فإنه يخرج أسير شهواته, بعيدا عن إدراك المعاني, جبانا بليدا غبيا".
ثم يتعرض في كلمة أخرى لهؤلاء الذين يلتفون حول القصاص بالمقهى يسمعون قصة عنترة, ويتجادلون ويتحزبون لأبطال القصة: ولما رآهم القصاص منصتين إليه أخذ يفتري عبارات ينسبها إلى عنترة، وكلمات يعزوها إلى عمارة، وكل فريق يرشه حتى ينتصر له بتلفيق كلام يصف فيه حزبه، وأخيرا انتهت الليلة بأسر عنترة، فقام من الجمع رجل قدم للقصاص عشرة جنيهات ليخلص عنترة من أسره فأبى، فانهال عليه شتما وسبا، وتذكر أن عنده قصة عنترة ولكنه أمي، فذهب إلى ابنه قبيل الفجر وأيقظه، وهو في مصيبته التي لحقته تلك الليلة، حتى ظن الولد أن أمه قد ماتت، أو أحد أخوته توفي، أو تجارة أبيه صودرت، فلم علم أن الأمر يتعلق بعنترة أخذ يهون على والده الأمر، ويصف القصة بالتلفيق والكذب، فانهال عليه والده ضربا بالعصا وطرده من البيت.
ثم يقص أمر المزراع والمرابي، وقد ذكرناها آنفا، ويتبع ذلك بقصة غني كبير بنى بيتا واعتنى بأثاثه ورياشه، ثم دعا فريقا من أصدقائه لزيارته، ولما وصلوا إلى المكتبة سأله أحدهم عن الكتب التي يهواها، فأجاب بما يدل على الجهل، وأنه لا علم له بالكتب وما تحتويه، وكل ما في الأمر أنه زار أحد العظماء ووجد في بيته خزانة كتب، عليها ستارة خضراء، وبجانبها منفضة من الريش، والخادم يسح زجاجة الخزانة كل يوم, فظن أن هذا طراز جديد في تأثيث البيوت؛ فحاكاه فيه دون أن يعرف شيئا عن الكتب وما تحتويه, فدل على عظيم جهله, وعلى أن التقليد الأعمى مضر بالإنسان مزر بمكانته.
Shafi 325