ما أحب فيصل تاجا يجيئه من يد أجنبية (وقد هم مرة بالنزول) وما كان من شيمته أن يغمط النعمة، فيدعو الأمة لتنقذ التاج من قيوده، هذه هي المعضلة الكبرى التي وجب عليه حلها، هو ذا الطريق الوعر الذي كان عليه أن يسلكه، فقد رآه واضحا بكل مشقاته، وتقدم فيه بخطوات ثابتة؛ تارة بطيئة، وتارة حثيثة، وهو على الدوام الرجل الأبي الجريء الخبير الصبور.
قلت: المعضلة الكبرى، وما فصلت؛ فقد كانت تنحصر، عندما جلس على العرش، في أمرين: الفوز بثقة أهل العراق، والمحافظة على صداقة الإنكليز. وقد مشى إلى غرضه بما أكسبته تجارب الزمان، متمهلا متحذرا، واثبا عاديا، مستعينا تارة بصراحة الفكر، وطورا بالكياسة واللباقة؛ تارة يبرز عقله، وطورا يفتح قلبه؛ فيتغلب إما بالإقناع، وإما باللطف والمعروف، هذه هي الطريق التي سلكها فيصل، وكان فيها العامل الأكبر - القوة المرنة النافذة المحترمة دائما - في نجاح المفاوضات بين العراق وبريطانيا. وإن إدراكه لتلك المحجة في خلال عشر سنوات فقط - نظرا لما اعترضها من العقبات الوطنية والدولية - لمما يدعو للإعجاب والثناء.
أما المعارضة فما كانت لتؤخر في سير الملك فيصل، ولا كان هو يؤخر في سيرها؛ فبينا هي كانت تشحذ السلاح لتجاهد الانتداب وأصحابه، كان هو يجتاز العقبات، من معاهدة إلى معاهدة، وهدفه وهدف المعارضة واحد لا يتغير؛ فلو أنه سلم التسليم التام للمتطرفين، لأضاع الفرص التي انتهزها ليخدم أغراضهم، ولو أنه بالغ في تقدير الجميل لأصحابه الإنكليز، لما تمكن قطعا من التأليف بين مصالحهم ومصالح العراق. فقد رفع الميزان بيد الحكمة وباسمها، وقلما اهتزت اليد في حفظ التعادل بين كفتيه، وقلما شط البصر. هو ذا الفوز السياسي العظيم «وفيه فوز شخصي للملك فيصل، وفوز وطني للعراق.»
شغل الملك
كان هارون الرشيد يخاطب السحابة التي تمر به قائلا: «أمطري حيث شئت، فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي.» وكان الخراج يطيع السحب كما تطيع السحب هارون، فيجيء إليه طاميا، فيتصرف به كيفما شاء وشاءت مكارمه، يبذل منه في تعزيز الجند والقضاء، عملا بالقاعدة التي لا تزال مرعية عند أكثر حكام العرب: العدل أساس الملك والجند سياجه. ويبذل منه في بناء المساجد ومعاهد الإحسان، عملا بالقاعدة الأخرى التي ترفع حتى الخليع إلى منزلة أهل البر والتقوى.
وما سوى الجند والقضاء والجوامع والأوقاف، لا يبقى في المملكة ما يستحق كبير الاهتمام غير الشعراء في البلاط، والجواري في الحريم، فيغدق عليهم وعليهن مما تبقى من الخراج.
أمطري حيث شئت أيتها السحب، فإن خراجك لهارون، أسير القوافي والعيون، وإن السماء مع ذلك تخدم أمير المؤمنين، وتجعل السحب من رعاياه المخلصين.
أما الملك فيصل فلا أظن أنه كان يخاطب السحب، على قربها منه في طيرانه، أو يسأل السماء أسئلة فيما يتعلق بخراج الدولة. لو اتسع الوقت لديه لمثل هذه المفاوضات الاقتصادية أو المناجاة الشعرية، وشاء أن يتمثل بالخليفة العباسي الشهير، لما كان له أن ينتظر من السحب الخير الكثير؛ كان له أن يقول للسحابة ما قاله الرشيد: «أمطري حيث شئت.» ويقف عندها، فإن لم تمطر في مزرعة صغيرة قرب خانقين، أو في الحارثية خارج بغداد - كل ما كان يملكه من أرض العراق - فهي وريح السموم سواء فيما قد يكون له من خراجها. تبارك الدستور، وتباركت آياته، فهو يجيز لأحقر الناس، إذا صار وزير المالية في الدولة، أن يقول للملك: هذا راتبك، يا صاحب الجلالة.
جلالة الملك فيصل الأول مع فخامة الرئيس مصطفى كمال حين زيارته لتركيا.
مأدبة الغداء التي أقامها السفير البريطاني على ظهر الباخرة الإنكليزية «لوين» في المؤتمر العربي النجدي.
Shafi da ba'a sani ba