الطبيب: «أجلها إلى أن تتم الجراحة، وهي ألزم لحياة جلالة الملك، فيجب أن نباشرها حالا.»
الملك، والأمر بيده، يخاطب السر برسي: «بعد دقائق قليلة أكون بين أيدي هؤلاء الأطباء، وقد لا أعود من غيبوبتي إلى الحياة، فهل تطلب مني، يا سر برسي، أن يكون هذا الأمر آخر أعمالي في الدنيا؟ هل تنتظر مني أن أنفي هؤلاء الناس، أهل البلاد، من بلادهم قبل موتي؟! لا والله، إنه غير ممكن، غير ممكن.»
قال هذا ودفع الأمر إلى المندوب السامي فوضعه في جيبه، وخرج من القاعة دون أن يفوه بكلمة واحدة.
ولكنه مضى في عمله منفردا؛ إذ نفذ الأمر في اليوم التالي باسم المندوب السامي للحكومة البريطانية، فنفى الزعماء السبعة إلى جزيرة هنجام في خليج البصرة، وأقفل الناديين الوطنيين، وعطل بعض الصحف، ثم طلب من اثنين من مجتهدي الشيعة أن يسفرا ولديهما - وهما من الوطنيين المتطرفين - إلى إيران، ففعلا دون احتجاج، وسكت المجتهدون الآخرون.
أما العشائر فقد استمر أكثرهم ثائرين، منادين بسقوط الانتداب، عاملين بأوامر المجتهدين، دون أن يعلموا بما تغير من حالهم، أو أنهم أبوا أن يسكتوا مثلهم، فأرسلت السلطة عليهم سربا من الطائرات، فرمتهم ببعض المناشير والقذائف، فسكتوا مثل رؤسائهم، وأخلدوا بعد ذلك للسكينة.
هذا هو العمل الذي كان يتردد السر برسي فيه، خاف أن يضرم في البلاد نار ثورة ثانية لا تستطيع السلطة إخمادها ، ولا أظن أن أحدا في موقفه كان يطمع بمثل هذا النجاح لعمل أقدم عليه مترددا. ومع ذلك فقد قال السر برسي للمؤلف في حديث عن حوادث تلك الأيام، إنه يكره استخدام القوة لحل المشاكل السياسية، وهو في ذلك فوق كل ريب، فإن من يعرفه، ويدرك شيئا من السر في قوته، يتيقن أنه يؤثر قوى العقل وأساليب الجدل والمنطق، يؤثر المفاوضة والمناورة والمساومة في حسم الأمور، على القوات المسلحة بالنار والحديد.
بيد أنه لو تحقق ما وراء تلك الحركة، لو أدرك أن وراء خط النار الأول - وراء القصائد والفتاوى والخطب والمقالات - أمة مكدودة منهكة من الثورة الأخيرة، مثل الإنكليز أنفسهم، لما خرج عن المألوف في خطته، المأثور في سياسته، من الحصافة والكياسة واللين.
أويحتاج الأمر إلى برهان؟ فقد نفى الزعماء الوطنيين، وأقفل أنديتهم، وعطل صحفهم، وأسكت المجتهدين، وأدب العشائر، وبكلمة واحدة سحق المعارضة سحقا بأمر منه جازف مجازفة فيه، ولو اضطر إلى تنفيذه بالقوة المسلحة لما استطاع؛ لأن تلك القوة كانت يومئذ مفقودة.
وقد خضعت الأمة للأمر. ولم تعلم يومئذ، ولا يعلم الآن إلا بعض السياسيين، أن الملك فيصلا رفض أن يوقعه، وأن السر برسي كوكس جازف فيه، وأن العراق أطاعه وطأطأ له الرأس لعجز في الأمة، لا لخوف من القوات البريطانية.
ومما زاد في الفتور والتخاذل تلك الإشاعات التي كانت تشاع عن الملك فيصل في أثناء مرضه، وأولها أن الجراحة لم تنجح، ثم قالوا: «الملك في حالة تنذر بالخطر - الملك مشرف على الموت - الملك مات!» وغيرها من الإشاعات السياسية.
Shafi da ba'a sani ba