3
وادعاءك أنك بنت فلان، أو أخت فلان، وسيصل إليك الطعام مع أحد جنودي؛ لأنني عزمت على ألا أراك مرة أخرى. ثم انصرف مقطبا، واستسلمت نجلاء لأحزانها بعد أن يئست من وسائل النجاة، وتوالت الأيام والليالي وهي لا تجد إلى الأمل منفذا.
وكان أبو فراس قد برح به الحزن لا يجد بعض الراحة إلا عند زيارة صوفيا، التي كانت كثيرة العطف عليه، شديدة الألم لما حل به، وبينما هو في قصره ذات صباح إذا خادمه يعلمه بقدوم صوفيا، فدهش؛ لأن صوفيا كانت شديدة التحرج، مبالغة في التصون. فأسرع يحييها ويرحب بها، ولكنه لحظ في وجهها آثار الاضطراب فأدنى منها كرسيا فجلست، وهي تلهث متعبة مكدودة، ثم همست في أذنه تقول: علمت السر، فوثب أبو فراس صائحا: أي سر يا صوفيا؟ - سر الجريمة، سر اختطاف نجلاء.
فانكب على يديها يقبلها وهو يقول: أنت ملك كريم يا صوفيا، أنت ملك كريم. بحقك أسرعي ونبئيني: ألا تزال بين الأحياء؟ - إني كنت واثقة بكرم الله ولطفه في قضائه. - قولي يا صوفيا قولي. - في هذا الصباح حضر جندي إلى مصنع أبي ليشتري سيفا، فعرض عليه سيفا رخيص الثمن، فأبى في كبر واعتزاز، وأصر على أن يشتري سيفا بثلاثين دينارا، فعجبت للأمر وأردت أن أعرف خبيئة هذا الجندي البائس، فقلت له: إن هذا السيف غال على مثلك، إنه لا يشتريه إلا كبار القواد، وتماديت في السخرية منه، والازدراء عليه، فاشتد غضبه وقال: أتظنين «بشرا الخزامي» فقيرا يا فتاة؟ ثم مد يده إلى جيبه فأخرج منه ما يزيد عن مائة دينار، فتأجج في الميل إلى معرفة مصدر هذا المال. وحينئذ عدت إلى غريزة النساء، فضحكت ثم قلت: حقا إن هذا السيف الجميل لا يحمله إلا الفارس الجميل! فتيقظ غروره، وظن أن المال اجتذبني إليه، فقرب مني، وهمس في أذني بكلمات الحب الوضيع، فلم أغضب، وأشرت إليه أن يتبعني. ودهش أبي وبهر، ولكني غمزت له بعيني فسكت وأطرق. وذهبنا إلى الغرفة لنتحدث فقال: إني أضع كل مالي تحت قدميك، فأظهرت الفرح وقلت: هذا مال كثير، من أين أتيت به؟ فسكت مطرقا، فقلت له: لا بد أن تخبرني يا حبيبي. إننا سنكون زوجين، فكيف تخفي عني سريرة نفسك؟ ألا تعلم أنني سأعترف لك قبل زواجنا بكل شيء؟ سأقول لك: إني كنت أحب ابن عمي، وسأقول لك: إن هذا العقد الذي أزين به جيدي لم أشتره ولكني سرقته في ليلة عرس لأحد الأمراء، وسأقول لك كثيرا وكثيرا. واعلم أني رومية أبيح لزوجي أن يكون لصا، وأبيح له أن يكون قاتلا، ولكني لا أبيح له أن يكذب علي، فإن طمعت في زواجي فاكشف لي عما في نفسك كأني أقرؤه في كتاب. قل يا بشر: من أين هذه الدنانير؟ فقال: هذا المال له قصة يا حبيبتي. فقلت: لا بد أن تكون قصة بطولة وإقدام. فتردد طويلا ثم زفر وقال: طلب إلينا غالب التميمي يوما أن نخطف فتاة من بنات أثرياء المدينة، فاختطفناها، وأعطى كل واحد منا ثلاثمائة دينار. فصحت: مرحى بزوجي البطل! ورميت نفسي عليه أملأ وجهه تقبيلا، ثم قلت وقلبي يرتجف: وأين وضعتم الفتاة؟ فقال: وضعناها في برج الروم، فقلت في شماتة: لا بد أن تكون ماتت وذهبت إلى الجحيم. ثم سألته: من كان معك؟ فقال: جنديان هما: حسان بن علي، وعقيل الحارث. - وأين الرجل؟ - مصفد بالقيود في المصنع، فقد دعوت أبي وصناع المصنع فتكاثروا عليه وأحكموا وثاقه. فوثب أبو فراس وحمل صوفيا بين ذراعيه، وقد ذهب بعقله الفرح، وأخذ يدللها كما يدلل الطفل ويقول: أنت الرحمة في جسم، والحنان في شخص! هذه هي المرة الثانية يا صوفيا، التي تنقذين فيها حياتي وحياة نجلاء. ثم خرج مسرعا من الدار.
أسرع أبو فراس إلى سيف الدولة، وأخبره بكل ما سمعه، وأرسلت الجنود فقبضوا على بشر الخزامي وحسان بن علي وعقيل الحارث. أما غالب التميمي فلم يقفوا له على أثر؛ لأن مارينا أسرعت إلى داره فأخبرته بظهور الجريمة، وحثته على الهرب.
الفصل التاسع
طار أبو فراس إلى «برج الروم» على جواده، كأنه القدر المحتوم، ووراءه خادمه أسامة، وبعد ساعة لمح على الأرض أثر جواد يسلك الطريق نفسها، فثارت شبهاته وظن الظنون، وخاف أن يكون أعداؤه قد سبقوه إلى نجلاء لنقلها إلى مكان آخر، فوكز جواده مستحثا فانطلق ينهب الأرض كأنه البرق الخاطف، أو الخيال الطائف، وبعد ساعتين ظهر شبح فارس، ترفعه النجود، وتخفضه الوهاد، فصاح بجواده وزجره زجر المتيئس، وألهب جنبيه بالسوط، حتى إذا دنا منه وأحس الفارس قربه حاول الفرار فكبا به فرسه، فقبض عليه أبو فراس وتأمل وجهه فإذا هو فهد خادم قرعويه، فسأله عن طيته، فتلعثم وتردد ثم قال بعد أن بلع ريقه مرتين: أظن أنني لم أكن أسيرا فارا، وأعتقد أن لأي إنسان الحق في أن يذهب في أرض الله متى شاء وحيث شاء دون أن يرهق بسؤال. - صحيح، إلا إذا حامت الشبهة حول شخص يريد الفساد في الأرض. - وأي فساد يخشى من فارس يمتطي جواده ليسافر من بلد إلى بلد آخر؟ - الفساد في الغرض لا في السفر، وفي النية لا في الوسيلة، فإلى أي بلد أنت ذاهب؟ - إلى «بالس».
فالتفت أبو فراس إلى أسامة وقال: فتشه يا أسامة، ففتشه فلم يجد معه شيئا، ثم أعاد التفتيش فلم يعثر على شيء، وهنا أخذ فهد يسخر منه في شماتة لاذعة، فغضب أسامة ولطمه على وجهه فطارت عمامته من على رأسه، فأسرع فهد في ذعر واهتمام إلى التقاط العمامة، ولحظ أبو فراس اهتمامه فصاح: هات العمامة يا أسامة، فلما ناوله إياها دقق البحث فيها ففطن إلى أن أحد جوانب القلنسوة أغلظ من باقيها، ففك خياطتها فإذا ورقة بين الظهارة والبطانة كتب فيها:
من قرعويه قائد جيوش الأمير سيف الدولة، إلى خالد الشماخ، إذا بلغتك رسالتي هذه، فأطلق السجينة نجلاء الخالدية، وابعث بها مع رسولنا فهد.
فلما قرأ أبو فراس الرقعة احتدم وجهه بالغضب، وأمر أسامة أن يقيد رجلي فهد، ويردفه وراء فرسه، بعد أن يربطه بالحبال إلى السرج. فأحكم أسامة وثاقه، وكان في أشد الحنق عليه والبغض له. وبعد أن ركبا خطر لأسامة وهما يعدوان فوق قمة أكمة، أن يقطع الحبال التي تربط الأسير بالفرس، ليستريح منه، ولتستريح الأرض من شره، فأخرج سكينه في خفية وسرعة، وقطع الحبال، ورمى السكين فسقط المسكين يتدهده من صخرة إلى صخرة، حتى وصل إلى الهاوية مهشما، فالتفت أبو فراس مذعورا غاضبا. وصاح: ويل لك يا أسامة، أأنت فعلت هذا؟ - لا يا سيدي، إن الشرير هو الذي قتل نفسه، ويظهر أنه قطع الحبال بشيء كان معه، وقد أخطأت إذ لم أقيد يديه أيضا. - أرجو أن تكون صادقا ... أسرع فقد خف فرسك.
Shafi da ba'a sani ba