وفي صبيحة يوم دخلت مارينا غرفة نوم رملة ورفعت الستور فرأتها في سريرها عابسة، وقد دلت أساريرها أنها لم تنم ليلتها، فقالت لها مارينا: لقد عرفت كل شيء من سهم. - ومن سهم هذا؟ - خادم القصر الذي وهبه سيدي سيف الدولة لأبي فراس. - وما شأنه؟ - لقد فر المسكين من سيده بعد أن انكشفت الدسيسة التي اشترك فيها هو وسلمى العجوز وفهد خادم قرعويه، وكان الغرض من هذه الدسيسة التفريق بين أبي فراس ونجلاء، فإنه قد جن بحبها جنونا. فتنهدت رملة وقالت: علمت ذلك حينما أطللت عليهما من نافذة القصر. - لقد لبثت طول الليل أفكر في وسيلة لإبعاد نجلاء عنه وتيئيسه من الحصول عليها، ثم في اجتذابه إلى القصر، والاستعانة بنفوذ مولاي سيف الدولة من حيث لا يشعر، حتى يأتي خاضعا يستجدي رضاك. - وهل اهتديت إلى شيء؟ - أظن. أتعرفين غالبا التميمي؟ - هو من كبار الجنود في جيش أخي. فضحكت مارينا وقالت: وهو حبيبي المفتون بي، والذي إذا أمرته أن يتسلق الشمس فكر في طريقة للوصول إليها. - وماذا تريدين منه أن يفعل؟ - آه. هنا يقف السر فلا يتقدم خطوة واحدة، فثقي بي يا سيدتي، ولا تتعبي رأسك بالدسائس، فإنها شائكة معقدة.
وبعد أيام زارها غالب في هداة من الليل، فانفردت به في حجرة بحديقة القصر، وطال بينهما الحديث والجدل، وخرج غالب بعد ساعتين وجبينه يتصبب عرقا، وهو يهمس في أذنها: إنها مسألة شديدة الخطر يا حبيبتي، وأخشى أن يقضى عينا جميعا إذا كشف أمرها. - كن رجلا، واعلم أن حبي وزواجي بك في كفة، وقضاء هذا الأمر على ما أريد في كفة، فاختر أية الكفتين شئت. - اخترت الكفة التي فيها حبك، ولو سقطت بي إلى الجحيم، وسأعمل بكل ما أمرت ودبرت.
وبعد هذه الليلة بسبعة أيام أو ثمانية، ركب أبو فراس للقاء نجلاء في دارها فرأى الدار في اضطراب مائج، وأقبل عليه محمد الخالدي باكيا، يضرب بكف على كف، ويقول: فقدنا نجلاء! فقدنا نجلاء، لقد ماتت، لقد ماتت! ولكن أين جثتها؟ لقد بحثنا في كل ركن، وفي كل درب، وفي كل زقاق من المدينة وأرباضها، فلم نجد لها أثرا. خرجت هذا الصباح لزيارة إحدى صويحباتها فلم تصل إلى دارها، وكأنما غاصت بها الأرض، أو تخطفتها السماء. فذهل أبو فراس وكأن عاصفة جرفت به الأرض، فلوى عنان فرسه كالذاهل المجنون، ينظر في وجه كل شخص ويبحث في كل زاوية، ويمر على كل بيت يظن أنها طرقته، حتى إذا يئس في أخريات الليل ذهب إلى داره شبحا محطما، ولم يبق فيه من الحياة إلا زفرات وأنات ودموع.
ومرت الأيام تتلو الأيام ولا يعلم لنجلاء مكان، واهتم سيف الدولة ورجال دولته بالبحث عنها فلم يفلحوا، وكاد مرور الزمن، وتراكم اليأس على اليأس يمحو ذكراها من نفوس الناس إلا من نفس واحدة حزينة: هي نفس أبي فراس. واتهم قرعويه أبا فراس بأنه اختطف نجلاء، واتهمه أبو فراس بأنه اختطفها، ولكن التهم لم تتجاوز شبهات لا تقف على رجلين. فذهب إليه أبو فراس مرة بعد أن طغت عليه وساوسه، فلما تقابلا جعل كل منهما ينظر إلى صاحبه نظرة الثعلب إلى الثعلب، وقال أبو فراس: وهكذا يا صاحبي عجز رجالك عن معرفة مكان نجلاء! - يظهر أن من دبر اختطافها كان في ذكائك وحصافتك فلم يترك وراءه أثرا يدل عليه. - لا بد أن تكون له سابقة في الدسائس، ودربة في نصب الحبائل. - على أنني لا أستبعد مطلقا أن تكون في حلب، وأن تكون في دار رجل عظيم مثلك. - وقد يكون مختطفها رجلا غيورا، فاختطفها ليروضها على حبه، ويكرهها عليه إكراها. - إني لا أجد من يستطيع ردها سواك يا سيدي أبا فراس إن كانت لا تزال بين الأحياء. - وعليك أن تبحث أنت أيضا فربما لا تكون بعيدة عنك. سأتركك الآن يا صاحبي وأرجو أن يهديك الله إلى مكانها.
أما رملة فاستبشرت باختفاء نجلاء، ولوحت إلى أسماء من بعيد بأمنيتها، وعملت أسماء على استهواء أخيها بالثناء على رملة والإشادة بما يحيط بها من ملك وجاه عريض، ولكن أبا فراس كان عزوفا يسمع ويغضي، ويساق فيأبى المسير. ولكن ماذا جرى لنجلاء حقا؟
خرجت في الصباح لزيارة صديقة، فتقدم إليها بالقرب من دارها ثلاثة رجال في زي الحمالين، ومعهم محفة،
2
فتقدم أحدهم في أدب وإجلال قائلا: أتأمر سيدتي أن نحملها في محفتنا إلى ما تريد، فإننا لم نشتغل بدرهم طول نهار أمس؟ فعطفت نجلاء عليهم، وركبت المحفة، وأخبرتهم بمقصدها، فانطلقوا بها يسابقون الريح، حتى إذا بلغوا مكانا خلا من الناس، أسرع أحدهم فكم فمها، وقيد يديها ورجليها في سرعة البرق، ثم أمر صاحبيه أن يسرعا، واستمر ثلاثتهم يعدون حتى جاوزوا أرباض المدينة، وأدركهم الليل فلم يستريحوا. ولما ظهرت تباشير الصباح غيروا أزياءهم، ولبسوا لباس الجنود، ووقفوا عند قلعة رومانية قديمة، تسمى «برج الروم» كانت سجنا سياسيا لأعداء سيف الدولة، وقابل كبيرهم صاحب السجن، وقال له: لقد أحضرنا إليك اليوم فتاة هي أشد خطرا على الدولة من الروم، وهي جاسوسة ماهرة، تستعين بجمالها على استهواء الرجال واستخراج أسرارهم من مكامنها، ثم الإفضاء بها إلى الروم. وقد حيرت مولاي سيف الدولة، وأقضت مضجعه، وكان كلما طاردها أو حاول القبض عليها فرت من بين أصابعه كأنها طيف خيال، والذي نخشاه أن تستبيك هذه المرأة بجمالها، أو تستهويك بفنونها، فاحذر يا خالد! فإن رقبتك لن تكفي سيف الدولة في الانتقام منك. وقد تقول لك: إنها بنت فلان العظيم، أو أخت فلان الكبير، أو إن زمرة من الأشقياء اختطفتها، أو إن أبا فراس أو غير أبي فراس سيبحث عنها، ويعاقب كل من له يد في اختطافها وسجنها. قد تقول لك كلاما كثيرا وهذرا كثيرا، فلا تتزعزع واثبت، واعلم أنك أمام أخبث امرأة في هذا الوجود، أفهمت؟ - فهمت وسأضعها في غرفة منفردة، وأصم أذني عن سماع حديثها وتوسلاتها. - احذر يا خالد واثبت، فإنها ساحرة فاتنة. - لم يبق مني الهرم شيئا يستجيب للسحر والفتنة.
ثم انطلقوا راجعين في أزياء الجنود وما بلغوا حلب حتى قابلوا غالبا التميمي، فمنح كل واحد منهم ثلاثمائة دينار.
انفردت نجلاء بحجرتها، وحينما دخل عليها خالد الشماخ يحمل بعض الطعام سألته: أين أنا؟ فضحك ساخرا وقال: في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. - أأنت زعيم عصابة اللصوص الذين اختطفوني؟ - حقا لقد سرقوا كنزا من كنوز الدولة ثمينا. - أتعرف من أنا؟ - أعرف أنك هنا وهذا يكفيني. - أنا نجلاء بنت الخالدي، أخت محمد وسعيد كاتبي سيف الدولة وشاعريه. - يظهر أن في المسألة شعرا وخيالا. - أنا صديقة الحارث أبي فراس قائد جيوش سيف الدولة. - وقد عرفت منه كل أسرار الجيش. - أين يذهب بك يا شيخ؟ انظر إلي. - أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق! - إن سيف الدولة يبحث عني، ولو عرف أني في حوزتك لقتلك. - أعرف أنه كان يبحث عنك كثيرا. - بالله لا تراوغني، واستمع لحديثي بعقل وروية، لقد اختطفني لصوص أدنياء، وأدخلوا عليك الغفلة في أمري، فأسرع واذهب بي إلى حلب لتنال أعظم جائزة، وضاق صدر خالد، ونظر إليها مغضبا وقال: اسمعي يا فتاة، إنني رجل من صخر لا يؤثر فيه مال، ولا يستهويه جمال، وقد خلقني الله آلة جامدة تعمل ما طلب إليها عمله، فلا تتعبي نفسك في الباطل، ودعي مكرك ومحالك
Shafi da ba'a sani ba