فنظرت نجلاء طويلا، ثم رفعت رأسها كما يرفع الغريق رأسه من اللجة وصاحت: لا يا صوفيا إنها ليست خطه. إنها مزورة، فقد كنا فريسة مكيدة خبيثة. ثم قذفت بنفسها على صوفيا تعانقها وتقبلها في شبه جنون، وهي تغمغم: ويل لي من غباوتي! لقد كدت أضيع صديقي، وأفقد حياتي وسعادتي. مسكين أيها الصديق! ماذا ظننت بي؟ وبم حكمت علي؟ ثم التفتت فلم تجد العجوز فصاحت: أدركوا العجوز! أدركوا العجوز! فهرع الخدم وأسرعوا للبحث عنها في كل مكان من الدار، فلم يعثروا لها على أثر، فاتجهت إلى صوفيا وقالت: هذه العجوز هي رأس الشر، وأم الكبائر. أين أبو فراس الآن؟ اذهبي يا حبيبتي إليه وقصي عليه ما رأيت وسمعت، وتلطفي به، واطلبي إليه أن يقابلني بعد ساعة بقصر أخته أسماء، لنحل معا هذا اللغز المعقد.
وعادت صوفيا إلى أبي فراس فرأته يذرع الغرفة جيئة وذهوبا في قلق ووجوم، فلما وقعت عليها عينه صاح: ما وراءك؟ فلم تجبه وقالت: اجلس هنا يا فارسي، وبالله عليك لا تحملق عينيك هكذا فإنك تخيفني. اهدأ يا سيدي اهدأ، فإن حديثي سيطول، ثم ما هذا العبوس؟ وما ذلك الحزن الذي كاد يعصف بك؟ وفي تلك اللحظة أخذ كلبها يتواثب حولها فمالت إليه تداعبه وتدلله، وتحمله بين ذراعيها، وتخاطبه بعبارات ملؤها الحب والحنان، فضاق أبو فراس ذرعا واشتدت وساوسه، وقال: قوليها كلمة واحدة يا صوفيا، ففي اليأس راحة المحبين، فأغرقت في الضحك وقالت: أي يأس يا صديقي؟ إنها مكيدة محبوكة الأطراف نسجتها يد العجوز سلمى مع أيد أخرى، أترك لك ولنجلاء البحث عنها. - مكيدة؟ ونجلاء لا تزال على صداقتي؟ - نعم، ثم أخذت تقص عليه القصة في تفصيل وإسهاب، وهو مطرق واجم، يتأوه حينا، ويثب من الغضب أحيانا، فلما نفضت إليه كل ما عندها قال: خادمي سهم خائن، والعجوز خائنة، وأنت مسكينة مظلومة، ويل لسهم! ويل لسهم! ولكن هناك أيديا أثيمة أخرى هي التي كانت تدفع هذين الخائنين. الحمد لله والشكر لك يا صوفيا، ما أعجب تصاريف القدر! إنهم لو لم يدخلوك في هذه الدسيسة ما استطعنا لها كشفا! أنا اليوم أسعد خلق الله. اليوم عاد إلي شبابي، وانبعثت آمالي. ثم أخذ يقبل صوفيا في جبينها، ودموعه تغسل مكان كل قبلة، وهو يقول: أتقولين إنها ستقابلني بعد ساعة عند أختي؟ وما كادت تجيب حتى وثب إلى جواده والشوق يكاد يطير به، فما رأى الناس أشد مرحا من فرس وفارس!
وصل إلى قصر أسماء فعانقها طويلا؛ لأن شوقه الثائر الزخار كان يتطلب منفذا، ولو أنه رأى في السلم عبدها جوهرا لأغرقه عناقا وتقبيلا، وجاذبته أخته كثيرا في الأحاديث، وسمعت رملة بقدومه، فأسرعت نحوه في شغف سافر فرد تحيتها في أدب هادئ رزين. وبينما هي تحادثه إذا جوهر يعلن عن قدوم نجلاء. فالتفتت أسماء إلى أخيها وقالت: إن نجلاء فتاة أديبة لا تحتجب عن الرجال، وأظنك حضرت مجالسها التي تجمع رجال الشعر والأدب، أتعرفها؟ فقال: نعم، وهنا أمرت جوهرا أن يدعوها إلى المجلس. فدخلت نجلاء فعانقت أسماء ورملة وألقت بابتسامة خفيفة نحو أبي فراس، ومدت إليه يدها في إجلال وقالت: سمعت قصيدتك يا سيدي في موقعة حصن برزويه، وسمعت قصيدة الشاعر الجديد الذي يدعونه بالمتنبي، وعجبت أشد العجب أن يحتاج مولاي سيف الدولة إلى شاعر جديد، وفي الدولة مثلك ومثل النامي والناشئ وكشاجم وغيرهم من الشعراء المجيدين . - إن كل شاعر في المملكة يا سيدتي سيف للملك ودرع لها. وما أحوج الممالك الناشئة إلى كثرة السيوف والدروع، فقالت نجلاء: إن قصيدة المتنبي كلها عيوب، فمطلع القصيدة طلسم مغلق لا يفهم، وأبياتها مفككة الأواصر ليس فيها شيء من إشراق الديباجة أو الفلسفة البارعة. وحينما هم أبو فراس بإجابتها وكانت أخته قد عرفت من منظره وحركاته ما تنطوي عليه نفسه فصاحت: إنني لا أحب الجدال في الشعر والأدب، فهلا ذهبتما إلى الحديقة فإنها أوسع من أن تضيق بالحديث في الشعر وفنونه يا نجلاء، فذهبا إلى الحديقة وأخذا يتحدثان في المكيدة وما لقيا من جرائها، ثم سأل أبو فراس: من الذي حاك خيوط هذه المكيدة يا نجلاء؟ - قرعويه. - هذا عجيب! - ليس بعجيب يا سيدي، فإنه يريد أن يفرق بيننا بكل ما يستطيع من وسائل. وأذكر أن العجوز سلمى في أثناء احتجابك عني كانت تكثر الغض منك، ومن الثناء عليه، وتلح علي في وصل حبال صداقتي به، ثم إني أعتقد جازمة أن العصابة التي حاولت قتلك ليلة خروجك من داري لم تكن إلا بتدبيره وإيعازه. - اللئيم الفاجر! سأذبحه بسكين جزار؛ لأنه أحقر من أن يقتل بسيف. - لا يا سيدي، إن حب سيف الدولة لهذا الخبيث فوق كل حب، وهو لا يتوانى عن محق كل ما يعرض له بسوء ولو كان ابن عمه. فدعنا بالله نعش في سعادة ونعيم. ودعنا نسخر من مكايد أعدائنا بعد أن نتحصن بالحذر منهم. لا بد أن تحضر الليلة للعشاء فإني سأدعو بعض الأدباء ورجال القصر وبينهم قرعويه، لأمتع نفسي بتعذيبه والتشفي منه. وقد أرسلت إلى نشوة المغنية وإلى الراقصة «صبح» لتكون ليلتنا ليلة سرور وبهجة، ننسى بها ما مر من ليال سود، وأيام نحسات. وبينما كانا في الحديقة كانت رملة تطل عليهما من ثقوب نافذة مقفلة، فلما رأتهما عادت إلى غرفة نومها متعثرة في كل خطوة، ثم ألقت بنفسها على سريرها، وهي تئن أنين اللبؤة المكلومة. وجاءت خادمتها الأمينة «مارينا» فسألتها في ذعر عن سبب بكائها فلم تجبها، وتكرر السؤال، وزاد الإصرار على الكتمان، حتى إذا هدأت نفسها قليلا قالت: دعيني يا مارينا دعيني، فإنني أحترق كما تحترق الشمعة دون أن يرثي أحد لحالي. إنني لست أخت ملك. إنني أبأس فتاة في حلب. ولكن الخادمة أخذت تسكن من ثورتها، وتلح عليها في أن تكشف لها خبيئة أمرها، وبعد لأي مالت رملة إلى أذنها وهمست بكلمات يقطعها النشيج
17
والزفير، وحينما أتمت حديثها هزت مارينا رأسها وقالت: إن الأمر جد خطير، ولكن دعيني يا سيدتي أدبر، وأرجو أن تزول من طريقك العقبات، وأن يتم الأمر كما تحبين.
الفصل الثامن
خرجت سلمى العجوز هائمة حيرى تعض بنانها غيظا وحنقا، ولم يكن غضبها؛ لأن صلتها انقطعت بقوم عاشت في كنفهم عيشة الرغد والنعيم، ولا لأن أواصر رحمة وحنان تشبه أواصر الأمومة كانت بينها وبين نجلاء قد تفككت، ولكنها غضبت واشتد غضبها؛ لأنها لم تحكم المكيدة، ولم تأخذ حيطتها لكل طارئ. وحزنت للفن أكثر من حزنها على نفسها، وخشيت أن يكون لعلو السن يد في اضطراب تفكيرها، وأنها كلما تقدمت بها السنون فقدت هذه المواهب الغالية شيئا فشيئا، حتى تصل إلى الخرف،
1
ورأت رجليها تسوقانها إلى بيت قرعويه، فلما مثلت أمامه - وكان فهد واقفا إلى جانبه - عرف بذكائه أن في الأمر شيئا فقال: أهلا بسلمى. هل طار العصفور من القفص؟ - طار يا سيدي لأن القفص كانت به فجوة تسع النسر. والذنب ذنب صانع القفص، وقد جاء إليك اليوم حزينا معتذرا. - هوني عليك يا سلمى فمثلك من يستطيع صنع قفص جديد لا تنفذ منه الذبابة. والخيبة أول مراتب الفوز. ماذا حصل؟
فقصت عليه العجوز في خجل واستخذاء جملة الأمر، فلما انتهت من الكلام رفع رأسه في عبوس وصلابة، والتفت إلى فهد وقال: ما كان ينبغي لنا أن ندخل صوفيا في الأمر، فإنها فجوة القفص الواسعة التي فر منها العصفور، ولكن ... لا بأس عليك يا سلمى، أقيمي بدارنا فإننا دائما إليك في حاجة. وفي هذه اللحظة دخل خادم ومعه بطاقة فناولها لقرعويه فقرأها عابسا مرة وباسما أخرى، وقال: هذه رقعة من محمد الخالدي يدعوني للعشاء عنده الليلة، ولعله يحتفل لعودة الصفاء بين الصديقين! ثم التفت إلى فهد وقال: قل لحامل الرسالة إنني سأجيب الدعوة.
Shafi da ba'a sani ba