الفصل الخامس
التجمع والتفرع الحيويان
أما وقد انتهينا من بيان أن الحياة ليست إلا عملا كيميا محصورا في أربعة عناصر برئاسة الكربون، فنعود الآن إلى تطبيق الحياة على قواعد التنظيم جميعا: التجمع والتفرع أولا، ثم الدورية ثانيا. (1) عملية التجمع والتفرع كيماوية وآلية
رأينا في عملية تنظيم الكون المادي أن التجمع والتفرع جريا معا جنبا إلى جنب، وأن هذه العملية كانت آلية «ميكانيكية»، كانت مجرد تجمع ذرات في جماعات كبرى تربطها الجاذبية العامة، ثم تفرعت إلى جماعات صغرى بفعل الدوران، والجاذبية علة الدوران كما علمت.
وأما عملية التجمع والتفرع في الحياة فكيماوية، فضلا عن كونها ميكانيكية أيضا، وأما التآلف الكيماوي على الإطلاق - حيوي وغير حيوي - الذي كان يحدث في تجمع العوالم فكان عارضا - كان نتيجة، لم يكن ذا شأن في تجمعها وليس له يد فيها، اللهم إلا في تجمع الجزيء، بل كان يصفي الغازات من السوائل وهذه من الجوامد، وكان التجمع الميكانيكي سابقا وممهدا له، على أن هذا التآلف الكيماوي المذكور هو ذو اليد الطولى في التجمع والتفرع الحيويين. والجاذبية سبب كل من هذين التجمعين؛ لأن الألفة الكيماوية ليست إلا شكلا من أشكال الجاذبية أرقى من شكلها العام، نقول: إنه أرقى بمعنى أنه أتى بعده مركبا معقدا، وهذا بسيط، ثم إن الألفة الكيماوية في التجمع الحيوي أرقى من الألفة الكيماوية العامة؛ لأنها أتت بعد هذه أكثر تركبا وتعقدا.
رأينا في عملية تجمع السدم وتفرعها إلى سديمات وأجرام أن التجمع لا يمكن أن يستمر، إلى أن المجتمع الواحد يلتهم كل مادة هيولية في الكون ويصبح الكون كله كتلة واحدة متقلصة، وإنما يبلغ التجمع إلى حد لا يعود يستطيع بعده أن يلتهم مزيدا؛ لأن قوة الجاذبية تضعف عند محيطه المترامي، وهناك ينتهي حد التجمع بحجم لا يقبل المزيد. وثم تبتدئ عملية التفرع؛ إذ تتقطع طبقات الجرم السديمي الخارجية إلى قطع، طبقة بعد طبقة، على نحو ما وصفناه في محله، أما التجمع الحيوي فيختلف عن هذا إلا في بلوغه إلى حد معين لا يتجاوزه؛ وهاك بيان الخلاف.
الخلية البروتوبلاسمية هي أول درجة من درجات التجمع الحيوي، فهي لم تتكون من تجاذب ذرات متجاورة تجمعت حول مركز جاذبي متبادل بينها، بل تكونت من سلسلة تفاعلات كيماوية متوالية بين جزيئات يربطها «مبدأ حيوي» مجهول الذاتية مودع في عنصر الكربون على نحو ما بسطناه آنفا. وهذه الجزيئات المرتبطة بالمبدأ الحيوي تضم إليها جزيئات من الخارج وتدمجها في نفسها إلى أن تبلغ كتلتها حدا معينا من الكبر فلا تعود تتجاوزه؛ عند ذلك الحد تعتبر ناضجة، فلا تضم لنفسها جزيئات جديدة إلا تأهبا لانقسامها إلى خليتين جديدتين كل منهما بنوبتها تضم إليها جزيئات وتدمجها فيها إلى أن تبلغ حد النضوج المذكور، حيث تنشق إلى خليتين أخريين. وهكذا دواليك إلى ما شاء الله.
فترى أن التجمع الحيوي يحدث باغتنام جزيئات من خارجه وإدماجها في نفسه تدريجيا، خلافا للتجمع السديمي الذي ليس إلا تضام ذرات متجاورة بحكم قوة الجذب فقط.
ثم إن بلوغ التجمع السديمي حده يتوقف على استطاعة قوة الجذب الاستمساك بأقاصي طبقات السديم بتغلبها على قوة التشريد عن المركز، وأما بلوغ التجمع الحيوي حده فلا يتوقف على قوة جذب ولا على قوة دفع، حتى ولا على قوة ألفة كيماوية، بل على استطاعة الخلية الاحتفاظ بالجزيئات الكامنة للقيام بشخصيتها.
ثم إن التفرع السديمي يحدث عند عجز قوة الجذب المركزي عن مقاومة قوة التشريد المتوقفة على سرعة الدوران المركزي، فتستقل الكتل المتطرفة منه بتجاذب فرعي بينها وتنفصل جماعات فرعية قائمة بنفسها. أما التفرع الحيوي فلا يتوقف على قوة التجاذب ولا على قوة التشريد، بل على نضوج الخلية بحيث لا تعود هذه تستطيع الاحتفاظ بالمزيد، أو لا تحتاج إلى مزيد للقيام بشخصيتها فتنشق إلى اثنتين.
Shafi da ba'a sani ba