فالتعدد في الأمم وسيلة التعارف والتعاون، وليس بوسيلة للادعاء، والتنابذ، والتعصب للأجناس والتعالي بالعصبيات.
وقد فسر النبي عليه السلام هذه الآيات البينات بأحاديث في معناها فقال: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تعالى.»
وكان عمر رضي الله عنه يتكلم عن الصديق، ويشير إلى بلال الحبشي فيقول: «هو سيدنا، وأعتق سيدنا.» •••
فالقرآن الكريم - بهذه الأحكام المفصلة - قد أعطى المساواة حقها، وأعطى التفاوت بين الآحاد والطبقات حقه، فلا يمتنع التفاوت ولا يكون مع هذا سببا للظلم والإجحاف بالحقوق، بل سببا لإعطاء كل ذي حق حقه ولو كان من المستضعفين في الجنس، أو المستضعفين في المنزلة الاجتماعية.
وبإقرار التفاوت أقر القرآن الكريم أصلح النظم التي تستقيم عليها حياة الفرد والجماعة؛ لأن سنة الاختلاف بين الأحياء أعمق من حياة البشر وأعمق من نظم الاجتماع، أو نظم الاقتصاد.
فالحياة تتمثل في ألوف من الأنواع والأجناس والفصائل، وكل نوع أو جنس أو فصيلة يتألف من آحاد يعدون بالألوف والملايين، ولا يتشابهون في الشكل ولا في اللون، ولا في القوة والمزية، ومهما يقل القائلون عن أسباب ذلك في الزمن القديم فالحقيقة الماثلة أمامنا أن التنوع سنة الحياة وغايتها، وأنها تنزع إلى تفاوت المزايا، ولا تنزع إلى التشابه والتساوي في مظاهرها الإنسانية، ولا في مظاهرها الحيوانية، ويوشك أن يعم ذلك عالم الجماد قبل عالم الحيوان أو الإنسان.
وحكمة التفاوت ظاهرة، وآفة التشابه والتساوي أظهر؛ لأن الحياة تفتقر إلى المزايا إذا قصرت حركتها على تكرير صورة واحدة في كل فرد من الأفراد، وجعلتهم كلهم نسخة واحدة، لا فضل لبيئة منهم على بيئة، ولا لمجموعة منهم على مجموعة، ولكنها تزخر بالمزايا المتجددة، وتستزيد من الملكات المتعددة، كلما طرأ بينها التفاوت في الصفات والتفاوت في الأنصبة، وكان للتفاوت بين آحادها فضل يحرصون عليه، ويتطلعون إلى بلوغه، والتقدم فيه.
ولا معنى للتفاوت إذا تساوى القادر والعاجز، وتساوى العامل والكسلان، وأصبح الكسلان يكسل ولا يخاف على وجوده، والعامل يعمل ولا يطمح إلى رجحان، واطمأن المجردون من المزايا كاطمئنان الممتازين عليهم بأشرف المزايا وأعلاها؛ فإن القدرة تكاليفها ثقيلة، وأعباؤها جسيمة، ومطالبها كثيرة، والناس خلقاء أن يتهيبوا، وينكصوا عنها إذا لم يكن لهم وازع من الخوف ودافع من الطموح، وإن العاجزين الكسالى ليقعدهم العجز، ويطيب لهم الكسل إن لم يكن فيه ما يحذرونه ويخافون عقباه، وما هم بكسالى إذا كانوا يعملون وهم مستطيعون أن يتركوا العمل بغير خوف من عواقب تركه، أو كان العجز مأمونا في كل حال، لا يصيبهم في رزقهم ومنزلتهم بما يقلق ويثير: فالتفاوت موجود.
والتفاوت لازم.
Shafi da ba'a sani ba