وسيأتي الكلام على الحركة الدينية بشيء من التفصيل في الباب الآتي.
الحركة الثانية:
حركة تاريخية، ولسنا نعني بها حركة تأليف الكتب التاريخية، وإنما نعني ما انتشر في المملكة الإسلامية في هذا العهد من أخبار الأمم الماضية والأجيال الغابرة، والأحداث التي كانت في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء من بعده، ونظرة فيما روي في ذلك العصر تبين أنها كانت حركة واسعة، وأنها كانت الأساس الذي بنيت عليه المؤلفات التي ألفت بعد، ككتب ابن إسحاق وابن جرير وأمثالهما، يدل على ذلك أنك لو تتبعت في ابن جرير الطبري - مثلا - سلسلة روايته وجدت أن الرواة الثلاثة أو الأربعة الذين يتصلون بحياته كانوا في العصر العباسي، وهؤلاء يروون عمن قبلهم ممن كانوا في عهد الأمويين أو الخلفاء الراشدين، أعني بذلك أن الحوادث التاريخية التي دونت كانت معروفة في عصرنا الذي نؤرخه، وابن إسحاق وأمثاله إنما رووا ما كان معروفا وجمعوه.
وقد نبعت هذه الحركة التاريخية من جملة مصادر: (أولها):
شعور بعض الخلفاء بالحاجة - في سياسة الدولة - إلى تعرف أخبار الملوك في الأمم الأخرى وسياستهم ونظامهم، وهذا كان ضروريا بعد أن اتسعت المملكة الإسلامية هذا الاتساع الكبير، كانت الحركة المالية في جزيرة العرب قبل الفتح حركة ضعيفة لا تكفي لتسيير الحركة الكبرى التي كانت بعد الفتح، فكان لا بد من علم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، وكذلك الشأن في إدارة البلاد وتنظيمها وطرق حكمها، فلجأ بعض خلفاء المسلمين إلى الوقوف على ما كان من ذلك عند الأمم الأخرى، كالذي روى المسعودي عن معاوية أنه بعد أن يفرغ من عمله «كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها؛ فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات» اه. ولا شك أنه تسرب بهذه الطريقة بعض المعلومات التاريخية إلى الخاصة من المسلمين. (ثانيها):
وهو أهم من الأول، أن كثيرا من الشعوب المختلفة ذوات التاريخ دخلت في الإسلام، فأخذوا يدخلون تاريخ أممهم ويبثونه بين المسلمين، إما عصبية لقومهم أو نحو ذلك، فكثير من اليهود أسلموا وهم يعلمون كثيرا من تاريخ اليهودية وأخبار الحوادث، حسبما روت التوراة وشروحها، فأخذوا يحدثون المسلمين بها؛ وهؤلاء ربطوها بتفسير القرآن أحيانا، وبتاريخ الأمم الأخرى أحيانا ؛ إن شئت فاقرأ ما في الجزء الأول من تاريخ الطبري تجد منه الشيء الكثير مثل: «حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ بالخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة»
30
وكثير من هذا النوع روي حول ما ورد في القرآن من قصص الأنبياء، كذلك كان للفرس تاريخ وكان لهم أساطير، فلما أسلموا رووا تاريخهم، ورووا أساطيرهم، وكذلك فعل النصارى، فكانت هذه الروايات والأساطير عن الأمم المختلفة مبثوثة بين المسلمين، ومصدرا من مصادر الحركة التاريخية عندهم.
Shafi da ba'a sani ba