105

Nazarin Akan Mazhabobin Adabi Da Zamantakewa

دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية

Nau'ikan

فليس بالمسلم من يقضي بتعطيل العقل وينهى عن التفكير؛ لأن الإنسان ينكر العقل ليؤمن بالنص الذي لا اجتهاد فيه، والنص هنا صريح متواتر في وجوب النظر والتفكير وإطلاق هذا الوجوب على مسائل التصديق بوجود الإله، ومسائل العلم بمخلوقاته والتدبر في أوامره ونواهيه.

وغاية الأمر فيمن تكلم بشيء في إنكار حكم العقل أنه يؤمن بعقل أكبر من العقل الإنساني، ويأبى أن يجعل هذا العقل قسطاسا للعقل السرمدي المحيط بالإنسان وبسائر المخلوقات، فلا بد للعقل الإنساني من حد يقف عنده ويلجأ فيه إلى التسليم، وليس هذا مناقضا للعقل الإنساني في أساسه، ولا هو من قبيل الكفر بدين العقل والقضاء ببطلانه؛ لأن العقل الإنساني نفسه يعلم أنه محدود، ويعلم أن المحدود لا يحيط بما ليست له حدود، فهو يقضي بالعقل حين يقضي بأن العقل مضطر إلى التسليم في بعض الأمور.

وقد أثرت عن بعض المتكلمين أقوال يخيل إلى الناظر فيها لأول وهلة أنها أقوال قوم ينكرون العقل، ويبطلون أحكامه ولا يعولون عليه في شيء من الأشياء، ومن أمثلة ذلك سؤال من يسأل: هل تتعلق قدرة الله بالمستحيل؟ فإن الفلاسفة يقولون: إن المستحيل ممتنع في العقول، وبعض المتكلمين يقولون: إن قدرة الله تتعلق بالمستحيل، فهل معنى ذلك أنهم ينقضون العقل ويحكمون بإلغائه وإلغاء كل ما يقتضيه؟ كلا ... بل هم يرجعون في ذلك إلى قضية عقلية يسلمها من يدينون بالتفكير وإن كانوا من غير المتكلمين؛ لأنهم يقولون: إن الله الذي خلق لنا هذا العقل قادر على أن يخلق عقلا آخر يخالفه في تقدير الاستحالة والإمكان، وقادر على أن يرفع العقل الإنساني درجة في مراتب الإدراك فيرى بعيني الإلهام الإلهي ما ليس يراه بغير ذلك الإلهام، فهم يبنون رأيهم على «قضية منطقية»، ويبطلون العقل بعقل أصح منه وأقدر على الإدراك، وليس هذا شأن من يسقط العقل جملة واحدة من الحساب.

فالعقل أصل من أصول الإيمان في الإسلام لا شك فيه، وكل ما هنالك أن العقل عند المسلم وغير المسلم له حدود ينتهي إليها، وأن علماء المسلمين وحكماءهم يختلفون في رسم الأمد الذي تنتهي إليه تلك الحدود.

هذا الموضوع الدقيق هو الموضوع الذي يدور عليه كتاب «العقل في الإسلام» من تأليف الباحث الفاضل الدكتور كريم عزقول، وربما صح أن يقال في العنوان: إنه كتاب عن العقل عند «الغزالي»؛ لأنه هو في الواقع كذلك بعد التمهيد الضروري لهذا الموضوع، وقد قال المؤلف الفاضل في مقدمته: «إن الصدق في تصوير آراء الغزالي والأمانة في نقل أفكاره والضبط والدقة في عرضها بعد محاولة فهمها على حقيقتها، فهما موضوعيا مجردا خاليا من كل غرض، متحررا من كل فكرة سابقة هو جل ما توخيته من هذه الدراسة، تاركا لمناسبات أخرى أمر قدر تلك الآراء والحكم عليها، مكتفيا هاهنا بالقيام بهذا القسط المعين من واجبي الحضاري البشري والإنساني والقومي، وهو تعريف القارئ العربي إلى أهم ناحية فكرية في الحضارة الإسلامية كما عكسها دماغ أكبر مفكر في الإسلام.»

ويشهد من قرأ الكتاب أن المؤلف الفاضل قد أحسن الاختيار؛ لأن الغزالي ولا ريب أكبر نموذج للفكر الإسلامي، يرجع إليه في تبيان موقف الإسلام من العقل والتفكير، وأنه قد بر غاية البر بوعده في صدر كتابه، فكان أمينا نزيها مخلصا في صدق العرض وصحة البحث عن حقائق الموضوع في مراجعها الكثيرة، فأجمل في كتابه كل ما يلزم أن يقال عن عناصر هذه المسألة، ووضع العقل في موضعه الصحيح من فلسفة الإمام العظيم أو مجموعة آرائه ومحصل تفكيره.

وخلاصة القول في هذا البحث: أن الغزالي يؤمن بالعقل ويقيس عليه المعارف والمعلومات، ولا يستثني بابا من أبواب المعرفة من هذا القياس أو هذا الميزان، فيقول: «لا أدعي أني أزن بها - أي: بموازين النظر - المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي، فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين ...» ويقول في موضع آخر: «وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة ...»

نعم؛ إن الغزالي شك في العقل حينا، فتساءل على لسان المحسوسات وهي تخاطب الباحث عن الحقيقة: «بم تأمن ألا تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟!»

ولكن الغزالي لم يستقر على هذا الشك طويلا، بل خرج منه واعتبر أن إبطال العقل بالشك المطلق «آفات تصيب العقل فيجري مجرى الجنون، ولكن لا يسمى جنونا، والجنون فنون.»

إلا أننا لا نفهم من ذلك أن العقل - عند الغزالي - قادر على إدراك كل حقيقة وكفيل بالوصول إلى كل معرفة؛ لأن القياس شيء، والوصول شيء آخر، فنحن بالإبرة المغناطيسية نستطيع أن نعرف الهدى والضلال، ولا يلزم من ذلك ضرورة أن الإبرة المغناطيسية قادرة على البلوغ بنا إلى مكان الهدى واجتناب مكان الضلال، وقد يكون تشبيه العقل بالإبرة المغناطيسية تشبيها غير جامع لوجوه الشبه الصحيح، فحسبه أنه تشبيه يدل على الغرض المقصود: وهو أن العقل يصلح للتمييز بين الصواب والخطأ ولا يلزم من ذلك ضرورة أنه صالح للوصول إلى الغايات جميعا بغير تكملة من قدرة أخرى ومعونة من «عقل» أكبر لا يلغي حكم العقل أصالة بل ينتقل به من طبقة إلى طبقة ومن مجال إلى مجال.

Shafi da ba'a sani ba