Dirasat Falsafiyya Islami
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Nau'ikan
ويمكن تجاوز المعوقات التراثية وإظهار الدوافع في العمل السياسي بالوسائل الآتية: (1)
إيجاد البدائل: ويعني ذلك أننا ونحن في بداية القرن الخامس عشر الهجري تركنا العقلانية العلمية (المعتزلة والفلاسفة)؛ فالمحافظة الدينية أرسخ في وجداننا القومي من الليبرالية. وبالتالي كانت مهمتنا ضغط الألف عام إلى النصف وزيادة الأربعمائة عام إلى الضعف. في هذه اللحظة التاريخية فقط وحتى يتم ذلك يمكن أن ينجح أي عمل سياسي؛ لأن التعددية والليبرالية والعقلانية والعلمية قد أصبحت الرافد الأساسي والمكون الرئيسي لوعينا القومي. ومن ثم يكون الشرط التراثي الأول لأي عمل سياسي هو الانتقال من الأشعرية إلى المعتزلة، ومن إشراقية الفلاسفة إلى عقلانية ابن رشد، ومن الفقه الافتراضي إلى الفقه المصلحي، ومن التصوف النظري السلبي إلى التصوف العملي الإيجابي. وعلى هذا النحو تبدأ دورة ثالثة من الحضارة الإسلامية، بعد الدورة الأولى؛ عصر التكوين والازدهار، والقرون السبعة الأولى، والدورة الثانية؛ عصر الشروح والملخصات (القرون السبعة الثانية)، والدورة الثالثة والتي نحن في بدايتها في مطلع القرن الخامس عشر. لا يمكن إذن أن يتم أي عمل سياسي بدون فلسفة في التاريخ، ومعرفة في أية مرحلة تاريخية تعيش مجتمعاتنا وفي أي عصر تعيش أجيالنا بوجه عام وجيلنا بوجه خاص. وهذا يتطلب عملا سياسيا في التراث إذا أردنا أن يكون للتراث عمل سياسي فينا. ولا ضير في ذلك؛ فالتراث في كل عصر نتاج لظروفه السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن عملنا السياسي فيه يرجع إلى أصله الذي منه نشأ أول مرة. يتطلب العمل السياسي في التراث إعادة صياغة لغة جديدة إنسانية عقلانية مفتوحة بدل اللغة الدينية القانونية الاصطلاحية. كما يتطلب تغيير مستويات التحليل والرؤية من المستوى الفقهي إلى المستوى الطبيعي حتى تظهر حياة الناس، ثم تغيير المحاور من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف؛ حتى يقل أثر نظرية الفيض فينا، ويظهر في وجداننا بعد الزمان ومسار التاريخ وحركتا التقدم والتخلف. فالأعلى عند القدماء هو الأمام بالنسبة لنا، والأدنى لديهم هو الخلف عندنا. كما يتطلب ذلك تغيير المحاور، من التمركز حول الله الذي دافع عنه القدماء نظرا للدين الجديد الحديث العهد، إلى الدفاع عن الإنسان وهو مظان الطعان في عصرنا والذي لم نبدأ الدفاع عنه حتى الآن. قد يفرض ذلك أيضا تغيير المناهج، من المناهج الاستنباطية التي تبدأ من النص إلى الواقع، إلى المناهج الاستقرائية التي تبدأ من الواقع إلى النص، فالوحي ليس نزولا مفروضا بل نداء للطبيعة وتلبية لمقتضياتها وقصدها نحو الكمال. وقد يفرض ذلك تغيير المادة «الدينية» القديمة كلها إلى مادة اجتماعية معاصرة، فالدين تعبير عن الأوضاع الاجتماعية، والوحي حلول للمشاكل الاجتماعية. (2)
اليسار الإسلامي: التيار الذي يمكنه أن يقوم بقراءة سياسية للتراث هو «الإسلام السياسي» أو «اليسار الإسلامي»؛ فهو الذي ينبع من تراث الأمة، ويلتزم بقضايا العصر، وقادر على القيام بهذا التحول من المحافظة التاريخية إلى التقدمية العصرية. فجذوره في التراث، وفروعه في العصر، لا يعادي الحركة الإسلامية بل يفهم متطلباتها، وصديق للحركة العلمانية يفهم منطلقاتها. اليسار الإسلامي هو القادر على إعادة وحدة الصف وإنهاء الازدواجية في الثقافة الوطنية بين الثقافة الدينية والثقافة العلمانية. وهو القادر على ملء هذا الفراغ الآن بين الطرفين المتعارضين. كما أنه قادر على تجنيد الجماهير التي ما زالت تتحرك بالأنساق العقائدية أو تحت ضغط ظروف الحياة المادية: المساجد عامرة بالمصلين، والأئمة المستقلون، طليعة الأمة، قادرون على قيادتها. اليسار الإسلامي ينقد السلفية من موضع الاشتراك في الجذور، وينقد العلمانية من موقع الاشتراك في الثمار، ولكنه هو الأقدر على تلبية مطالب الجماهير، وصياغة مشروع قومي يربط الماضي بالحاضر، ويحقق التغير الاجتماعي وقمته في الثورة من خلال التواصل لا من خلال الانقطاع. وهو وريث المعتزلة والفلاسفة والأصول والتصوف العملي القديم. كما أنه وريث حركة الإصلاح الديني الحديث، راجعا إلى جذوره (الأفغاني) ومنشطا إياه من جديد - بعد أن خف صوته على مراحل - حتى وصل إلى الحركة الإسلامية الحالية، فيتحول الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة. كما أن اليسار الإسلامي قادر على إقالة الثورة العربية من عثراتها، حتى لا تبدأ هذه المرة بالضباط الأحرار بل بالمفكرين الأحرار.
3 (3)
الوحدة الوطنية: واليسار الإسلامي إنما يقوم بهذه المهمة تثوير التراث وممارسة العمل السياسي من الجذور التراثية في إطار الوحدة الوطنية. فاليسار الإسلامي لا يكفر أحدا. بل إنه يقبل كل التراث القديم بمعوقاته ودوافعه من أجل إعادة النظر فيها، وتصفيته من الأولى، وتحويل الثانية إلى رافد أساسي في وعينا القومي. كما يقبل الحركة العلمانية بكل فصائلها لأنه يفهم منطلقاتها ودوافعها. وقد انتشرت فوق تربتنا ثلاثة تيارات علمانية: الليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة، ثم الثورة العربية أو القومية العربية أو الاشتراكية العربية، وكلاهما قدر لهما أن يحكما ويحققا إنجازات وتنتج عنهما مخاسر، والحركة الماركسية التي بدأت في أوائل هذا القرن حتى الآن والتي لم يقدر لها أن تحكم إلا في بعض أطراف العالم العربي (اليمن الديمقراطي) أو داخلة في حلف مع الثورة العربية (سوريا، العراق). وطالما خسرنا جميعا باضطهاد الحركة الإسلامية على طول الخط، سواء قبل الثورة العربية أو بعدها، أو باضطهاد الليبرالية بعد الثورة العربية واضطهاد الماركسية قبلها وأحيانا بعدها. وطالما شوهت كل حركة الحركة الأخرى بتدعيم الدولة؛ فالماركسية كفر وإلحاد وعمالة، والليبرالية فردية رأسمالية انحلالية، والقومية عنصرية وشعوبية واغتراب، والإسلامية تزلف ورجعية ومحافظة. فأصبح الكل خاسرا، نزيل سجون، راغبا في الثأر من المجتمع أو الانقضاض على أخيه. وقد آن الأوان أن يعمل الجميع في إطار من الوحدة الوطنية. فلا حوار بين الفرقاء إلا بالليبرالية، ولا تحقيق لوحدة الأمة إلا بالقومية، ولا إعادة لتوزيع الدخل القومي إلا بالماركسية، ولا تغيير من خلال التواصل إلا بالحركة الإسلامية. الأمة طائر جسده القومية العرية نتاج الثورة العربية، وذيله الليبرالية، وجناحاه الإسلامية والماركسية، ورأسه الوحدة الوطنية. فلا يمكن أن يطير إلا بمجموع جسمه، وإلا سقط أو انحرف أو أصبح كسيحا لا يقوى على النهوض.
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء
التراث
إن التراث القديم ليس هو الدين، وبالتالي ليس له طابع التقديس، بل إن الدين هو جزء من التراث، أي الموروث العقائدي، بجوار الموروث الأدبي والعرفي. هو نتيجة ظروف سياسية قديمة وصراع على السلطة وتعبير عن أوضاع اجتماعية. ولما كانت الظروف تغيرت فإن مسئوليتنا، بالتالي، إفراز تراث جديد وإعادة بناء التراث القديم؛ حتى لا يقف حجر عثرة في سبيل النهضة الحديثة والثورة العربية المعاصرة. ليس الأمر مجرد تحميس للناس وشحذ عزائمهم، بل يتعلق الأمر بالبناء العقائدي للجماهير، وبإعطائها أيديولوجية سياسية تملأ بها فراغها النظري وحصارها بين الحركة السلفية والحركة العلمانية. فإذا كان التراث القديم نتيجة للعمل السياسي القديم فإن العمل السياسي الحديث يتطلب تراثه المعاصر، وفي الوقت نفسه إعادة النظر في الموروث القديم؛ فإما يتطابق معه في تراث المعارضة، وإما يختلف معه في تراث السلطة. وفي كلتا الحالتين يحدث التغير من خلال التواصل، وتأمن الأمة الردة والفصام في الشخصية، ويصبح حاضرها إحدى حلقات وحدة تاريخها.
كبوة الإصلاح1
نموذج مصر
Shafi da ba'a sani ba