247

Nazarin Kan Gabatarwar Ibn Khaldun

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Nau'ikan

ابن خلدون يواصل التعمق في التعليل قائلا: «والعلة الطبيعية في ذلك؛ هي أن قوة العصبية (مثل) سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها، والدولة في مركزها أشد مما يكون في الطرف والنطاق، وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية؛ عجزت وأقصرت عما وراءه، شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز، والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص162). (5)

بينما يقرر ابن خلدون - من جهة - أن العصبية ضرورية لتأسيس الدولة، يلاحظ - من جهة أخرى - أنها قد تعرقل تأسيس الدولة، وذلك إذا كانت متعددة ومتخالفة؛ لأنه يقول في عنوان فصل من الفصول: «إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة» (ص164)، ويعلل ذلك بالملاحظات التالية: «والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها؛ فيكثر الانتقاض على الدولة، والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة وقوة» (ص164).

يستشهد ابن خلدون على ذلك بما حدث في «إفريقية والمغرب منذ أول الإسلام». «فإن ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغن فيهم الغلب الأول شيئا، وعادوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرة بعد أخرى، وعظم إثخان المسلمين فيهم. ولما استقر الدين عندهم؛ عادوا إلى الثورة والخروج، والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة» (ص164). لأن قبائلهم بالمغرب كانت «أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر، وكلما هلكت قبيلة عادت الأخرى إلى مكانها، وإلى دينها من الخلاف والردة، فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب» (ص165).

وذلك يدل دلالة واضحة على أن «كثرة العصائب والقبائل تحمل على عدم الإذعان والانقياد للدولة» (ص164).

وبعكس ذلك فإن «الأوطان الخالية من العصبيات، يسهل تمهيد الدولة فيها»؛ لأن سلطانها يكون «وازعا لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية» (ص156).

ويستشهد ابن خلدون على ذلك أولا بما حدث في الشام والعراق في أول الإسلام؛ لم يكن هناك عندئذ قبائل وعصائب مثل ما كان في إفريقية والمغرب، «لم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، وإنما كانت حاميتها من فارس والروم والكافة دهماء، أهل مدن وأمصار، فلما غلبهم المسلمون على الأمر، وانتزعوه من أيديهم؛ لم يبق فيها ممانع ولا مشاق» (ص164).

كما يستشهد بأحوال مصر والشام والأندلس في عهد كتابة المقدمة: «إن ملك مصر في غاية الدعة والرسوخ؛ لقلة الخوارج وأهل العصائب»، و«كذا أهل الأندلس لهذا العهد (ص165)؛ فإن قطر الأندلس لقلة العصائب والقبائل فيه، يغني عن كثرة العصبية في التغلب عليهم» (ص166).

3 (1)

يلاحظ ابن خلدون بعض العلائق الهامة بين قوة العصبية وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضا، فإنه يقول أولا: «إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» (ص159)؛ لأن هذه الدعوة تتضمن حمل الناس على السير وفق ما تقتضيه الأوامر الدينية؛ ولذلك لا تخرج عن نطاق الأمور التي تحتاج إلى عصبية. «إن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور، فلا بد فيه من العصبية؛ إذ المطالبة لا تتم إلا بها. فالعصبية ضرورية للملة» (ص202).

يضيف ابن خلدون إلى هذا التعليل العقلي تعليلا نقليا أيضا، إذ يقول: «وفي الحديث: ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه. وإذا كان هذا في الأنبياء، وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم ألا تخرق لهم العادة في الغلب بغير العصبية» (ص159).

Shafi da ba'a sani ba