ووجدت سكرتيره صديقي الذي كنت قد تعرفت به وأحببته كل الحب في جريدة «المصري» الأستاذ محمود يوسف، وقد توثقت صلته بي بعد، وكنت أعتبره من أقرب الناس إلى قلبي، حتى اختاره الله إلى جواره.
دخلت إلى توفيق بك، وقدمت إليه التمثيليات، وتحدثنا عن المقدمة، فلم أجد عنده تحمسا، ولكنه قدم لي كتابه العظيم الذي كان قد ظهر في هذه الأيام «فن الأدب»، وقال: «خذ هذا الكتاب، حتى لا تكون أحضرت لي شيئا دون أن أقدم لك شيئا في مقابله.»
وأخذت الكتاب، وذهبت إلى بيتي، وكنت قد تزوجت حديثا؛ فقد كان هذا اللقاء في خريف عام 1950م. قرأت الكتاب جميعا في يوم واحد، وأعجبت به كل الإعجاب، وأصبحت واثقا أنه لن يكتب مقدمة لكتابي المزعوم؛ فقد وجدته يقول ما معناه إن كاتب التمثيلية الإذاعية ليس كاتبا بالمعنى المفهوم.
وقد ناقشت توفيق بك في هذا ولكنه قال: «إنك استثناء من هذه القاعدة.» فاعتبرت هذه الكلمة تحية منه تحاول أن تخفف من أثر رأيه في نفسي. ولم أحاول أن أتكلم عن المقدمة، وعدلت عن جمع هذه التمثيليات فلم أجمعها إلا بعد ذلك بثمانية عشر عاما. وعدلت أيضا عن طلب مقدمات من أحد مطلقا. لدرجة أنني بعد ذلك بقرابة خمسة عشر عاما كنت عند الدكتور طه حسين باشا، وعند انصرافي خرج معي سكرتيره فريد شحاتة يودعني فقال لي: «كنت تقول للباشا إنك انتهيت من رواية وهو كتب لك مقالات عن رواياتك السابقة؟ فلماذا لا تحضر هذه الرواية ليكتب لها مقدمة فهو ليس مشغولا في هذه الأيام؟»
فقلت: «أحب أن يكتب لي عنها بعد أن تصدر إذا كانت تستحق، ولكنني لا أريد أن أتشفع للقارئ مسبقا بمقدمة.»
فقال: «معك حق.»
وفعلا كتب الدكتور طه باشا مقالة عن هذه الرواية وهي «ثم تشرق الشمس»، ونشرت المقالة بمجلة الهلال.
توثقت صلتي بعد ذلك بتوفيق بك، وأصبحت أذهب إليه كثيرا في دار الكتب كما كنت أجلس معه في ندواته. في جروبي بالقاهرة وفي بترو بالإسكندرية.
وكنا في الإسكندرية نخرج أنا وهو وصديقه المترجم الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي كل أسبوع مرتين نتناول الغداء، ثم نذهب إلى السينما، ثم نتناول الشاي في أتينيوس، ثم أصبحنا نتناوله في نادي السيارات بالإسكندرية. وكان كل منا يدفع حسابه، ولكنهما وجدا أن من الأيسر أن يدفع لي كل منهما جنيها واحدا، وأتولى أنا الإنفاق، وكان توفيق بك بذكائه المعهود يعلم أنني أدفع فوق كل جنيه ثلاثين أو أربعين قرشا من جيبي، وكان هو سعيدا غاية السعادة أن استطاع توفير هذا المبلغ الضخم، وكذلك كنت أنا سعيدا أن أدفع هذا المبلغ، وأعفي نفسي من محاسبتهما في آخر الرحلة التي كنت أعتبرها مرانا وتدريبا على حساب الملكين. وكثيرا ما كان يصحبنا الأستاذ نجيب محفوظ في الذهاب إلى نادي السيارات لتناول الشاي الذي قد يمتد إلى العشاء.
ومن الطرائف التي أذكرها في هذه الأيام أننا علمنا ونحن في نادي السيارات أن والدة الأستاذ أنور أحمد توفيت، ولم يكن معنا الأستاذ الدسوقي، واتفقنا توفيق بك ونجيب بك وأنا أن نرسل برقية واحدة تحمل أسماءنا نحن الثلاثة، وكانت الفكرة طبعا من تأليف توفيق الحكيم. ورأينا أن تكون الصيغة أحسن الله عزاءكم، وحين أرسلنا البرقية مع ساعي النادي، وعاد بباقي الجنيه وجدنا أن تكاليف البرقية لا تقبل القسمة على ثلاثة، فقال توفيق بك: «البرقية لم ترسل بعد، أوقف إرسالها ونختصرها.»
Shafi da ba'a sani ba