استطراد
أنا والتعليم
المدرسة
أبي وأمي
أنا والكتابة
الكتب
شخصيات
استطراد
أنا والتعليم
المدرسة
أبي وأمي
أنا والكتابة
الكتب
شخصيات
ذكريات لا مذكرات
ذكريات لا مذكرات
تأليف
ثروت أباظة
استطراد
لست أدري أية خاطرة قذفها القدر على ذهني فجعلتني أفكر في كتابة هذا الكلام الذي أكتبه الآن، والذي لا أستطيع أن أعرف له عنوانا يصفه، فمن المؤكد أنه ليس مذكرات؛ فإنني عن معرفة بنفسي وليس عن تواضع لا أرى أنني من هؤلاء الذين يجدر بهم أن يكتبوا مذكرات. وهو أيضا ليس حكايات مؤلفة، ولا هو رواية مما ألف الناس أن يقرءوا لي.
هو أقرب ما يكون إلى ذكريات كما اخترت العنوان، وأرجو ألا أكون قد اعتسفته اعتسافا، فإن جنحت هذه الذكريات إلى القصة، فهي قصص من صنع السماء ليس لي عليها إلا عمل الناقل لا الخالق. وإن جنحت إلى رسم شخصيات مما تعودت أن أكتب أحيانا، فهي الشخصيات أتحرى في رسمها الصدق لا الفن، فهي إذن صور فوتوغرافية، وليست صورا قلمية أضفي عليها من خيالي ما أشاء لأجعلها تبدو كما أريدها أن تبدو.
فالشخصية المرسومة قد تكون عدة أفراد جمعتها أنا في فرد واحد، ولكن هذا الذي ستشاهده في هذه الصفحات هي شخصيات عرفتها، وستدرك حقيقتها حين تجد اسمها الحقيقي الذي يعرفه من عرفها يعلن عن أنها بنت الحياة، وليست من بنات الخيال، ولا هي من شخوص لروايات.
أحسب أنني اليوم وأنا أقارب الخطو إلى ستينيات عمري لا يفصلني إلا سنوات قلائل نظرت إلى أيامي الماضية فوجدتني قد مررت بأقوام كثيرين، وبعهود شتى ربما لا تكون فيها غرابة، ولكن خيل لي أن فيها طرافة. فقد نشأت في بيت أبي المغفور له إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهو رجل من رجال السياسة في عصره، ورجال السياسة في مصر يختلطون بكل الناس من شتى النحل والمهن، وأكثر صلتهم بناخبيهم الذين ينتخبونهم ليكونوا نوابهم في المجالس النيابية. وقد كان أبي عضوا في مجلس النواب منذ تكون إلى أن انتهت الحياة النيابية في مصر عام 52، فليس غريبا إذن أن أكون أنا على معرفة تامة بالحياة منذ وعيت الحياة. وهل الحياة إلا الناس وقد ولدت في زحامهم، وعشت بين أمواجهم، وشببت عن الطوق وأنا أتنفس الهواء الذي يتنفسون، وربما عرفت من أفواههم خفايا حياتهم التي يضنون بها على خاصتهم الأقربين؛ فقد طالما قصدوا إلي لأكون شفيعهم إلى أبي، والحديث إلى الابن الصغير أكثر يسرا من الحديث إلى الأب الذي يحيط به جلال شخصيته ووظيفته نائبا أو وكيلا لمجلس النواب أو وزيرا.
وقد عرفت الحياة وأبي واحد من هؤلاء الثلاثة؛ فقد ولدت عام سبعة وعشرين وتسعمائة وألف، وكان هو عضوا بمجلس النواب، وسمعت فيما بعد أنه كان مديرا لمكتب رئيس الوزراء محمد باشا محمود عام 28، ثم مديرا لمكتب عدلي يكن عام 29، ثم عاد بعد ذلك إلى مجلس النواب نائبا، ثم صار وكيلا للمجلس مرتين؛ مرة في عام 30، وأخرى عام 38.
وما دمت قد عرضت لما سمعته عن أبي فقد يحلو لي أن أروي ما سمعته عن نفسي، وإن كان قد خطر لي أن أروي مواقف أبي في ثورة 19، إلا أنني عدلت عن ذلك لأسباب تواثبت تباعا إلى ذهني؛ الأول: أنني لو دلفت من هذا الباب لاحتاج الأمر إلى كتاب بأكمله، والثاني: أن هذه المواقف مكتوبة في كل الكتب التي تناولت ثورة 19، والثالث: هو أنني أستطيع أن أروي بقلمي قصة صغيرة سمعتها، ولا تحتاج روايتها إلى مشاهدة وحضور. أما إذا رويت عن أبي في ثورة 19 فلا بد لي أن أكون معايشا لهذه الفترة معايشة تسمح لي أن أكتب عنها، وهذا ما لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، وقد تزوج أبي من والدتي في عام 24.
ومما روي لي أن الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد كان من أشد أنصار سعد باشا زغلول، وكان العقاد صاحب قلم عنيف شديد الوطأة على من يخاصمهم في الرأي. وحدث أن كتب عدة مقالات يهاجم فيها محمد محمود باشا، وكان الهجوم فيه سباب كثيف، حتى لقد وصف محمد محمود بالشقي محمد محمود، ثم كتب مقالا آخر بعنوان الشقي رقم كذا، وكأنما محمد محمود أصبح من نزلاء السجون الذين يعرفون بأرقامهم. وضاق محمد محمود بهذا الهجوم، وفي نوبة من نوبات الضيق الشديد منه أقبل عليه أبي، فقال له محمد باشا: «أيرضيك ما يكتبه العقاد؟»
وقال أبي: «لا، لا يرضيني، وأنا قادر على الرد بما يسكته، ولكن بشرط واحد.»
وقال محمد باشا: «ما هو؟»
قال أبي: «تنزل مقالاتي إلى مطبعة السياسة مباشرة، ولا يقرؤها الدكتور هيكل رئيس التحرير؛ فهو لا يرضى مني العنف في المقالات، وسيحاول أن يخفف من قسوتها.»
فقال محمد باشا: «لك هذا.»
وكتب أبي مقاله الأول، وكان أبي يوقع مقالاته عادة بتوقيع الغزالي أباظة، ولكنه في هذه المرة اختار أن تكون مقالاته ضد العقاد بعنوان «ثروت»، وكان عمري في ذلك الحين سنة واحدة؛ فقد كانت هذه المساجلة في عام 1928م، وظهرت المقالة الأولى، ثم الثانية، فإذا بالعقاد يتوقف عن مهاجمة محمد محمود، ويلجأ إلى المحكمة رافعا الدعوى على الدكتور هيكل رئيس تحرير السياسة التي نشرت المقالتين، وعلى «ثروت» صاحب التوقيع، وضحك الدكتور هيكل من فكرة تقديمي إلى المحكمة، وقال لأبي مازحا: «عليك أن تحمل ثروت على كتفك، وتأتي به إلى المحكمة.»
وكتب أبي بعد رفع الدعوى مقالة ثالثة ينهي بها هجومه على العقاد، وأذكر أنني ذهبت إلى لقاء أستاذنا العملاق عباس العقاد، وأنا في مطالع الشباب حوالي عام 45، وقدمني إليه تلميذه العوضي الوكيل، فما إن سمع اسمي، وعرف من أنا حتى ضحك ضحكته العريضة النقية، وقال وهو يرحب بي: «بيني وبينك ثأر قديم يا عم ثروت.»
ثم قامت بيني وبينه بعد ذلك تلك العلاقة التي نعم بها كل تلامذته، وإن كان صغر سني لم يتح لي أكثر من الذهاب إليه في ندوة الجمعة، ولكنه في كل مرة كان يلقاني فيها كان يرحب بي ترحيبا شديدا، وقد صار بعد ذلك من أحب الناس إلى أبي، كما أصبح أبي من أحب الناس إليه، حتى لقد نظم في مدح أبي عدة قصائد يقول في إحداها:
نكرمه نكرمه
وما نرويه نعلمه
ولم ننشئ له فضلا
ولكنا نترجمه
فتى ترضى سجاياه
ويصدق قلبه فمه
وللفنان في ناديه
مغناه ومغنمه
وحب الخير في دمه
فكيف يخونه دمه
وقال في رثائه قصيدة تعتبر من عيون الشعر العربي كافة يقول فيها:
أقيموا الوزن أو ميلوا
فما إبراهيم مجهول
فتى ميزانه بالقسط
عند الله مكفول
له في كل تاريخ
من المجد أكاليل
سلوا الأوطان ينبئكم
بما يعلمه النيل
يحيي ناصر المصر
ي والمصري مخذول
وأول رافع صوتا
وسيف الحرب مسلول
وللمحتل في مصر
على كل فم غول
له في برها جيش
كجيش النمل موصول
وفي البحر أساطيل
وفي الجو أبابيل
إذا لم ينعه الأحي
اء والدنيا أباطيل
نعاه في العزيزية
مدفون ومجدول
وجيل في حمى التا
ريخ لا يشبهه جيل •••
سلوا الآداب ينبئكم
به الصداحة القول
يردد ذكره في الشع
ر تسبيح وترتيل
ويهتف باسمه في القو
ل مطبوع ومنقول
ويحمد فضله في العر
ب منسوب ومدخول
فلا الماضي بمنسي
ولا الحاضر معزول
وراعي الشعر لا ينسا
ه مرعى منه مطلول
سلوا الإحسان والإحسا
ن طبع فيه مجبول
وأقرب شأوه في الجو
د مشروب ومأكول
وكم أعطى ولم يسأل
وبعض السؤل ممطول •••
سلوا الأحساب لا عز
يدانيها ولا طول
وللآساد والأشبا
ل في أعلامها غيل
ذووه من بني مصر
هم الغر البهاليل
ومن أحسابه كسب
بمسعاه وتحصيل
برأي زانه في القص
د إجمال وتفصيل
وصبر راض دنياه
وأضنته العراقيل
سلوا سيرته الحفلى
وللسيرة تسجيل
سلوا الشلال والمجرى
من القطرين مفصول
لتم القرب لولا قا
عد بالشرق مشلول •••
خصال كلها نبل
وإفضال وتفضيل
وذكرى كلها حمد
وتشريف وتبجيل
فقدناه ونادي الرأ
ي في القطرين مأمول
فلا يبعد به المثوى
ومثوى الخير مأهول
له من بره أنس
وشمل ثم مشمول
ومن سيرته الفيحا
ء ترويح وتظليل
له في منزل الرضوا
ن تسليم وتنزيل
وأجر من ثواب الله
عند الله مقبول
والعجيب أن أستاذنا العقاد هو أول من نوه بي، وكان ذلك حين جمع الأستاذان أحمد عبد المجيد الغزالي والعوضي الوكيل مقالات أبي وخطبه في كتاب أسمياه وميض الأدب بين غيوم السياسة، وظهر الكتاب في عام 1948م، وكنت في هذا الحين قد بدأت أكتب مقالاتي في مجلتي الرسالة والثقافة، ولكنني طبعا كنت ما أزال صغيرا لا يكاد يعرفني إلا الأدباء المتخصصون. وقد اتجه الشاعران الأستاذان الغزالي والعوضي إلى أستاذهما وأستاذنا العقاد، وطلبا إليه أن يكتب مقدمة للكتاب الذي جمعاه من أعمال أبي الأدبية، وقبل رحمه الله ذلك، ولكن المفاجأة الكبرى بالنسبة لي هي قوله في المقدمة حين تكلم عن صلة الأباظية بالأدب.
وناهيك بما نقرؤه لفكري وعزيز وثروت من رصين الشعر وطريف المنثور.
وقد اعتبرت ذكر اسمي في هذا المكان، وما زلت أعتبره من أعظم الأوسمة التي نلتها حتى اليوم؛ فقد كنت في المطامع الأولى من شبابي، وأن يقرن اسمي بالعملاقين الأباظيين عمي فكري باشا، وعمي وحماي فيما بعد عزيز باشا أمر اعتبرته مفخرة كبرى، ولا زلت أعتبره كذلك.
وما دمنا نتكلم عن عملاق الأدب العربي التاريخي أستاذنا العقاد فينبغي أن أذكر واقعة حدثت بيني وبينه في عام 1954م وكانت تلك السنة سنة حاسمة في تاريخ ثورة يوليو؛ فقد سمحت السلطات في مارس من هذا العالم بحرية الصحافة، وأتاحت لكل صاحب رأي أن يكتب رأيه، وطلبت أن يقول ما يشاء لمن يشاء، وكان أهم سؤال طلبت الثورة الإجابة عليه إن كان الأفضل لمصر أن تكون الجمهورية فيها برلمانية أم رئاسية.
وانبرى العقاد بمقال كتبه في الأخبار يطالب بأن تكون الجمهورية برلمانية، ولكن المقال كان غاية في العنف، رافضا كل ألوان الدكتاتورية أو الحكم العسكري.
وفي نفس اليوم الذي ظهر فيه المقال، كان لي عمل في الإذاعة القديمة في شارع الشريفين، وفوجئت وأنا أدلف من الباب الرئيسي للإذاعة بأستاذنا العقاد يهبط السلم وحوله جماعة من محبيه ومريديه، ومن موظفي الإذاعة الذين حرصوا أن يكونوا في توديع العملاق العظيم.
وقال لي أستاذنا: «لقد قرأت مقالاتك.»
وكنت كتبت في هذه الفترة مقالات بنفس العنف والرفض للديكتاتورية فقلت له : «هذا شرف لها ولي.»
فقال: «هل قرأت مقالي اليوم؟»
فقلت: «طبعا مثلما أقرأ كل حرف يخطه قلمك.» - «أرأيت لقد قلت لهم ...»
ومضى يذكر أهم العناصر التي ضغط عليها في مقاله، ومضيت أنا أقول: «نعم، نعم.» حتى إذا سكت قلت له: «سعادتك تسمح لي بكلمة على انفراد؟»
فلف ذراعي بذراعه ومضينا ننتحي جانبا بشارع الشريفين، وقلت له: «سعادتك تعرف أن وراءك جواسيس؟»
وكنت قد عرفت ذلك فعلا، فإذا الرجل العملاق يقول: «نعم أعرف، وتليفوني مراقب أيضا.»
فقلت له: «سعادتك الآن لا تحتمل السجن الذي احتملته في عام 30، كما أن السجن الآن نوع آخر غير الذي عرفته. ونحن أبناؤك، دعنا نحن نسجن، وقل لنا ما تريد كتابته وأمله علينا إذا شئت نوقعه بأسمائنا، ولكن من أجلنا نحن أبناءك إن لم يكن من أجل نفسك لا تعرض نفسك لهؤلاء الوحوش.»
فنظر إلي مليا وصمت لحظات، ثم قال: «أترى ذلك؟»
قلت: «ألا ترى أنت ذلك؟»
قال: «لا بأس.»
ولا أعتقد أنه كان سينفذ الوعد، ولكن على كل حال أنقذه من نفسه انتهاء فترة الحرية، ومنع كل الكتابات الحرة مهما تكن هينة الشأن وإغلاق جريدة المصري، والاستيلاء عليها وعلى أموال أصحابها. •••
ويلي، لكم استطردت. وأين أنا مما أريد أن أرويه من ذكريات؟ لقد كان الحديث عن مولدي، فإذا أنا أقفز إلى عام 54، ولكنني أمسكت يد عملاق الأدب العربي على مدى التاريخ، فكيف لا تغريني يده أن أقفز كل هذه السنوات، وكيف أذكره، ولا أستطرد، وهو في ذاته أسطورة كاملة خالدة على الزمان. •••
لأعد إذن إلى تلك الأيام التي بدأت فيها أعي الحياة حولي، هناك أشياء كأحلام بعضها واضح المعالم في ذاكرتي، وبعضها تحول بيني وبينه سحابات أشبه ما تكون بأستار رقيقة.
ويختلط أمرها في ذهني، فما أدري أهي أشياء رأيتها رأي العين، أم أن رواية أبوي لي عنها جعلتني أتمثلها كحقيقة رأيتها رأي عين، بينما هي مسموعات التصقت بنفسي وهيأت لي نفسي هذه أنها مرئيات؟
من هذا ما قيل لي إنني مرضت مرضا خطيرا بالدوسنتاريا ؛ لأن أمي صحبتني معها لتحضر العزاء في عمها إسماعيل باشا أباظة، وكان اليوم شديد القيظ، وكانت الرياح الحارة تلفح مصر بسمومها.
وقد تعرضت في هذا المرض لخطر الموت، وأشرف على علاجي صديقان لصيقان لأبي كلاهما أصبح واسع الشهرة، هما الدكتور إبراهيم شوقي الذي أصبح باشا بعد ذلك، والآخر الدكتور حافظ عفيفي باشا، ويقول أبي إن صاحبة الفضل في شفائي هي عمتي التي تحدت الموت والمرض، فأصرت أن تسهر الليل جميعه تنفذ أوامر الأطباء.
ومما رواه لي أبي أنني في سنتي الثانية كنت أدرك أن ستي والدته لا تحتمل السهر، فكنت أرجو بلسان الطفل الأعجمي أن تقوم لترتاح، فإذا أبت وأصرت أن تبقى تناومت وتوقفت عن التأوه، حتى تقوم ستي إلى منامها، فإذا تأكدت أنها قامت عدت مرة أخرى إلى اليقظة والتأوه.
ومن المؤكد أنني أذكر ستي هذه؛ فقد كان لها جناح خاص في الدور الأول من منزلنا ببلدتنا غزالة التي تبعد عن الزقازيق سبعة كيلومترات. وكان هذا الجناح منفصلا عن البيت متصلا به في وقت معا، فقد كان علينا حتى نذهب إليه أن نخترق حجرة كبيرة كنا نعتبرها حجرة الاستقبال التي تلتقي فيها ستي بالزائرات من سيدات البلدة، أو من الأقارب، ثم علينا بعد ذلك أن نقطع بهوا يقسمه قسمة ظالمة دولاب كان أشبه بالكيلار، وفي هذا الدولاب باب يؤدي إلى البهو الواقع أمام حجرة ستي وعمتي، فقد كانتا متلازمتين حتى في النوم. وكان لحجرة نومهما ثلاث نوافذ تطل إحداها وهي التي تتوسط الجدار الأيسر على ما يسمونه الدوار، حيث تربي الدواجن، وتصنع القشدة بأن يترك اللبن الطازج في المتارد، حتى يتكون له سطح سميك هو القشدة الفلاحي المعروفة، وحيث تصنع أيضا الجبنة القريش من اللبن بعد أن تنزع قشدته.
وكانت ستي وعمتي تشرفان من تلك النافذة على أعمال الدوار جميعا من إطعام الدواجن إلى شتى فروع الأعمال المنزلية.
وبجانب باب حجرتهما توجد نافذة عجيبة الشأن؛ لأنها كانت تطل على البهو. ولم أر في حياتي بعد ذلك نافذة تطل على بهو إلا تلك النافذة، وكانت عمتي وستي كما أتذكرهما دائما جالستين على حاشية تحتها بساط على الأرض، لا تتركان مكانهما هذا، حتى إنني كل ما أذكره عن ستي يكاد ينحصر في جلستها هذه تحت هذا الشباك.
أما الحائط الأيمن فقد كانت تتوسطه نافذة تطل على ما كنت أسميه حديقة ستي، ولم تكن حديقة ستي إلا تكعيبة عنب خشبية تحيط بفناء صغير نخلص إليه بسلم من أربع درجات أو خمس، ونستطيع من هذا الفناء أن نخرج من باب خشبي ضخم سميك إلى خارج البيت إلى ما كنا نسميه بالمدحاية، وتحت تكعيبة العنب التي تحيط بالفناء مصطبة متصلة بالحوائط الأربعة التي تصنع ما كنا نسميه بالحديقة.
وكانت ستي شديدة الحدب علي حتى أذكر أنها كثيرا ما كانت تعطيني ريالا من الفضة حين أنزل إليها في أول النهار لألقي عليها تحية الصباح. وما كنت أدري ماذا أصنع بهذا الريال، إلا أنني كنت أخرج إلى أترابي من أبناء القرية، وكانوا هم أصحاب الرأي في الطريقة التي ننفق بها هذه الأموال الطائلة.
وكان يوسف الذي عمل كلافا للبهائم بعد ذلك ينال مني دائما قرشا صاغا مقابل أن يصنع لي سيارة من الطين، وكان يضع لها زجاجا، ولعل هذا القرش هو المبلغ الوحيد الذي أذكره بين العشرين قرشا جميعا التي لا أذكر فيم كنا ننفقها.
في بهو ستي هذا نلت أول صفعة على وجهي في حياتي، ما دريت يوم نلتها السبب الذي انهالت على وجهي من أجله، ولكنني عرفته فيما بعد مرويا لي، وأشهد أنني كنت مظلوما.
لقد حدث أن سقطت ستي على رجلها، وأذكر أن أبي استدعى الدكتور فرنجلوس من الزقازيق، وأذكر أن اليأس والحسرة والحزن كانوا مرتسمين على وجه أبي بصورة غاية في الألم. وأنا أذكر أنني لم أكن أعرف الموت، ولا ما يحمله من معان، وإذا شئت أن أصور اليوم، وما كان يدور أمامي فما هو بالنسبة إلي إلا شخوص تتحرك أنظر إلى تحركها، ولا أعي معاني الأفعال التي يقومون بها.
وماتت جدتي .
ولا أدري لماذا ذهبت أنا إلى البهو التي كانت جالسة فيه، ولم أحفل مطلقا بالسرادق الضخم المقام بالخارج، ولا بكل ما يحدث في هذا السرادق، ولا بالجموع التي تفد إليه أو تخرج منه، إنما وجدت نفسي واقفا في البهو لا أصنع شيئا، وفجأة قدم إلي عمي الشقيق عبد الله فكري أباظة الذي أصبح فيما بعد يحمل رتبة البكوية، والذي عمل لفترة طويلة وكيلا لوزارة التجارة، وكان هذا الرجل شديد العنف في مظهره شديد الطيبة في حقيقته. وربما كان يرتدي العنف قناعا يخفي به عن الناس مدى حبه للناس ومدى رهافة مشاعره ورقة فؤاده.
في هذا اليوم صفعني عمي عبد الله فكري صفعة شديدة غاية الشدة، وبكيت وذهبت إلى أمي، وأنا أبكي، وأبلغتها بهذه الصفعة، والعجيب أنها قالت في ثبات وفي غير اهتمام: «وماله، وما الغرابة أن يصفعك عمك؟»
ولا أذكر هذه الجملة إلا وأدهش لها، إنها حتى لم تهتم أن تسأل عن سبب الصفعة الذي عرفته هي فيما بعد، وعرفته أنا بعد ذلك بسنوات.
لقد سألني عمي: «أين أبوك؟»
فقلت دون أي تفكير: «في الزينة.»
وكنت في هذه السن أنطق الزاي وكأنها الجيم التي ينطقها الأوروبيون إذا نطقوا اسم جون، فصفعني.
أليس لي الحق أن أرى نفسي مظلوما؟
لا أذكر أن عمي عبد الله ضربني بعد ذلك قط إلا مرة واحدة، وكان أبي جالسا. كنا على المائدة في منزله، وكنت أضع الملعقة وتجويفها إلى أعلى، فنبهني عمي عبد الله أن أجعل التجويف إلى أسفل، وسهوت وكررت الخطأ، فنبهني ثانية، ثم سهوت وكررت الخطأ، ووضعت يدي بجانب الملعقة، وكان يجلس أمامي، فإذا هو في حركة مفاجئة يقف ويهوي بمنتهى العنف على يدي، ويأمرني أن أصحح وضع الملعقة.
ربما كنت في الثانية عشرة من عمري في ذلك الحين. فأنا أذكر الواقعة تماما، وأذكر أن أبي امتعض مما صنعه عمي، وظهر الامتعاض على وجهه، ولكنه لم يعلق مطلقا مع أن عمي كان يعامل أبي معاملة الابن لأبيه، حتى لقد كتب له إهداء على إحدى صوره إلى أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى.
أنا والتعليم
كانت أغلب إقامتنا بالقرية؛ فأنا أكبر إخوتي، ولم أكن قد انتظمت في المدارس بعد، ولم يكن يربطنا بالقاهرة إلا مجلس النواب حين تكون هناك جلسات، وكان أبي لا يتخلف مطلقا عن المجلس، ولكن لا أدري لماذا أذكر أن إقامتنا بالقرية كانت تتطاول ربما كان المجلس معطلا في هذه الفترات.
وأذكر أنني ذهبت قبل أن أبدأ التعليم مع أبي إلى الإسكندرية مرات، وكان أبي يستأجر بيتا مفروشا هناك.
وأذكر أنه كان يصحبني إلى شاطئ سان ستيفانو، وكان عم أحمد بخيت خادمه الخاص يذهب معنا، وكان أبي يجعلني أمسك برجليه ويسبح بي في الماء، وندخل إلى الأعماق، ولهذا أذكر أنني لم أخف حين بدأت تعلم العوم بعد ذلك على يد خالتي، وكان تعليمها ساذجا، وما زال هو زادي من السباحة حتى اليوم، فإذا رأيتني في الماء، ورأيت سباحتي أدركت أنها سباحة من يستطيع أن يبقي أنفه فوق سطح الماء فقط؛ فهي سباحة عاجزة بلا أسلوب ولا إتقان، ولكني سعيد بها غاية السعادة؛ فأنا عن طريقها أستطيع أن أصل من الماء إلى حيث لا تلامس أقدامي الرمال، وأنا ليس لي مأرب في البحر أبعد من هذا.
بدأت تعليمي الدراسي إذن في غزالة، وقد شاء القدر أن يختار أبي من بين جميع المدرسين الإلزاميين مدرسا أعتبره أنا حتى اليوم أعظم مدرس للأطفال يمكن أن تجود به الحياة.
إنه الأستاذ أحمد حسين القرعيش الذي أصبح الحاج أحمد حسين القرعيش، وقد كان لحمله هذا اللقب قصة في غاية الطرافة؛ فقد كانوا ينادونه بأحمد أفندي؛ لأنه كان يلبس الحلة والطربوش وهو في طريقه إلى المدرسة الإلزامية التي كان يدرس بها؛ فقد كان يعمل بمدارس قرى أخرى، وكان يخترق قرى عديدة، فكان لا بد أن يلبس حلته كاملة والطربوش، فلم يكن عجيبا أن ينادوه بأحمد أفندي. وظل هذا لقبه حتى بعد أن نقل إلى مدرسة غزالة؛ فقد ظل أيضا يلبس حلته كاملة في المدارس إطاعة منه لأوامر الوزارة .
ثم حج، وعاد من الأراضي الحجازية، وراح أهل القرية ينادونه بأحمد أفندي على عادتهم، فإذا هو يصيح بهم: يا نهار أسود! أكنت حججت ودفعت مائة جنيه وزيادة لتقولوا أحمد أفندي؟! من لا يقول الحاج أحمد لن أرد عليه.
وكان الحاج أحمد شاعرا رقيقا، وإني أذكر كثيرا من شعره، ولكنني أحب له هذه الأبيات:
قالت: أحبك صادق
قلت: الدلائل قاطعات
قالت: وعهدك، قلت: با
ق ما رعت عهدي الحياة
قالت: وحبي؟ قلت: فص
ل مثلته الغانيات
قالت: وعهدي؟ قلت: ذا
ك هو الأماني الكاذبات
ضحكت، وقالت: هكذا
من قبلك العشاق ماتوا
وشاء حظي السعيد أن يكون هذا الرجل الشاعر خفيف الظل هو معلمي الأول، عليه تعلمت الخط الأفقي والخط الرأسي وحروف الهجاء الأولى والحساب من جمع وطرح إلى ضرب إلى قسمة، وكان يحمل لي في جيبه أقراص النعناع، فإذا أحسنت الإجابة أعطاني قرصا من النعناع، مع تصفيق شديد، وإظهار للإعجاب، وكأنني أتيت عملا لم يسبق لأحد أن أتى به.
ولم يكن من الممكن أن يستمر الحاج أحمد في إعطائي الدروس؛ إذ سرعان ما انتقلنا إلى القاهرة، وتولى أمري في الدروس الخاصة مدرس آخر من غزالة أيضا، واسمه عليوة أفندي عبد الله، وكانت طريقة عليوة أفندي مختلفة كل الاختلاف عن طريقة الحاج أحمد، ولم يكن الحاج أحمد يحب عليوة أفندي، فأنشأ أبياتا أربعة أو خمسة، وقدمها لأبي يرجوه فيها ألا يتولى عليوة أفندي تدريسي أذكر منها:
أأنشئ روضا في حماك معطرا
ويأتي عدوي يجتني ثمراتي؟
وأعجب أبي بالأبيات، ولكن مع ذلك أبقى عليوة أفندي مدرسا لي.
وقد ظل يدرس لي اللغة العربية والحساب، حتى حصلت على شهادة الابتدائية، كما درس أيضا لإخوتي، ثم درس لابنتي وابني، أطال الله عمره، ووهب له الصحة والعافية.
وقد كان عليوة من أخلص المدرسين الذين عرفتهم، إلا أنه كان لا يبالي مشاعر التلاميذ في سبيل أن يؤدي واجبه، وأذكر أنه كان أحيانا يتخلف يوما عن الدرس؛ فأحمد أنا الله وألعب الكرة، وأقدر أنه لن يأتي إلا في الموعد التالي الذي يكون قد حدده بعد يوم التخلف بيومين أو ثلاثة، فألعب أنا الكرة في اليوم التالي لتخلفه وأنا واثق أنني حر، فاليوم ليس محددا لدرس، وأفاجأ بعليوة أفندي قادما كالقضاء المستعجل في اليوم الذي لا أتوقعه فيه تعويضا عن اليوم الذي أخلفه، ولا أذكر أن غما لقيته في طفولتي مثل ذلك الغم الذي يشملني وأنا أراه قادما في غير موعده، وكم بكيت، وكم حاولت العصيان، ولكن دون فائدة.
وكان عليوة أفندي يجيد الشرح، وكنت أفهم ما يلقيه منذ المرة الأولى، ولكنه يسير على طريقة لا يغيرها من تلميذ إلى تلميذ، وكم عانيت من تمسكه بطريقته هذه؛ فقد قرر هو أن يخصص درسا للشرح والدرس الثاني للتطبيق، وليس يعنيه أن يكون التلميذ قد فهم الشرح من المرة الأولى، إنما المهم عنده أن ينفذ منهجه الذي وضعه هو لنفسه، فهو يشرح مرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا ينتهي من الشرح حتى ينتهي الدرس. وأكون أنا قد سرحت في غير الدرس من ملاعب الطفولة منذ المرة الثانية للشرح، حتى إذا جاء موعد التطبيق أكون أنا قد احترقت من الغيظ لقوله كلاما عرفته من المرة الأولى، وأكون أيضا قد نسيت كل شيء من القاعدة.
وأذكر أن أبي كان يحب أن يقضي الشتاء في حلوان، فكان عليوة أفندي يجشم نفسه مشقة الحضور إلي أحيانا في حلوان إذا كانت المدرسة في إجازة، فلم يكن ذهابنا إلى حلون يمنعني أن أذهب إلى المدرسة طبعا، وفي يوم كنت ألعب أنا ورفيق طفولتي محمد زكي أباظة وكان عليوة أفندي يدرس له هو الآخر. ولم أكن ولا محمد ننتظر قدوم عليوة أفندي، ورآه محمد قادما من بعيد، ولم يرنا هو، فأسرع محمد قائلا: «يا نهار أسود، عليوة أفندي! تعال ندخل البيت.»
وطاوعته وأنا لا أدري ما سيفعل، أقفل باب البيت، وكان يوما من أيام حلوان الساطعة الشمس حتى كأنه يوم من أيام الصيف، وقف محمد أمام باب الدخول، وأوقفني معه، ودق عليوة أفندي الجرس، وحين جاء الخادم ليفتح طلب محمد طلبا كأنه هو الذي دق الجرس، ووقف عليوة أفندي أمام الباب، والشمس تنصب عليه بكل سخطها، فيضع الجريدة التي لا يتخلى عنها مطلقا على رأسه، ويدق الجرس ثانية، ويأتي الخادم ويصرفه محمد، ويظل الأمر كذلك فترة تجاوزت نصف الساعة، حتى تمردت أنا على محمد، وأنا أرى عليوة أفندي مصرا على البقاء يرفع قدما إلى الهواء ليريحها، ثم يضعها ويرفع الأخرى، وقد أخذ منه التعب والشمس كل مأخذ، ولكنه أبى أن ينصرف، وأعطانا الدرس.
ومما أذكر له أنه غضب علي مرة غضبا شديدا، فأمرني أن أفتح يدي، وأهوى بالمسطرة على يدي معتمدا على أن أبي قال له أمامي أنه يستطيع أن يضربني إذا أنا لم أمتثل له، وبالصدفة مرضت أنا في ذلك اليوم، وارتفعت حرارتي ارتفاعا شديدا، وكان أبي شديد العطف علي، وإن كان يحرص أن يخفي هذا العطف بكبرياء العظماء من الرجال، وقد يقول قائل وأي أب لا يشفق على ابنه إلا أن يكون ذلك شذوذا في الطبيعة، ولكنني أعتقد أن مرضي وأنا في الثانية من عمري، ومولدي وأبي في الأربعين من عمره، جعلا إشفاقه علي أكثر من إشفاق الآباء على أبنائهم. وربما كان هذا هو السبب أنني كنت أصحبه في غدواته وروحاته، وأنا في الرابعة من عمري، وكنت أجلس معه في مجالس الكبار منذ لا أذكر متى، وكان عمي عبد الله يقول له: «سيب ثروت يلعب مع الأطفال.» فيقول أبي في حسم: «خليه قاعد.»
وكان يصحبني معه إلى مجلس النواب، وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري. حتى لقد رآني يوما المرحوم توفيق رفعت باشا، وأنا جالس في مقاعد الزوار في الطابق الأول، فأشار إلى الساعي الواقف خلف كرسيه على منصة رئيس مجلس النواب وأشار له إلي، وما لبث أن جاءني الساعي يسألني: من أكون؟ فقلت له، فتركني وعاد إلى توفيق باشا الذي أشار لي برأسه، فلم يكن عجيبا أن يغضب أبي لضرب عليوة أفندي لي ضربا صاحبه ارتفاع في الحرارة، وأنا حتى اليوم لا أدري إن كانت هناك صلة بين ارتفاع حرارتي وضرب عليوة أفندي أم هي الصدفة المحض.
وأغلظ أبي القول لعليوة أفندي على غير مشهد مني، ولكن عليوة أفندي روى كل شيء أمامي لعم أحمد خادمنا الذي كنت أوقره بكلمة عم لشخصيته، ولأنه رئيس الخدم بالبيت، وقد كان أبي ووالدتي يوليانه ثقة تامة في كل ما يتصل بشئون البيت.
وقال عليوة لعم أحمد إن البك، يعني أبي فلم يكن قد حصل على الباشوية بعد، قال لي: «أصدقت حقا أنك يصح أن تضرب ثروت؟ هل من المعقول أن تضرب طفلا في سنه إلى درجة أن ترتفع حرارته؟ أيرضيك هذا يا عم أحمد؟ بقى مسطرة كالتي ضربتها له ترفع الحرارة؟ طيب امرأتي طالق إن لم يكن قد أكل حلاة وشطة ليرفع حرارته ويوديني أنا في داهية.»
والحقيقة أنني ذهلت وأنا أسمع هذا الحديث، فأنا لم أكن أعرف أن الحلاوة والشطة يرفعان الحرارة، بل إنني حتى الآن لا أتصور أنهما قادران على هذا الصنيع.
ولكن عليوة أفندي كان واثقا من هذا ثقة جعلته يقسم بالطلاق مع حبه الشديد للسيدة زوجته أم محمد التي كثيرا ما كان يفيض في مديحها، وأغلب الظن أن عليوة ما زال حتى اليوم على ثقته هذه أنني أكلت حلاوة بالشطة، وأغلب الظن أيضا أنه من يقرأ هذا الحديث الذي أكتبه لن يكف عن يقينه هذا على الأقل لتظل السيدة زوجته على ذمته.
ألا ترى أنني بترت حديثي عن الحاج أحمد القرعيش، واستطردت في هذا الحديث عن عليوة أفندي؟
كان لا بد من هذا، فقد استمرت رحلتي مع الحاج أحمد إلى أن اختاره الله إلى جواره، ولم يقف الأمر بيننا عند الأستذة منه والتلمذة مني؛ فقد أصبح حين قدر الله لي هواية الأدب هو صديقي الأول في القرية، لا يتركني لحظة منذ قدومي إلى غزالة حتى أتركها. وقد كان لهذه الصلة أثر ضخم في ثقافتي وفي أدبي، وانضم إلينا قريبي الشاعر الأستاذ توفيق عوضي وهو الآخر شخصية لم أر لها مثيلا في حياتي كلها؛ فهو رجل فقير لم يدخل مدرسة، وكان كل ما يملكه فدانا واحدا كان يزرعه بذراعه، ولكنه علم نفسه بنفسه، وكان خطه جميلا، ولكنه بطيء في الكتابة كل البطء لا عن جهل، فهو من أعلم الذين عرفتهم باللغة العربية وآدابها، ولكنه أصيب في مرفق ذراعه اليمنى، فظل حياته كلها لا يحركها في سهولة.
قرأ كل الشعر العربي، وحفظ أغلبه، وكان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن جميع مظانها. أعجب بالمتنبي فنقل ديوانه كله؛ لأنه لا يملك ثمن اقتنائه، وأعجب بالبحتري فنقل ديوانه كله، كذلك فعل مع ديوان عمر بن أبي ربيعة، ولك أن تتصور مقدار الصبر والرجولة والإصرار التي يتحلى بها، وأنت تعلم أنه بطيء في الكتابة. والحق أنه كان في خلقه رجلا، وكان صبورا على الحياة كريما عليها وعلى نفسه، وكان معتزا بكرامته غاية الاعتزاز في ظرف وخفة ظل لا يتأتيان إلا لقلة نادرة من الناس. كتب خطابا إلى عزيز باشا أباظة، وتعثر الخطاب في الطريق، ولم يصل، وكان عمي عزيز في ذلك الحين مديرا لأسيوط، ومع ذلك رأى توفيق أن يشكو إلى عمه جمال الدين بك أباظة المستشار؛ فنحن في الأسرة لا نقيم وزنا للمناصب، وإنما القيمة عندنا بالسن، والمكانة عندنا تتحدد بالعمومة والخئولة. وكان يحفظ الشعر العربي كله من الجاهلية حتى شوقي، وكان يرعاني أنا بالذات رعاية الأب لابنه لما لمسه عندي من حب للأدب، فتوفيق حين اختار جمال بك لم يكن اختياره لمجرد العمومة؛ فقد كان لعزيز باشا أعمام آخرون على قيد الحياة، وإنما هو في ذكاء ولماحية اختار العم الذي يعتبره ظاهرة في زمانه في حب الأدب، وفي الاطلاع على التراث الأدبي من بدايته إلى اليوم الذي يعيش فيه، وكان إلى هذا جميعا نموذجا فريدا في العفة والحياء، حتى إنه لم يتزوج، وأرجح أنه لم يتزوج لأنه خجل أن يخطب. وكان رحمه الله أيضا صورة مجسمة للطيبة، هذا كله إلى تفقه في القانون يندر أن نجد له مثلا. كتب توفيق إليه يشكو عدم إجابة عزيز باشا على خطابه، وربما يجمل بي أن ألفت نظرك إلى بداية الأبيات التي كتبها توفيق، وكأنه يكتب خطابا مما يدل على قدرته ولماحيته واستطاعته أن يقول بالشعر الأصيل كل ما يريد أن يقول، إليك الأبيات:
جمال الدين والدنيا سلاما
يضوع شذى كأنسام الخزامى
وبعد، فهل أتاك حديث قوم
نكلمهم فيأبون الكلاما؟
بعثت إلى عزيز القول شعرا
أحييه فما رد السلاما
فإن يك أكبر الشعراء طرا
وأسماهم وأرفعهم مقاما
فقد نادى إله الناس موسى
وناجى العبد من خلق الأناما
وبنت النمل كلمها النبي
وبادلها المحبة والوئاما
فلست أقل من نمل ضعيف
وليس أجل من ملك تسامى
ومن طرائفه التي أذكرها له أن أبي أهدي إليه عمامة ليكرم علمه الواسع بالتراث وبأركان الدين، فكتب له أبياتا غاية في الظرف يقول فيها:
توجت رأسي بالعمامة
وكسوتني حلل الكرامة
فكأنني شيخ المراغة
في المهابة والفخامة
لا فرق بيني في الحياة
وبينه إلا الإمامة
ومرت سنوات، وعين أبي وزيرا، فكتب إليه برقية من بيتين يقول فيهما:
قل للوزير الألمعي مقالة
مشبوبة كذكائه المتوقد
الفأس قد أكلت يدي وأنا امرؤ
للطرس لا للفأس قد خلقت يدي
وأصدر أبي قرارا بتعيينه في وظيفة كتابية بمصلحة الطرق والكباري، وأقمنا احتفالا له بلبسه الحلة لأول مرة، وهكذا تخلى عن العمامة إلى الطربوش.
هذان الشخصان، الحاج أحمد القرعيش، وتوفيق عوضي أباظة، كان لهما أثر ضخم في حياتي؛ فقد بدأت أقرأ معهما الشوقيات منذ الإجازة السنوية الصيفية للسنة الأولى الثانوية، حتى انتهيت من دراسة الحقوق تقريبا بشكل متصل في جميع سنوات الحرب، وبشكل منقطع بعد انتهاء الحرب، وهذه التفرقة ليست بسبب الحرب، ولكنها كانت محكومة بتولي أبي للوزارة من أكتوبر عام 1944م، واضطراره أن يقضي الصيف في الإسكندرية مع الوزارة لمدة خمس سنوات متواصلة، وهي المدة التي بقيها في الوزارة.
كنا بعد أن يصعد أبي إلى الطابق الأعلى من منزلنا في غزالة يجتمع ثلاثتنا حول كلوب، فلم تدخل الكهرباء في بيتنا إلا بعد بداية جلساتنا بسنتين أو ربما ثلاث سنوات، وعكفنا على قراءة شوقي، ولم نقرأ مجتمعين غيره، وكان كل منا يقرأ ما يشاء منفردا. وقد تفضل الشاعران بأن جعلاني أقرأ أنا ويستمعان هما ويعلقان ويتعمقان كل بيت، حتى لا يبقى فيه معنى إلا ويصبح واضحا ظاهرا.
وفي الإجازة التي جاءت بين السنة الثانية الثانوية والثالثة الثانوية، قال الحاج أحمد لي: «أنت تكثر من اللحن بصورة مخيفة.»
فقلت: «لا يهم.»
قال: «كيف لا يهم، أتريد أن تكون أديبا وتلحن؟ إن القواعد مسألة بدائية يجب أن يتقنها كل متعلم، فكيف لا يتقنها الأديب الكاتب، لن يحترمك قارئ أو مستمع لك إذا أخطأت في النحو.»
وأيد توفيق الذي أصبح توفيق أفندي كلام الحاج أحمد، وأخذت الكلمتين في ضلوعي ولم أعلق وأكملنا السهرة، ومضينا في سهراتنا حتى انتهت الإجازة.
وحين بدأت الدراسة في السنة الثالثة الثانوية أرغمت نفسي أن أقرأ وحدي بصوت مرتفع كل ما أقرأ سواء كان مذاكرة أو كتبا في الأدب، أو حتى في الجغرافيا أو التاريخ أو الطبيعة، وحرصت أن أصحح لنفسي ما أقرأ، وأعرب كل كلمة قبل نطقها، وأنطقها بحركة إعرابها، وبعد شهور قليلة استقام لساني.
وكتمت الأمر عن الحاج أحمد وعن توفيق لم أقل لأحد منهما شيئا مما أفعله بنفسي، حتى إذا جاءت الإجازة الصيفية وبدأنا القراءة فوجئ كلاهما بشخص آخر مني لا يلحن مطلقا، أو يكاد لا يلحن، ودهش كلاهما وفرحا وأصبحا يستمعان إلى قراءتي للشعر في استمتاع بعد أن كان المسكينان يعانيان ما يعانيان من كثرة اللحن مني، ويتجاوزان عنه لمكانتي عندهما أو لمكانة أبي، لا أدري.
وكما يتضح الإصرار عندي في موضوع النحو يتضح في أمر آخر لي لست أنساه ما حييت. كنت طفلا في الخامسة أو السادسة لا أذكر، وكنت ألثغ في الراء فلا أنطقها إلا مثل الياء أو قريبا من الياء، وكنت ألعب الكرة في فناء منزلنا بشارع الملك الناصر بالمنيرة حين أقبل عمي الكاتب الصحفي الأشهر فكري أباظة الذي أصبح فكري أباظة باشا فيما بعد، وسارعت إليه أستقبله.
قال: «أين أبوك؟»
قلت: «هو نائم فوق .»
قال: «طيب تعال، ما حكاية الراء هذه التي لا تريد أن تنطقها؟»
وفكري أباظة ابن عم أبي، ولكن الأمر بينهما كان أكبر من هذا بكثير؛ فقد كان يحب أبي حبا عميقا، ولا أنسى يوم وفاة أبي، وقد ارتمى عمي فكري على أريكة بيتنا وراح ينشج بالبكاء. وكان يصرح دائما أنه أخذ أسلوبه الساخر من مقالات أبي التي كان يوقعها في جريدة السياسة بتوقيع الغزالي أباظة. وأنا لم أر في حياتي شخصا في نقاء عمي فكري، وهل هناك أشد نقاء من رجل في مثل مكانته وقمته الصحفية ينشر في المصور أنه كان يصعد في مصعد دار الهلال وجمع المصعد بينه وبين أحد محرري الدار وشابة جميلة، وقال المحرر للفتاة هذا أستاذنا فكري باشا أباظة، فقالت له الفتاة: «هل أنت قريب لثروت أباظة؟»
رحم الله الرجل، إنني أعتقد أنه ألف هذا الحوار ليقدم لي تحية على حساب نفسه، وقد كان عمره كله يقدم الآخرين على نفسه في كل شيء.
في ذلك اليوم من طفولتي في شارع الملك الناصر أخذني عمي فكري من يدي، وصحبني إلى مكتب أبي، وقال: «انطق: ثروت.»
فقلت: «ثيوت.»
فظل يعلمني نطق الراء ثلاث ساعات متصلة لا يمل، ويطلب إلي أن أضع طرف لساني بسقف حلقي وأنطق، حتى نطقت الراء.
ولم ينته أمري مع الراء إلى هذا؛ فقد كنت أعرف كيف أنطقها مفردة، ولم أكن أعرف كيف أنطقها في موضعها من الكلمة، حتى أصبحت في مطلع الشباب، ووجدت الناس يسخرون من نطقي الناقص، ويحاولون إخفاء سخريتهم، فقلت لنفسي ما دام في الأمر سخرية فليسخروا مني، وأنا أتدرب على النطق، فكنت إذا أجبت التليفون، وسألني المتحدث: من؟ لا أخجل أن أقول: ثرررروت.
وتبين الراء وكأنها عشر راءات متصلة، ويضحك المتحدث، فأقول في نفسي إنه أيضا كان سيضحك علنا أو خفاء إذا قلت ثيوت.
وكنت أظل أقول وأنا منفرد بنفسي: «فرتر، فرتر» وأكررها حتى استقام لساني بعد بضعة أشهر، وتخلصت من هذا النقص، والفضل أولا لعمي فكري، وأخيرا لإصراري.
المدرسة
كنا نقيم في بيت كبير بشارع الملك الناصر رقم 24، وكان البيت هو البيت الثاني لداخل الشارع من جهة شارع نوبار، أما البيت الأول فقد كان مدرسة أولية متسعة الأرجاء، أصبحت الآن عمارة ضخمة. أما بيتنا فقد كان يطالعك منه أول ما يطالعك فناء متسع الأرجاء تحف به حديقة جميلة من الجانبين، والفضل في جمال الحديقة يرجع إلى عناية عم أحمد بخيت بالحديقة وإشرافه الأمين الحاسم على الجنايني الذي كان يزورها عدة مرات في الأسبوع على طريقة رعاة الجناين في القاهرة. وبعد الحديقة يبقى لنا مكان كبير نلعب فيه مختلف اللعب، ولو أننا كثيرا ما ننتقل إلى لعب الكرة في الشارع، وقد كان الشارع صغيرا، ولكن المرور كان في القاهرة جميعها خفيفا، فقلما كنا نقطع اللعب في الشارع لمرور سيارة أو عربة ذات خيل.
يحد حديقة البيت جدار من الناحية اليمنى يفصل بين البيت والمدرسة، وأما على الجانب الأيسر فسلاملك متصل بالبيت مباشرة، فهو أشبه بجناح منه بسلاملك له سلم خاص، وكان أبي يستعمله عادة ليخلص منه إلى البيت، أما أول باب في الجناح فكان يفضي إلى حجرة تتوسط حجرتين؛ الواقعة على يسار الداخل هي حجرة الاستقبال، واليمنى هي حجرة مكتب أبي، وكان كثير الاستعمال لها، ولها باب يؤدي إلى الشرفة المتصلة بسلم الصعود، ولها باب آخر يؤدي إلى صالة كبيرة كانت تستعمل حجرة طعام، وحجرة الطعام فيها أبواب ثلاثة أخرى؛ أحدها للقادم من شرفة السلم، والثاني على يمين الداخل من الشرفة يؤدي إلى حجرة جلوس أخرى، أما الباب الثالث المواجه لباب الشرفة فيؤدي إلى صالة أخرى بها باب غرفة في أقصى يسارها كانت لا تخلو من ضيف يقيم فيها إقامة كاملة قد يكون أحد أقربائنا، أو أحد المقربين لأبي من غزالة أو من غيرها. والعجيب أن بيتنا لم يخل قط من هذا النوع من الضيوف سواء كان هذا في البيت، أو في بيتنا الآخر الذي انتقلنا إليه في العباسية في أول يناير سنة 1939م، وفي وسط هذه الصالة باب آخر يؤدي إلى السلم الصاعد إلى أعلى ، ولم يكن سلما فخما، وإنما كان من الحجر العادي.
وفي فناء البيت وفي مواجهة الداخل إليه بابان؛ أحدهما كان يصل إلى سلم رخامي، وهو المخصص للحريم، وكانت والدتي وزائراتها يدخلن منه دائما. أما الباب الآخر فقد كان يؤدي إلى البدروم، وكان متسع الأرجاء بصورة عجيبة؛ حتى إن عمي محمود أخا أبي أقام فيه مصنع صابون جعل رائحته كلها تعبق بالصابون، وكان الخدم وعائلاتهم وأبناؤهم يقيمون جميعا في هذا البدروم، وكان به المطبخ أيضا.
حين ارتأى أبي أنه ينبغي لي أن أذهب إلى المدرسة اختار المدرسة الأولية الملاصقة لبيتنا، وفي أول يوم ذهبت إليها صحبني محمد أبو عثمان، وهو نوع عجيب من الخدم أطال الله عمره؛ فقد كان يقوم بكل الأعمال، وكان في نفس الوقت لا يعمل شيئا، كان يطبخ إذا غاب أخو زوجته محمد عبوة الطباخ، والواو مشددة في تخفيف. وكان يسوق إذا غاب رجب السائق، وكان يساعد عم أحمد في ري الحديقة وفي التخديم على الضيوف، وكان يذهب لشراء الأشياء، وكان يلاعبني ويحكي لي الحكايات التي كنت مغرما بها غراما جائحا. وكنت حريصا ألا أفارقه من أجل هذه الحكايات، ولما رأت والدتي أنني أصبحت حجته التي يعتذر بها عن عدم العمل أحضرت من البلد إبراهيم ليرافقني، ولإبراهيم هذا قصة طويلة معي لم تنته بعد حتى اليوم؛ فهو الآن طباخ عندي يتقاضى مرتبه، ولا يأتي إلا عندما يحلو له.
ذهبت إلى المدرسة في أول يوم، وأنا لا أدري ماذا تخبئ لي المدرسة؛ فقد كنت أظن أنني سأذهب إليها مع محمد أبو عثمان بعض الوقت، ثم نعود سويا دون أن نفترق، ولكنني فوجئت بمحمد يسلمني الحقيبة عند باب المدرسة، ويهم بالعودة إلى المنزل. وما إن استقر هذا في نفسي حتى صرخت صرخة احتجاج عريضة مصرا أن يظل محمد معي، وأقبل المدرسون والناظر وواجهتهم المشكلة. وأمر الناظر مضطرا أن يدخل محمد معي إلى المدرسة، ودخل المدرسة. وحين ذهبت إلى الفصل أصررت أن يصحبني إليه، وصحبني ولم أفهم شيئا من الدرس؛ فقد كان نظري كله منصبا على محمد الواقف على باب الفصل داخل الفصل.
قبل الناظر هذا الاستثناء يوما ويوما، ثم أمر محمد أن ينصرف، وبكيت وصرخت، فلم يأبه أحد ببكائي، ورأيت آخر الأمر أن أرضخ للأمر الواقع، وخفف الوحدة علي أن أبي ووالدتي كانا يطلان علي من حجرة الطعام بالدور الأعلى، ويلوحان لي فرحين أنني أصبحت تلميذا في المدرسة.
أذكر أنني لم أستمر طويلا بهذه المدرسة، فنقلت إلى مدرسة المنيرة بروضة الأطفال بها، وفي هذه المدرسة بدأت مشوار الدراسة الذي سار فيه من قبلي وتسير فيه البشرية حتى الآن، والذي أحسب أنها لن تنتهي من السير فيه.
وربما كان الطريف أنني منذ سنوات قريبة دعيت من ناظر إحدى المدارس الابتدائية لأجلس في ندوة مع التلاميذ، وذهبت إلى المدرسة في العنوان الذي أنبئت به، وكم فوجئت وكم فرحت حين وجدت نفسي ضيف ندوة في المدرسة التي كنت تلميذا فيها بروضة الأطفال.
لم أعد في حاجة لإبراهيم الذي جاء من غزالة لصحبتي، فدخل هو إلى المطبخ ليتعلم الطهي، ولكنه لم ينس أنه جاء من أجلي؛ فكان يلازمني بعد انتهاء عمله هو في المطبخ وعملي أنا في المدرسة.
وعرف الطريق إلى سينما الأهلي، وعرفت الحلقات التي كانت تقدمها السينما لتومكس وإخوانه من رعاة البقر، وهمس في أذني أن نذهب معا أثناء نوم أبي. وكان أبي يرغبني أن أنام معه في القيلولة، فكنت دائما أتسحب وأنزل إلى الملعب، ويعلم الله أنه كان يحس بي ويتظاهر بالنوم. وقد أورثني هذا كرهي لنومة القيلولة، حتى أرغمتني عليها السنون، فأصبحت أدمنها بعد كراهية، ولا أتحمل العمل بعد الظهر إلا إذا أخذت نصيبا مهما يكن ضئيلا من النوم.
ذهبت مع إبراهيم إلى سينما الأهلي، ولكن كان العائق الأكبر يتمثل في حصولي على قرش صاغ ثمن التذكرة الثانية في الدرجة الثالثة في الصالة؛ فقد كان مصروفي قرشا في اليوم، وكنت في سائر أيام الأسبوع أنفقه في «كنتين» المدرسة، أو في أي مصروف آخر. أما في يوم الخميس فقد كنت أبقي على القرش، لا أنفق منه مليما، ثم أروح أفكر في الوسيلة التي أستنبت بها قرشا آخر لنشتري التذكرتين، ولم يكن الأمر يسيرا، ولكنني كنت أوفق دائما وأحصل على القرش.
أفادتني دراستي مع الحاج أحمد القرعيش في مدرسة الروضة حتى رأت المدرسة في آخر العام أن تنقلني إلى السنة الثالثة مباشرة دون أن أمر بالسنة الثانية.
وذهبت بعد ذلك إلى مدرسة المنيرة الابتدائية، وكان ناظرها فهمي بك الكيلاني، وكان من أعظم الناس الذين عرفتهم، وبدأت في هذه السن هوايتي لقراءة القصص، وكانت هناك مجموعات من قصص الأطفال، مثل «قصتي» وغيرها، ولكن حدث في هذه السنوات أن بدأ الأستاذ كامل كيلاني يكتب مكتبته للأطفال، وكان صديقا مقربا إلى أبي غاية القرب، وقد كان من كبار أدباء عصره، وكان من أحفظ الناس للشعر القديم كله منذ الجاهلية إلى العصر الحديث.
وبدأ يهدي إلى أبي كتبه، ولم يكن يعطيه كتابا واحدا أو اثنين، وإنما كان يهديه عدة كتب قد تصل إلى ثمانية أو عشرة، وكنت أدخل إلى حجرتي وأغلق الباب بالمفتاح، ولا أخرج حتى أنتهي من كل الكتب التي أهداها الأستاذ الكيلاني إلى أبي. ومن هذه الكتب عرفت حكايات ألف ليلة وليلة كلها، وعرفت روايات شكسبير مبسطة، وعرفت روبن صن كروزو وحي بن يقظان، وحين كنت في العاشرة كنت أقرأ توفيق الحكيم وطه حسين والمازني، ووجدت نفسي بعد ذلك أقرأ الأدب الكبير كله في سهولة لا مثيل لها.
وكان أبي معجبا بشوقي غاية الإعجاب فقرأت رواياته، وأذكر أنني وأنا أنتظر نتيجة الشهادة الابتدائية قرأت مجنون ليلى ثلاث عشرة مرة متتالية.
وكنت سريع الحفظ لدرجة أنه حدث مرة وأنا في السنة الثانية الابتدائية أن كتب أستاذنا الفاضل العظيم الوقور محمود الشيباني قصيدة من عشرة أبيات على السبورة، والتفت إلينا وسأل: «من يقرأ هذه الأبيات؟»
فرفعت أصبعي، فأشار إلي أن أقف لأقرأ الأبيات، فإذا بي أستدير إلى الحائط، وأولي السبورة ظهري، وألقي الأبيات جميعا، وإذا بالفصل يصفق دون أن يأمره بذلك الأستاذ الشيباني، وحين انتهى التصفيق قال الأستاذ الشيباني: «ماذا أقول لك يا بني، ابن الوز عوام.»
وقد فعلت ما فعلت، وأنا أحسب أنني أصنع شيئا طبيعيا لا غرابة فيه، حتى لقد فوجئت بتصفيق الفصل وإعجاب الأستاذ، وقد كان مطلع هذه القصيدة:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
وأذكر أن أبي في هذه الأيام كان دائم الاجتماعات في مكتبه بالبيت بأشخاص لا أعرفهم، وإنما عرفت أنهم يعدون لإقامة ذكرى وفاة حافظ إبراهيم، وعرفت أن الاحتفال بهذه الذكرى سيستمر لمدة ثلاثة أيام بدار الأوبرا المصرية، وحدث أن دخلت إلى مكتب أبي وهو في اجتماع من هذه الاجتماعات، فقال لي مداعبا: «أنشد لنا شيئا من محفوظاتك في المدرسة.»
فأنشدت هذه القصيدة، وما إن فرغت منها حتى قال أحد الجالسين: «رفع الله رأسك يا بني كما رفعت رأسي.» وإذا به الأستاذ محمد الهراوي مؤلف القصيدة.
وأذكر أنني حضرت الحفلات الثلاث التي أقيمت بدار الأوبرا، وما زلت أذكر المازني وهو يترك المنبر إلى مقدمة المسرح، ويقول: «أشهد الله والحق أنني والعقاد قد حاولنا أن نهدم شوقي وحافظ؛ لننال منهما، ولنقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
وفي نهاية الأيام الثلاثة كان محمد محمود باشا حاضرا في المقصورة التالية لمقصورة الملك بدار الأوبرا، وما إن انتهت الحفلة حتى قامت مظاهرة ضخمة تهتف باسم محمد محمود باشا، وترفعه إلى الأعناق، وكان رئيس الوزارة في ذلك الحين هو النحاس باشا.
وقد أدركت بعد ذلك أن هذه المظاهرة كانت جزءا من تدبير سياسي محكم أدى إلى سقوط وزارة النحاس باشا، وتولى محمد باشا محمود رياسة الوزارة، وكانت أول وزارة تشترك فيها الهيئة السعدية برئاسة أحمد ماهر باشا. ومع أن أبي كان سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين، إلا أنه لم يشترك في الوزارة عند تأليفها. وقد حدث أمر يستحق أن يروى في أثناء وجود هذه الوزارة، فقد تولى أبي تنظيم الترشيحات لمجلس النواب بوصفه سكرتير عام الحزب الحاكم، فكان ينسق بين الأحرار الدستوريين وبين السعديين. وحدث أن طلبه حسن صبري باشا، وكان في ذلك الحين وزيرا في الوزارة ومقربا جدا عند الإنجليز، وطلب حسن صبري من أبي أن يرشح اسما ذكره في إحدى الدوائر، ولكن أبي اعتذر عن عدم ترشيحه؛ لأن الدائرة التي ذكرها حسن صبري كان مرشحا بها أحد السعديين، وكان متقدما إليها حر دستوري من تلقاء نفسه، فوضعها لا يسمح بأن ترشح فيها الوزارة أحدا، فإذا حسن صبري يقول لأبي: «أتناقشني؟»
فكان من الطبيعي أن يضع أبي سماعة التليفون في وجهه، وينهي المكالمة.
وحدث بعد ذلك أن خلا منصب وزير الزراعة، وكان مجلس الوزراء مجتمعا برئاسة محمد محمود، فإذا به ينظر إلى ساعته، ويقول للوزراء: «سأضطر أن أنهي الجلسة؛ لأني على موعد مع الملك لأوقع مرسوم وزير الزراعة.»
وسأله الوزراء عمن اختاره للوزارة، فقال لهم: «لقد اخترت للوزارة جوهرة فريدة.»
قالوا: «من؟»
قال: «دسوقي أباظة.»
فرحبوا جميعا، وإذا حسن صبري يقول: «إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، سأخرج أنا من هذا الباب.»
ولم يدخل أبي الوزارة مع محمد محمود قط.
ولم يكن عجيبا ألا يختار حسن صبري أبي للوزارة، ولكن العجيب أن أبي ظل طوال فترة وزارة حسن صبري يمتدح حسن صبري لنا نحن أبناءه وأهل بيته، ولم يعارضه قط في البرلمان. فأنا لم أر في حياتي شخصا يفصل بين المشاعر الشخصية والرأي والمصلحة العامة مثل أبي. وتشاء الأيام أن يجني حسن صبري باشا على أبي حيا وميتا؛ فقد حدث أن رشح حزب الأحرار أبي لرئاسة مجلس النواب عن الأحرار الدستوريين في حين رشحت الهيئة السعدية أحمد باشا ماهر، وكان الحزبان قد اختلفا، وخرجت الهيئة السعدية من الوزارة، ولم يحل مجلس النواب مع ذلك. وكان الخلاف بين الحزبين سببه ما ارتآه أحمد باشا ماهر في ذلك الوقت من وجوب دخول مصر الحرب في ذلك الحين، حتى يكون ذلك مبررا لها أن تطالب بالاستقلال بعد نهاية الحرب، ورأى حزب الأحرار - وكان محقا يومذاك - أن النصر ليس مؤكدا للحلفاء، وأنه يجب أن تجنب الحكومة مصر ويلات الحرب، وخاصة أن الإنجليز لا أمان لهم، وليس من الحتم أن يستجيبوا لمطالب مصر، حتى إذا انتصروا. وكان هذا الاختلاف في عام 1941م. وكان من المرجح جدا أن يتغلب أبي على أحمد ماهر باشا في معركة رئاسة مجلس النواب، ولهذا لم ندهش كثيرا حين كنا جالسين في حجرة مكتب أبي بالعباسية، وإذا بنا نجد الباب يفتح فجأة ونرى شخصا أنيقا واقفا في لحظة وسط الحجرة، وكأنه نبت من الأرض، وهو يقول بصوت جهوري غاية في الأدب: «دولة رئيس الوزراء.»
وكانت سرعة ميشيل سويرس تشريفاتي رئيس الوزراء لم تتح لأحد منا أن يقف ليرحب به، فكنا جميعا جلوسا وظللنا جلوسا نستوعب المفاجأة إلا أبي الذي مرن على هذه المواقف لطول ممارسته لها؛ فقد قام من فوره وقصد إلى البهو الخارجي، واستقبل حسن باشا صبري، وسمعنا أبي يقول: «أهلا دولة الرئيس.»
وسمعنا أيضا حسن باشا صبري يقول: «أهلا برئيسنا العظيم.»
ودخلا معا إلى حجرة الاستقبال الكبيرة الملاصقة لحجرة المكتب، وفرغنا نحن إلى ميشيل سويرس نرحب به، ولم يكن أحد من الجالسين يعرفه.
كانت هذه الزيارة في الليلة السابقة مباشرة على انتخابات الرئاسة في مجلس النواب، ولكن الأقدار لم تشأ لهذه الانتخابات أن تتم في موعدها؛ لسبب لم يحدث في تاريخ مصر؛ فقد شاء الله في علياء سمائه أن يختار عبده حسن صبري رئيس مجلس وزراء مصر، وهو يلقي خطبة العرش التي تسبق الانتخابات، ويؤلف الوزارة حسين سري، وكان رشوان محفوظ وهو من كبار أعيان الصعيد ومن الوزراء السابقين للأحرار الدستوريين يطمع أن يدخل الوزارة، ولكن حسين سري لم يختره، فإذا به يغضب من الحزب، وينسلخ مع خمسة عشر عضوا عن انتخاب مرشح الحزب في رئاسة المجلس مع حبه الصادق لأبي، وهكذا لا يصل أبي إلى رئاسة مجلس النواب بسبب حسن صبري، وإن كان في هذه المرة سببا صنعته السماء لحكمة يعلمها الواحد العليم، وكان حسن صبري أداة لا اختيار لها.
وفي تعديل وزاري أصبح أبي وزيرا لوزارة الشئون الاجتماعية في وزارة حسين سري، وكان هذا في 26 يوليو عام 1941م.
ومن الطريف الذي أذكره في هذه الأيام أن النادي الأهلي بالزقازيق أعلن أنه سيقيم حفل تكريم لأبي بمناسبة توليه الوزارة، وقبيل اليوم المحدد للتكريم استقالت الوزارة، ولم يكن قد مر على تولي أبي منصبه شهر واحد، ولكن حدث أن سعى الساعون لإعادة التفاهم بين حزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدي، ونجح المسعى، وكان لا بد أن يشترك الحزب السعدي في الوزارة. وكان الأحرار الدستوريون ممثلين في الوزارة بسبعة وزراء، كان لا بد أن يصبحوا أربعة ليجد السعديون وزارات لممثليهم في الوزارة، وظلت الوزارة تؤلف إلى اليوم المحدد لإقامة حفلة التكريم في الزقازيق.
ولم يذهب أبي إلى حفلة التكريم، وكيف كان يمكن أن يذهب وهو لا يعرف إن كان سيظل وزيرا أم سيخرج مع الخارجين.
ولم أذهب أنا أيضا إلى الحفلة طبعا، وذهبت إلى كازينو أوبرا، وأذكر أنني طلبت جيلاتي وأصابني بتسمم.
وقبل أن تبدأ بوادر التسمم كان أبي نائما، ودق جرس التليفون بالدور الأعلى من منزلنا وأجبت أنا وطالع أذني صوت حاد: «معالي الوزير موجود؟»
قلت: «هو نائم، من يريده؟»
قال: «أدخل له التليفون إذا سمحت، دولة رئيس الوزراء يريده.»
وعاد أبي إلى الوزارة، ولكنه لم يحضر حفل التكريم الذي أقيم له في الزقازيق؛ فقد أبى المحتفلون إلا أن يستمروا في التكريم بقي أبي في الوزارة أم لم.
هذه الوزارة بقيت حتى وقعت أحداث 4 فبراير سنة 1942م، وبطبيعة الحال كان أبي على علم بكل ما وقع في ذلك اليوم المشئوم، وفي يوم 5 فبراير كنت أركب مع أبي سيارته الخاصة بعد أن صرف سيارة الوزارة، ولم تكن آثار 4 فبراير قد ظهرت بعد، ولا يعرف أحد أي أثر سيكون لها على الشعب والرأي العام كما إن أحدا بطبيعة الحال لم يكن يدري بماذا سيدافع النحاس باشا عن هذا الذي حدث. وعن تلك الوصمة العريضة في جبين الوفد الذي اكتسب اسمه لمعارضة الإنجليز وإخراجهم من مصر.
وكنت في سني الخضراء في ذلك الوقت أتصور أن الدفاع مستحيل ، وأن النحاس باشا وأنصاره لن يجدوا ما يقولونه لتبرير خيانتهم لثقة الشعب، وسألت أبي في سذاجة: «ماذا سيقول النحاس باشا للشعب؟»
وفي عبقرية السياسي المحنك الخبير بأخلاق الوفد وخداعه للحق، قال أبي دون ريث تفكير: «سيقول أنقذنا العرش، وحمينا البلاد من الفتنة، وحافظنا على سيادة الوطن وكرامته.»
وكأنما كان النحاس باشا معنا في السيارة، فقد فوجئت بأحاديثه لا تخرج عما قاله أبي في شيء، وفوجئت بأنصاره يصدقونه، وذهلت لهم وهم يرفعون «مايلز لمبسون» السفير البريطاني بطل الاعتداء المشين على أكتافهم يهتفون له، ويهللون ويصرخون بحياته.
لقد كانوا يهتفون لمن أتاح لهم الحكم يستغلونه ويمرحون في هناءته ومكاسبه، ولتذهب مصر، وليذهب رمز مصر، ولتذهب كرامتها إلى أي جحيم تشاء.
وفي ظل هذا الحكم بدأ النحاس باشا اعتقالاته، وحدثت الفرقة والخصومة بينه وبين مكرم باشا عبيد، وظهر الكتاب الأسود، وكانت عندنا منه كميات كبيرة. وقدم أبي في مجلس النواب استجوابا عن الاعتقالات، وأعتقد أن دخول أبي إلى المجلس قصة لا بد أن تروى؛ فقد قرر حزب الأحرار أن ينتدب أبي وأحمد باشا عبد الغفار لمفاوضة النحاس باشا، وليتعرفا منه كيف ستدار الانتخابات، وذهبا إليه، فقال لهما: «للحزب أن يدخل إلى الانتخابات، ولكن يمنع المرشحون من الكلام عن حادثة 4 فبراير، كما يمنعون من مهاجمة الإنجليز، كما يمنعون من مهاجمة السيدة حرمي. ولهم بعد ذلك أن يقولوا ما يشاءون في دعايتهم الانتخابية.»
وإذا بأحمد باشا عبد الغفار يصيح برئيس الوزارة: «ماذا يمكن أن نقول لمرشح الوفد بعد ذلك؟ أنقول له وشي أحلى من وشك أم نقول له أبويا أحسن من أبوك؟!»
وانصرف أبي وأحمد باشا، وسمعنا أن النحاس باشا قص على الهيئة الوفدية أمر هذا اللقاء قائلا لهم: «جاءني معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة والولد أحمد عبد الغفار.»
وكان أبي في ذلك الحين لا يحمل رتبة الباشوية، بينما كان أحمد باشا يحمل الرتبة، ولكن النحاس باشا استبدل بها لقب ولد.
امتنع الحزب عن دخول الانتخابات، وارتأى أبي باتفاق مع الحزب أن يرشح في دائرته عمي عبد الله فكري أباظة الذي كان سكرتيرا عاما لوزارة التجارة في ذلك الحين، ثم وكيلا. ودخل عمي الانتخابات مستقلا ونجح، وكان الدستور ينص على أن النائب الموظف عليه أن يختار بين الوظيفة والنيابة في مدة أقصاها ثلاثة شهور. واختار عمي عبد الله الوظيفة في المدة المحددة، وأعلن عن خلو الدائرة، وتقدم أبي للترشيح ورشح الوفد مرشحه الذي كان يرشحه دائما في دائرتنا، وكانت الانتخابات معركة حربية طاحنة صنع فيها الوفد كل ما يستطيع لإسقاط أبي حتى إذا يئس فكر أن يستولي على الصناديق ويغيرها، فإذا بشباب الأسرة الأباظية يبيتون فوق الصناديق وعلى رءوسهم السلاح، وقضى عمي عبد الله فكري ليلته في بيت ملاصق لمقر الفرز، ومن أحداث هذه الانتخابات ضرب فكري أباظة باشا الكاتب الأشهر، وفتحت يده بجرح كبير ظلت آثاره باقية حتى اختاره الله إلى جواره.
ونجح أبي في الانتخابات وتقدم باستجواب عن المعتقلات، وفي يوم نظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس باشا مكرم باشا عبيد. ووقف أبي في المجلس، وقال إن الحكومة تتحدى الشعب ومجلس النواب، وتعتقل مكرم باشا في نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب الخاص بالمعتقلات، وأنا أعلن هنا أننا متضامنون مع مكرم باشا في كل ما فعل أو قال، وللحكومة أن تعتقلنا نحن أيضا؛ لأننا شركاء مع مكرم، ولتفعل بنا القوة الغاشمة ما تشاء.
وأذكر أنني في ذلك اليوم كنت في البيت أتلقى درسا خاصا في اللغة الإنجليزية على يد أستاذي الذي كان متوليا الإشراف على دراستي في كل العلوم الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد الدكتور لويس مرقص، وأصبح رئيس قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة، ودخل أبي إلينا، وروى لنا ما كان من أمر جلسة مجلس النواب، ثم نادى أحمد بخيت وأمره أن ينقل نسخ الكتاب الأسود والمنشورات الأخرى إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة، ويتركها عند السيدة الجليلة والدته، وكان مجاورا لبيتنا في العباسية. ونفذ أحمد بخيت الأمر بحذافيره، ولم يبق في بيتنا ورقة يمكن أن يجعلوا منها حجة ولو واهية للقبض على أبي.
وحدث ما توقعه أبي، وتم تفتيش بيتنا بعد الساعة الثانية صباحا من نفس اليوم، ولم يتركوا ركنا إلا أعملوا فيه أيديهم، حتى حقيبة أختي الصغرى التي أصبحت جدة الآن. فتشوها واستيقظت الطفلة التي لم تكن تتجاوز الخامسة من عمرها، ولكن العجيب أن أختي حين استيقظت ورأتهم يعبثون بحقيبتها نظرت إلى أبي وراحت تقهقه بالضحك، وتقول لأبي: «بابا دول بيفتشوا شنطتي، بص!»
وضحك أبي وسرى عنها.
ولكن ينبغي لي أن أشهد أن أبي قال لرئيس حملة التفتيش في حسم: «لكم أن تفتشوا ما تشاءون، ولكنكم لن تدخلوا الحجرة التي بها السيدات في البيت. فإذا فرغتم من تفتيش حجرة انتقل إليها السيدات وتقومون أنتم بتفتيش الحجرة التي كن يشغلنها.» وقبل الضابط رئيس الحملة، حفاظا على كرامة البيت، فإذا قارنا هذا بما كان يجري بعد ذلك اعتداء على الحرمات لوجدنا أن حكم الطغاة في العهد الديمقراطي لم يتخل عن إنسانيته وعن تقديره لكرامة البيوت.
أبي وأمي
كان أبي في البيت ملاكا، ولكن كانت له هيبة تغنيه عن أي عنف، ضربني أبي ثلاث مرات لم يزد الضرب في اثنتين منها عن صفعة على وجهي، أما المرة الثالثة فلا بد أن أرويها؛ لأنني مظلوم فيها ظلما بينا. والعجيب أنني لم أقل لأبي حتى بعد أن كبرت وتخرجت وتزوجت في حياته رحمه الله أنني مظلوم، ولعل خشيت أن أتسرب إلى نفسه بإحساس من الأسف أكبرته أن يشعر به. وها أنا ذا أروي اليوم ظلمي وهو سيطلع عليه وهو في أكرم جوار، وإني أشفع قصتي قبل أن أرويها بأن أنبئه وهو في عليين أن إنسان ما في العالم أو في التاريخ لم يسعد بظلمه سعادتي بالظلم الذي وقع علي أنا منك يا أبي في ذلك اليوم؛ فقد أشاع هذا الذي وقع لي في نفسي فيضا لا ينتهي من الإحساس بالرحمة وحب الناس. وأنا أعلم أن أبي أحبني كما لم يحب أب ابنا؛ فقد ولدت له وهو في الأربعينيات من عمره، ومرضت في أول أيامي في الحياة، فجعلته شفقته علي وإشفاقه أن أموت يزداد حبا لي، ومع هذا وقع منه هذا الظلم الحبيب على ابنه المقرب.
ربما كنت أنا أحب أبي كما لم يحب ابن أباه، ولست أنسى كلمة أهدى بها عمي عبد الله صورة له إلى أبي قال فيها: «إلى أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى.» فإن كان هو هكذا بالنسبة لأخيه فقد كان بالنسبة لي هذا جميعا، ثم هو مني حياتي ومصدرها وسياجها وعزها، وكان حتى بعد موته ملاذي ومأمني ومفزعي وأملي.
كنت ألعب مع خادمة عندنا اسمها أمينة، وكنت في السابعة من عمري، وكانت هي في مثل سني، وكانت تجري وأجري وراءها، وحمي الوطيس وازداد الجري، وأرادت أمينة أن تهرب مني، فدخلت تحت أحد الأسرة، وكانت أمينة سوداء فطساء الأنف، ولم يكن الهواء تحت السرير كافيا، فأغمي عليها من قلة الهواء، وحين دخلت وراءها وجدتها لا تنطق، فجريت أنادي أم عبده مديرة المنزل، فأسرعت إليها ومعها خدم آخرون وأخرجوها من تحت السرير، وأحضروا لها نشادر، فأفاقت ولم يزد إغماؤها عن دقيقة أو اثنتين، وذهبت أم عبده، رحمها الله وغفر لها، فقالت لأبي أنني ضربت أمينة حتى أغمي عليها. وأخبرتني والدتي أن أبي غاضب علي كل الغضب، فحرصت ألا ألقاه، وكنت أجلس وحدي منزويا في كرسي كبير واسع لم أشهد له مثيلا من قبل أو من بعد. وإذا أبي يدخل إلي وفي يده سوط، ووقف على رأسي وقد أذهلني الخوف أن أقف، وقال أبي: «لقد ضربت البنت حتى أغمي عليها، وأنا سأضربك حتى يغمى عليك.»
وبدأ يضرب بغير توقف وبكل العنف الذي لم أعرفه فيه من قبل أو من بعد. ولم يغم علي وكنت من السذاجة بحيث لم أفكر أن أدعي الإغماء، وما زلت على هذه السذاجة حتى الآن، فأنا لا أعرف حتى اليوم كيف أتظاهر بما ليس في، وضرب أبي وضرب حتى مل ورمى السوط وانصرف.
وظلت آثار الضرب على ظهري فترة طويلة لا أذكرها، ولكنها باليقين لم تكن قصيرة، شهد الله ما ضربت أمينة.
ويشهد الله أنني ما ضربت خادما بعد ذلك قط؛ فقد علمت من هذا الذي أنزله بي أبي أن هؤلاء الخدم إنما هم إخواننا، لهم علينا من الحقوق ما لإخواننا وأبنائنا. وعلمت مما صنع أبي أننا مطالبون بالمحافظة على أجسادهم، بل وكرامتهم وإنسانيتهم بنفس القدر الذي نحن مطالبون به إزاء أنفسنا وأبنائنا وأخواتنا، رحمك الله يا أبي العظيم، فإنك حتى حين ظلمتني أنصفتني وعلمتني ما لم أكن لأتعلمه لولا ظلمك الرءوف الشفيق الحنون.
كان أبي يحب أبناءه جميعا بعدل مذهل وهبه الله له، وكنا نحن ولديه أنا وشامل نحس أنه يحبنا، ولكنه يحرص أن يستر حبه الذي قد يجعلنا نعتمد على مجده ولا نقيم من نفسينا رجلين يحرصان على أن يكون كل منهما شخصا ذا قيمة بذاته هو لا بذات أبيه. وكان في نفس الوقت لا يرد لنا مطلبا ولا يحجب عنا عطفه. حين حصلت على الثانوية العامة رغبت إليه أن يشتري لي سيارة محتجا ببعد المسافة بين العباسية وجامعة فؤاد - القاهرة الآن - بالجيزة. فكان أن كلف بذلك مدير مكتبه، وكان في ذلك الحين حسين بك صادق والد الفتاة التي أصبحت فيما بعد الملكة ناريمان. وجاءت السيارة وفي غمرة الفرحة بها وفي الأيام الأولى لها خرجنا أنا وأخي شامل بالسيارة، وذهبنا إلى طريق الهرم، وقمنا بنزهة طويلة فخورين أن لنا سيارة خاصة بنا، وإن كانت أصغر سيارة يمكن أن تشترى، ولكنها سيارتنا. وذهبنا أنا وشامل إلى السينما وعدنا والساعة تقارب الثانية عشرة، فإذا بأضواء بيتنا كلها مضيئة في جميع أدواره، ونظرنا إلى نافذة غرفة أبي فوجدناها أيضا مضيئة، وتخطفنا الخدم من كل حدب وصوب: كلما الباشا، الباشا منتظر، الباشا يريدكما. فقلت لشامل: «اذهب أنت إلى حجرتك فأنا المسئول والله المستعان.»
بلغت بابه وأحس بخطواتي أمام الحجرة، فلم ينتظر حتى أفتح الباب، وإنما فتحه هو وأطل برأسه، وقال في حسم: «السيارة ستباع بكرة.» وأقفل الباب رافضا أن أجعل من الأمر موضوع نقاش، فهو حتى لم يسأل أين كنتما.
ذهبت إلى والدتي هالعا، فأنا لم أفرح بعد بالسيارة، وقالت : «لقد سأل عنكما عندما جاء وحين عرف أنكما لم ترجعا لم يغير ملابسه كما تعود أن يفعل وتناول عشاءه، وقد كان عشاء خفيفا لا يزيد عن الزبادي والفاكهة، وسمع الأخبار دون أن يخلع ملابسه أيضا، وظل ينتظركما بكامل ملابسه.» وقد كانت عادته أن يسمع أخبار الحادية عشرة وينام. حتى إذا سمع صوت السيارة هب من فوره فلبس جلبابه حريصا ألا نحس أنا وشامل أنه مشغول علينا، وأنه غير عادته من أجلنا، وكان فعلا بالجلباب حين أطل علي من فتحة الباب، ولكن لم يكن قد أكمل إغلاق أزراره.
ومكثت في غرفة والدتي أرجوها أن تتشفع لي عنده وهي سعيدة أننا عدنا، وحريصة في نفس الوقت أن تبقي على الخوف في نفسي حتى الصباح؛ فلا أعود إلى مثل ما فعلت مرة أخرى. وقضيت ليلتي أكتب قصيدة أعتذر فيها عما فعلت، وأرجوه أن يبقي على السيارة، وقد نشرت هذه القصيدة في مجلة الصباح في هذه الأيام، وأذكر آخر بيت فيها:
وما أظنك ترضى
بأن أكون بيادة
وبقيت السيارة لا أدري هل من أجل شفاعة والدتي، أم شفقة علي، أم من أجل القصيدة، أم من أجل كل هذا مجتمعا؟ والعجيب أنني نسيت هذه الواقعة التي حدثت عام 46 حتى ذهبت إلى الدوحة عاصمة قطر في أوائل السبعينيات، وبينما يجري معي المذيع حديثا في الراديو، فإذا به يفاجئني بحكاية السيارة كاملة، وبالأبيات التي نشرت بمجلة الصباح، والتي كنت نسيت أمرها تماما.
وهكذا كان أبي في معاملتي لي أنا وشامل أما إذا عامل أختي فالأمر مختلف كل الاختلاف؛ فهو يفيض عليها ألوانا من الحب الذي لا يحاول أن يتخفى ولا يستتر.
أما والدتي فقد كانت تفيض عن نهر متدفق من الحنان والرحمة والحب، ولكنها مع ذلك كانت تعرف متى تغضب ومتى تعاقب، تذكر لها سيدة جليلة من قريباتنا أنها دخلت يوما إلى منزلنا فرأتني واقفا أمام مرآة أرجل شعري ومن خلفي أمي كلما رجلت أنا شعري نكشته هي وأنا أصر على الترجيل، وهي تصر على النكش؛ فقد كانت تأبى لي منذ الطفولة أن يكون اعتزازي بشعر مرجل.
وأذكر أنا أنني كنت في الابتدائية، وكان الامتحان قد اقترب، ودخلت أمي إلى حجرة نومي، فوجدتني أقرأ في كتب غير كتب المدرسة، فثارت علي ثورة جامحة، وكنت واثقا من مكانتي عندها، فرأيت أن أهددها بهذه المكانة، فإذا أنا أصيح: «والله العظيم أنتحر.»
فإذا هذه الأم التي تعبد أولادهما بعد الله، والتي لم تتجاوز في تعليمها مرحلة القراءة والكتابة تذهب إلى الشباك في خطى واثقة ثابتة جليلة، وتفتح الشباك وهي تقول في حسم: تفضل انتحر.
وانكسرت حدتي وعلمت منذ ذلك اليوم أن الموت قد يصب الذعر في نفس الأم إذا اقترب من ابنها، ولكن الخيبة أيضا تفعل الأمر نفسه.
كان أبي وأمي في طليعة الجيل الذي كان ينادي كل منهما الآخر باسمه مجردا. وقد يدهش القارئ من هذا الذي أقول، وربما تزول هذه الدهشة إذا علم أن الجيل السابق لهما، وكثيرا من جيلهما كان الزوجان من أبنائه يتناديان بالألقاب، فتقول الست فلان باشا أو فلان بك، ويقول الرجل: يا هانم أو يا فلانة هانم، وهذا ما لم نشهده نحن في بيتنا، وإنما شهدته في بيوت بعض أقاربنا ممن هم في جيل أبي وأمي.
كان أبي متحضرا في ثقافته تحضرا لا أراه في كثير ممن يعيشون معنا الآن، كان أبي مثلا يعجب بالكتاب الروائيين وكتاب المسرح إعجابا لا حدود له، وربما يرجع ذلك إلى ثقافته الفرنسية الواسعة، وإلى حبه للغة الفرنسية وإجادتها إجادة المثقفين من أبنائها. وإني أرى كثيرا من الأدباء المعاصرين، وخاصة من الشعراء لا يعتبرون الرواية أو القصة أدبا على الإطلاق، ويكثر هؤلاء بصورة واضحة في الشعراء العرب خاصة.
وقد شعرت في أسفاري في البلاد العربية أنني لو لم أكن من كتاب المقال الأدبي والسياسي ما وضعني هؤلاء الشعراء في عداد الأدباء أو الكتاب.
ومن مظاهر الحضارة المذهلة في خلق أبي أنني حين كنت في السابعة من عمري، وكنت في السنة الأولى الابتدائية بمدرسة المنيرة أعجبت بالموسيقى، وكان بالمدرسة فرقة موسيقى يشرف عليها عازف الكمان الشهير إسماعيل العقاد، وانضممت أنا إلى هذه الفرقة، وطلبت من أبي أن يشتري لي آلة كمان لأعزف عليها؛ ففرح لمطلبي فرحا بالغا، وسارع بشراء الكمان، وكان ثمنها في ذلك الحين خمسة جنيهات. وناهيك بخمسة جنيهات في سنوات الأزمة الطاحنة، إلا أنني للأسف أخلفت ظنه، ولم أفلح في العزف على الكمان، ولم أتجاوز في هذا الفن عزف السلم الموسيقي. •••
إن ذكرياتي في بيت شارع الملك الناصر تنثال على ذهني، فما أدري أيها أترك وأيها أثبت، مع أنني تركت هذا البيت، وأنا أخطو إلى الثانية عشرة من عمري.
لا أستطيع أن أنسى مثلا أن محمد باشا محمود زعيم حزب الأحرار الدستوريين وابن الرجل الذي عرض عليه الملك فأبى كان يزور أبي كثيرا في هذا البيت، وكان أحيانا يأتي وأبي في الدور الأعلى لم يكمل ارتداء ملابسه، فكان يأمرني أن أذهب، فأجالس محمد باشا محمود حتى ينزل هو، ولم أكن أجد في هذا الأمر غرابة، ولم أتبين هول الموقف الذي كنت أتعرض له إلا حين بلغت السن التي تمكنني من معرفة قدر الرجل الذي كنت أرسل لمجالسته.
وأذكر أن محمد باشا جاء يوما يسأل عن أبي، وكنت ألعب في فناء البيت، وحين رأيت سيارته تقف بباب المنزل قصدت إليه، وكأنني أقصد إلى صديق مثلي، وسألني عن أبي، ولم يكن بالمنزل، فجاذبني الحديث فأخبرته أنني طلبت من أبي كرة، فأبى أن يشتريها لي، وقد رويت له ما رويت، وكأنه ترب من أتراب ملعبي أفضي له بمضايقاتي في الحياة.
وفي اليوم التالي كانت سيارة محمد باشا تقف بالباب، ويتدحرج منها كرة من أفخر الأنواع، وأذكر أن ماركتها كانت حرف تي بالإنجليزية، وكنا نحن الأطفال نسمع عن عظمة هذه الماركة كأنها حلم من الأحلام هيهات أن يتحقق لنا رؤيته.
وأذكر أيضا من العظماء محمود باشا عبد الرازق كبير عائلة عبد الرازق، وكان يحبني، وكان إذا جاء إلى البيت يحرص أن يسأل عني قبل أن يسأل عن أبي، فإذا وجدني راح يلاعبني ويداعبني، ولا يعنيه إن كان أبي موجودا أم لا حتى يأتي أبي. أما الرجل الذي اعتبرني ابنه، وكان دائم السؤال عني فهو الشخصية الإسلامية والسياسية الأسطورية عبد الحميد بك سعيد، وكان رجلا ضخما لم أر أحدا في مثل مهابته، وكان ملتحيا، وكان يمسك بعصا غليظة لم أر شبيها لها.
وقد علمت حين كبرت قليلا أنه لم يتزوج، وكان إخوته حين يلحون عليه أن يتزوج يقول: «يكفيني ثروت بن دسوقي فهو ابني.»
ذهبت مرة إلى مجلس النواب، وأنا في العاشرة من عمري، وكان أبي وكيلا لمجلس النواب، ولقيني عبد الحميد بك سعيد وأنا في طريقي إلى حجرة أبي بالمجلس، فإذا هو يقبل علي في تهليل عظيم، وفي ترحيب خجلت له، وراح يقول: «أجيب لك إيه؟ أديك إيه؟ خذ.» وأعطاني سبحته ذات الحبات التسع والتسعين، وصحبني إلى حجرة أبي، وطلب لي كوب خروب، وكان بوفيه المجلس شهيرا بخروبه.
وانتقلنا إلى بيتنا في العباسية رقم 10 شارع الجنزوري، وكان يقع على ميدان كبير. وكان البيت غاية في الفخامة إذا قورن ببيت الملك الناصر، وغاية في الضخامة إذا قورن بغيره من البيوت. ولا يمكن أن نطلق عليه قصرا بأي حال من الأحوال إنما كان بيتا واسع الأبهاء، رحب اللقاء، بعيدا عن الفخامة إذا أنت قارنته بقصور الأثرياء. كان البيت مكونا من طابقين في كل طابق سبع غرف، وكان البدروم أيضا يحتوي على سبع غرف، وكان بالسطح أربع غرف، فالبيت إذن كان مكونا من خمس وعشرين غرفة، وكان له سلاملك يصلح للسكنى، ولكن صاحب البيت الذي باعه لنا المهندس حسين عزي كان قد باع السلاملك قبل أن يبيع لنا البيت، واشترى أبي هذا السلاملك قبيل وفاته بسنوات قليلة، ثم بعنا نحن البيت والسلاملك جميعا بأثمان غاية في الضآلة بعد وفاة أبي، فلم يكن من المعقول أن نحتفظ بهما، وقد أصبح لكل منا نحن الأخوة الأربعة أسرته الخاصة.
مكثت في هذا البيت منذ أول يناير عام 1939م حتى 11 يونيو عام 1950م، وهو اليوم الذي تزوجت فيه، وانتقلت إلى بيتي بالزمالك؛ لأكون أسرتي مع زوجتي ابنة عمي الشاعر الكبير عزيز باشا أباظة، وعزيز باشا ليس في مكان عمي إذا نظرنا إلى الترتيب الأسري، وإنما نشأت أقول له يا عمي لفارق السن. أما هو ففي مكان ابن عمي؛ لأن أباه ابن عم أبي.
حين ذهبنا إلى العباسية كنت أنا متقدما للشهادة الابتدائية، وقد رأى أبي أن ينقلني إلى مدرسة العباسية القريبة من البيت، وقد نلت منها الشهادة الابتدائية، ثم دخلت مدرسة فاروق الأول النموذجية، وظللت بها حتى السنة الرابعة الثانوية. وبالطبع كان الناجح في هذه السنة يمنح شهادة كانت تسمى شهادة الثقافة، وبالطبع كنت مصمما أن أنتسب إلى القسم الأدبي في التوجيهية التي تقابل اليوم الثانوية العامة، ولم يكن بمدرسة فاروق قسم أدبي، فانتقلت إلى مدرسة فؤاد الأول، ونلت منها التوجيهية، وتقدمت إلى كلية الحقوق عام 1946م، وتخرجت فيها عام 1950م، وكنت تزوجت قبل أن تظهر النتيجة، والعجيب أنني نجحت في جميع سنوات الانتقال في الكلية إلا في السنة النهائية التي تزوجت بعد الانتهاء من امتحاناتها. فقد ظهرت النتيجة، واتضح أن عندي ملحقا في علمين؛ فكنت أذاكر وأنا متزوج، والحمد لله نجحت، ولم أضطر إلى إعادة السنة، وهكذا تسلمتني زوجتي أبقاها الله ورعاها، وأنا طالب لا أزال.
أنا والكتابة
كنت في السنة الرابعة الثانوية بمدرسة فاروق الأول، وكان الأستاذ ضاحي هو مدرس اللغة العربية، وقد طلب إلينا أن نكتب موضوع إنشاء أذكر عنوانه الآن، وكتبت الموضوع، واستعملت فيه فعل تساءل على وزن تفاعل، فإذا الأستاذ ضاحي يضع خطا أحمر تحت الفعل، ويقول: «تساءل على وزن تفاعل، وتفاعل أي تبادل الشيء بينه وبين إنسان آخر، فالفعل خطأ.
وذهبت إلى البيت وكشفت في القاموس فوجدت الأستاذ مخطئا خطأ فادحا، فكتبت كلمة عن خطأ الأستاذ.»
وكنت في ذلك الحين أنعم بصداقة من نوع عجيب هي مزيج بين الأستذة والصداقة في وقت معا؛ فقد كان الأستاذ العوضي الوكيل الشاعر العظيم من الذين يحبهم أبي حبا جما، وكان يزورنا يوميا، وطلب إليه أبي أن يستقدم لنا مدرس لغة إنجليزية لي ولأخوتي، فصحب إلى بيتنا الأستاذ عثمان نويه الذي قامت بيني وبينه هذه الصلة؛ فقد كان أديبا من الطبقة الأولى في اللغة العربية والإنجليزية على السواء، ومنذ اللقاء الأول شعر كل منا أنه قريب إلى الآخر قربا لا يكون إلا بصداقة سنوات طوال، وكان والد الأستاذ عثمان نويه قاضيا شرعيا زميلا للأديب العملاق أستاذ الأجيال، وعميد كلية الآداب في ذلك الحين أحمد بك أمين، وكان أستاذنا أحمد بك أمين يرعى شئون عثمان نويه وإخوته بعد وفاة والدهم، فكان منه بمثابة الابن.
أطلعت عثمان على ما كتبت، وسألته إن كان يمكن أن ينشر لي هذه الكلمة بمجلة الثقافة، وكان عمري إذ ذاك ستة عشر عاما فشجعني.
وذهب بالكلمة إلى أحمد بك أمين، وعرضها عليه، وحين قرأها الأستاذ العميد قال لعثمان: «أهي لمدرس زميلك.» وتردد عثمان قليلا، وقال: «إنما هي لمحام صديق.»
وفجئت بالكلمة تنشر، وكنت قد مهرتها بتوقيع تلميذ قديم، واتخذت لها عنوانا تصحيح أوراق.
ولم تسلم الكلمة من بعض الحذف، ولكنها على أي حال نشرت، وأنا اليوم أكتب هذا الكلام، ولي بين يدي القراء أكثر من خمسة وثلاثين كتابا، ولكنني لم افرح بظهور كتاب لي ولا حتى كتابي الأول ابن عمار قدر فرحي بنشر هذه الكلمة الصغيرة القليلة في باب البريد، وبتوقيع لا يحمل اسمي. وربما أدرك القراء من الشباب أنني محق في هذا الفرح إذا هم علموا معنى أن ينشر كاتب في مجلة الثقافة التي يرأس تحريرها أحمد بك أمين جميعا، وتشرف عليها لجنة التأليف والترجمة والنشر بمن فيها من أسماء يعتبر كل اسم منها أمة في ذاته.
وقد سعد أبي أن نشرت في الثقافة، ولم يكن صديقا لأحمد بك أمين، وإنما كان يعرفه معرفة قارئ لكاتب.
أحدث نشر الكلمة انفجارا في المدرسة، فقد عرف زملائي جميعا أنني كاتبها، فالحوار الذي قرءوه فيها كان بمشهد منهم. كان التلاميذ في ذلك الحين يقرءون المجلات الأدبية.
واستدعاني ناظر المدرسة الرجل العظيم نجيب بك هاشم أطال الله عمره، وطلب إلي في عذوبة ورقة ألا أكتب شيئا بعد ذلك عن أساتذتي، ووعدت بذلك، والفرحة تخفق خفق أجنحة النسر بين ضلوعي.
ذهب عثمان نويه إلى أحمد بك، وأخبره أن صاحب الكلمة تلميذ بالسنة الرابعة الثانوية التي كانت تسمى الثقافة، والعجيب أن أحمد بك فرح بدلا من أن يغضب، وطلب أن يراني.
وتولاني الرهب وأنا في طريقي إلى الأستاذ العميد، ولكن كم كان أنيسا وأبا وإنسانا، أبدى رضاءه عني، وكان مني بعد ذلك بمكان الأستاذ الحاني أو الأب الشفوق.
وطلب إلي أن أكتب، فكتبت مقالة عن الشاعرين أحمد القرعيش وتوفيق عوضي أباظة بعنوان «شعراء مجهولون»، واخترت أبيات الأستاذ توفيق التي شكا بها عزيز باشا إلى جمال بك.
ولم تنشر الكلمة، وانتظرت طويلا، والعجيب أن أبي رحمه الله كان ينتظر معي، ولم تنشر الكلمة.
وأقبل الصيف وانتقلنا إلى رأس البر، وكنت أذهب كل أسبوع إلى مرسى العبارة القادمة من دمياط إلى رأس البر، وأشتري مجلة الثقافة ولا أجد الكلمة، وتولاني حزن شديد، وفي يوم نزلت إلى البحر، فإذا بي أرى عن بعد رجلا يلف وسطه بقرعتين ويضرب الماء بيديه في كبرياء وجلال. اقتربت منه فإذا هو أحمد بك أمين، كم فرحت! وسألته عن الكلمة فقال: «لقد طلبت إليهم أن يؤجلوا نشرها حتى نستأذن عزيز باشا.»
قلت: «وفيم الانتظار، أكتب أبياتا أخرى للشاعر نفسه.»
قال: «يكون أحسن.»
وطرت من الفرح، وذهبت إلى البيت ورويت لأبي ما كان، وكتبت المقالة نفسها؛ فقد كنت أحتفظ بصورة منها، واخترت لتوفيق أبياتا أخرى.
وفي الأسبوع التالي نشرت المقالة كما كتبتها تماما، كم كان أسبوعا رائعا في حياتي؛ فقد ظهرت فيه نفسه نتيجة الثقافة، وجاءتنا برقية من أستاذي وقريبي الأستاذ عبد الله عوضي أباظة المدرس بوزارة المعارف يهنئني بنجاحي وحصولي على شهادة الثقافة.
لقد اختصر أحمد بك أمين من كلمتي الأولى حين هو يعتقد أنني محام، ولكنه منذ عرف أنني تلميذ لم يضع قلمه في مقال لي قط.
فقد توالى نشري بعد ذلك للمقالات في الثقافة، وكنت أزور العميد في بيته وحدي أحيانا، أو مع عثمان أحيانا أخرى. وأذكر أنه نصحني بقراءة كتب كثيرة من التراث أذكر منها العمدة لابن رشيق، والأمالي لأبي علي القالي وغيرهما، وأذكر وأنا طالب في التوجيهية أن ظهرت رواية العباسة لعزيز باشا، وقد أنعم عليه الملك برتبة الباشوية تقديرا لشاعريته بمناسبة رواية العباسة.
ولكن الأستاذ يحيى حقي كتب في مجلة الثقافة مقالة غاية في العنف يهاجم رواية العباسة، ويهاجم عزيز باشا في ضراوة أذهلتني. وكتبت مقالة أرد عليها، والشباب اندفاع وتهور فقد كنت فيما كتبت قاسيا غاية القسوة، وأرسلت المقالة إلى مجلة الثقافة.
ولم ينقض يومان، حتى فوجئت بأحد الخدم في بيتنا يقول: كلم التليفون، قلت: من؟ فقال في بساطة: أحمد أمين، وذهبت وجريت إلى التليفون، فلم يكن العميد قد طلبني قبل ذلك اليوم قط. وشعرت بالرهبة أن يطلبني أنا التلميذ بالثانوي عملاق من عمالقة لغة الأدب في العالم العربي وعميد كلية الآداب.
جريت إلى التليفون، وجاءني صوته الطيب البسيط الهادئ: «أنا أكلمك كأحمد أمين الوالد لا أحمد أمين رئيس تحرير الثقافة. مقالتك في الرد على يحيى حقي في المطبعة فعلا، ولكنني أرجوك أن تخففها، فإن الرجل فقد زوجته منذ قريب، ولا أحب أن تسيء إليه وهو في حالته هذه. إن رأيت أن تستجيب لرجائي أكون شاكرا، وإن رأيت أن تبقي المقالة كما هي فهي فعلا في المطبعة.» وقلت في إذعان سريع ودون ريث تفكير: «أمرك يا سعادة البك.»
وكنت أتكلم من حجرة مكتب أبي في البيت، فاستبحت لنفسي أن أجلس على مكتب أبي فورا، ولا أضيع وقتا في الانتقال إلى حجرة مكتبي، ورحت أكتب المقالة في ردي عليه ودون هجوم، ونزلت من فوري وذهبت إلى مقر مجلة الثقافة بشارع الكرداسة، ودخلت إلى المطبعة مباشرة دون أن أصعد إلى عم عبد المتعال المشرف الإداري على المجلة.
كان العميد صادقا، ومن الحتم أن يكون صادقا، وجدت مقالتي في المطبعة فعلا، فطلبتها من الطابع، وأعطيته المقالة الأخرى، وأحسب أنها نشرت دون حتى أن تمر على العميد رئيس التحرير . كم كان عظيما ذلك الرجل أحمد بك أمين.
العجيب أنني لم أكن قد تعرفت بالأستاذ يحيى حقي حتى ذلك اليوم، ولكنني كنت قرأت له قنديل أم هاشم، وأعجبت بها في ذلك الحين كل الإعجاب كما أعجب بها أبي. وأذكر أن أبي هو الذي أعطاها لي وهو يمدحها، ولكنه أمرني ألا أقرأها إلا بعد أن أنتهي من الامتحان الذي كان وشيكا، ولكنني خالفت أمره وليغفر لي الله. وأقفلت على نفسي حجرة مكتبي في نفس اللحظة التي تركني فيها أبي، ولم أخرج إلا بعد أن انتهيت من قراءة القصة.
إنما عرفت الأستاذ يحيى حقي شخصيا بعد ذلك حين أصبح أبي وزيرا للخارجية، وكان الأستاذ يحيى حقي مديرا لمكتب وزير الخارجية. وقدمني أبي إليه فنظر إلي مليا، وقال لأبي: «لقد تعرفت عليه قبل ذلك دون أن أراه من مقالته عني في مجلة الثقافة، وضحك الرجل وضحك أبي وشعرت أنا ببعض الحرج.»
حرج المواجهة فقط، فلم يكن بالمقالة ما يحرج بعد أن أعدت كتابتها استجابة لرجاء الوالد أحمد أمين لا رئيس التحرير كما شاء هو أن يتلطف في الرجاء.
كان هذا هو بدء الكتابة عندي، ثم جاءني رسول من الأستاذ العظيم أحمد حسن الزيات صاحب الأسلوب الذي لا مثيل له في عصره، وقد تبناني الرجل، وأصبحت من كتاب الرسالة، ولا أحسب أنني في حاجة أن أذكر المجلات التي كتبت بها، وحتى إذا حاولت فالذي لا شك فيه أن الذاكرة ستخونني.
ولكن ربما يجمل بي أن أذكر كيف كتبت كتابي الأول ابن عمار. كان ذلك عقب وفاة أبي الذي انتقل إلى أكرم جوار في 22 يناير عام 1953م، ولكن يبدو أن هناك كثيرا مما يقال قبل أن أصل إلى بداية تأليفي للكتب.
الكتب
فقبل ذلك اتصلت أسبابي بالشاعر الكبير والد زوجتي عزيز باشا، وقد يعجب القارئ من قولي اتصلت أسبابي، وكأنني لم أكن أعرفه، والقارئ محق إذا عجب. لقد كانت صلتي به وثيقة منذ ولدت بطبيعة الحال، ولكن هناك فرق أن يعرفني كابن لأبي وبين أن يعرفني كواحد من هواة الأدب، والأسرة الأباظية كثيرة العدد، وهكذا لا يمكن أن تكون صلة البيوت بعضها ببعض على درجة واحدة، ولكن صلة بيتنا ببيت عمي عزيز باشا كانت من أوثق الصلات، فزوجته وأمي كانتا صديقتين لصيقتين، وكانت صلة عمي عزيز بأبي صلة أخ أصغر بأخ أكبر يحبه ويقدره غاية التقدير. وربما كان من الطريف أن أنقل هنا قصيدة كتبها عزيز باشا، وهو بعد طالب بكلية الحقوق عام 1924م يهنئ فيها أبي بمناسبة زواجه من والدتي وهي في نفس الوقت ابنة عم أبي. ولم يكن يقع في حسبان عزيز أباظة أن هذا الزواج سيثمر من سيصبح فيما بعد زوجا لصغرى ابنتيه. يقول عزيز أباظة الطالب بكلية الحقوق:
حي الغزالي وقل بلغت منزلة
منفوسة في الشباب المونق الحالي
موفورة الحظ من شأو يقصر عن
إدراكه غيره إلا بآمال
قالوا: الشبيبة طرف اللهو محتدما
فقلت: بل طرف أخلاق وأعمال
وقفت أنضر أيام الحياة على
درك المحامد فينا والسنا العالي
فنلت في غير عسر ما نهضت له
والمجد صعب على طلابه غالي
يا صاحب القلم السحري ترسله
فيبعث الآي في أسلوبها الحالي
وصاحب الخطب الفيحاء تنثرها
نثر اللآلئ في قاعات لآل
ليهنك اليوم أن تبنى بطاهرة
بين الندى نشأت والنبل والمال
غنى بفضل أبيها الناس قاطبة
ووفقت بعد في عم وفي خال
زين الغواني الأباظيات قد ظفرت
بالنافع المرتجى والباذل الغالي
الساكب العرف والمأمول جانبه
والصائب الرأي والتدبير والقال
إن الزواج لمؤت خير عاقبة
إذا التزاوج لم يخرج عن الآل
لا تصغ للطب في هذا وخذ ثمر الت
جريب تحيا رضي النفس والبال
تحنو علي وترعى غيبتي أبدا
على الليالي بنات العم والخال
يرضين علمي وجهلي لا يضقن به
ذرعا ويحمدن إكثاري وإقلالي
ويغتبطن بإجمال يشدن به
وقد يكون ضئيلا شأن إجمالي
لزلتما تشهدان العيش متسقا
والدهر في حدب منه وإقبال
وقد ظلت هذه العلاقة عائلية، وكنا نحن الأبناء نتسامع بشعر عمنا عزيز، ولكن لم يكن له عمل شعري متكامل، وكان تصورنا أنه مجرد هاو يقول الشعر في المناسبات العائلية الظريفة يحيي بها أقاربه، حتى فجعه الدهر، وفجعنا جميعا بوفاة السيدة زوجته التي عاشت ما عاشت من عمر شعاعا من نور وحب على كل أقربائها. ما اختلفت يوما مع أحد، ولم نسمع عنها نحن الذين في عمر أبنائها إلا المديح والثناء، ومثلنا نحن الأطفال يسمع ما لا يسمعه الكبار، فالسيدات لا يتحرجن أن يذكرن غيرهن بصراحة أمامنا، وأشهد الله ما رأيت من هذه السيدة إلا سماحة في اللقاء، وإشراقا في التحية وترحيبا في الاستقبال. وما سمعت عنها من سيدة في الأسرة إلا ما يجعلها في مرتبة رفيعة من الإنسانية، فكأنما كانت بينهن ملاكا لا يصنع إلا النور، ولا يشيع إلا الرضا والإيناس والطمأنينة.
وتفجر ينبوع الشعر في إهداء زوجها الشاعر الأصيل الذي كان قبل وفاتها لا يجد ما يقول فيه، وشاء القدر أن يكون الألم المرير والفجيعة القاصمة وشجرته التي اجتاحها القدر هي التفجير لموهبته الشامخة، فكان ديوانه الأول أنات حائرة الذي أصعده شهابا في سماء الشعر العربي دون أي تمهيد عند من لا يعرفونه، ثم كان بعد ذلك عزيز أباظة ثاني اثنين في ميدان المسرح الشعري، وآخر العمالقة في جيل شوقي وحافظ ومطران.
حدث أن قرأت له محاضرة يقول فيها: «والنصائح هي أثقل الطيبات على النفوس.» وأعجبتني العبارة واستعملتها في مقالة لي نشرت بجريدة الثقافة وقرأها عمي عزيز، وكأنما عجب أن يقول فتى يافع في عمر ابنته ما قاله هو، وفوجئت به يطلبني في البيت يبدي إعجابه بالمقالة، فقلت له: «إن أهم ما فيها العبارة التي اقتبستها منك.» وتعجب أن أكون قد حصلت على المحاضرة، فقلت له: «إنها طبعت، وجاءني منها نسخة.» وبدأت بيني وبين عمي عزيز علاقة أدبية هي علاقة شاب بأبيه وعلاقة معجب بعملاق. وكان عمي عزيز مديرا لأسيوط ذلك الحين، فكنت أنا أقوم بالإشراف على طبع رواياته في القاهرة كما قمت بتصحيح اللغة العربية للممثلين في مسرحياته ، ومع الأيام كانت العلاقة تتوطد، زادها قوة حب عارم نشأ في قلبي لابنته عفاف .
نوع عجيب من الحب؛ فهو جارف عنيف مندفع متدفق وهو في نفس الوقت بعيد عن اللوعة والأسى والخوف والسهر والوجد، وأحسب أن قليلا من الناس نعموا بهذا الحب. وإني واثق أن الندرة من الناس نعموا بما نعمت به من أعقاب هذا الحب الذي أصبح زواجا، وأصبح الزوجان فيه فردا لا اثنين. كل منا يسعد للآخر أكثر آلاف المرات مما يسعد لنفسه، وكانت ابنتي ونور عيني وإشراقة نفسي ابنتي أمينة، وكان ابني ونور أيامي وشعاع طريقي دسوقي.
وفي يوم سافر عمي عزيز إلى الخارج، وعهد إلي أن أضبط الشكل على قواعد النحو مع المخرج العظيم فتوح نشاطي الذي كان بسبيله إلى إخراج رواية غروب الأندلس. وتوثقت صلتي منذ ذلك اليوم بالأستاذ فتوح نشاطي. وكنت في ذلك الحين قد بدأت أكتب تمثيلياتي الإذاعية بناء على دعوة من الأستاذ علي الراعي؛ فقد لقيته في ترام العباسية، وعرفت منه أنه سيسافر بعد بضعة شهور إلى لندن ليحصل على الدكتوراه، وأبدى الأستاذ الراعي الذي أصبح فيما بعد الدكتور علي الراعي إعجابه بالمقالات التي يقرؤها لي في الثقافة والرسالة وخص بإعجابه لغة الحوار؛ مما حدا به أن يدعوني أن أكتب تمثيليات إذاعية، وأشهد الله أنني لولا هذه الدعوة من الدكتور الراعي ما فكرت مطلقا في كتابة تمثيليات للإذاعة.
وكنت حين اتصلت أسبابي بالأستاذ فتوح قد كتبت عدة تمثيليات مما جعله يعرض علي أن أشترك في كتابة مسرحية عن الصداقة التاريخية بين المعتمد بن عباد الأندلسي ووزيره ابن عمار، وطلب إلي أن أقرأ تاريخ الأندلس للعلامة دوزي، وكان الأستاذ كامل كيلاني قد ترجمه إلى العربية.
وقرأت الكتاب وكتبنا المسرحية معا، ولكنني أنا وضعت عيني على شخصية ابن عمار كنموذج درامي قل أن يتكرر.
أما مصير المسرحية فقضى عليه الأستاذ يوسف وهبي برفضه لها رفضا قاطعا، وأنا الآن وقد بعد العهد بيني وبينها لا أدري هل رفضها لأنها تستحق الرفض أم لأسباب أخرى؟
ولم تمض إلا شهور قليلة، حتى فجعني الدهر بموت أبي، وكانت ضربة قاصمة بالنسبة لي ؛ فلم يكن مجرد أب أو مثل أعلى أو شخصية أسطورية أو حياة كاملة بالنسبة لي، وإنما كان هذا جميعا وأكثر.
وفي نفس الفترة فجعت بوفاة طفلي الأول وهو جنين، وأصبحت حياتي ظلاما قاتما.
وكنت في ذلك الحين أعمل بالمحاماة، ولكنه كان عملا غير منتظم. فالمحاماة في ظل الحكم القاهر الشمولي لا حياة لها.
وكنت أحب أن أبدأ حياتي بوظيفة، وقد حصلت على شهادة الحقوق، وأنا زوج، وطلبت إلى أبي أن يوصي بي صديقه اللصيق د. حافظ عفيفي باشا الذي كان رئيس مجلس إدارة بنك مصر، فقال في حسم: «أتنتظر مني أن أرفع سماعة التليفون، وأطلب من أي شخص أن يعين لي ابني؟»
وصمت، وأدركت كيف لرجل عاش عمره مقصد الرجاء للناس أن يرجو هو الناس من أجل ابنه الذي هو ابنه، وهكذا لم أشغل وظيفة جديرة بهذا الاسم إلا بعد ذلك بربع قرن، حين اختارني الزعيم الخالد أنور السادات رئيسا لمجلس إدارة مجلة الإذاعة والتليفزيون.
وهكذا كانت سنة 1953م سنة من أعظم السنوات بلاء بالنسبة لي، وأي بلاء يمكن أن يحيط بإنسان أكثر من أن يفقد أعظم إنسان في حياته وأحب إنسان إليه.
وهو من قبل ومن بعد أبوه. ويفقد في نفس الفترة أول طفل قبل موعد ولادته بأيام، ولا يجد ما ينسيه بلواه، وقد تعددت أشكال بلواه. فهو في نفس الوقت ليس له عمل ثابت يستطيع وهو يؤديه أن ينسى شيئا مما يتكدس في حناياه من أحزان.
في هذه الأيام بدأت كتابة رواية ابن عمار، وكان كل أملي وأنا أكتبها أن أجد لها ناشرا. وحين انتهيت منها توجهت إلى الأستاذ عادل الغضبان المشرف على النشر في دار المعارف، وكنت أعرفه من قبل. وكان يقرأ ما أكتبه في الجرائد؛ فقد كنت في ذلك الحين أكتب في جريدة المصري بصورة منتظمة؛ فقد كان لي عمود أسبوعي في الصفحة الأخيرة بعنوان «أضواء». وكان صديقي عبد الرحمن فهمي رئيس القسم الرياضي بجريدة الجمهورية الآن زميلا لي في كلية الحقوق، وكان آل أبي الفتح أخواله ، وهكذا أصبح لي عمود ثابت في جريدة المصري، وكنت أكتب بشكل غير منتظم في كثير من المجلات في ذلك الحين، وهكذا وجد الأستاذ الشاعر عادل الغضبان أن اسمي لن يكون غريبا على القارئ إذا هو نشر الكتاب، ففعل.
كنت قد تعرفت بأستاذنا العظيم توفيق الحكيم في عام 50، وسأروي لك كيف تم ذلك. حين ظهر كتابي «ابن عمار» أهديته إليه، فأعجب به كل الإعجاب، وقال إنه يصلح سينما، وقال إنه كان يفرك الصفحة الأخيرة بأمل أن يجد صفحة أخرى. وملأني الزهو بهذا الرأي. وطبعا أهديت نسخا من الكتاب للأصدقاء في جميع الجرائد والمجلات، وقد كانوا كثيرين وعجبت أن أحدا منهم لم يذكر شيئا عن الكتاب على الإطلاق، وكنت أجلس مع أستاذنا الحكيم في جروبي سليمان باشا، وشكوت له إهمال النقاد هذا، فقال: «إن الشهرة تأتي إليك إذا ذهبت إلى بار في أحد الكباريهات، واتفقت مع راقصة إما أن تصفعك قلما أو تصفعها قلما تصبح مشهورا في لحظة. أما طريق الكتب هذا فطريق وعر وغير مضمون على الإطلاق.» فضحكت فأنا لم أجلس في حياتي إلى بار، ولا ذهبت عمري إلى كباريه. كما أنني لست أسعى إلى الشهرة ولا تعنيني، وإنما كنت أريد أن أكتب، وأحس أن هناك من يقرأ لي، وأقبل الصيف وكنت أجالس أستاذنا الحكيم في مقهى بترو وحدث أن ذهبت إلى المقهى مبكرا بعض الشيء، فوجدت توفيق بك وحده. وما إن قعدت حتى التفت إلي وقال: «مبروك يا سيدي.»
وأحسست رنة عجيبة في صوته.
فقلت: «علام؟»
فقال: «قرروا كتابك على طلبة الإعدادية هذا العام.»
وكدت أطير من الفرح وسألته وأنا أحاول أن أخفي فرحي: «أين قرأت هذا؟»
فأعطاني جريدة الأخبار، فوجدت الخبر مكتوبا في ركن أخي الأستاذ أنيس منصور، وتفضل الذي كتب الخبر، فوضع بعده علامة تعجب. وكأنما لم يكف الصحافة إهمالها بشأن الكتاب، وإنما راحت أيضا تتعجب أن وزارة المعارف قررته على طلبتها في الإعدادية. وكم كان الأستاذ توفيق الحكيم خفيف الظل وظريفا، وهو يقول في عفوية: «شوف ولاد الكلب ياخدوا كتابك ويسيبوا كتابي.»
وبتقرير كتابي «ابن عمار» تشجع أن ينشر لي روايتي «هارب من الأيام»، وقد نلت عليها جائزة الدولة التشجيعية في أول إنشائها، وكان لهذه الرواية قصة مع عميد الأجيال الدكتور طه حسين، وإني راويها لك إن شاء الله في مكانها الذي ستفرضه هي علي.
شخصيات
(1) عبد الفتاح الشناوي
هناك شخصيات كثيرة في حياتي، اخترت بعضها لأنني لا أتصور أن أكتب هذه الذكريات ولا تكون هذه الشخصيات جزءا منها. ولو كنت أكتب رواية ما تولتني الحيرة التي تتولاني الآن، فالشخصية في الرواية أنا أصفها للموقف الذي أصنعه أنا أيضا، ولكن حياتي وذكرياتي ومن عرفتهم لا حرية لي في شأنهم إلا حرية الاختيار. ولو أطلقت لنفسي العنان وذكرت أقاربي جميعا وأصدقائي جميعا لما أمهلتني الحياة حتى أنتهي من كتابي هذا. وأحسب أن الحسم القاطع هو خير وسيلة لي في اختيار الشخصيات.
منها ذلك الرجل العظيم الذي تربطني به حتى اليوم صداقة لا عهد للناس بها إلا في القليل النادر من الصداقات.
إنه عبد الفتاح الشناوي، عرفه أبي أول يوم عرفه وهو طالب ثائر بكليته العتيدة دار العلوم، وكان أبي عرف أن الشرطة تحاصر الطلبة في الكلية، فذهب إلى هناك، ورأى طالبا خالعا لحلته مكتفيا بملابسه الداخلية، ممسكا بخرطوم ماء، يصد به تشكيلات الشرطة كلما اقتربت من الكلية. وسأل عنه فعرفه، وكان طالبا بالسنة النهائية في دار العلوم. وقبض على الشاب في هذه المظاهرة، ثم سرعان ما أفرج عنه، وعرفته أنا منذ لا أذكر متى؛ فقد كان كثير الزيارة لأبي ونحن ما نزال نسكن بيتنا في شارع الملك الناصر. وأصبح بعد ذلك سكرتيرا لأبي في وزارة المواصلات والأوقاف، ثم مديرا لمكتبه، وعلى اختلاف السن بيننا قامت بيننا صداقة لم تزل حتى اليوم أقوى ما تكون الصداقة، وأحسب أنه مر عليها من الزمن قرابة خمسين عاما. لم أعرف في حياتي نقاء في السريرة، وصدقا في الوفاء، وتمسكا بالعهد، وحفاظا على الكرامة، وفناء من أجل الفكرة أو الصديق مثلما عرفت في هذا الرجل، مع إيمان بالله عميق، وعلم بالشريعة دقيق، ومع تذوق رفيع للأدب، وقلم متدفق صادق مع صاحبه غاية الصدق، حتى لتكاد ترى قلب الرجل يدق في كلماته.
أروي عنه رواية واحدة، وهي حسبي. كانت الثورة في عنفوان سلطانها وجبروتها، وكان هو مديرا لمكتب وزير أوقاف من وزراء الثورة. وجاءه خطاب ممهور بتوقيع مدير مكتب رئيس الوزراء موجها إلى الوزير شخصيا. فأمسك سماعة التليفون، وطلب مدير مكتب رئيس الوزراء: «سيادتك مدير مكتب رئيس الوزراء؟» - «أيوه، إنت مين؟» - «أنا مدير مكتب وزير الأوقاف، سيادتك بعت خطابا موقعا باسمك إلى الوزير؟» - «أيوه فيها إيه دي؟» - «هذا لا يجوز.» - «إيه هو اللي لا يجوز؟» - «أنت إذا أردت أن تخاطب الوزير، فيجب أن يوقع الخطاب رئيس الوزراء؛ لأنه وزير مثله، أما أنت فتخاطبني أنا.» - «إنت عارف بتكلم مين؟» - «أيوه مدير مكتب رئيس الوزراء.» - «أنا فلان عضو مجلس قيادة الثورة.»
وكان اسم فلان هذا يهز الجبال الراسية في ذلك الحين، ولكن الشناوي مضى في حديثه، وكأنه لم يسمع شيئا: «ولكني أكلمك كمدير مكتب رئيس الوزراء؟» - «أما إنت حمار صحيح.» - «إنت ستين حمار.» - «يلعن أبوك ابن كلب.» - «يلعن أبوك ابن ستين كلب.»
وانتهى الحديث، وبعد دقائق نادى الوزير مدير مكتبه: «إيه اللي إنت عملته؟» - «حافظت على كرامتك.» - «ملكش دعوة بي.» - «وهو كذلك.»
وذهب الشناوي إلى بيته، وأعد حقيبة السجن، ولكن الليل مضى ولم يأت أحد، وفي الصباح ذهب إلى مكتبه. ورن جرس التليفون ورفع السماعة: «من؟» - «أقولك من ولا تشتم.» - «أنا لست قليل الأدب.» - «يا سيدي أنا اللي قليل الأدب، حقك علي، أنا فلان.»
إنه عضو مجلس قيادة الثورة عاد إلى وعيه واعتذر.
وقال الشناوي: «يا أفندم العفو.» - «هل يكفيك هذا الاعتذار أم أجيء إليك خصيصا وأعتذر؟» - «لا يا سيدي، هذا فوق الكفاية.»
وبعد سنوات من هذه الواقعة التقى عضو مجلس قيادة الثورة بضابط يحمل اسم الشناوي، فسأله: «هل أنت قريب الشناوي الذي كان يعمل مديرا لمكتب وزير الأوقاف؟»
وقال الضابط: «هو عمي.»
فقال عضو مجلس قيادة الثورة: «لو أن الثورة وجدت في مصر عشرة رجال مثل عمك ما وصلت في طغيانها إلى ما وصلت إليه.»
أطال الله عمر عبد الفتاح الشناوي، فما أحسب أنك تريد مني أكثر مما رويت لتعرف من هو. (2) نجيب محفوظ
حين كنت في مدرسة المنيرة الابتدائية كان يدرس لي الحساب مدرس أحببته كل الحب هو الأستاذ فؤاد نويرة أخو الموسيقار الكبير المرحوم عبد الحليم نويرة، وكان أخوهما الأكبر الأستاذ مختار نويرة صديقا لأستاذنا نجيب محفوظ، وكان لهم ابن أخت يقيم معهم يعتبر اليوم كبير مصوري التليفزيون هو الأستاذ صادق نويرة.
حين انتقلنا إلى بيتنا في العباسية، فوجئت بأن أستاذي السابق فؤاد نويرة يسكن مع إخوته في نفس شارع الجنزوري الذي نسكن فيه، كان مسكنه في أول الشارع رقم 2، وكان مسكننا في آخر الشارع رقم 10.
وسألني يوما: «لمن تقرأ؟» فقلت: «لطه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد وهيكل والمازني.» فقال: «بل يجب عليك أن تقرأ للشباب الجديد.» قالت: «مثل من؟»
قال: «مثل نجيب محفوظ.» - «ماذا يكتب؟»
قال: «روايات وقصصا، وسأحضرها لك غدا.»
وقرأت روايات نجيب المصرية، وقرأت همس الجنون، وكنت قد بدأت أكتب في الثقافة مقالاتي الأولى، واتفقت مع الأستاذ فؤاد نويرة أن يعرفني بالأستاذ نجيب محفوظ، والتقيت به في كازينو أوبرا في أواخر عام 43 أو أوائل عام 44 لا أذكر، ولكني أذكر أنني منذ رأيته شعرت أنني أعرفه عمري كله. وبدأت صداقة ما زالت مزدهرة حتى اليوم في جمال الجدة وعبق العمر. نلتقي فالحديث موصول جديد، وتلتقي منا المشاعر متفقة دائما، ما أندر ما اختلف بيننا رأي، وعند هذا الاختلاف احترم رأيه وأقدره كل التقدير، وأشعر أنه يبادلني نفس الشعور. إنها مرات نادرة أكاد لا أذكر أنها كانت، وربما كنت أروي عنها الآن خشية أن تكون حدثت وأنا نسيتها؛ لأني فعلا لا أذكر أن خلافا في الرأي وقع بيننا قط. أما الخلاف بين الأصدقاء، فالمؤكد أنه لم يحدث مطلقا ، وطبيعي ألا يحدث، فأنا أنظر إليه كأستاذ لي وأخ أكبر، وهو ينظر إلي كأخ أصغر ، ومن الطبيعي ألا يقع خلاف قط.
وإن إعجابي بنجيب ليس مقصورا على فنه، وإنما هو يتسع ويتسع، فيشمل كل مناحي شخصيته لا أستثني منها شيئا إلا تصديقه لكل ما تقوله الجرائد شأن جيله النظيف الذي نشأ في جو سياسي نقي.
أعجبت بنجيب الروائي منذ قرأت له، وأخذ إعجابي يزداد به كلما اتسعت مداركي في فن الرواية والقصة. وكنت قد بدأت في مقالاتي بالرسالة أنقد الكتب، وما زال عندي روايات لنجيب كتب لي إهداءها بقوله إلي الناقد فلان. وأذكر في صيف 1946م، وكنت نلت شهادة التوجيهية، وكنت بالإسكندرية، وكنا في رمضان. وجاءتني منه رواية القاهرة الجديدة.
وكنت قبل مجيئها قد بدأت رواية لكاتب آخر، فعزمت أن أكمل الرواية التي بدأتها، ثم أفرغ لرواية نجيب.
فرغت من الرواية الأخرى في الساعة الثانية صباحا، ولم تعجبني الرواية. فقلت: أقرأ بضع صفحات قليلة لنجيب لأصلح نفسي مما ألم بها من الرواية السيئة التي قرأتها.
بدأت قراءة القاهرة الجديدة، وقد تجاوزت الساعة الثانية من الصباح، واقترب الفجر، فإذا بالعمل الرائع يمسك بتلابيبي لا يتركني حتى أتناول سحوري، ظللت بها حتى انتهيت منها، ولم أكتف بذلك، بل عمدت إلى قلمي، ورحت أكتب رأيي فيها، وأذكر أنني قلت في هذه المقالة إن نجيب محفوظ يقتعد القمة من الرواية العربية دون منازع. وأرسلت المقالة إلى مجلة الرسالة، ثم نمت.
وربما لا يعرف الكثيرون أن نجيب محفوظ كان في مكتب وزير الأوقاف، فقد كان الشيخ مصطفى عبد الرازق باشا في مكان الأب الروحي له. وقد عين نجيب في إدارة الجامعة عند تخرجه، ثم ضمه فضيلة الشيخ مصطفى إلى مكتبه في وزارة الأوقاف حين عين وزيرا لها.
فحين أصبح أبي وزيرا للأوقاف في وزارة إسماعيل صدقي باشا عام 1946م كان نجيب سكرتير وزير الأوقاف لشئون مجلس الأوقاف الأعلى. وكنت أنا قد أصبحت في الجامعة، فهكذا كنت أستطيع أن أذهب إلى الوزارة أغلب أيام الأسبوع، وازدادت صلتي توطدا بنجيب. وكان أبي يقرأ روايات نجيب، وكان معجبا بها كل الإعجاب، وكنت أبلغ «نجيب» إعجاب أبي هذا. ومرت سنوات وكنت أتمشى مع نجيب محفوظ، وأذكر أن ذلك كان في عام 54، وكنت أحثه على الزواج ولم أكن أدري أنه متزوج فعلا.
قطع نجيب حديثي قائلا: «لقد رفعت دعوى على وزارة الأوقاف.»
قلت له: «لماذا؟»
قال: «إن لي درجة متأخرة منذ عشر سنوات.»
وصمت قليلا وأنا أفكر، ثم قلت له: «لقد كنت مستحقا لهذه الدرجة وأبي وزير.»
قال: «نعم.»
قلت: «مع كل هذه الصلة التي بيني وبينك، وزرتني في البيت، وطالما أخبرتك أن أبي معجب بك، ولا تخبرني أنك مستحق لدرجة يستطيع أبي أن يمنحها لك بجرة قلم.»
قال في عدم مبالاة وفي ابتسامة: «وهل كنت أعرفك من أجل أن تسعى لي في درجة، أترضى لي هذا؟»
هذا هو نجيب محفوظ، إنسانا لا نعرف له شبيها بين الناس.
في عام 1967م وبعد الكارثة الحربية رأيت أنه من العار على الكتاب أن يصمتوا جميعا، ووطنهم يدمر هذا التدمير، فبدأت اتصل بالمثقفين، وأعرض عليهم أن نكتب بيانا ونقدمه إلى رئيس الجمهورية نطالب بالحرية، وبعودة الديمقراطية حتى تستطيع مصر مجتمعة بآراء المثقفين والشعب مواجهة هذه المصائب التي حاقت بالبلاد.
ووجدت عندهم جميعا حماسا منقطع النظير، وكتبت البيان، واشتركوا جميعا معي في كتابته. وبدأت مرحلة التوقيع.
فكان عجبا، لقد وقعت أنا ووقع نجيب، وفقط.
لقد وجد كل من اشترك معي في كتابة البيان عذرا، ولم يوقع واحد منهم على البيان الذي اشتركنا في كتابته. وأصبح إرسال البيان عبثا. فأنا ونجيب نستطيع أن نمثل أنفسنا، ولكننا بحال من الأحوال لا نستطيع أن نمثل جميع المثقفين، وهذا هو نجيب محفوظ.
عين نجيب محفوظ رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة السينما، وكانت له سيارة مخصصة من المؤسسة، وكانت ماركة مرسيدس، ولم يكن عند نجيب سيارة خاصة. فإذا هو في بساطة وفي تواضع يأبى أن يركب سيارة المؤسسة ويتركها لمن يليه في الوظيفة، وقد كان شيوعيا معروفا بشيوعيته، وشيوعيته لم تمنعه من ركوب السيارة، ولا يفوتني أن هذا الرجل من خيرة الناس الذين عرفتهم رغم شيوعيته.
ولكن هذا هو نجيب محفوظ.
بيان البيان:
وقد مرت بي وبالأستاذ نجيب محفوظ وبعميدنا الأستاذ الكبير توفيق الحكيم تجربة فريدة في يناير عام 1973م، وقد رأيت أن أثبتها هنا ما دمت قد تعرضت لنجيب، فمن الطبيعي أن نذكر أحداث هذا البيان الذي عرف وقتها باسم بيان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة. وقد كتبت ظروف هذا البيان للذكرى، وإني أنقلها مما كتبت في ذلك الحين، كنت أكلم توفيق بك في التليفون، فطلب إلي أن أذهب إليه في الغد؛ لأنه كتب شيئا ويريد أن يطلعني عليه. فلما كان الغد ذهبت إليه في مكتبه في الأهرام، ولم أكن عينت به بعد، فوجدت عنده إبراهيم منصور ووظيفته الرسمية شيوعي، وكان الأستاذ نجيب محفوظ في مكتبه الخاص بالأهرام مشغولا بحديث إذاعي. وحين جلست إلى توفيق بك قرأ علي بيانا أعده يعبر عن أفكار طالما تحدثنا فيها سواء في سميراميس أو في بترو بالإسكندرية أو في غرفته في جريدة الأهرام، ووجدت البيان معبرا تماما عن رأينا، ولم أعدل فيه شيئا إلا أنني طلبت حذف بعض الجمل في صدر البيان تتحدث عن أمجاد رئيس الجمهورية وعظمة تاريخه الوطني، وأذكر أنني قلت: لا داعي لذكر هذا التاريخ. وقبل توفيق بك حذف هذه الجمل، وخرج البيان في صورته التي ظهر بها.
أرسل توفيق بك البيان ليكتب على الماكينة، وفي أثناء انتظاره سألت: «من الذي سيوقع على البيان؟» فأخرج لي إبراهيم منصور قائمة بالذين يتوقع أن يوقعوا على البيان، وحين قرأتها وجدتها جميعا من الشيوعيين، فقلت له: «إن البيان بهذا الشكل سيكون معبرا عن رأي الشيوعيين وحدهم، ولا يكون معبرا عن رأي الأدباء والكتاب الذين جاء في صدر البيان أنه يعبر عن رأيهم.» وسألني إبراهيم منصور: «ومن ترشح للتوقيع غير هؤلاء؟» قلت: «أرشح كثيرين.» وأمسكت بورقة، وكتبت فيها أسماء تزيد في عددها عن الأسماء التي كتبها، وجميعهم من غير الشيوعيين. وأذكر أنه في أثناء النقاش سألني عن بعض أسماء من التي كتبها إن كنت أعتقد أنها شيوعية، فقلت: «نعم، إنهم شيوعيون.» فقال : «وماذا تفعل إن كان الكتاب شيوعيين؟» فقلت له: «هذا غير صحيح، فأغلب الذين ذكرتهم ليسوا كتابا بالمعنى المفهوم، وإنما هم نقاد؛ أما الكتاب فقلة بين الشيوعيين والأغلبية الكاثرة من الكتاب الخلاقين لا يدينون بالشيوعية.» وحينئذ سألني عمن أرشح، فكتبت الأسماء، فقال: «هل تعتقد أن هؤلاء سيوقعون البيان؟ قلت: أنا لا أدري ما يمنعهم من توقيعه.»
وجاء البيان وكان الأستاذ نجيب محفوظ قد فرغ من حديثه الإذاعي، فانضم إلينا في غرفة الأستاذ توفيق الحكيم. وراجع الأستاذ توفيق البيان، فوجد فيه بعض أخطاء مطبعية رأى أن يصلحها، وكنت على موعد أزف، فسألته: هل سيغير شيئا في الصفحة الأخيرة؟ فقال: «لا.» فقلت: «إذن أوقع أنا وأذهب إلى موعدي. ووقعت البيان مراعيا أن أترك مكانا لمن هم أكبر مني سنا ليوقعوا قبلي، وتركتهم، وذهبت إلى موعدي.»
حاولت في يوم الإثنين 8 يناير أن أتصل بالأستاذ يوسف السباعي لأخبره عما فعلنا، فلم أجده.
شغلت في يوم الثلاثاء ببعض شأني، وذهبت يوم الأربعاء 9 يناير إلى مكتب توفيق بك بالأهرام. فوجدت نجيب بك محفوظ وعبد الحكيم قاسم، ودار بيننا حديث لا أذكر تفاصيله إلا أنني أذكر منه أنني قلت إننا يجب أن نرسل البيان إلى جهات رسمية، حتى لا يتخذ شكل المنشور، وسأل عبد الحكيم قاسم: «وماذا يضر لو أصبح منشورا؟» فقلت: «هذا عمل لا يليق بنا، ونحن نعمل عملنا في وضح النهار، ولا نعمل شيئا من شأنه أن يخفى.» وأذكر أيضا أنني قلت: «إننا يجب أن نختار الأسماء التي توقع على البيان؛ فالاسم الذي يحمل تاريخا غير الأسماء الصغيرة.» ولكن يبدو أن هذا الرأي كان متأخرا؛ لأن إبراهيم منصور كان قد جمع فعلا أغلب التوقيعات التي رشحها في بادئ الأمر.
وقال توفيق بك: «لقد رشحت أسماء للتوقيع.» فقلت: «إنني قادم خصيصا لأخذ النسخة التي سيوقعون عليها.» وقلت: «إن الأستاذ عبد الحميد جودة منتظرني في مكتبه؛ ليوقع على البيان ، وسأذهب بعده إلى الأستاذ يوسف السباعي.» فقال توفيق بك: «عظيم.» وأعطاني نسخة من البيان. فطلبت منه أن يوقع عليها ، فقال: «لقد وقعت.» فقلت: «ولكنك لم توقع هذه النسخة، ولا بد أن توقعها أنت ونجيب بك.» ووقع توفيق بك ونجيب بك، ووقعت وطلبت من عبد الحكيم قاسم أن يوقع فتحرج قائلا: إنه قادم ليوقع، ولكنه كان يفكر أن يوقع على الصورة التي مع إبراهيم منصور. فقلت له: «إنه لا فارق بين الصورتين.» ووقع عبد الحكيم قاسم، وهممت أن أدع الغرفة، ولكن توفيق بك استوقفني ليحملني رسالة إلى الأستاذ يوسف السباعي في مكتبه، وأخبره توفيق بك أنه وقع بيانا هو ونجيب بك وثروت، فقال يوسف بك: «وأنا أوقعه.» وأعطاني السماعة، فقال يوسف بك: «ما دمت وقعت البيان، فإني أوقعه.» فقلت: «أنا قادم إليك.» فقال: «أنا منتظرك، وليس معي سيارة، وسأنزل معك لتوصلني إلى نادي القصة.» فقلت: «أنا في الطريق.» ونزلت وذهبت فورا إلى دار الهلال، فوجدت يوسف بك ومعه السيدة سكينة السادات. وقال يوسف بك إنه علم أن الأستاذ توفيق الحكيم كتب بيانا في غاية العنف، فقلت: «أنا لا أرى هذا الرأي.» وقدمت إليه البيان، وقرأه، فرأى أنه فعلا عنيف، وقدم البيان إلى السيدة سكينة السادات، وقرأته، فإذا بها تثور، وتقول: «أين كنتم قبل اليوم؟ وأنا سأخبر نجيب محفوظ أنه ما كان يجوز له أن يوقع مثل هذا البيان، وأي جديد في أن البلد تغلي، الكل يعرف أن البلد تغلي، وهذا كلام لا يصح أن يكتب.» وقال لها الأستاذ يوسف السباعي: «اتركي لي الموضوع، فليس من المفروض أن تكوني قد قرأت البيان.» فقالت وهي ثائرة: «أنا لا شأن لي، وسأترككم.» وخرجت دون أن تهدأ ثورتها، وقال يوسف بك: «كيف توقع بيانا كهذا؟» قلت: «أنا لا أرى فيه شيئا.» وسألني: «أين توفيق بك؟» فقلت له: «في مكتبه.» وكلمه يوسف بك، وقال: «إن الرئيس لو قرأ البيان لصعق، وعلى كل حال ما حاجتك أن تكتب هذا البيان؟! تستطيع أن تقابل الرئيس، وتقول له ما تشاء.» ووافق توفيق بك، واتفقنا على أن يذهب توفيق بك ونجيب محفوظ في صحبة يوسف بك إلى الرئيس لمقابلته وإبلاغه فحوى البيان، وطويت أنا البيان، ونزلت دون أن ينزل معي يوسف بك، فقد عدل عن الذهاب إلى نادي القصة.
وذهبت إلى منزلي معتقدا أن لا داعي أن أجمع توقيعات لبيان لن يرسل إلى أية جهة.
وفي صباح الخميس ذهبت إلى بعض شأني، ثم ذهبت إلى مكتب الأستاذ السحار، وتذكرت أنني كنت طلبت من الأستاذ يوسف السباعي أن يعين شخصا ما من البلد، فأحببت أن أسأل سكرتيره حسين رزق عما تم بشأن هذا التعيين فطلبته، وأجابني عما سألته عنه، ثم أخبرني أن مكتب الدكتور عبد القادر حاتم سأل عن تليفوني، وأن الدكتور يريدني. طلبت بيتي فأخبرتني زوجتي أن مكتب نائب رئيس الوزراء اتصل بها، وأخبرها أن الدكتور يريد أن يقابلني الواحدة والنصف، وكانت الساعة حينئذ تقترب من هذا الميعاد، فنزلت إلى مكتب الدكتور حاتم، فأدخلت فورا إلى المكتب، ووجدت الأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، واستقبلني الدكتور حاتم ببشاشة، وقال: «أين أنت لا نراك إلا في التليفزيون؟ وقد أخذت نصف الشاشة، ولكنك جميل، والناس تحب أن تراك.» فقلت: «إذن أعطوني عمولة على ما يشترى من أجهزة التلفزيون.» وضحكنا، ثم بدأ الدكتور حاتم يتكلم في الموضوع الذي استدعانا من أجله، فقال: «سمعت أنكم كتبتم بيانا وقعه توفيق بك ونجيب بك وثروت بك وأمل دنقل، وفهمنا أنه لم يكن يريد أن يوقع معنا الشباب الصغير والشيوعيون.» فقلت: إننا وقعنا البيان حقا، ولكننا لا نعرف شيئا بشأن من وقع عليه بعدها، فقال: «إن كثيرا من هؤلاء الذين وقعوا يتقاضون مرتبات من سفارات أجنبية.» ثم قال: إنه حين عرف أسماء من وقعوا البيان قال: إن هناك ثلاثة لا شك في إخلاصهم ونقاء ضمائرهم وهم نحن الثلاثة. ثم بدأ يشرح الموقف، فقال: «إننا أخطأنا أننا لم نعلن الهزيمة يوم 5 يونيو، ونوقع الصلح، وهذا الخطأ هو الذي نعانيه حتى اليوم، ونحن اليوم نعبئ قوتنا، ولكن الرئيس يرى أن كل تأخير إنما هو في مصلحتنا.» وقال ضمن ما قال: «إنه حين كان في لندن استطاع أن يحصل على وعد بإعطاء أسلحة من إنجلترا، وأنهم يحصلون على أسلحة فرنسية عن طريق ليبيا، وإندونسيا تقدم ما تستطيع من الأسلحة.»
وحين انتهى من حديثه بدأ توفيق بك الكلام، فقال: «إن الخطأ الذي وقع لم يقع يوم 5 يونيو، وإنما وقع يوم 14 مايو في ثورة التصحيح؛ فقد كان يجب على الرئيس أن يعلن في ثورة التصحيح أن كل الذي قيل قبل هذا اليوم كان نوعا من الدجل، ثم يعلن حقيقة الموقف.» ثم استطرد توفيق بك أنه لم يحدث في التاريخ أن تهزم دولة، وتعلن في نفس اليوم أنها ستحارب كما لم يحدث أن حاربت دولة مهزومة بعد خمس سنوات أو ست من هزيمتها، ثم ضرب مثلا بألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فقال: «إنها لم تهزم على أرضها، وإنما كانت جيوشها منتصرة في فرنسا، ولكنها حين علمت أن أمريكا ستدخل بجيوشها الجديدة أعلنت الهزيمة؛ لأن قوادها كانوا يحسنون التفكير، ويقدرون الأمور تقديرا سليما بعقليات متفتحة تنظر إلى الحقيقة، وتتصرف على أساسها، وقد أدرك هؤلاء القواد أنه لا قبل لجيشهم المتعب بقوات أمريكا التي كانت في كامل قواتها، وهكذا أعلنت ألمانيا هزيمتها، ولأول مرة في التاريخ كانت الدولة المنهزمة تملي شروطها على الدولة المنتصرة. وحين فكرت ألمانيا في خوض حرب أخرى لم يعلن هتلر ذلك، وإنما راح يعد جيوشه في صمت، وفي نفس الوقت يبعد الأنظار عن الجيش بالمنشآت الكبرى في ألمانيا، ويهتم حتى بالأولمبياد الرياضية، ويصرف الأنظار عن أي تفكير حربي من جانبه.» ورد الدكتور حاتم بأن الأستاذ توفيق الحكيم على حق، وقال ضمن ما قال: «أنتم عقلاء البلد، ما دمت ترى ذلك فلماذا لا تستشيرون عقلاء البلد؟» وقال الأستاذ نجيب محفوظ: «إذا دخلنا في حرب مع إسرائيل، فإن الاحتمال المتوقع أن تكون الحرب سجالا، فمن المستبعد أن نهزمها هزيمة ماحقة من الجولة الأولى، وحين نتفاءل نستبعد أن تهزمنا مرة أخرى هزيمة ماحقة من الجولة الأولى، فخير الاحتمالات أن تكون الحرب سجالا.» وقال الدكتور حاتم: «نعم.» وقال الأستاذ نجيب: «في هذه الحرب من المتوقع أن تصاب المنشآت عندنا والمرافق.» وقال الدكتور: «نعم.» فقال الأستاذ نجيب: «ولن يسمح لنا بعد ذلك بهزيمة إسرائيل هزيمة نهائية، بل ستتدخل الدول، وحينئذ سنضطر أن نقبل ما يعرض علينا الآن. فلماذا لا نقبله دون أن نخرب بلدنا؟» فقال الدكتور حاتم: «وماذا نقول للشعب؟ وماذا نقول للشعوب العربية؟ وماذا نقول للحكومات العربية وللفدائيين ولأهل فلسطين؟»
وحينئذ قلت: «لقد قال لنا الرئيس في الاتحاد الاشتراكي في اجتماع كان الكتاب قد اشتركوا فيه إن أمريكا تعطي الأسلحة بإغداق لإسرائيل، وكرر ما كان قد قاله أحد المسئولين الأمريكيين من أن أمريكا ستعطي السلاح لإسرائيل رغم علمها بأنها متفوقة في السلاح.» وقال الدكتور حاتم: «نعم.» فقلت: «وتقول سيادتك إننا نأخذ الأسلحة من روسيا وإنجلترا وفرنسا.» فقال: «نعم.» قلت: «ألا ترى أن أمريكا تفوق هذه الدول مجتمعة؟» فقال: «وماذا تفعل مع أمريكا؟ لقد جاء إلينا مندوبها، وحين عرضنا عليه ما نقبله، قال إنه لا يريد منا خيرا من ذلك.» فقلت: «نعم، ولكنكم وقعتم المعاهدة المصرية السوفيتية بعد هذه الزيارة بيومين.» وسكت الدكتور حاتم.
ثم تكلم عن الطلبة، واستحالة إجابة مطالبهم، فقال الأستاذ نجيب محفوظ: «ولماذا لا تجتمعون بهم وتبينون لهم وجهة نظركم؟» ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى البلاد العربية، فذكر أن موقعة الطيران الأخيرة التي دارت في سوريا سقط فيها ست طيارات لسوريا، واثنتان لإسرائيل في حين كانت البيانات تقول شيئا يختلف عن هذا كل الاختلاف، وفي نهاية الاجتماع سألني الدكتور حاتم: «ماذا كنتم تنوون أن تفعوا بالبيان؟» كنا ننوي أن نرسله إليك وإلى رئيس الجمهورية. وانتهى اللقاء عند ذلك.
وفي نفس اليوم مساء ذهبت أنا والأستاذ نجيب إلى الحرافيش بمنزل محمد عفيفي، وجاء إلينا هناك الأستاذ طلال سليمان مندوب الأنوار اللبنانية، وقد تعود أن يسهر مع الحرافيش كلما جاء إلى القاهرة.
وقد أخبرنا الأستاذ طلال أن صديقا له قدم من بيروت، وأخبره أن البيان نشر ذلك. ودهشت أنا والأستاذ نجيب محفوظ لهذا ولم نعلق.
في صباح الجمعة ذهبت أنا والأستاذ الشرقاوي إلى الأستاذ يوسف في منزله، وذكرت له ما دار بيننا وبين الوزير. وفي مساء الجمعة التقينا أنا والأستاذ نجيب في مقهى ريش، وسأل الشبان عما دار في لقاء الوزير، فتركت الحديث كله للأستاذ نجيب، وكان حريصا كل الحرص، فلم يذكر أية تفاصيل، وإنما اكتفى بأن قال: «إننا قلنا للوزير رأينا بكل صراحة.»
في مساء السبت أخبرني الأستاذ يوسف السباعي أنه سيكتب بيانا آخر، ويريدني أنا والأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ أن نوقع عليه، فقلت له: «أسألهما؟» وكنت على موعد في دار الأدباء لحضور اجتماع مجلس إدارة جمعية مؤلفي الدراما. واتصلت من هناك بالأستاذ توفيق الحكيم، وذكرت له ما يريده الأستاذ يوسف السباعي، فقال إنه يرفض التوقيع على أي بيان، حتى لو كان أعنف من بيانه هو؛ لأنه قال كلمة، ولا ينوي أن يتراجع عنها أو يزيد عليها. وكلمت الأستاذ نجيب محفوظ في مقهى ريش؛ لأن السبت كان بداية إجازة العيد، وأحببت أن أسأله رأيه قبل أن ألتقي بالأستاذ يوسف السباعي. وكنت أعلم أن الأستاذ نجيب سيسافر فجر الأحد إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة، وأخبرني الأستاذ نجيب أنه لا يرفض التوقيع في ذاته، ولكنه قال: لا بد أن يوقع على هذا البيان كل من وقع على البيان الأول، حتى لا نخرج نحن عن قوم وثقوا بنا، ووقعوا البيان تضامنا معنا، وأنهى حديثه بقوله إنه يفوضني في هذا الأمر، فإذا وقع الأستاذ توفيق، ووقعت أنا فهو يوقع معنا.
قابلت الأستاذ يوسف السباعي بدار الأدباء، وأخبرته برأي الأستاذين توفيق ونجيب، وطبعا لم أذكر شيئا عن نفسي معبرا أن عدم توقيعي أمر مفروغ منه. وبدا على الأستاذ يوسف الامتعاض، ولكنه لم يقل شيئا.
مضت إجازة العيد، وسمعنا في أثنائها أن البيان نشر في عدة جرائد عربية منها البيروتية والسياسة الكويتية وغيرها، ثم سمعت أنه نشر بجريدة الأنوار التي يصدرها سعيد فريحة بدعم من مصر. ثم علمت من توفيق بك أنه أرسل البيان إلى لجنة تقصي الحقائق، وفي يوم الجمعة الذي تنتهي به الإجازات ذهبت إلى الأستاذ توفيق في جلسته الأسبوعية بفندق سميراميس، فأخبرني أن مكتب الوزير كلمه قبل أن ينزل ليخبره أن الوزير يريد أن يلقاه في اليوم التالي يوم السبت في الساعة الحادية عشرة، وأن الوزير يريد أيضا الأستاذ نجيب محفوظ كما يريدني، فقلت له إن أحدا لم يطلبني، والأستاذ نجيب محفوظ في الإسكندرية، وذكر لي الأستاذ توفيق أنه سأل السكرتير عمن سيكون موجودا غيرنا في هذا الاجتماع؟ فقال الأستاذ سعيد فريحة صاحب جريدة الأنوار.
وفكر الأستاذ توفيق قليلا، ثم قال: «أنا لن أذهب.» فقلت: «وكيف لا تذهب؟ وماذا أعمل أنا وحدي؟» قال: «أنت حر، ولكن أنا لن أذهب.» فقلت له: «وأنا لن أذهب إذا لم يكن الأستاذ نجيب معي.» فقال: «هذا شأنكما.» فقلت: «أسأل عن الأستاذ نجيب.» وذهبت إلى تليفون الفندق، وطلبت الأستاذ نجيب، فوجدته قد وصل لتوه من الإسكندرية، ووجدت مكتب الوزير قد اتصل به، فقلت له: «توفيق بك لا يريد الذهاب.» فاندهش لهذا، وقال: «دعني أكلمه.» وطلبت إلى توفيق بك أن يكلم نجيب بك، وقد استطاع نجيب أن يقنعه أو خيل لي ذلك على الأقل.
وذهبت إلى منزلي، وقالت لي زوجتي إن بعضهم سأل عني، وقال مكتب النائب، وقال إنه سيعود إلى الكلام في الساعة الثالثة، وقبل أن تكمل حديثها دق جرس التليفون وأبلغت بالموعد.
وقبل أن أتناول الغداء دق جرس التليفون مرة أخرى، وكان المتحدث توفيق بك، ووجدته يخبرني أنه لن يذهب، فهو لا يقبل أن يستدعيه السكرتير، وكأنه موظف عند الوزير، وقال: «لقد كان أبوك وزيري فعلا، وكان يكبرني في السن، ومع ذلك كان يتحرج أن يستدعيني.» وناقشته طويلا قائلا إنني والأستاذ نجيب سنكون في وضع حرج، فقال: «هذا شأنكما. أما أنا فلن أذهب.» فقلت له: «إذن دعني أبلغ الوزير على الأقل أنك عاتب أنه لم يكلمك هو شخصيا، وطبعا سيحاول هو أن يصحح هذا الخطأ، وسيستدعيك شخصيا وتجيء.» فوافق توفيق بك ، واقتنعت أنا بسذاجة أنه قبل هذا الاقتراح.
وفي مساء الجمعة ذهبت إلى نجيب بك في مقهى ريش، وانتحيت به جانبا، وأخبرته عن موقف توفيق بك الجديد، وسألته: «ماذا يرى بشأننا؟» فقال: «نذهب نحن؛ لأنه لا يليق بنا ألا نذهب، وننفذ ما اتفقت عليه مع توفيق بك.»
وفي الموعد المحدد ذهبت إلى مكتب الوزير، فوجدت نجيب بك قد سبقني ودخل ووجدت في مكتب السكرتير الأستاذ سعيد فريحة كما التقيت بالشاعر نزار قباني. ولم أكن أعرف الأستاذ فريحة؛ فقام السكرتير بعملية التعارف.
وحين دخلت مكتب الوزير وجدت الوزير قد علم بعتب توفيق بك، وحاول الاتصال به، فلم يستطع، وحاولت أنا من مكتب الوزير الاتصال به، فلم أستطع، وكلف الوزير سكرتيره أن يكرر المحاولة، وإن كنت قد أدركت أن توفيق قد عملها، ونوى ألا يجيء بأي حال.
وكان في مكتب الوزير مع نجيب بك الدكتور جمال العطيفي وكيل مجلس الشعب، وظننت أن حضوره كان صدفة، ولكن تبين من المناقشة أن حضوره كان مرتبا.
وقبل أن تبدأ المناقشة قال الدكتور حاتم لسكرتيره: «من بالخارج؟» فقال السكرتير: «الأستاذ سعيد فريحة.» فالتفت الوزير إلينا، وقال: «أظن أنه لا بأس أن يحضر معنا فهو منا وعلينا، وكأن الأمر محض صدفة.»
ودخل الأستاذ سعيد فريحة، وسلم علينا مرة أخرى، وجلس وبدأت المناقشة، فقال الوزير: «هل أرسلتم البيان إلى الأنوار؟» فقلت له: «كيف نرسله إلى جرائد لبنانية؟ كان الأحرى لنا أن نرسله إلى الجرائد المصرية إذا كنا نفكر في نشره.» فقال: «فكيف وصل البيان إلى لبنان؟» فقلت له: «هل أرسلنا البيان إليك؟»
فقال: «لا.» قلت: «فكيف وصل إليك البيان؟» وكأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال فراح ينظر حواليه وهو يقول: «أنا، أنا.» فتركته لحظات، ثم قلت له: «لقد وصل إلى لبنان بنفس الطريقة التي وصل بها إليك.» فنظر إلى الأستاذ سعيد فريحة، وقال له: «شفت أنهم لم يرسلوا البيان.» فقال: الأستاذ سعيد فريحة إن مندوب الأنوار في القاهرة طلال سلمان، وهو شاب شيوعي هو الذي أرسل البيان، وقد نشرته حين وجدت عليه توقيع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة، وحينئذ سأل الدكتور العطيفي عما أردناه بالبيان، فقلت: «الحرية .» فقال: «وهل كانت هناك حرية قبل العهد الحاضر؟» فقلت: «إنه لا شك أن قدرا من الحرية قد تحقق، ولعل هذا القدر هو الذي أتاح لنا أن نكتب هذا البيان، ولكن الحرية لا تتجزأ.» وقال الأستاذ فريحة: «ما هي الحرية التي تريدونها؟» فقلت له: «لا تحتاج الحرية إلى تعريف فهي معروفة تماما.» فقال مستنكرا: «هل تطلب الحرية في زمن الحرب؟» فقلت له: «لا تذكر الحرب؛ فقد كان برناردشو يلعن أبو تشرتشل على الجزمة في أشد أوقات الحرب العالمية الثانية عنفا، ولم يصنع تشرتشل شيئا إلا أنه كان يقول نحن نعمل والبهلوان يلهو، وكمان يا أستاذ سعيد نحن لسنا في حرب منذ 5 يونيو سنة 1967م نحن لسنا في حرب.» فقال الأستاذ فريحة: «فعلا هذا صحيح.»
وقال الدكتور: «وما هي مظاهر عدم الحرية؟» فقلت له: «لقد وصلت الرقابة إلى القصص.» فقال: «مثل ماذا؟» فقلت له: «مثل رواية الحب تحت المطر للأستاذ نجيب محفوظ التي مزقتها الرقابة.» فقال: «وهل أنا مسئول عنها؟» فقلت: «إنك على رأس الجهاز، فأنت مسئول عن كل موظفيه.» فقال: «وماذا أيضا؟» فقلت له: «لقد منعت لي قصة في الجمهورية.» فقال: «يا أخي أنت صديقي وتزورني في بيتي، (والواقع أنني كنت أزوره قبل أن يعود إلى الوزارة، كما إنني أكن كل حب وتقدير له) فلماذا لا تخبرني؟» فقلت: «أنا أزورك في بيتك لأسأل عن صحتك، أو لنتكلم في مسائل عامة، ولا أرى من اللائق أن أزورك لأقول لك أن قصة لي منعت من النشر.» فقال الوزير: «إنكم أنتم الدولة، ولكنكم تعرفون الظروف التي نمر بها.» وقال الأستاذ نجيب إن رئيس الجمهورية قد دعا إلى حرية الرأي، فإذا لم نقل رأينا، فكأننا لا نعبأ بدعوة رئيس الجمهورية، وهي أشرف دعوة يمكن أن توجه إلى أصحاب الرأي. ولا شك أنكم تعرفون أننا توفيق بك وثروت وأنا لسنا من طلاب البطولات، وقال الدكتور جمال العطيفي : «الواقع إن الحياة النيابية سواء في العهد الماضي أو في عهد الثورة لم تشهد حرية برلمانية كالتي شهدتها في ظل مجلس الشعب الحالي.» فقلت: «لا، لا، يا دكتور جمال، مش للدرجة دي.» فقال: «كيف أنا أستطيع أن أتحدث في هذا الموضوع؟» فقلت: «كلنا نتحدث أنت لا تستطيع أن تنسى أن مجلس النواب الوفدي في عهد الوزارة الوفدية قد منع قانون الصحافة أن يصدر.» فقال: «آه تقصد الفترة من 1950 إلى 1952م فعلا لقد كانت أحسن الفترات في العهد النيابي.» فقلت: «كانت أحقر الفترات في العهد النيابي.»
وفي نهاية الحديث قال الدكتور جمال لي: «لقد قلت جملة مهمة وهي أن قدرا من الحرية قد تحقق، إن هذا القدر هو الذي جعلكم تكتبون البيان.» ولا أدري لماذا توقعت من هذه الجملة أن إجراء معينا سيتخذ ضدي.
وقد عزلت، عزلت من الاتحاد الاشتراكي، ولم أكن عضوا به في يوم من الأيام، ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة لإعلان غضب الحكومة علي، لحرماني من الكتابة أو التعامل مع وسائل الإعلام التي تشرف عليها الدولة من إذاعة وتليفزيون وسينما ومسرح، وطبعا يلحق بذلك منعي من السفر. ومنع اسمي من أن يذكر في أية جريدة، أو أي جهاز من أجهزة الإعلام، أما بالنسبة لتوفيق بك ولنجيب بك، فقد صدرت الأوامر بمنعهما من التعامل معه كما صدرت الأوامر بعدم نشر أي شيء لهما أو عنهما دون أن يرد اسم أي منهما في قوائم العزل، وهذا هو البيان:
بيان من الكتاب والأدباء
نحن الكتاب والأدباء الموقعين على هذا البيان قد رأينا من واجبنا أن نعاون ونشارك من مواقعنا في المجتمع مؤسسات الدولة في تقصي الحقائق في حالة الاضطراب التي بدت بوادرها الآن في بعض الأحداث الجارية. يدفعنا إلى ذلك شعورنا بالمسئولية التاريخية وثقتنا بشعبنا وتقديرنا لوطنية رئيس الدولة. واعتقادا منا بأن في استطاعته الإمساك بالزمام للسير بالبلاد في طريق محفوف بالمخاطر تهب عليه الزوابع من كل جانب، ويحتاج إلى الحكمة وسداد الرأي لتجنيب الوطن ويلات الشطط، وتوجيهه إلى حيث يجد نفسه ، ويؤكد شخصيته ويسترد قوته.
ولما كان من خصائص الكتاب والأدباء بحكم رسالتهم في الأمة أن يكتشفوا باطنها وضميرها. في حين أن مهمة الصحافة هي تحري أخبارها ومهمة الهيئات الرسمية هي تقصي حقائقها من واقع أحداث معينة قد تكون مجرد بثور خارجية لمرض دفين، ودخان ظاهري لنيران متأججة تحت رماد؛ لذلك كان علينا نحن الكتاب والأدباء أن نكمل الصورة ونقدم المعونة بإبراز ما استتر وتخفى مما يعتمل الآن، ويضطرم في باطن الأمة وضميرها.
وليس ذلك فقط لمجرد استكمال عمل تقوم به الهيئات الأخرى، ولكنه أيضا للخشية من أن يهمل أمر هذا الغليان الذي يفور في نفوس الناس، فيجد طريقه في أي لحظة إلى الانفجار وتقع الكوارث. وذلك أنه مما لا شك فيه لدينا أن البلد يغلي في الباطن على نحو لم يعد يخفى على أحد. وقد لا يعرف كل الناس تعليلا لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلي. وقد يبدي البسطاء من الناس والأبرياء من الشباب تعليلات مختلفة يسوقونها بغير تفكير أو تمحيص، ويرددونها في أحاديثهم، أو يصعدونها في منشوراتهم. وهذه التعليلات أو المطالب أو الاحتجاجات قد تبدو في أغلبها سطحية أو غير ناضجة أو مدروسة، ولكن يكفي الحقيقة التي لا شك فيها وراء كل هذا، وهو شعورهم جميعا بأنهم قلقون بشيء ما أو أنهم ما عادوا يحتملون ما هم فيه من إحساس بالضياع.
والآن ما هو منشأ هذا الإحساس العام بالقلق والاضطراب والضياع في نفوس الناس؟
لعل السبب الأهم في ذلك هو عدم وضوح الطريق أمامهم، فالصيحة المرتفعة في كل حين بكلمة المعركة، وأن الطريق هو المعركة كان من الممكن أن يكون هو الجواب على أسئلتهم، والطريق الواضح أمام أعينهم.
وهذا لا شك ما أرادت الدولة أن تقدمه كجواب أو مصباح الرؤية في طريق المستقبل المعتم.
ولكن مع الأسف تمضي الأيام، وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها، ولا أبعاد لمعناها، ولا تحليل لعناصرها، مجرد كلمة مطلقة تلوكها الأفواه. مجرد لقمة مستهلكة لكثرة مضغها، ويصبح الناس ويمسون ، وهذه الكلمة تتردد على جميع النغمات في الأناشيد والأغاني والخطب والشعارات، حتى فقدت قوتها وفاعليتها، بل وصدقها وصارت اللقمة الممضوغة في الفم غصة. لا هم يستطيعون ابتلاعها، ولا هم يجرءون على لفظها، وأصبحوا في حيرة من شأنهم، وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخرى مسدودا وهم في ضياع.
ولما كان الشباب هو الجزء الحساس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب؛ فهو يجهد في دراسته ليحصل على شهادته النهائية، فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسى ما تعلمه، ولا يجد عدوا يقاتله، وهذا أيضا هو الضياع. أما بقية المواطنين فهم يعيشون بالنسبة إليه في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة. وكل نقص وإهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة، وفي انتظار المعركة، وتمحكا بالمعركة، وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلى مهزلة، وإلى سخط، وإلى قرف عام.
هذا بعض ما استقر في الضمائر هذه الأيام، ولا بد من حل سريع لهذا الوضع، ولا يمكن أن يكون هناك حل إلا في الصدق. والصدق وحده؛ لأن الصدق هو الذي ينهي الحيرة، ويقنع الناس، ويهدئ النفوس.
ولأن الغليان في باطن الإناء يهدأ إذا كشف الغطاء، فإن الشعب يريد أن يقتنع بشيء؛ لأنه غير مقتنع. ولا بد لراحة باله واقتناعه من عرض حقائق الموقف أمامه واضحة، وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم، ومنها حرية الرأي والفكر، وحرية المناقشة والعرض لإلقاء الضوء على كل شيء؛ حتى تتضح الرؤية. وليكن ذلك داخل المؤسسات إذا كانت السرية في ظروفنا الحاضرة تقتضي ذلك. على ألا يكون للدولة رأي مسبق تضغط به على أهل الرأي، وتجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه.
بل أن تكون الدولة آخر من يبدي الرأي بعد أن تستمع وهي جادة صادقة إلى رأي مصر الحر أولا، وأن تصوغ هي رأيها من رأي الشعب وممثليه، لا أن تصوغ الرأي، وتضع الشعار وتلقي به إلى الناس، وتفرضه عليهم فرضا.
آن للدولة في هذه الظروف العصيبة أن تتخفف هي من كل العبء والمسئولية، وتضعها على ظاهر الأمة. إن في ذلك مصلحتها، وصيانة لها أمام التاريخ.
الإثنين 8 يناير سنة 1973م
هذا هو البيان كما نشرته الصحف العربية، وقد كان من نتيجة نشره أن أصدر الاتحاد الاشتراكي قرارا بفصلي، وتلك كانت عجيبة يندر مثلها في العجائب؛ لأنني لم أكن في حياتي عضوا في الاتحاد الاشتراكي، وقد صحب هذا الفصل الصوري أمر بألا يظهر اسمي في الصحف على أي صورة من الصور. وانطبق هذا الإجراء الأخير على الأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وقد سعدت في هذه الفترة سعادة منقطعة النظير؛ لأن كل الذين كانوا يصنعون الكلمات المتقاطعة كانوا يصرون على أن يأتي اسمي من تركيب الحروف مع بعضها البعض.
ويجب اليوم أن أشهد أن هذه العقوبة التي أنزلت بي وبتوفيق الحكيم وبنجيب محفوظ تعتبر شيئا هينا بسيطا غاية البساطة بالنسبة للعقوبات البشعة التي كانت ترتكب في العهد السابق على عهد السادات.
واستمر عزلنا إلى أواخر سبتمبر عام 1973م.
وقامت حرب أكتوبر 73.
وانقلبت الموازين منذ رأينا مصر تنتصر لأول مرة في تاريخ العرب منذ صلاح الدين.
وأصبح ثلاثتنا توفيق بك ونجيب بك وأنا أشد المتحمسين لهذا النصر؛ فقد كنا نتوقع أي شيء إلا أن نحارب وننتصر، وقد أعربنا عن توقعاتنا فعلا وتصورنا هذا، ونحن نناقش الدكتور حاتم.
فقال توفيق بك إنه من غير المعقول أن تحارب دولة ما في نفس اللحظة التي تعلن فيها انهزامها، وليس من المعقول أن تحارب بعد خمس سنوات أو ست؛ لأن النتيجة معروفة لا شك فيها. فأي جديد يمكن أن يحدث في هذه السنوات القليلة ليقلب الأمر بالنسبة إليها من دولة مهزومة إلى دولة منتصرة.
وقال نجيب بك للدكتور حاتم: «المؤكد أن الحرب لو قامت فستكون سجالا.» ووافقه الدكتور حاتم، وقال نجيب بك: «إذن فالحرب ستستمر فترة بيننا وبين إسرائيل، ومعنى ذلك أن نخرب مصر تماما، ونحن بعد هذه الحروب لا نطيق هذا الخراب، فلماذا لا ننسى الحرب ونلتفت إلى مرافقنا المنهارة ، ونحاول إصلاحها بدلا من زيادة تخريبها.»
وقلت أنا: «نحن واثقون أنه ليس هناك حرب منتظرة، وأن الأمر لا يعدو أن يكون دعاية ليلهينا عن أوضاعنا الداخلية، فخير لكم ولنا أن تعطونا الحرية بدلا من الادعاء بأننا سنحارب، فالشعب كله يعرف أننا لن نحارب. ويكفي مقالات محمد حسنين هيكل دليلا على أن الحرب مستحيلة استحالة مطلقة.»
ولكن السادات صنع الحرب، ولكن السادات انتصر.
وحقق معجزة لم تكن تخطر لنا على بال.
وهكذا أصبح ثلاثتنا من أشد المؤيدين للنصر ولصانع النصر.
رواية الرواية
تعودنا لسنوات أنا ونجيب محفوظ أن نقضي بعد الظهيرة من أيام الخميس معا، ثم نسهر معا في الحرافيش، وكان دأبنا أن نذهب معا إلى مقهى عرابي بميدان الجيش بالعباسية، ونجلس هناك مع أصدقاء العباسية، وأغلبهم من رفاق الطفولة والصبا والشباب الباكر لنجيب محفوظ، وكانوا جميعا يعرفونني بحكم إقامتي في العباسية؛ ولهذا كنت أشعر بينهم بألفة لا يحسها الإنسان إلا مع أصدقاء قدامى. وكنا نتركهم في الثامنة ونتجه إلى مكتب الأديب الفنان المحامي عادل كامل بشارع فؤاد، وكنا كثيرا ما نضطر أن نترك السيارة في مكان بعيد بعض الشيء عن مدخل المكتب الذي كان لا بد أن يخترق من أجله مقهى بين عمارتين ضخمتين. وكنا نجلس قليلا بمكتب عادل كامل، ثم نتجه جميعا إلى سهرة حرافيش بعد أن نكون قد اشترينا - أو اشترى نجيب على الأصح - كيلو كباب من العباسية، وكيلو حلويات شامية من ميدان الأوبرا. وكان نجيب يشارك في أكل الكباب، ولا يذوق الحلويات الشامية تنفيذا لأوامر الطبيب التي يصدع لها بكل الأمانة التي نعرفها عن نجيب في كل ناحية من نواحي الحياة، اتصلت هذه الناحية بخاصة شأنه أو بشأن الآخرين.
تركنا السيارة في مكان تصادف أنه كان بعيدا بعض الشيء عن مكتب عادل كامل، ومشينا نتناقل الحديث في شئوننا السياسية، وفجأة وجدتني أقول له: «نجيب بك إن أحدا لم يتكلم حتى الآن في شرعية حكم الطاغية.»
وصمت نجيب لحظات، ثم قال: «فكرة جيدة.»
قلت: «ربما حاولتها.»
وانتهى الحديث عند ذلك، وقضينا سهرتنا كما تعودنا أن نقضيها، ولكن الفكرة ظلت تدور في ذهني وتلح علي في إصرار شديد.
وما لبثت الأيام أن أنضجتها ووجدت نفسي أميل كل الميل أن أرمز إلى الشرعية بالزواج.
وهكذا كان لا بد لي أن أقرأ الفقه على المذاهب الأربعة، وأركز في قراءتي على عقد الزواج. فوجدت أبا حنيفة وهو الذي نطبق مذهبه في أحوالنا الشخصية يقول: «إن الفتاة إذا لم تعط الوكالة لمن يزوجها يقع الزواج باطلا نسبيا.» والبطلان النسبي يختلف عن البطلان المطلق.
فالبطلان النسبي يمكن أن يزول ويصبح العقد صحيحا إذا زال سبب البطلان، أما البطلان المطلق فلا يصحح أبدا.
ويقول أبو حنيفة في حالة زواج البنت بتوكيل باطل: يزول البطلان إذا عادت البنت وقبلت الزواج، فإنه في هذه الحالة بصبح زواجا صحيحا خاليا من البطلان.
وكتبت رواية «شيء من الخوف» معتمدا على هذه القاعدة الشرعية، حتى إذا فرغت منها، وكتبت على الآلة الكاتبة، وفكرت أن أجعل نجيب يقرؤها قبل أن تنشر.
وبينما هو يقرؤها كنت أنا ألتقي بالروائي الكبير والصديق الأصيل فتحي غانم في لجنة القصة بالمجلس الأعلى. وكان في ذلك الحين رئيس مجلس إدارة دار روز اليوسف وصباح الخير طبعا. فرأيت أن أعرض عليه فكرة أن تنشر صباح الخير روايتي الجديدة، فرحب الرجل ترحيبا شديدا.
وحين فرغ نجيب محفوظ من قراءته طالعني برأيه أن الرواية شديدة الوضوح، وقال: «لا أدري إن كنت رأيتها كذلك؛ لأنك أخبرتني عن مضمونها أم لأنني أنا استنتجت هذا، لماذا قلت لي مضمونها؟»
فضحكت وقلت: «وماذا تراني كنت أفعل وفكرة الرواية خطرت لي وأنا سائر معك.»
فقال: «ربنا يستر.»
وبعد أيام قليلة كلمت فتحي، واتفقت معه أن أمر عليه في مكتبه. وهناك قال لي كلمة فيها كثير من المجاملة والتحية. «إذا جاءتني مقالة من طه حسين، فأنا أرسل بها إلى المطبعة فورا، وكذلك حين تجيئني رواية لك، فإني أصنع نفس الصنيع. لقد أرسلت الرواية إلى المطبعة.»
والحقيقة أن تحية الصديق مست قلبي، ولكنني أشفقت أن يفعل ، فإنه لا يرضيني بحال أن يرفت فتحي غانم من وظيفته، هذا إذا لم يتعرض لما هو أشد وأنكى من أجل أن أنشر أنا رواية لي مهما تكن أهميتها.
وقعت في حيص بيص كما يقولون.
كلمت نجيب بك فقال: «لا بد أن تبحث عن طريقة تجعله يقرأ الرواية.»
طلبت فتحي غانم في البيت، وقلت له: «ليس نشر الرواية هو المهم، وإنما المهم أن أعرف رأي روائي أعتز برأيه فيها، فأرجوك أن تقرأها.»
وبعد أيام قلائل التقينا في لجنة القصة، فأبدى إعجابه الكبير بالرواية، وقال: «إنها مثل قطعة الخشب العربي (الأرابسك) الذي يتكون من قطع صغيرة متراصة، والتكوين في ذاته يعطي الصورة الكاملة التي أرادها الفنان.»
أنا لا أشك لحظة أن فتحي غانم فهم الرواية كل الفهم، ولا أشك لحظة أنه حين نشرها كان غاية في السمو والشجاعة في وقت معا. فالرواية مخالفة لرأيه الشخصي، وهي في نفس الوقت كفيلة أن تعرضه لما لا يعلمه إلا الله وحده. وأن ينشر مسئول عملا روائيا، وهو في نفس الوقت روائي لا يمكن أن يفوته ما فيها من رمز دليل على أن فتحي غانم رجل يندر مثيله بين الرجال، ودليل على أنه أكبر من كل ما يكبل حرية الرجال. فليس عجيبا أن أكن لهذا الرجل في نفسي كل إجلال وإكبار وحب. وقد أثبتت لي الأيام فيما بعد أنه مطبوع على هذا الشرف ولا يتخذه في موقف ثم يتخلى عنه في آخر. وإنما أشهد الله والحق أنني ما رأيته إلا بهذا السمو وهذه الرجولة، ولو يختلف بيننا الرأي ما شاء الرأي أن يختلف.
ولكنه رجل استطاع في كل المواقف أن يمثل لي الإنسان حين يرتفع الإنسان إلى أرفع درجات الإنسانية.
نشرت الرواية بمجلة صباح الخير. وكنت في ذلك الحين أنشر كتبي بدار المعارف عائدا إليها، فعرضت الرواية على الأستاذ عادل الغضبان، وقرأها وقال لي: «إننا الآن نحاول أن نرتفع بسلسلة اقرأ وقد أخذنا كتابا جديدا من الدكتور طه حسين، ونريد أن ننشر «شيء من الخوف» في هذه السلسلة.» فقلت: «لا بأس.» وقد نشرت «شيء من الخوف» فعلا في مارس 1967م بعد أن تم نشرها في صباح الخير قبل ذلك.
تلك هي قصة شيء من الخوف الكتاب، وبقي أن نروي قصة شيء من الخوف في السينما.
حين بدأت صباح الخير نشر القصة وقفت في إشارة، وتصادف أن وقف بجانبي صلاح ذو الفقار بسيارته. وصلاح كان زميلي في مدرسة فاروق الأول الثانوية وبيننا صداقة دائمة من أيام المدرسة. حياني وقال إنه يريد أن ينتج روايتي التي تنشر في صباح الخير. قلت: «لا بأس.»
وانتهى الحديث عند ذلك.
وسافرت إلى الإسكندرية. وفي ليلة عدت إلى بيتي متأخرا فإذا بي أجد الأستاذين العزيزين حسام الدين مصطفى وعبد الحي أديب ينتظرانني في سيارة أحدهما أمام البيت. وكأنما خجلا أن يصعدا إلى البيت، وينتظرا فيه، وفوجئت بحسام يقول لي: «الرواية التي تنشر في صباح الخير. هل أخذها أحد منك للسينما؟»
قلت: «لا.»
قال: «طيب يا أخي ألست أنا الأولى بها، وقد أخرجت لك هارب من الأيام.»
قلت: «تحت أمرك.»
قال: «هل عندك نسخة منها؟»
وصعدت إلى بيتي، وأحضرت نسخة من نسخ الآلة الكاتبة، وأعطيتها للصديقين الكريمين، واتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي بكازينو جليم الذي يقع منزلي أمامه مباشرة.
وقال حسام: «إن هذه القصة تشبه هارب من الأيام.»
وأنا متعود ألا أناقش رأيا رآه أحد في أي رواية لي مرتئيا أن المناقشة عبث مضحك. فالرواية كتاب يقرؤه القارئ وحده، ويكون رأيه وحده، فكيف أستطيع أن ألاحق القراء في كل ناحية لأناقشهم رأيهم، ولهذا أجبته دون أي تفكير: «ما دمت ترى هذا، فلا بد أنك محق من وجهة نظرك على الأقل.»
فقال آسفا: «إذن فإلى اللقاء في رواية أخرى، حتى لا أكرر ما فعلته في هارب من الأيام.»
قلت: «إن شاء الله.»
وفي صباح اليوم التالي مباشرة ذهبت إلى مقهى بترو، فإذا بي أجد كاتب السيناريو صبري عزت الذي أسرع إلي قائلا: «لقد دخت بحثا عنك.»
وجلسنا وسألته عما يريد فقال: «صلاح ذو الفقار يريد أن ينتج رواية «شيء من الخوف» للقطاع العام، وعرضها على حسين كمال ففتن بها، ويريد أن يخرجها بأي طريقة.»
واتفقنا أن نسافر إلى القاهرة ونلتقي بسعد وهبة الذي كان رئيسا لشركة القاهرة للإنتاج السينمائي، وكان صلاح ذو الفقار وحسين كمال قد حادثاه في شأن الرواية.
وذهبت إلى الصديق القديم سعد وهبة، وسألني في بساطة عن موضوع الرواية، فلخصتها له، فطلب عقدا وقدمه لي، ووقعته، وقدر أجرا سبعمائة جنيه، وكان مبلغا طيبا في عام 66. وأعتقد أنه ينبغي أن أشيد هنا بشجاعة سعد وهبة، فهو مسرحي محترف، وقد فهم - بطبيعة الحال - مغزى الرواية، ولكنه كان من الشجاعة بحيث يوقع العقد فورا.
وبدأنا العمل، في منزلي أحيانا، وأحيانا في منزل صلاح ذو الفقار، ووقعت حرب 67، ونحن نعمل في الرواية. فتوقفنا أياما قليلة، ثم عدنا إلى العمل.
وقبل أن يتم السيناريو تبرع صديق لنا بمكتب الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة في ذلك الحين بكتابة تقرير للوزير أن الرواية مقصود بها رئيس الجمهورية، وأنها هجوم عنيف عليه وعلى الحكم جميعا.
ويشاء الله أن يكون نجيب محفوظ هو مستشار الوزير للشئون الفنية في هذه الفترة، فكان طبيعيا أن يرسل الوزير ملخص الرواية والتقرير إلى الأستاذ نجيب محفوظ، وكتب رأيه بمنتهى الأمانة والصدق مع النفس مرتئيا أنها رواية وطنية. وقد كان هذا رأيه، والوزير سأله عن رأيه، فقال.
وتم تصوير الرواية، وكان حسين كمال سعيدا بعمله غاية السعادة، فرأى أن يعرضها على الوزير.
وفي عرض خاص بدأت الرواية تعرض على الوزير ووكيلين للوزارة معه. وانتهى عرض النصف الأول من الرواية، وكان الوزير على موعد لم يستطع الاعتذار عنه فأضيئت الأنوار، ورأى الحاضرون الدموع تملأ وجه الوزير من الإعجاب، وقال في فخر لحسين كمال: «لقد عبرنا بهذه الرواية البحر الأبيض المتوسط.»
وذهب الوزير إلى موعده، وطلب إليهم أن ينتظروه ليعود فيكمل مشاهدة الفيلم. وتم ذلك، ورأى الوزير النصف الآخر من الرواية وأضيئت الأنوار. لقد فهم الوزير معنى الرواية فهما تاما. وتداول الرأي مع مستشاريه، فانتهى بهم الرأي أن تعرض الرواية على سامي شرف في رياسة الجمهورية.
كان الوكيلان صديقين لي، فكلمت أحدهما، ولن أذكر اسمه، فإذا هو يقول: «أنا خصم ، ولا يجوز أن أكون قاضيا.»
فضحكت في نفسي كثيرا، فلم أكن أتصور أن المسألة وصلت إلى خصومة وقضاء.
ما سمعته بعد ذلك أن سامي شرف أعفى نفسه من رؤية الرواية، وعرضها على عبد الناصر مباشرة، وسمعت أنه قال حين انتهى من مشاهدتها: «لماذا تعرضون علي هذه الرواية؟ هل أنا عتريس هذا؟ إذا كنت أنا عتريس والشعب لم يقتلني فهو شعب من الحمير.»
وأمر أن تعرض الرواية دون أن يحذف منها شيء مطلقا.
وفي عرض خاص ضم جمهورا كبيرا شاهدت الرواية، وكان معي الأخ الصديق عبد الرحمن الشرقاوي. وحين انتهى العرض قبلني الشرقاوي بحماس شديد. ووقف أحد المشاهدين، وطلب أن يسألني سؤالا وسأل: «ألا ترى أنك جعلت الشعب المصري سلبيا إلى أقصى درجة.» وجدتها فرصة لا مثيل لها قلت له: «أين هو الشعب المصري هذا؟»
قال: «أهل القرية.»
قلت: «ومن قال إن أهل القرية هم الشعب المصري. اسمع أنت والآخرون، إن أي إسقاط على هذه الرواية يكون من داخل المسقط، وعليه وحده أن يتحمل مسئوليته.»
وذاعت هذه الكلمة فامتنع المعرضون عن إعلان ما أدركوه من إسقاط. ولكن الشيوعيين لم يمتنعوا يوما من أيام عرض الرواية ولأسابيع بعدها عن مهاجمتي في ضراوة، وهذا أمر أسعد به دائما فليس أحب إلي من أن أسمع مذمتي من هؤلاء الرهط.
كثير من الصحفيين يسألونني حتى اليوم: «أليس في عرض هذه الرواية دليل على الحرية؟» وأضحك أنا. فلو كان هناك حرية ما كتبت أنا هذه الرواية أصلا، ولما كتبتها رمزا. أما أنها عرضت فرئيس الجمهورية الأسبق لم يكن من الغباء إلى درجة منعها. فلو كان منعها بعد أن أصبحت فيلما مكتملا لهرب الفيلم وسبقته الدعاية أنه الفيلم الذي منعه رئيس جمهورية مصر، وإني لأعجب لمن يبحث عن أي حرية في ذلك العصر، ولكن ماذا نقول إلا أن نضرب كف عجب بكف دهشة ، ونقول مع القائلين: ولله في خلقه شئون. (3) توفيق الحكيم
أمام البنك الأهلي الذي أصبح اليوم البنك المركزي المصري على ناصية شارع شريف عند التقائه بشارع قصر النيل كان هناك مقهى وكان يجلس إليه أستاذنا توفيق الحكيم، وكنت أمر كثيرا بهذا المكان، فالشارعان في مكان من الطبيعي أن يكون المرور به كثيرا، كنت حينما أرى توفيق الحكيم أعبر الشارع وأقف أمام البنك الأهلي، وأظل أنظر إليه دقائق، ثم أمضي لشأني وأنا سعيد بما تمكنت من النظر إلى توفيق الحكيم بأكمله.
وبدأت بعد ذلك الكتابة في مجلة الثقافة. ودعاني أحمد بك أمين أن أحضر ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ فكنت أذهب كل خميس في الساعة الخامسة مصطحبا الأستاذ عثمان نويه، ونشهد الندوة التي كانت في حجرة منسقه الأساس فيها سعة غير فادحة، وكان نجوم الندوة أحمد بك أمين طبعا، وعبد الواحد خلاف بك الذي كان ناظرا علي في مدرسة فاروق الأول حينما كنت في السنة الأولى لها، وهو من أعظم الرجال الذين عرفتهم، وكان بين العمالقة الدكتور أحمد زكي الرجل الذي جمع النبوغ الشامخ في العلم إلى الموهبة الشاهقة في الأدب. وكان معهم أيضا إسعاف النشاشيبي، وكان النقاش يحتدم بينه وبين هؤلاء الأعلام حول الدين والعلم. وكان - غفر الله له - ملحدا عميق الإلحاد. وكان توفيق بك الحكيم حريصا على حضور هذه الندوة، وكان يحضرها أيضا الفيلسوف العملاق والأديب الباذخ الدكتور زكي نجيب محمود أطال الله عمرهما. كنت أظل طوال الجلسة صادمتا لا أفرج شفتي عن كلمة.
وحين أصبح أبي وزيرا للشئون الاجتماعية كان توفيق بك الحكيم موظفا في الوزارة، وقد دعاه إلى الغداء في البيت كما دعا الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وقد يعجب القارئ أنني لم أتهيب في حياتي إلى هذه السن لقاء أحد، لا أستثني من ذلك رؤساء الوزارات، ولكنني تهيبت لقاء العملاقين، وخجلت أن أحضر معهما الغداء، واكتفيت بأن نزلت إلى الشارع من الباب الخلفي لمنزلنا بالعباسية، ورأيتهما يخرجان من الباب الرئيسي، وظللت أنظر إلى ظهريهما، وهما يغادران البيت مشيا على الأقدام؛ توفيق الحكيم يعتمد عصاه والمازني يظلع في خطاه، وكان مشيهما عندي ورؤيتهما أروع في نفسي من رؤية أي رئيس وزارة مهما تكن سيارته فخمة فارهة، ومهما يكن لحراسه من هيبة في الهيئة أو في الملبس.
وظل الأمر بيني وبين توفيق بك على هذا الحال، وانتقلت لجنة التأليف والترجمة والنشر من شارع كرداسة قرب العتبة الخضراء إلى دار أنيقة وشارع فسيح بحي المنيرة، وكان للدار حديقة متوسطة الحجم ذات ممشى يؤدي إلى الدار. وظللت على حرصي أن أحضر الندوة، وكنت قد بدأت أكتب تمثيلياتي في الإذاعة، ولكن الإذاعة شيء، وأن أتكلم بين هؤلاء شيء آخر. كان صمتي في دار المنيرة هو نفس صمتي الذي كان في شارع الكرداسة، حتى كان يوم انتهت الندوة، ودخلت أنا إلى الأستاذ عبد العال المدير الإداري لمجلة الثقافة، وأحسب أنني كنت أسأله عن مقالة لي كنت أرسلتها، وأردت أن أطمئن إلى وصولها. وربما مكثت بضع دقائق أتحدث إلى الأستاذ عبد العال، وخرجت وأنا واثق أن جميع من كان في الندوة قد انصرف عن الدار، ولم يكذب حدسي إلا في شخص واحد وجدته واقفا، وقد ركن إلى عصاه في منتصف الممشى، ناظرا إلى باب الدار مترقبا في وضوح ظهور شخص ما. وفي صمت وإطراق حاولت أن أميل عن وقفته متخذا سبيلي أماما إلى الباب الخارجي، ولكن توفيق بك عاجلني: «هل أنت ثروت أباظة؟»
قلت: «نعم، يا سعادة البك أنا هو.»
قال: «أنا معجب برواياتك في الإذاعة جدا؛ لدرجة أنني حين أقرأ في البرنامج أن لك رواية أمكث في البيت ولا أخرج.»
للقارئ أن يتصور ذهولي وفرحتي في تلك اللحظة، ولم أجد شيئا أقوله إلا: «أصحيح هذا الذي أسمعه؟ أنا يخيل لي أنني أحلم.»
فقال في بساطته المعهودة: «لا، والله فعلا.»
قلت: «إذن هذه الروايات تستحق أن تجمع في كتاب. ترى أتقبل أن تكتب له المقدمة؟»
وعجبت لنفسي أن أقول هذا الكلام، ولا أدري حتى اليوم كيف وجدته على لساني.
وقال توفيق: «لا مانع.»
قلت : «متى أرى سعادتك؟»
قال: «أي وقت في دار الكتب.»
وأخذت رواياتي وذهبت في اليوم التالي إلى مكتب توفيق بك.
ووجدت سكرتيره صديقي الذي كنت قد تعرفت به وأحببته كل الحب في جريدة «المصري» الأستاذ محمود يوسف، وقد توثقت صلته بي بعد، وكنت أعتبره من أقرب الناس إلى قلبي، حتى اختاره الله إلى جواره.
دخلت إلى توفيق بك، وقدمت إليه التمثيليات، وتحدثنا عن المقدمة، فلم أجد عنده تحمسا، ولكنه قدم لي كتابه العظيم الذي كان قد ظهر في هذه الأيام «فن الأدب»، وقال: «خذ هذا الكتاب، حتى لا تكون أحضرت لي شيئا دون أن أقدم لك شيئا في مقابله.»
وأخذت الكتاب، وذهبت إلى بيتي، وكنت قد تزوجت حديثا؛ فقد كان هذا اللقاء في خريف عام 1950م. قرأت الكتاب جميعا في يوم واحد، وأعجبت به كل الإعجاب، وأصبحت واثقا أنه لن يكتب مقدمة لكتابي المزعوم؛ فقد وجدته يقول ما معناه إن كاتب التمثيلية الإذاعية ليس كاتبا بالمعنى المفهوم.
وقد ناقشت توفيق بك في هذا ولكنه قال: «إنك استثناء من هذه القاعدة.» فاعتبرت هذه الكلمة تحية منه تحاول أن تخفف من أثر رأيه في نفسي. ولم أحاول أن أتكلم عن المقدمة، وعدلت عن جمع هذه التمثيليات فلم أجمعها إلا بعد ذلك بثمانية عشر عاما. وعدلت أيضا عن طلب مقدمات من أحد مطلقا. لدرجة أنني بعد ذلك بقرابة خمسة عشر عاما كنت عند الدكتور طه حسين باشا، وعند انصرافي خرج معي سكرتيره فريد شحاتة يودعني فقال لي: «كنت تقول للباشا إنك انتهيت من رواية وهو كتب لك مقالات عن رواياتك السابقة؟ فلماذا لا تحضر هذه الرواية ليكتب لها مقدمة فهو ليس مشغولا في هذه الأيام؟»
فقلت: «أحب أن يكتب لي عنها بعد أن تصدر إذا كانت تستحق، ولكنني لا أريد أن أتشفع للقارئ مسبقا بمقدمة.»
فقال: «معك حق.»
وفعلا كتب الدكتور طه باشا مقالة عن هذه الرواية وهي «ثم تشرق الشمس»، ونشرت المقالة بمجلة الهلال.
توثقت صلتي بعد ذلك بتوفيق بك، وأصبحت أذهب إليه كثيرا في دار الكتب كما كنت أجلس معه في ندواته. في جروبي بالقاهرة وفي بترو بالإسكندرية.
وكنا في الإسكندرية نخرج أنا وهو وصديقه المترجم الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي كل أسبوع مرتين نتناول الغداء، ثم نذهب إلى السينما، ثم نتناول الشاي في أتينيوس، ثم أصبحنا نتناوله في نادي السيارات بالإسكندرية. وكان كل منا يدفع حسابه، ولكنهما وجدا أن من الأيسر أن يدفع لي كل منهما جنيها واحدا، وأتولى أنا الإنفاق، وكان توفيق بك بذكائه المعهود يعلم أنني أدفع فوق كل جنيه ثلاثين أو أربعين قرشا من جيبي، وكان هو سعيدا غاية السعادة أن استطاع توفير هذا المبلغ الضخم، وكذلك كنت أنا سعيدا أن أدفع هذا المبلغ، وأعفي نفسي من محاسبتهما في آخر الرحلة التي كنت أعتبرها مرانا وتدريبا على حساب الملكين. وكثيرا ما كان يصحبنا الأستاذ نجيب محفوظ في الذهاب إلى نادي السيارات لتناول الشاي الذي قد يمتد إلى العشاء.
ومن الطرائف التي أذكرها في هذه الأيام أننا علمنا ونحن في نادي السيارات أن والدة الأستاذ أنور أحمد توفيت، ولم يكن معنا الأستاذ الدسوقي، واتفقنا توفيق بك ونجيب بك وأنا أن نرسل برقية واحدة تحمل أسماءنا نحن الثلاثة، وكانت الفكرة طبعا من تأليف توفيق الحكيم. ورأينا أن تكون الصيغة أحسن الله عزاءكم، وحين أرسلنا البرقية مع ساعي النادي، وعاد بباقي الجنيه وجدنا أن تكاليف البرقية لا تقبل القسمة على ثلاثة، فقال توفيق بك: «البرقية لم ترسل بعد، أوقف إرسالها ونختصرها.»
فقلت: «كيف نختصر من ثلاث كلمات؟»
فقال توفيق بك: «بسيطة، أليست البرقية تقول أحسن الله عزاءكم.»
فلنقل أحسن الله وكفى.
ولك أن تتصور شخصا مفئودا بوفاة والدته، ويجد برقية تسعى إليه لتقول أحسن الله، وفقط.
ومن طرائفه أيضا التي لا أنساها أنني كنت معه وحدي نتناول الغداء في أحد مطاعم الإسكندرية، وجاء النادل يسألنا عما نريده حلوا، وكان توفيق بك منهمكا في الحديث بحرارة فقال: «عندك عنب؟» - «نعم.» - «هات عنب.»
وحتى لا أقطع عليه الحديث قلت أنا أيضا في سرعة: «وأنا الآخر، هات لي عنب.»
وإذا بالجزع يرتسم على وجه توفيق بك، ويقطع حديثه المتدفق، ويلقف النادل قبل أن ينصرف: «انتظر، انتظر.»
ونظر إلي: «أنت تريد عنب؟»
قلت: «نعم، لا بأس.»
فإذا هو يقول للنادل وكأنه يحتسب الله: «طيب هات لي أنا تين بقى.»
وأراد أن يكمل الحديث فلم يجد مني مستمعا وإنما قاطعته: «ماذا جرى، لماذا هذا؟» - «ماذا؟» - «لماذا امتنعت عن العنب لما طلبت أنا لنفسي عنبا؟» - «آه، اسمع إياك أن تطلب طلبين من نوع واحد في مطعم أبدا. سيحضرون لك نصيبا واحدا ويحسبونه عليك نصيبين.»
وما زلت حتى اليوم أعمل بهذه النصيحة الغالية.
وفي أول يوم زرته في مبنى الأهرام الجديد نادى محمد ساعي مكتبه، وقال له: «هات قهوة لثروت بك.»
فإذا بمحمد يبقى مكانه ولا يتحرك، ويقول: «ليس عندي بن.»
وإذا بتوفيق بك يضحك ويقول له: «لا، لا، دا لأ؛ ثروت بك مستثنى، جيب له قهوة.»
وفهمت طبعا أنه مصدر أوامر لساعي المكتب أن يقول دائما إنه ليس عنده بن للقهوة، وبقي أن تعرف أن ثمن فنجان القهوة في الأهرام في هذه الأيام كان عشرين مليما «قرشين». وطبعا حين عينت بالأهرام أصبحت أتولى مسألة القهوة هذه كلما زرته في مكتبه.
ومن عادات توفيق بك اللطيفة أنه إذا أراد أن يعزي أي شخص من العاملين معه في الأهرام يقطع ورقة على حجم البرقية، ويكتب فيها صيغة برقية ويرسلها مع الساعي، ويعفي مصلحة البريد من متاعب إبلاغ البرقية.
ولكن كل هذا الذي أرويه يخفي الحقيقة المؤكدة، وهي أن توفيق بك من أكرم الناس الذين عرفتهم في حياتي. وأنا لا أعرف إنسانا أغدق على أسرته، المرحومة زوجته والمرحوم ولده الوحيد إسماعيل والسيدة الفاضلة ابنته أطال الله عمرها، ما أغدقه توفيق بك على أسرته هذه.
ومن طرائفه مع المرحوم ابنه أنه طلبني يوما في التليفون الداخلي في الأهرام.
قال: «هل عندك أحد؟»
قلت: «نعم، كثيرون.»
قال: «كنت أريد أن أجيء إليك.»
قلت: «هل عندك أنت حد؟»
قال: «لا.»
قلت: «إذن أجيء أنا إليك.»
وذهبت إليه وإذا هو يقول في عجب: «إسماعيل يريد مني خمسمائة جنيه، وأنا أريد أن أعطيها له، ولكن أريد أن أقول إنني استلفتها منك حتى يردها فيما بعد.»
ضحكت، «وقلت: تحت أمرك.»
قال: «سأكتب لك كمبيالة وأريها له لعله يرد المبلغ كما يقول.»
وضحكت من هذه المسرحية المفككة وقلت: «أنا تحت أمرك.»
وأنا أقدر في نفسي أشياء كثيرة أبسطها أن إسماعيل يعرف أن الصلة بين والده وبيني لا يمكن أن تكون المعاملة فيها بالكمبيالات، ولكني لم أشأ أن أبدي أي اعتراض، وكتب الكمبيالة، ووقع عليها ووضعها في جيبه.
ومرت شهور، وقال لابنه يوما: «ثروت بك يريد المبلغ.»
فقال إسماعيل رحمه الله في ذكاء: «يا بابا هذه أول مرة تكون فيها الكمبيالة مع المدين، وليس مع الدائن.»
وأدرك عميد المسرح العربي إلى أي حد كانت مسرحيته ساذجة، ولا عجب، فالجمهور في هذه المسرحية هو ابنه الحبيب.
إن صلتي بتوفيق الحكيم هي صلة بنوة من ناحيتي وأبوه من ناحيته، وهو يشعر ببنوتي شعوري بأبوته. وهو دائما يقول أنت وزوجتك وابنك وابنتك أسرتي أحس أن ابنتي زينب أخت لكم، هكذا دائما أشعر بكم، وهو يعلم أن هذا هو شعوري، وتلك هي مشاعر بيتي جميعه نحوه. (4) الدكتور طه حسين
حين توفي أبي في 22 يناير عام 1953م أقيمت له حفلات تأبين من أسوان إلى الإسكندرية. وأقام له مدني بك حزين وأسرته مأتما في بلدتهم العظيمة إسنا، ووقفوا يتلقون العزاء، وأرسلوا إلى غزالة حيث أقمنا ثلاث ليالي المأتم برقية يقولون فيها: «أقمنا المأتم بإسنا، فنعتذر عن حضور المأتم في غزالة.»
وكذلك فعل أبناء الزقازيق في الأربعين، فقد أقاموا ليلة الأربعين في الزقازيق، وأحياه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وكان هذا في أول ظهوره.
وكان من الطبيعي أن يقيم له زملاؤه في حزب الأحرار الدستوريين حفل تأبين مع أن الحزب كان قد حل إلا أن الرجال رجال في حزب كانوا أو لم يكونوا.
وبدأ هيكل باشا يعد لحفل التأبين. وكنت بمنزله فإذا هو يقول فجأة: «أنا أريد طه حسين يشترك معنا.»
والتفت إلى أحد مساعديه وقال: «اطلب لي الدكتور طه.»
وطلب المساعد الدكتور، وقال لهيكل باشا الدكتور طه على التليفون، وكنت أقف بجانب التليفون مباشرة، وقال الدكتور هيكل باشا: «يا طه.»
وأصبت أنا بنوع من البهر، هل يمكن أن يقول أحد للدكتور طه حسين باشا بأكمله يا طه، وما لبثت أن تنبهت بعد لحظة أو هنيهة أن المتكلم هو الدكتور محمد حسين هيكل باشا رفيق عمره، وصاحبه على الطريق من أول الطريق. وقال هيكل: «نقيم حفل تأبين لدسوقي يوم كذا، وأريدك أن تشترك فيها.»
وسمعت صوت الدكتور طه قادما إلى أذن هيكل باشا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوته في التليفون.
قال، وما أعظم ما قال: «في هذا اليوم أنا عندي محاضرة سألقيها في الجامعة. سألغي المحاضرة، وأعتذر عنها، وأحضر التأبين وأتكلم.»
ملأني التأثر بهذا الحديث القصير. وأقيم حفل التأبين، وكان من أروع حفلات التأبين التي شهدتها مصر.
وتفضل الأستاذان الكبيران العوضي الوكيل وأحمد عبد المجيد الغزالي، فجمعا في كتاب واحد ما قيل في حفلات التأبين التي أقيمت في أبي كما جمعوا في الكتاب كل الكلمات التي نشرتها الصحف في رثائه.
وظهر الكتاب بعد حوالي عام من وفاة أبي، وظهر في نفس الوقت كتابي «ابن عمار».
ورأيت من الطبيعي أن أقصد إلى الدكتور طه حسين باشا، وأقدم إليه كتاب الرثاء شكرا منا، أو محاولة شكر لكلمته الرائعة التي ألقاها في التأبين ولوفائه العظيم الذي جعله يلغي محاضرة له ينتظرها الآلاف ليشارك في التأبين، ومحاضرة طه حسين لا ينوب عنه فيها أحد، ولكن التأبين يمكن أن يتم إذا هو اعتذر عن عدم الحضور فيه.
طلبت موعدا من الدكتور طه حسين وأعطانيه، وقصدت إليه في بيته بالزمالك، في الشارع المسمى باسمه اليوم، وكان هذا قبيل انتقاله إلى الهرم بشهور قليلة. وصحبت معي في زيارتي له رواية ابن عمار. وفي هذه الجلسة لم أشعر إلا بالانبهار، فلم أكن أتصور أنني سأجلس إلى طه حسين في حياتي .
وأذكر بعد ذلك أنني ذهبت إليه في هذا البيت مرة أو مرتين، وبدأت العلاقة على كثير من الاستحياء من جانبي. فأنا من أشد المعجبين بطه حسين عميد الأدب العربي، وأعتبره أكبر علامة في جيله الأدبي، وكان الدكتور طه حسين دستوريا، وكان يكتب في السياسة جريدة الحزب، وكان على صداقة بأبي في هذه الفترة، وقد ذكر الدكتور طه أبي في كتابه حديث الأربعاء. ثم ترك الدكتور طه الحزب، وكتب بعض مقالات كان أبي يخالفه الرأي فيها، وخاصة حين كتب عن حافظ إبراهيم ما معناه أن مدحه لملكة الإنجليز يشبه مدحه للأسرة الأباظية، فرد عليه أبي بمقال غاية في العنف لا أريد أن أذكر منه شيئا، وإن كنت معتقدا أن أبي كان على حق. ومع هذا الخلاف فإن أبي كان دائم الإعجاب بأدب طه حسين ودائم المديح له حتى لنا نحن بنيه وأهل بيته، فأنا لم أر رجلا في حياتي يعدل في حكمه مثلما كان يعدل أبي. لعلك تذكر كيف كان يمتدح حسن صبري باشا كرئيس للوزراء مع أنه هو الذي حال بينه وبين دخوله وزارة محمد محمود. ولم يختره معه في الوزارة مع أنه كان سكرتير عام الحزب، وأولى رجاله بها، ولكن هذا جميعه لم يمنعه أن يراه من أحسن رؤساء الوزارات الذين تولوا الحكم. ولم يحاول وهو البرلماني المتمرس الخبير أن يحرجه، ولو لمرة واحدة في مجلس النواب.
كذلك كان هو، وقد كان إعجاب أبي بطه حسين، وأسلوبه لا حد له، مع أن الدكتور طه كان وفديا من الحزب المعارض لحزب أبي.
وكان الدكتور طه يروي لي دائما كيف أنه احتاج يوما لإطارات لسيارته أيام الحرب، وكانت وزارة المواصلات التي كان أبي وزيرا لها هي المختصة بإعطاء الأذون للإطارات، وكان أخو الدكتور طه الشيخ أحمد حسين قد عمل مع أبي في وزارة الأوقاف، فطلب الدكتور طه إلى أخيه أن يرجو أبي ليعطيه الإطارات التي يريدها.
ويذكر الدكتور طه في سرور بالغ أن أبي غضب لهذا الطلب كل الغضب، وطلب من الشيخ أحمد حسين أن يصله بالدكتور طه تليفونيا، وقال له حين سمع صوته: «هل وصل الأمر أن ترسل لي وساطة بيني وبينك؟ لم أكن انتظر منك هذا أبدا.»
وأرسل إليه الإذن الذي يطلبه.
حدث أن تطاول أحدهم على أعلام الأدب، فكتبت مقالة عنيفة أهاجم هذا التطاول، ونشرتها في مجلة الرسالة الجديدة التي يرأس تحريرها الأخ الأعز العظيم يوسف السباعي، وفي نفس الأسبوع كنا في اجتماع كبير بنادي القصة، وحضر الاجتماع رئيس النادي الدكتور طه وأبدى إعجابه بمقالي ففرحت، ولم يكن فرحي بإعجابه قدر فرحي أنه يقرأ لي.
لا أدري لماذا كنت محرجا أن أوثق الصلة بيني وبينه، أو ربما كان ذلك لشعوري أنه عملاق عظيم، ومن حقه ألا يسطو أحد على وقته مهما يكن هذا الأحد معجبا متحمسا غاية التحمس في إعجابه.
وحدث أن كتبت روايتي «هارب من الأيام»، وظهرت في الأسواق أوائل عام 1957م، وكنت وأنا أكتبها يجمح بي الخيال وأسأل: ترى هل يقدر لهذه الرواية أن يقرأها طه حسين؟ وما تلبث نفسي أن تردني في عنف: حنانيك، ومن أنت حتى يقرأ لك طه حسين؟ لم يبق إلا أن يقرأ للبادئين من أمثالك، اعرف قدر نفسك أيها الشاب.
ولكنني مع ذلك لم أتردد أن أذهب بالنسخة الأولى إلى بيت الدكتور طه في الهرم، واترك الرواية مع بطاقة لي دون أن أستأذن في الدخول، ودون أن أسأل عما إذا كان الباشا موجودا أم لا.
ومرت أيام قلائل، وإذا بصديق العمر أخي الذي قل أن أعرف أحدا في وفائه ورحابة قلبه أمين يوسف غراب يأتي إلى البيت، وهو يكاد يطير من الفرح: «الباشا يريدك.» - «حقا!»
قال في فرحته الغامرة: «إنه معجب بهارب من الأيام، وعاتب عليك؛ لأنك لا تزوره.»
فقلت له وقد أصبحت فرحته في نفسي طيورا مجنحة دائمة الدف بجناحيها: «وماذا تنتظر؟ هيا بنا.»
ورحب بنا الدكتور طه ترحيبا زاد من فرحتي. وبعد لحظات أخذني فيها ذهول الفرح تبينت أنني سلمت دون وعي على الأستاذ الأديب عباس خضر كما سلمت على آخرين لا أذكرهم اليوم.
وقال الدكتور: «لقد أعجبت بروايتك كل الإعجاب.»
فقلت: «إنه شرف لي أن تقرأها، فكيف إذا أعجبت بها؟»
قال هذه الجملة التي أعتبرها أعظم وسام نلته حتى اليوم، وأنا في السابعة والخمسين من عمري، ولكن ما تزال هذه الجملة أعظم وسام نلته مكانه مني القلب لا ظاهر الصدر: «بإخلاص لم يكتب في تاريخ العربية عن الريف المصري مثلما كتبت أنت في روايتك هارب من الأيام.»
وتاهت مني الكلمات، وشرقت بها، ورحت أجمع الحروف لأقول: «أنا لا أتحمل كل هذا يا معالي الباشا.»
وصمت قليلا وبدا أنه يفكر كيف يقول ما يريده دون أن يفهم الجالسون ما وراء جملته، وما لبث أن قال: «أنت أديب، قلت ما تريد أن تقوله عن طريق الرواية.»
وفهمت إشارته فقد كانت الرواية تفضح الطغيان وتدينه بعنف.
وتغير الحديث، ومكثنا بعض الوقت، وجاء الوقت الذي ينبغي فيه أن نستأذن للانصراف، فإذا الدكتور يقول: «سأشدك من أذنك، لا تظن أنك ستقرأ لي مديحا فقط توقع أن أشدك من أذنك.»
فقلت وقد زادت سعادتي: «ستجدني أسعد الناس أن تشد يدك أذني.»
وخرجت، ما هذا الذي حدث؟ إن الحياء يمنعني أن أذكرك من هؤلاء، في تاريخ الأدب الذين كتبوا عن الريف المصري، وسيشد أذني؛ إذن سيكتب عن هارب من الأيام، يكتب عن أول رواية من خلقي؛ فابن عمار لم تكن لتكتب لولا التاريخ أما هارب من الأيام فروايتي الأولى.
ذلك والله ما لم تستطع أن تسمو له أحلامي. وإني اليوم أذكر كلمة قالها عميد الحقد الأدبي الدكتور لويس عوض، وكنا جلوسا في الحرافيش، فإذا هو فجأة يقول لي على غير انتظار أو توقع، وبعد سنوات من ظهور هارب من الأيام كانت ظهرت لي فيها عدة روايات أخرى، قال الدكتور عميد الحقد: «أتعرف لماذا لا نكتب نحن عنك؟»
وأدركت أن نحن هذه تعني الشيوعيين طبعا، وطبعا أيقنت وأنا لا أتوقع أن يكتبوا عني طبعا أيضا، وإنما أحببت أن أعرف بماذا يطمئنون ضمائرهم الأدبية فقلت: «لا، لا أعرف.»
قال في وقاحة جديرة به: «لأن طه حسين كتب عن روايتك الأولى. ماذا؟ هل ولدت عملاقا مثل التليفزيون؟»
وقلت في بساطة: «على كل حال إن كتابة طه حسين عني تغنيني عن كل نقاد العالم.»
ونقلت الحديث إلى غير ما خاض فيه حتى لا أفسد السمر على الحرافيش في بيت أخينا العزيز الراحل محمد عفيفي.
مرت أيام قليلة بعد خروجي من عند الدكتور طه حسين، وطلبتني جريدة الجمهورية تسألني أن أرسل لها صورة لي لتنشر مع مقالة الدكتور طه.
ولم أنم تلك الليلة، وفي الفجر كنت أقرأ الجمهورية ووجدت المقالة فوق ما أتوقع وجدت الدكتور يأخذ علي مآخذ فهمت ما يريده منها، وفي العاشرة من الصباح كنت على باب منزله لأول مرة أزوره على غير موعد، وقلت: «أنا فعلا لا أعرف ماذا أقول.»
قال: «الله، إذن أنت لم تزعل.»
قلت: «فمتى أفرح في حياتي إذا زعلت اليوم؟»
قال: «قل لي ماذا تقصد بروايتك؟»
قلت: «معاليك قلت أنت أديب قال ما ...»
ولم يجعلني أكمل وقاطعني: «دعك مما قلت أنا، وقل لي أنت ماذا تقصد.»
قلت في بساطة وصراحة: «أنا أصف عهد الطغيان الذي نعيش فيه.»
فإذا الرجل يقول في أبوة حانية: «هيه، أنا فهمت هذا.»
فقلت: «وإذا لم تفهم أنت، فمن؟ وأنا فهمت أنك هاجمت بعض أفكار من الرواية لتحميني.»
قال: «برافو. نعم هذا ما قصدت إليه، حتى إذا سألك أحد تقول اسأل طه حسين، فهو يقول غير هذا، إنما اسمع أنا أستحلفك بحياتي إذا كنت تحبني، وأستحلفك بأبيك الذي أعرف أنك تحبه وتقدره ألا تقول هذا الذي قلته لي لأي إنسان، ولا حتى لزوجتك. هؤلاء قوم مجرمون والله يعلم ماذا يصنعون بك إذا فهموا هذا الفهم.»
كان برنامجي أن أسافر إلى غزالة في هذا اليوم، فخرجت إلى غزالة، وكتبت له خطابا، قلت له فيه إن كتابتك عني أهم حدث في حياتي، ولكنني ربما كنت أصل إليها بعد سنوات إذا فاتني أن أصل إليها اليوم.
ولم أكن أتصور أنني سألقى سعادة أكبر من أن تكتب أنت عني، ولكنك كشأنك تسمو إلى مدارج يعجز مثلي أن يتصور إنسانا يصل إليها.
إنه لشيء عظيم أن ينقدني ظاهرة من الظواهر الكونية في التاريخ الأدبي، ولكن الأعظم منه أن أجد فيك الأب الذي فقدته. وقد يتاح للإنسان من أمثالي أن يصلوا إلى النجاح الأدبي، ولكن هيهات أن يتاح للإنسان أن يجد أبا بعد أن يفقد أباه.
وتوثقت الصلة بيني وبين الدكتور طه حسين، وكتب لي بعد ذلك عن رواياتي «قصر النيل» و«ثم تشرق الشمس» و«لقاء هناك».
وأذكر أنني كنت جالسا معه مرة، فقلت له إن مجلة كذا كتبت عن معاليك مقالة أقرأتها؟
فقال: «لا، ماذا قالت؟»
قلت: «تمدح معاليك.»
قال: «من أي ناحية؟»
قلت: «تتكلم عن جملتك المشهورة العلم كالماء والهواء.»
فقال: «هيه.»
ثم صمت قليلا وقال: «والله يا ثروت لا أعرف إن كنت قد أصبت أم أخطأت بهذا الشعار.»
وكانت مساوئ التعليم المتسع دون إعداد علمي له قد بدأت تظهر فآثرت الصمت، وكنت إذا تأخرت في الذهاب إليه يبادرني قبل أن يسلم علي ببيتين أصبحت أحبهما غاية الحب:
إن كنت أزمعت على هجرنا
من غير ما ذنب فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله ونعم الوكيل
كان طه حسين من أكرم الناس الذين عرفتهم، طالما شهدته يعطي الفقراء، وكان كثيرون من مكفوفي البصر يقصدون إليه، ولا أنسى أول مرة زاره أحدهم في وجودي ومد كل منهما يده للآخر، ولكن اليدين لم يعرفا طريقهما في الظلام الدامس الذي يعانيه صاحب كل منهما، وبسرعة تقدم فريد شحاتة وهدى اليدين إلى الطريق وتصافحا. وتأثرت أنا وطفرت الدموع إلى عيني، وحمدت الله أن الرجلين لم يريا دموعي التي حاولت أن أخفيها عن فريد أيضا.
ذهبت يوما لزيارة الدكتور أنا والصديق أمين يوسف غراب، وسأل الباشا أمين: «ماذا تكتب الآن يا أمين؟»
وكان أمين في الطريق روى لي موضوع قصة يكتبها، وقلت له إن الفكرة تتعارض مع الشريعة، فسارعت أنا بإجابة الدكتور طه: «يكتب قصة تتعارض مع الشريعة.»
ورويت المسألة الشرعية فقال: «أظنك على حق، يا فريد هات المصحف.»
وأحضر فريد المصحف، وقال الدكتور: «افتح على سورة النساء، اقرأ الآية التي أولها كذا . أقرأ بعدها بآيتين.» فإذا هي الآية التي تحمل القاعدة الشرعية موضع النقاش. وتلك ذاكرة لا تتأتى إلا لطه حسين. وقد كان رحمه الله لا يسمع في الإذاعة إلا المصحف المرتل، ولكن المشايخ القراء إذا سألتهم فإنهم يقرءون السورة كلها ليصلوا إلى الشاهد الذي تريد.
أجريت عملية جراحية للدكتور طه تدهورت صحته بعدها، فأصبح يمشي بصعوبة بالغة، ولكن الرجل الذي صارع إظلام البصر فصرعه استطاع أن يصارع قيود المسير فيصرعها. فهو حريص دائما أن يرأس جلسات مجمع اللغة العربية الذي كان يسميه الأكاديمي أو الأكاديمية، كما كان يحرص على إعطاء المحاضرات. وظل كذلك إلى قبيل وفاته بسنتين. وفي هذه السنة تدهورت صحته بصورة مفاجئة، ولكنه كان يصر أن يرافق السيدة زوجته إلى فرنسا كل عام.
وطلبته يوما في التليفون، وكان فريد قد تركه. ورد على سكرتيره قائلا: «الباشا سيسافر الآن إلى الإسكندرية، ويريد أن يراك فورا.» وبعد دقائق كنت عنده، وصعدت إليه في حجرته، وكان مستلقيا في فراشه، وجلست إلى جانبه، وحاول أن يخرج يده ليصافحني، فلاحظت أنه يبذل جهدا كبيرا ليحركها، فأدخلت يدي تحت الغطاء، وأبقيت يده حيث هي، حتى لا أجهده، وانتظرت أن يقول لي شيئا يبرر قول السكرتير لي أنه يريدني، ولكنه لم يقل إلا: «أنا متعب جدا يا ثروت، أنا متعب جدا.»
وعجبت أنه مع هذا التعب سيسافر من فوره إلى الإسكندرية في طريقه إلى فرنسا.
وانصرفت وقلبي يرتجف خشية ألا أراه بعد ذلك، ولكنه عاد وقضى العام في القاهرة. وفي يوم طلبني سكرتيره، وأخبرني أن الباشا يريدني، فذهبت فإذا هو يريدني ليهدي إلي كتابه الأخير الجزء الثالث من الأيام. وليأذن لي القارئ أن أذكر صيغة الإهداء، فهي وسام آخر أضعه في القلب مني مع وسامه الأول: إلى الأستاذ فلان أوفى الأصدقاء، وأبرع القصاص.
وفي صيف عام 73 سافر الدكتور طه إلى فرنسا.
وفي أكتوبر كانت حربنا المنتصرة، وكنت في البيت، ولا أدري لماذا قفز إلى ذهني أن أسأل عن موعد مجيء الدكتور طه، وطلبت الرقم وأجاب السكرتير ، فإذا هو يقول في دهشة بالغة: «غير معقول! لا يمكن.»
قلت له: «ماذا؟» - «الدكتور في هذه اللحظة كان يقول له أن اطلب لي ثروت لأعزيه في وفاة عزيز باشا.»
تفضل الدكتور سيكلمك، وتكلم الباشا وحياني وعزاني، وسألته: «متى شرفت معاليك؟»
فإذا هو يقول: «الآن.»
وتعجبت أن أطلبه ساعة وصوله، وسألته عن صحته فقال: «أنا متعب جدا، متعب جدا. وأريد أن أراك، سأطلبك بعد يوم أو يومين لأراك.»
مات الدكتور طه، ولم يقدر لي أن أراه. فقد مات بعد يومين، وسارعت إلى منزله، ولقيني سكرتيره والدموع في عينيه وهو يقول لي: «لقد قرأ الدكتور روايتك الأخيرة «جذور في الهواء» أربع مرات، وكنت كلما قلت له إننا قرأناها، يقول: «نعم أعرف، ولكن أريد أن أقرأها مرة أخرى».»
وغامت عيناي بالدموع.
ودخلت السيدة زوجته حجرة مكتبه، حيث كنت جالسا مع بعض المعزين، وإذا بالسيدة الجليلة تحتضنني في حنان أم، وتربت كتفي وتبكي على كتفي، وهي تقول بالفرنسية: «كان يحبك جدا مسيو أباظة كان يحبك جدا.»
وهي لا تدري أن حبه لي مهما يكن شأنه هو بعض حبي له.
وحسب هذا الحب عمقا أنني وأنا رجل صناعتي الكلام عاجز كل العجز أن أصف بعضا منه. (5) حمام والديب وأحمد عبد الغفار باشا
لا أذكر متى عرفت مصطفى حمام، ولكن المؤكد أنني عرفته ونحن بعد في بيت الملك الناصر، وقد تركنا هذا البيت، وأنا بين الحادية عشرة والثانية عشرة. والحقيقة أنني لم أعرف في حياتي شخصا قادرا على أن يجعل الجلسة ممتعة شيقة مثل مصطفى حمام.
لقد كان كل جالس يجد عنده ما يشتهي؛ فهو راوية خيارة للشعر يحفظ أجمله، وأرفعه، وأكثره رقة، وهو راوية لا مثيل له للزجل. وهو قبل شاعر إذا شاء ارتجل الشعر ارتجالا وتحسبه جهد في صنعه كل الجهد؛ فأنت ترى في شعره جمال السبك ، وحلاوة اللفظ، وتماسك المعاني وتدافعها. ومهما أحاول فإنني لن أستطيع أن أنقل إليك المتعة الرائعة التي يفيضها حمام على أي مجلس هو فيه. يؤيده في ذلك ذكاء بارع في اختيار ما يقال في كل مجلس بحاسة لا تخطئ، يختار حديثه، فإذا هو يجتذب الجالسين كفعل الساحر الخبير.
وأشهد أنني لم أسمع حمام عمري يذم إنسانا، أو ينتقص منه. وهو يملك لسانا عذبا يرضي به كل متحدث إليه، ولعل من أطرف المواقف التي رأيته فيها يوم طلب أبي من القاهرة، وكنا نحن مع أبي في بلدتنا غزالة. وأخبرني أبي أنه قادم إلى غزالة، وأراد أبي أن يفاجئه، فأمر فتجمعت من رجال البلدة مظاهرة ضخمة في مقدمتها طبال القرية وزمارها، وأعدوا للقادم حصانا صافنا أصيلا، وذهبت أنا بالمظاهرة ننتظر حمام على القطار في محطة أبو الأخضر التي تبعد عن غزالة كيلومترين. ووقف القطار، وارتفع الهتاف يحيا الأستاذ حمام، وذهل الرجل، فقد كان يتوقع أن يكون السائق في انتظاره، وإن جمح الخيال فلأكن أنا مع السائق، أما مظاهرة وطبل وزمر وحصان وأنا، فهذا فوق ما كان يتخيل. نزل مبهورا وركب الحصان، ولم يكن قد ركب حصانا في حياته، وشاء حظه أن يكون الحصان عربيا راقصا فراح يوقع بحوافره مع موسيقى الطبل والمزمار. وكاد يغمى على حمام، واستحلفني أن يركب حمارا وإلا مات من الخوف في وسط الطريق، ورحمته وأركبته حمارا وجدنا بالصدفة في طريقنا، ووصل الموكب والزعيم القادم يركب حمارا، واستقبله الشاعر الكبير ابن غزالة أحمد عبد المجيد الغزالي بقصيدة عصماء كان مطلعها:
أتيت فمرحبا بك يا حمام
وفي كنف العلا يحلو المقام
وقضى معنا في غزالة أياما لا تنسى.
أراد حمام أن يقدم عبد الحميد الديب إلى أبي، فجاء به وألقى عبد الحميد أبياتا لأبي رائعة أذكر منها:
جابر المحروم وهاب المنن
جبر الله به صدع الوطن
أنت إبراهيم ثاني نابغ
فجع الكفار في حطم الوثن
وكان هذا اللقاء في أوائل الأربعينيات، وكان أبي قد خرج منتصرا على الوفد في المعركة الانتخابية الشرسة التي رويت لك أنباءها، والتي جرح فيها عمي فكري أباظة، ولف أبي خمسة جنيهات في هيئة سيجارة وقدمها إلى عبد الحميد الديب. وخرج الديب وحمام، وعاد حمام إلينا في اليوم التالي ليخبرنا أن الديب كاد يجن من الفرح، وراح يقول لحمام: «لماذا لم تعرفني بهذا الرجل من زمان؟ خمسة جنيهات مرة واحدة. أنا لا أراها إلا في الأحلام.»
وبعد أيام عاد إلينا حمام، وقال لأبي: «اسمع يا معالي الباشا الشعر الجديد الذي قاله الديب في الأباظية.»
وسأله أبي: «ماذا قال؟»
وقال حمام: قال:
أبلغ أباظة عني أنهم ورثوا
مالا ولم يرثوا دينا ولا خلقا
واندهش أبي وراح يضحك لهذا الانقلاب، وسأل حمام عن سره، فقال حمام: «سألته.»
وقال أبي: «فماذا قال؟»
قال حمام: «قال خمسة جنيهات إيه يا أستاذ هو باع القطن بكام السنة دي؟»
وضحك أبي، ولكنه قال في ذكاء السياسي المحنك: «المسكين وقع فريسة لخبيث أراده أن يهجوني حتى يقطع عنه ما أعطيه.»
وصاح حمام: «أطال الله عمرك يا باشا. هذا فعلا ما حدث، لقد أغراه بك كامل الشناوي.»
ولم يغضب أبي من عبد الحميد الديب وظل يصله.
وحدث بعد ذلك بسنوات أن ذهب عبد الحميد الديب إلى معالي المرحوم أحمد باشا عبد الغفار، فوجد الباشا في الطابق الأعلى، فأرسل إليه أبياتا يمتدحه بها، فأرسل له أحمد باشا خمسين قرشا، فغضب عبد الحميد الديب، وأعاد الخمسين قرشا، ومعها هذه الأبيات:
كسرت أبا عثمان قلبي وخاطري
وقد خلت منك العطف في العيش جابري
وما جئت أستجديك خمسين لعنة
ولا مر هذا الميل يوما بخاطري
ففي كل غفار خلال ذميمة
وأخلاق نذل ساقط الأصل داعر
أباظة أسمى منكمو في نجارها
وأندى أكفا في صلات العشائر
وأذكر أنني كنت في صباح ذلك اليوم واقفا بجانب أبي، وهو يحلق ذقنه في حجرته على عادته، ولم يكن عندنا أي فكرة طبعا عما حدث لأحمد باشا، وإذا بالتليفون يضرب ويخرج إلى أذني صوت أحمد باشا عنيفا، ودون تحية الصباح، ودون أن يسألني من أنا، فقد كان يعرف صوتي من كثرة ما أجبته في التليفون: «فين أبوك؟»
وأعطيت السماعة لأبي، وظل صوت أحمد باشا يصل إلى أذني، وكأنني أضع السماعة على أذني: «إنت باعت لي الواد بتاعك يشتمني على الصبح.»
وعجب أبي وقال: «واد مين؟»
وروى أحمد باشا لأبي القصة، ولم يكن محتاجا أن يؤكد أبي له أنه لا يعرف شيئا عن هذه الحكاية، ولكن أحمد باشا قال له: «دي أخرة تدليعك للعيال الشعرا بتوعك دول.»
وراح أبي بعد أن وضع السماعة يضحك، ويضرب كفا بكف، وهو يقول لنا في مرح ضاحك: «بس أنا مالي! ما دخلي أنا؟»
ورحنا نحن أيضا نضحك مما فعله الشاعر عبد الحميد، وبما أنني رويت عنه، فإنني أحب أن أثبت هنا ما وصلت إليه في شأنه. لقد كان هذا الشاعر يستعذب الفقر والصعلكة. وكان يخشى أن يجري المال في يده فلا يقول شعرا. وهو فعلا لا يستطيع أن يجيد إلا في شكوى الزمن، أسمعه يقول:
بين النجوم أناس قد رفعتهموا
إلى السماء فسدوا باب أرزاقي
ومن حبته الطلا أخلاق نشوتها
عدا على الكأس طورا أو على الساقي
وقد اتصلت أسبابي بالرجل أحمد باشا عبد الغفار بعد وفاة أبي. وكان هذا طبيعيا ففي حياة أبي كانت صلته مباشرة، ولم أكن أتصور أن أحمد باشا من أحسن الذين يقرءون الأدب، وله فيه ذوق رفيع وحس رقيق. وكان في جلسته متحدثا لبقا، وكان كأهلنا في القرى يروي الكثير من الوقائع، ومما رواه أن أحد وزراء الداخلية استدعاه في أحد الأيام، وهو بعد شاب في أول حياته السياسية، وكان يريد أن يتعرف رأيه في المرشحين بالمنوفية لمجلس النواب. وحين استقرت به الجلسة جاء سكرتير الوزير ليخبره أن أحد الباشوات الأثرياء بالخارج.
وقال الوزير: «ادخل.» ودخل الباشا، ثم التفت الوزير لأحمد عبد الغفار وقال: «عن إذنك يا أحمد بك.»
ونظر إليه أحمد عبد الغفار الفلاح الأصيل ذو الإباء والكرامة، وقال: «تقصد معاليك أن أخرج وأنتظر لتقابل معاليك سعادة الباشا، حتى إذا انتهى سعادته من حديثه أدخل أنا.»
فقال وزير الداخلية: «دا إذا سمحت.»
فقال أحمد باشا في صراحة الرجال: «لا يا أخي ما أسمحش أبدا، أنت مستدعيني تسألني عن ترشيحات المنوفية كلها الباشا القاعد قدامك هذا لو رشح نفسه في بيته لا يستطيع أن يحصل على صوته هو.»
وخرج الباشا، وأكمل أحمد عبد الغفار حديثه مع الوزير.
وأذكر أنني قلت لأحمد باشا يوم روى لنا هذه الحكاية: «ألم تكن قاسيا على الباشا دون ذنب له؟»
وضحك أحمد باشا، وقال: «لك حق، ولكن كنت أرد للباشا إساءة وجهها إلي قبل ذلك؛ فقد تجاهلني مرتين دون مناسبة، فأحببت أن أعرفه مقامه.»
وكان أحمد باشا عبد الغفار من أكرم الناس الذين عرفتهم في حياتي، وكان كثيرا ما يدعو أصدقاءه إلى الغداء أو العشاء في كلوب محمد علي، وكان في هذه الدعوات يغدق بغير حساب.
ولكن الأهم من ذلك أنه كان يحسن إلى المحتاجين في كرم لا مثيل له. فهو موطأ الأكناف، يوسع على الناس بكل ما يستطيع من جهد. وكان إذا عرف أن صديقا له في ضائقة سارع إليه دون أن يندبه أحد إلى هذا، وإنما يتبرع بالمبادرة، ويسعد غاية السعادة بأن يعطي ويحس بالرضا غاية الرضا أن الظروف أتاحت له أن يقف إلى جانب صديق مكروب. وكان أحمد عبد الغفار يقدر الرجولة، ويعجب بها غاية الإعجاب.
وكان أحمد باشا معروفا بالصوت المرتفع الجهير، ومن أطرف النكات التي تروى عنه أنه حين كان وزيرا للزراعة، جاء أحد أصدقائه ليقابله، فاستمهله السكرتير قائلا له: «إن الباشا مشغول.» وجلس الضيف، وإذا بصوت الباشا يملأ أجواء حجرة السكرتير، وشعر السكرتير بالخجل، فأراد أن يعتذر للضيف فقال: «لا مؤاخذة يا سعادة البك أصل الباشا يكلم تلا.» وتلا هي قرية الباشا، وفيها زراعته التي كانت معروفة في مصر جميعا أنها زراعة نموذجية لخبرة الباشا الفائقة بفلاحة الأرض. وتلا هذه قرية من المنوفية.
وإذا بالضيف يقول في سرعة خاطر رائعة: «ولماذا لا تقولون للباشا يكلم تلا بالتليفون بدلا من هذا الزعيق؟»
رحم الله أحمد عبد الغفار باشا الذي عاش رجلا، ومات رجلا على رغم كل ما أحاطه به الدهر في أخريات أيامه من تحديات واجهها في شموخ العظماء، وفي كبرياء الكرام. (6) الدكتور محمد حسين هيكل باشا
كنت كما أخبرتك في رأس البر حين ظهرت نتيجة الثقافة. ونلت شهادة الثقافة، وأصبحت طالبا بالتوجيهية. وأرحت عن كاهلي مشقة انتظار النتيجة، وانطلقت أقرأ ما كنت أهفو إلى قراءته من الكتب. وما كان انتظار النتيجة مانعي عن القراءة، ولكن ما أبعد الفارق بين قراءة مفزعة يملؤها رعب انتظار النتيجة، وقراءة هانئة خالية من الخوف. وكنت قرأت حياة محمد قبل هذا بسنوات، ولكن طاب لي أن أعيد قراءتها. وكنا في رمضان، فكنت أنزل إلى البحر حتى الساعة الواحدة ظهرا، ثم أعود إلى العشة وألبس ملابسي العادية، وأجر كرسيا ومظلة بحر، وكتاب «حياة محمد». ولا أشعر بالحياة، حتى تغرب الشمس، وأضيق بغروبها كل ضيق، وربما كانت هذه الأيام الوحيدة في حياتي التي كنت أرجو فيها وأنا صائم ألا يأتي الغروب.
وكان المرحوم محمد حسين هيكل باشا يصطاف في رأس البر معنا؛ فقد كان الجميع يصطافون في رأس البر في زمان الحرب العالمية الثانية التي أثرت أعظم الأثر في الدول المشتركة فيها وغير المشتركة.
وبعد الإفطار كنت أذهب مع أبي ليجلس مع أصدقائه في فندق كورتيل على النيل، وسألني هيكل باشا: «ماذا تقرأ الآن يا ثروت؟»
فأجابه أبي: «يقرأ حياة محمد للمرة الثانية، وأنا أنصحه أن يذاكر للبكالوريا التي سيمتحن فيها العام القادم.»
وقال هيكل باشا: «اتركه يا دسوقي يقرأ ما يريد، فكتب المدرسة سيقرؤها على أي حال، ولكن ربما لا يجد فرصة أخرى ليقرأ ما يقرأ الآن.»
كنت في هذه الجلسات أجلس صامتا كشأني في جلسات لجنة التأليف والترجمة والنشر. وكان جلوسي دائما بجانب هيكل باشا.
مال يوما علي وقال: «هل فرغت من حياة محمد؟»
قلت: «نعم، وأحسب أنني سأعود إليه مرات بعد ذلك.»
وفعلا عدت، وكتبت عنه تمثيليات إذاعية أذاعتها محطات العالم العربي كله بعد ذلك بسنوات قليلة ، وعاد هيكل باشا يسألني: «وماذا تقرأ الآن؟»
قلت: «أقرأ الشوقيات.»
قال: «ما آخر قصيدة قرأتها؟»
قلت: «مصائر الأيام.»
قال: «أتحفظ منها شيئا؟»
قلت في خجل: «نعم.»
قال : «قل.»
فبدأت أقول:
ألا حبذا صحبة المكتب
وأحبب بأيامه أحبب
ومضيت فرويت له بضعة أبيات، وسكت مقدرا أنه ربما يريد أن يعود إلى مشاركة أصدقائه حديثهم، ولكنه قال في ذكاء وإدراك لما أفكر فيه: «أتحفظ بعد هذا؟»
قلت: «نعم.»
قال: «أكمل.»
وأكملت، ظللت أسكت، ويطلب مني أن أواصل حتى رويت له القصيدة كلها، وكنت حفظتها عن ظهر قلب.
وأصبح هيكل باشا يصطحبني بعد تلك الجلسة في مشيته الطويلة حول رأس البر، وما كنت وما أنا حتى اليوم من هواة المشي، ولكن إذا كان المشي في صحبة هذا العلامة من علامات التاريخ الوطني والسياسي، فلتذهب هواياتي كلها إلى الجحيم.
ومن الأحاديث التي أذكرها في هذه المشيات أنني قلت له يوما: «لا بد أن شوقي كان شجاعا كل الشجاعة يا معالي الباشا.»
قال: «لماذا؟»
قلت: ألم يشتم الأمير حسين الذي أصبح السلطان حسين كامل حين ذهب إلى حفلة توديع كرومر بقوله:
شهد الحسين عليه لعن أصوله
وتصدر الأعمى بها تطفيلا
فقال هيكل باشا: «للأسف لم يكن شوقي كما كنا نود من الشجاعة؛
فالأمير حسين في ذلك الحين كان مغضوبا عليه من السراي.
وقد كان شوقي يمدح من في الحكم، ولا يعارض إلا إذا كان واثقا أن شرا لن يناله.»
قلت: «عجيبة!»
قال: «تصور أنه بدأ يكتب قصيدة في مدح محمد باشا محمود وهو رئيس وزارة 1928م، وسقطت الوزارة فلم يكمل القصيدة.» - «أتذكر معاليك شيئا من هذه القصيدة؟»
قال: «أذكر البيتين اللذين قالهما، قال:
هات الأمانة يا محمد هاتها
راعي الأمانة أنت وابن رعاتها
أنا لا أرى صدأ الحديد على يد
ردت إلى الأوطان حرياتها
وكان بهذا يرفع عن محمد باشا تهمة اليد الحديدية التي أطلقها عليه خصومه مستغلين فرصة كلمة قالها إنه سيقضي على الفوضى بيد من حديد.»
قلت لهيكل باشا: «مع ذلك فمعاليك كتبت له مقدمة رائعة للجزء الأول من ديوانه.»
فقال: «وإذا طلب مني أن أكتب له مقدمة في أي وقت ما تأخرت. إننا يجب أن نفصل بين الشاعر والسياسي. وشوقي الشاعر هو أعظم شعراء العربية على الإطلاق.»
وفي يوم كنا في القاهرة، وكان هيكل باشا عندنا يشرب فنجان قهوة واقفا لا أدري لماذا، ربما لمجرد أنه لم يرغب في الجلوس. وقرأت أنا في مجلة أن راقصة تقاضت مبلغا كبيرا من المال في مقابل رقصة لها، وأحببت أن أفاكه الباشا، فقلت: «أرأيت هذا الخبر يا معالي الباشا، راقصة تتقاضى كل هذا المبلغ في رقصة، كم تأخذ معاليك في كتاب بأكمله؟»
فأجاب في جدية: «يا بني لا، ما هكذا يكون الحساب. هؤلاء الراقصات ذقن الجوع والإذلال فترات طويلة من حياتهن، أما نحن فقد عشنا عمرنا كراما على أنفسنا وعلى الناس، والحمد لله.»
وبعد الثورة استدعته محكمة ثورية ليشهد شهادة تكون ذات أثر في إدانة فؤاد سراج الدين، فإذا هو وهو رئيس الحزب الذي يعتبر المعارض الأول لحزب الوفد حزب الأحرار الدستوريين يعلن في شجاعة منقطعة النظير أن منابر المجالس النيابية لم تشهد نائبا ولا شيخا في ذكاء فؤاد سراج الدين وبراعته إلا في النادر من الرجال. وأعجبت بما قاله، وقصدت إليه أهنئه، فقال في كبرياء: «وهل كنت تنتظر مني غير ذلك؟ أحارب خصما وهو في مأزق.»
وهو محق، فقد ذكرت له لحظة ذاك يوم تخطاه الملك في رئاسة الوزراء، وعين إبراهيم باشا عبد الهادي، وأراد الملك أن يعتذر إليه فاستدعاه، وقال له في تلطف: «ستأتي إليك رئاسة الوزراء يا باشا لا شك.»
فإذا هيكل العملاق يقول له: «يا جلالة الملك أنا حين أجلس إلى مكتبي وأكتب تصغر أمام عيني كل كراسي الحكم.»
وقد أوشك الرجل أن يقول حتى كرسي عرشك.
ولهيكل باشا حديث معي لا أتصور أن أتحدث عنه ولا أذكره. فقد توفي خالي سعد الدين أكبر أخوالي، وأكثرهم حنوا علي، وأقمنا المأتم بالزقازيق.
وكنت أنتظر نتيجة التوجيهية أو الثانوية العامة كما يسمونها الآن ، فرأيت أن أعجل بالسفر إلى مصر؛ لأتلقف أخبار النتيجة، وكان أبي سيبيت في غزالة، ودار الحديث أمام هيكل باشا فقال في بساطة: «تعال معي، أنا في السيارة وحدي مع خالتك عزيزة.»
وسارعت بالقبول.
وفي السيارة سألني: «تنتظر نتيجة التوجيهية؟»
قلت: «نعم.»
قال: «وعلام تنوي؟»
قلت: «الحقوق، ولو أنني أفكر أحيانا في الآداب.»
فقال: «إياك، إن الذي ستحصله من كلية الحقوق لا يمكن أن تحصله إلا من كلية الحقوق، أما الآداب فستستطيع أن تدرس علومها دون كلية. وها أنا ذا أمامك دراستي حقوق والماجستير والدكتوراه حقوق، ومع ذلك يقولون عني أني أديب.»
ولم أعد أفكر في كلية الآداب بعد ذلك، وتذكرت أن هذا الرجل الجالس أمامي نال الحقوق واللغة الأساسية الإنجليزية، وكذلك الماجستير، ثم نال الدكتوراه باللغة الفرنسية، إنه ظاهرة كونية هذا الرجل.
في هذا اليوم الذي ذهبت لأهنئه بشهادته ذات الرفعة والإباء، قال لي: «سأقص عليك قصة كلما رويتها أعجبت بأبطالها وحزنت لأنهم كانوا مع ذلك غزاة محتلين. يراعون العدل مع الأفراد، ولا يراعون العدل مع الأمم. في يوم من الأيام جاءني استدعاء إلى محكمة الإنجليز العسكرية. وحمل الاستدعاء ضابطان بريطانيان صحباني في سيارة محترمة إلى المحكمة. وجلست في مقاعد المحامين، حتى جاء دور القضية التي طلبت من أجلها، فنودي اسمي، ومثلت أمام المحكمة. وأمسك القاضي بجريدة السياسة، وسألني: «هل أنت رئيس تحرير هذه الجريدة؟» فقلت: «نعم.» قال: «أهذا يصح؟» وأشار إلى مقالة قرأت عنوانها فعرفتها، كانت مقالة يهاجم فيها د. طه حسين الأستاذ محمد أبو شادي، وكان الإنجليز يعتقلونه عند ظهور المقالة فتعجبت؛ ما هذا الذي لا يصح؟ إننا نهاجم رجلا أنتم تعتقلونه؟ ماذا في هذا؟ فقال القاضي: «في هذا أننا نعتقله. ألا تدري أننا حين نعتقله تصبح كرامته في أيدينا. كيف تهاجمون شخصا لا يملك الرد عليكم؟» فقلت بسرعة: «من هذه الناحية أنتم محقون، وأعدك ألا يتكرر هذا.» فقال: «شكرا.» وانصرفت، وأنا أتعجب كيف يكون للإنسان عندهم هذه القدسية، وتجدهم في معاملتهم للدول قراصنة، ولا ضمير على الإطلاق .»
توثقت صلتي بالمرحوم هيكل باشا، يزيدها أنها كانت علاقة عائلية؛ فوالدتي صديقة زوجته، وأبناؤه وبناته نعتبرهم طول عمرنا في بيتنا إخوة لنا.
وشاء القدر أن يلحق بالرفيق الأعلى عام 1957م، وأردت أنا والأستاذ الشناوي أن نقيم له حفل تأبين، وأخبرنا بذلك أحمد باشا عبد الغفار؛ فدعانا للقائه مع كبار رجال الحزب في نادي محمد علي، ولم نكن والشناوي أعضاء، فانتقل إلينا الباشا وأصدقاؤه في غرفة الضيوف، وعرضنا رأينا، وإذا بوزير سابق من وزراء الحزب أكن له كل إكبار وإجلال يقول: «والله أنا أرى الوقت ليس مناسبا، فالثورة الآن باطشة، وليست الحال كما كان عند وفاة المرحوم والدك، وأرى أن لا داعي أن تثير علينا البراكين، ونعطل مصالحنا.»
وساد بعض الصمت بعد حديث الباشا، فوجدت نفسي أقول في سرعة وفي حسم: «يظهر يا معالي الباشا أنني لم أحسن عرض فكرتي. أنا لم أحضر للقاء معاليكم والباشوات لنستأذن في إقامة الحفل، وإنما جئت أنا والأستاذ الشناوي لنخطركم أنني والأستاذ الشناوي سنقيم تأبين لهيكل باشا، ونسألكم فقط إن كان أحد منكم يحب أن يشترك فيه أم لا؟ إنما الحفل سيقام على أي حال يا معالي الباشا.»
وصمت الباشا فترة، ثم قال: «أفكر.»
أما الباشوات الآخرون فقد وافقوا على الاشتراك جميعهم في الحفل.
وأقيم حفل التأبين، وأشهد أمام الله وأمامكم أن الباشا الذي حاول أن يمنع إقامة حفل هيكل باشا ألقى كلمة اعتبرتها أنا أجرأ كلمة ألقيت في الحفل جميعا.
رحمهم الله جميعا رجالا حين يعز الرجال. جمعوا الإباء والكبرياء إلى العلم الباذخ والخلق المتفرد الرفيع. (7) العوضي الوكيل
كنت أنتظر الشهادة الابتدائية بغزالة حين أمرني أبي أن أصحب الشاعر العوضي الوكيل إلى الزقازيق ليستقل القطار إلى القاهرة، وكانت وسيلة المواصلات المتاحة عربة حنطور.
وفرحت أنني سأصحب هذا الشاعر الذي أقرأ له في الأهرام فترة ساعة تقريبا.
وبدأ الحديث، أكلمه في الشعر، ويكلمني في المقرر، وكان واضحا أنه يرفض أن يقبلني كأحد هواة الأدب والشعر، فأسلمت أمري إلى الله، وسكت كل منا.
وبعد ذلك عرفت أن سكوته كان أعجوبة في ذاته؛ فهو بطبيعته لا يحب أن يسكت أبدا.
التقينا بعد ذلك في القاهرة، وعرفني العوضي تمام المعرفة، وعرفته تمام المعرفة، فلم أر في حياتي شخصا نقي السريرة، طيب النفس، محبا للخير مثل هذا الرجل.
وتعودت بعد ذلك أن أسمع شعره وأعجب به، إلا أنني كنت كثيرا ما أداعبه؛ فأنقد بعض الألفاظ في أبياته، فكان لطيبته وسلامة نفسه يرتج عليه، وترتسم على وجهه معالم الحيرة.
وقد عرف هذا عني بين أصدقائنا من الشعراء والأدباء. حتى لأذكر أن الشاعر الرصين الأستاذ خالد الجرنوسي أنشد قصيدة في حفل أقامه أدباء العروبة بمناسبة حصولي على ليسانس الحقوق، وقد كان هذا الحفل تحية من هذه الجماعة العظيمة الوفاء لأبي، وليس لي بطبيعة الحال، وخاصة أنه لم يكن وزيرا في ذلك الحين. وكانت قصيدة الأستاذ خالد الجرنوسي غاية في الجمال، وقوة السبك، وأستأذن في ذكر هذا البيت منها لأستشهد به على ما كان بيني وبين الأستاذ العوضي من مداعبات:
الناقد الطبن اللبيب رأيته
يتفزع العوضي من نقدانه
وأذكر وأنني أنتظر نتيجة التوجيهية أن دعاني العوضي لأنزل ضيفا على كابينته في أبي قير التي كان قد استأجرها، واضطره العمل مع أبي في القاهرة - فقد كان يعمل في مكتبه - ألا يذهب إلى أبي قير إلا بعد عشرة أيام من تاريخ عقد الإيجار، وقبلت الدعوة، ودعوت معي أيضا الأستاذ عثمان نويه.
وقبل سفرنا بأيام قليلة كان قد ظهر للعوضي الوكيل ديوان أصداء بعيدة، وكان قد استكتبني فيه كلمة عن الهجاء في الشعر العربي. وكنت في ذلك الحين أكتب نقدا في جريدة الرسالة، فكتبت كلمة قاسية عن الديوان، وأشهد اليوم أنني ما أردت بها إلا مداعبة الشاعر العظيم، واتهمته في الكلمة أنه يكتب شعره بسرعة فائقة لا تسمح له بالتجويد. وسلمت الكلمة للأستاذ محمد سكرتير تحرير الرسالة، وسافرت أنا وعثمان نويه لنقضي أسبوعا في كابينة العوضي الوكيل، وكنت أرجو أن تتأخر الكلمة في النشر، حتى لا تظهر وأنا في ضيافة الرجل. ويشاء العلي القدير أن تظهر الكلمة في نفس اليوم الذي أنتظر فيه العوضي وعائلته على القطار لأسلمه مفتاح الكابينة. وكنت أعتقد أنه سيحمل الأمر على محمل المزاح كما تعودنا، ولكنني وجدته حزينا، وأخبرني أن السيدة حرمه بكت لما قرأت الكلمة، فرحت أمزح معه، وأسترضي السيدة العظيمة زوجته حتى ضحكا، وزال تماما ما علق بنفسيهما، وقال العوضي: «على كل حال أنا كتبت ردا عليك سيعلمك ألا تصنع هذا معي أبدا.»
فقلت له في مرح الشباب وغروره: «وليه بس؟ طيب أنا سأرد على الرد وأريك.»
ضحكنا وسلمته الكابينة، وكان أبي قد جاء إلى الإسكندرية، وذهبت لأقيم معه في البيت الذي استأجره في عامنا هذا، وظهرت مقالة الأستاذ العوضي فوجدته يقول فيها: «إن معالي والده معجب بسرعتي في كتابة الشعر.» ووضعني هذا القول منه في مركز حرج، ولكنني وجدت منفذا. فكتبت كلمة قصيرة جدا قلت فيها: «يظهر أن الأستاذ العوضي الوكيل قرأ مقالتي بنفس السرعة التي يكتب بها قصائده. أرجو أن يقرأ مقالتي مرة أخرى.» ونشرت الكلمة في نفس اليوم الذي كنت أتمشى فيه مع العوضي في ميدان المنشية بالإسكندرية، والتقينا هناك بالشاعر السكندري الكبير عبد اللطيف النشار، ولم يكن يعرفني، فإذا به يبدأ العوضي وهو وصافحه بقوله: «ثروت أباظة قتلك اليوم بالرسالة.»
فصاح العوضي: «هذا هو ثروت أباظة يا سيدي.»
وضحكنا جميعا.
ومن المداعبات التي لا أنساها مع العوضي أنه عين بعد ذلك مديرا لمخازن البريد، وكان فرحا بالمنصب غاية الفرح، فكتبت عنه مقالة في جريدة المقطم، قلت فيها إنه يضع على باب حجرته حاجبا له شارب كعارضة المرور، فإذا أراد أن يسمح لأحد بالدخول، فإنه يرفع شاربه ليسمح للداخل بالمرور.
وأذكر أنني قلت في آخر المقالة: لقد خسر فيه الأصدقاء شاعرا مجيدا، وما أظنهم كسبوا مديرا جديدا.
وفي يوم الجمعة التالي لظهور المقال كنت مع العوضي عند عملاق الأدب الأستاذ العقاد، فقال له بصوته العظيم كصاحبه إن ثروت قال عنا ما نريد أن نقوله لك. وكان العوضي من أبناء العقاد المقربين، وكان يعجب بشعره غاية الإعجاب.
والحقيقة أن العوضي الوكيل يعتبر علامة مضيئة في جيله. وكان عزيز باشا أباظة يعتبره أكثر شعراء جيله رصانة وقوة سبك وتدفقا.
وأنا لا أستطيع أن أنسى فضل العوضي علي أستاذا في اللغة العربية؛ فهو أعلم من عرفت بأصول اللغة العربية وقواعدها سواء كان ذلك في النحو والصرف أم في علم البيان. وقد كان متفوقا في ذلك على إخوانه وهم العلماء الكبار في هذا الميدان، فهم أبناء دار العلوم التي أرست قواعد اللغة العربية عهدا عهيدا من الزمان، والتي ظلت علما خفاقا في هذا الميدان، ولم ينكس العلم إلا حين أصبحت كلية تقبل أي منتسب لها بعد أن كانت لا تقبل إلا حملة ثانوية الأزهر الذين كانوا يدخلونها وهم حافظون للقرآن الكريم جميعا مع ألفية ابن مالك، ومع إتقان لعلوم الأزهر التي تعد الشباب أحسن إعداد لتلقي الدراسة العليا في كلية دار العلوم.
والأستاذ العظيم العوضي لم يكن يدرس لي أثناء السنة، ولكنه كان بوفائه الذي لا مثيل له يبيت في منزلنا ليلة امتحان اللغة العربية، ويراجع معي كل القواعد لا يترك منها شيئا. وكانت تكفيني هذه المراجعة لأحصل على درجة مشرفة في مادة اللغة العربية.
وقد كرم الله العوضي الوكيل إكراما لا مثيل له في أبنائه، فابنه البكر ممدوح طبيب عظيم في الولايات المتحدة الأمريكية، وابنه الأصغر شريف حاصل على الدكتوراه في العلوم، وأستاذ في جامعة الأزهر، وابنته الوحيدة د. شفيق حاصلة على الدكتوراه في الهندسة وأستاذة هي أيضا.
وقد درس شعر العوضي في عديد من الكليات في مصر والخارج، وكتبت عنه دراسات كثيرة، وأنا مهما أتحدث عن عظمة شعره لن أبلغ ما أريد في وصف هذه العظمة، رحم الله الشاعر العظيم في الخالدين.
وبعد، فهذا نثار من ذكريات لا يجمعها في نفسي جامع إلا الحب لمن ذكرت. لم أذكرهم لأكثر عددا، ولكنني لم أجد بيني وبينهم من الذكريات ما يجوز له أن يروى.
فقد عرفت مثلا شيخ القضاة الذي كان جبلا ضخما في عصره من الفقه والخلق الأبي الرفيع عبد العزيز باشا فهمي، ولكنني عرفته كما يعرف الحفيد جده. وعرفت الرجل الذي كان سمة عصره في الكبرياء والوطنية إبراهيم باشا عبد الهادي، وكنت منه لفترة طويلة بمثابة الابن، وعرفت غيرهما كثيرين من أعلام العصر، أو من الأصدقاء الذين أبادلهم أجمل الحب وأكثره صفاء ويبادلون، ولكن لم أجد شيئا يمهد لي العذر أن أذكرهم عندك. (8) أم كلثوم
نشأت وأنا أجد أم كلثوم صديقة لوالدتي ولأسرتي جميعا. فمنذ وعيت أراها في بيتنا كأنها واحدة من أسرتنا لا نفرق بينها وبين قريباتنا إلا أن اسمها لا يحمل لقب أباظة. وقد كان عمي عبد الله فكري أباظة وزوجته من أكثر الناس صلة بها. وقد كان يدعوها إلى بيتنا في غزالة دعوات متكررة تروح بها عن نفسها، وتترك نفسها على سجيتها، وكان لنا قريب مقيم بالريف اسمه السيد حسن أباظة. وكان يحب أن يمازح الناس، وكان مزاحه في غالب الأمر شتيمة وسبابا. وقبل أن أروي ممازحة السيدة أم كلثوم له أذكر عنه قصة من أظرف القصص التي سمعتها.
ركب يوما حصانا، وأخذ طريقه إلى بلبيس، وهي تبعد عن كفر أباظة، حيث يقيم حوالي عشرة كيلومترات. وكان في ذلك اليوم يلبس حلة بيضاء ناصعة، وكان يعتني بشاربه كل العناية، ويبرمه إلى أعلى في فخامة وضخامة، ويلبس الطربوش طبعا.
سار في طريقه إلى بلبيس، وراح يمازح ضابط الشرطة في النقطة التي يعملون بها، وكانوا جميعا أصدقاءه. وكان الحر قائظا فكان يميل على كل نقطة يشرب ماء، أو ما يقدمونه له من مياه غازية.
ووصل إلى بلبيس، وراح يمازح في شتيمة وسب الضابط المسئول عن النقطة الواقعة على مشارفها، ثم تركه وراح يقضي ما جاء من أجله إلى بلبيس، وبينما هو عائد مال على ضابط النقطة، وراح الضابط يسرف في تحيته، وأقسم أن يقدم له زجاجة مثلجة من الكازوزة وقابل التحية بالشتيمة، وشرب الزجاجة وانصرف.
وما هي إلا بضع خطوات حتى أدرك ما صنعه به ضابط الشرطة.
فقد سقاه شربة شديدة المفعول زاد من قوتها تقافز الحصان في مشيته. ولك أن تتصور رجلا وقور المظهر ذا شارب يقف عليه الصقر يلبس حلة ناصعة، وطربوشا أنيقا تفاجئه الحاجة في عرض الطريق دون بيت يستر أمره.
وراح يقضي حاجته في الحقول كل خمس دقائق أو عشر، والطريق طويل والحر قائظ، وضباط النقطة يعلمون جميعا ما صنعه زميلهم في بلبيس، فقد أخبرهم به بالتليفون الذي يربط بينهم، فهم جميعا يترقبون مرور السيد بك. - اتفضل يا سيد بك.
ويعرف من وجوههم أنهم على علم بالمؤامرة. - الله يخرب بيتكم جميعا، والله لأنتقم منكم شر انتقام.
ولكنه متقطع الأنفاس لا يكاد يقيم أوده على الحصان، وقد اجتمع عليه الحر والحصان والعرق ومفعول الشربة.
وحين بلغ بيته كان قريبا من الموت لولا أن أهله أسعفوه بما يسعف به من في مثل حالته.
ومع ذلك لم يكف السيد بك عن المزاح الشاتم لأصدقائه الذين كانوا يحبونه كل الحب.
وكانت أم كلثوم تحب أن تمازحه وتستخف دمه؛ فكان إذا جاءت إلى غزالة يأتي فيقيم في بيتنا طوال المدة التي تقضيها أم كلثوم في غزالة، ومن أجمل ما سمعناه منها له تلك النكتة الشهيرة التي أصبحت على كل لسان. نظرت إليه طويلا بعد نوبة سباب انهال بها عليها، ثم قالت له: «يا سيد بك.»
ودون توقع منه قال في وقاحة: «نعم يا بنت الشيخ إبراهيم.»
فإذا هي تقول له في بساطة: «شنبك متربي أحسن منك.»
ويحمر وجهه من الغيظ، ويدرك أن النكتة ستلاحقه طول حياته، وأن مصر جميعها سترددها، ويحدث ما توقعه، ولا يبقى من السباب الذي راح ينحدر من فمه شيئا.
كنت في العاشرة أو أقل في هذه الأيام التي كانت السيدة أم كلثوم فيها عندنا في إحدى زياراتها. ولا أستطيع أن أنسى ليلة فيها اجتمعنا كلنا حولها أبي ووالدتي وعمي عبد الله والسيدة زوجته التي كنا ندعوها تيتا. وراحت أم كلثوم تغني دون أن يطالبها أحد بذلك؛ فقد كانوا جميعا يقدرون أنها جاءت إلى غزالة لتكون على كامل حريتها، وكأنها في بيتها. وهكذا طاب لها هي أن تغني فغنت، وبغير موسيقى، وأشعر يومذاك أني أحسست وأنا في سني الصغير هذه أنني انتقلت إلى عالم سماوي، وأصبحنا جميعا مع هذا الصوت الذي حسبت أنه قادم من السماء مباشرة، وكأنما أدركت الفنانة الملهمة المشاعر السماوية التي أحاطت بنا، فإذا هي تبسمل وتستعيذ من الشيطان الرجيم، وتبدأ في قراءة القرآن. الملائكة في هذه الساعات حولنا، والظلام الذي يلف الكون أصبح نورا إلهيا ما شهدنا مثيلا من قبل، ولم نشاهد له مثيلا من بعد، وظلت هذه المعجزة الربانية، وتصاعد بنا إلى السموات حتى الفجر وأنا طفل مفيق لا أفكر في النوم، وأن يظل طفل ملأ يومه باللعب والجري طول اليوم يقظا مفيقا، حتى مطلع الفجر أمر لا يحدث إلا أن ذلك الطفل يشهد معجزة لا عهد للبشر بها.
وكانت نهاية تلك الليلة جديرة بها. فإن أم كلثوم حين أدركت أن الفجر قد شق اليوم الجديد قامت وقمنا وراءها، وخرجت إلى شرفة البيت، وبأجمل صوت سمعناه أذنت أم كلثوم لصلاة الفجر. وبيتنا في القرية يبعد عن بيوت القرية بمسافة لا تقل عن الكيلو متر، ولكن أهل القرية استيقظوا على صوت داعية السماء المعجزة، وتقاطروا تتقاطر منهم مياه الوضوء، ووقفوا صفوفا يستمعون إلى أجمل أذان سمعوه في حياتهم، ثم اتجهوا إلى مسجدنا في القرية، وأقاموا الصلاة، وظلت صلتنا بالسيدة المعجزة وطيدة طوال حياتها.
وأذكر أن أبي قبل الحرب كان يحلو له أحيانا أن يقضي جانبا من الصيف في أوروبا ليعالج الروماتيزم في بلاد تخصصت في ذلك، فكان عمي عبد الله فكري يستدعيني أنا وأخي شامل؛ لنقضي الصيف معه في رأس البر. وكانت السيدة أم كلثوم تصطاف في ضيافة السيدة زوجته، وكان يصحبها ابن أخيها صديقي محمد دسوقي وأخته. وأذكر واقعة تدلك على قيمة الجنيه المصري في ذلك الحين. حدث أن دعيت أم كلثوم لإقامة حفل زفاف في القاهرة قبيل انتهاء الصيف. وأرادت أن تعتذر فقد كان عندها رغبة شديدة أن تكمل مصيفها. وتداولت الأمر مع عمي عبد الله، وانتهى رأيها أن تطلب مائة وخمسين جنيها لإقامة الليلة، وكان هذا الطلب على سبيل التعجيز لأصحاب الفرح. وكنا في منتصف الثلاثينيات قبل الحرب العالمية الثانية ببضع سنوات، ولم يكن في رأس البر كلها إلا تليفون واحد له كابينة على النيل، وطلب عمي عبد الله أن أذهب في الموعد المضروب إلى هذه الكابينة، وأنتظر تليفونا من القاهرة يطلب أم كلثوم، وأجيب الطالب، وأذكر له أن الآنسة أم كلثوم تقبل أن تقيم الحفل، بشرط أن يدفع لها مائة وخمسين جنيها. وتم الأمر على هذه الصورة، فإذا الرجل الذي يحدثني يقبل دون ريث من تفكير، وأخبرها بذلك وتوافق وهي تحتسب الله في المصيف.
واستمرت الصلة وكبرنا وتوفي عمي عبد الله، ولكن صلة الأسرة بأم كلثوم بقيت كما هي. وحدث في الستينيات أن كلفني الأديب الكبير المرحوم عبد الحميد جودة السحار، وكان في ذلك الوقت رئيس مجلس إدارة مؤسسة السينما أن أكتب فيلما سينمائيا معتمدا على مجنون ليلى لأحمد شوقي، وأن أختار من رواية شوقي قصائد لم يسبق لها أن غنيت، واتفق مع أم كلثوم وعبد الوهاب أن يغنيا هذه الأغاني على أن يقوم بتمثيل دوريهما ممثلة وممثل، وأعجبتني الفكرة ونفذتها مع الفنان الكبير يوسف فرنسيس ككاتب للسيناريو، وتوليت أنا تأليف القصة وكتابة الحوار، واختارت المؤسسة المخرج العظيم كمال الشيخ.
وأتممنا العمل، ولم يبق إلا موافقة أم كلثوم وعبد الوهاب، وأنا على صلة بمعجزة الموسيقى والغناء العربي عبد الوهاب منذ عام 46 تقريبا، وهو صديق لكثيرين جدا من أسرتنا. وليس عجيبا أن يوطد صلتي به حبي الذي لا حدود له لأمير الشعراء الذي يعتبره عبد الوهاب أباه الروحي. كلمت موسيقار الأجيال في التليفون، وأرسلت إليه السيناريو وفيه الشعر الذي اخترته وسعد به غاية السعادة.
وأخذنا موعدا من المعجزة الأخرى أم كلثوم، وأذكر أنني ذهبت إليها ومعي السحار وكمال الشيخ لنعرف رأيها في السيناريو بعد أن كنا قد أرسلناه إليها قبل الموعد ببضعة أيام.
ووافقت هي الأخرى عليه دون ملاحظات، ثم رحنا نخوض في أحاديث عامة. وأذكر أنها قالت في هذا اليوم جملة ما زلت معجبا بها حتى اليوم: لقد حاولت الصحافة أن تصنع مني بطلة سياسة بعد ثورة يوليو، فرفضت هذا تماما، وقلت في تصريح لي إنني فنانة لا أتدخل في السياسة، ولو كان الملك فاروق قد دعاني لأغني في قصره يوم 26 يوليو عام 1952م للبيت الدعوة وأنا سعيدة.
ولعل هذه الجملة من سيدة لم تعرف عنها إلا كل ما هو نقي وشريف ورفيع من الخلق تكون درسا للمهرجين الذي يحاولون في أقلامهم أن يجعلوا الراقصات والساقطات معالم مصر التاريخية.
وكان من أعظم ميزات أم كلثوم حبها للأدب، وحفظها للشعر وحساسيتها الراقية في اختيار أغانيها، وتلك ميزة يتمتع بها محمد عبد الوهاب. كنت معه في بيته عش البلبل الذي بناه في الهرم، وطلبه مؤلف أغان، وراح يسمعه كلمات في التليفون، وطبعا لم أكن أسمع شيئا مما يقول، ولكنني أخذت بعبد الوهاب وهو يقول لمحدثه: «يا أخي مش عارف ليه كلمة دمعة اللي بتقولها بتفكرني بالملوخية؟»
وضحكت معجبا بحساسيته بإشعاعات اللفظ والإحاطة بكل ما يثيره من معان.
أما أم كلثوم فتحفظ كثيرا من الشعر ونطقها للعربية قمة في النقاء، وما هذا بغريب على سيدة بدأت ثقافتها بحفظ القرآن وتجويده وتلاوته. حدث لي حادث سيارة اضطرني أن ألزم الفراش بضعة أسابيع في بيتي الذي أقيم فيه الآن في الزمالك. وجاءت السيدة أم كلثوم لزيارتي. وكان المفروض أن تبقى بضع دقائق ريثما تشرب ما يقدم لها أهل البيت من إكرام، ولكن حلا لها أن تكلمني في الشعر، فإذا زيارتها تمتد ثلاث ساعات كاملة دون أن نشعر بالوقت.
ومن أعظم سجايا أم كلثوم أنها لم تتنكر لماضيها قط.
دعتها والدتي إلى الغداء في بيتنا بالعباسية. وقبل الغداء قالت لها والدتي: «إني أعددت لك مفاجأة على المائدة أعتقد أنها ستسرك كل السرور.»
فقالت: «نشوف.»
وحان موعد الغداء، وقمنا إليه، وكانت هناك صينية تتوسط المائدة وعليها غطاء، وجاءت والدتي ونحن ما نزال وقوفا، ورفعت الغطاء في فخر وثقة لتظهر أم كلثوم المفاجأة التي أعدتها لها. ونظرت أم كلثوم العظيمة الواثقة بنفسها، ثم قالت في لهجة غاية في خفة الدم والطرافة: «ما هذا، حميض؟ إيه جابك هنا؟ والله زمان يا حميض.»
ونظرت إلى أمي وقالت: «هي دي يا أختي المفاجأة، والله زمان لا أذوقه أبدا هو أنا كان لي شغلة أيام الفقر إلا لم الحميض من الغيطان وأكله، شيلي، شيلي.»
والحميض نبات شيطاني ينبت في حقولنا، ويأكله من لا يستطيع شراء غيره.
أرأيت مثل هذه العظمة وهذا الصدق، رحم الله أم كلثوم علامة أجيال في الفن، وفي الخلق على السواء. •••
وبعد فهذه نثار من ذكرياتي ما رجوت منها إلا أن أنادمك إذا قرأتها في نهار، أو أسامرك إن قرأتها في مساء، وقد أطلقت نفسي تمتح من معين الأيام ما يحلو لها. فهي تختار ولا تؤلف.
والاختيار عسير، ولكنه ممتع إذا أحس الإنسان أنه قال ما يجب أن يقول.
فإن كنت بلغت من نفسك ما تمنيت أن أبلغ، فأحمد الله إليك، وإلا فحسبي أن النية صدقت عندي، وأقدمت على هذه التجربة الجديدة في دنيا الكتابة أو فلنقل الجديدة على قلمي أنا بعد أن مارس مخاطبة الناس نيفا وأربعين عاما. ومع التجربة لا يكون العثار مأمونا، فإذا كان القلم تعثر عند أعتابك، فإني واثق أنه من وسيع سماحتك، ومن رضى خلقك ما يغتفر جرأته. وفي رحمة الله الغفور التواب مثابة تسع الدنيا جميعا، ولا بأس أن أجد عند الذي نعبده طمعا ورهبا أثارة من الغفران، وفضلا من الرحمة جل شأنه وتقدست آلاؤه.
ثروت أباظة
Shafi da ba'a sani ba