وبتقرير كتابي «ابن عمار» تشجع أن ينشر لي روايتي «هارب من الأيام»، وقد نلت عليها جائزة الدولة التشجيعية في أول إنشائها، وكان لهذه الرواية قصة مع عميد الأجيال الدكتور طه حسين، وإني راويها لك إن شاء الله في مكانها الذي ستفرضه هي علي.
شخصيات
(1) عبد الفتاح الشناوي
هناك شخصيات كثيرة في حياتي، اخترت بعضها لأنني لا أتصور أن أكتب هذه الذكريات ولا تكون هذه الشخصيات جزءا منها. ولو كنت أكتب رواية ما تولتني الحيرة التي تتولاني الآن، فالشخصية في الرواية أنا أصفها للموقف الذي أصنعه أنا أيضا، ولكن حياتي وذكرياتي ومن عرفتهم لا حرية لي في شأنهم إلا حرية الاختيار. ولو أطلقت لنفسي العنان وذكرت أقاربي جميعا وأصدقائي جميعا لما أمهلتني الحياة حتى أنتهي من كتابي هذا. وأحسب أن الحسم القاطع هو خير وسيلة لي في اختيار الشخصيات.
منها ذلك الرجل العظيم الذي تربطني به حتى اليوم صداقة لا عهد للناس بها إلا في القليل النادر من الصداقات.
إنه عبد الفتاح الشناوي، عرفه أبي أول يوم عرفه وهو طالب ثائر بكليته العتيدة دار العلوم، وكان أبي عرف أن الشرطة تحاصر الطلبة في الكلية، فذهب إلى هناك، ورأى طالبا خالعا لحلته مكتفيا بملابسه الداخلية، ممسكا بخرطوم ماء، يصد به تشكيلات الشرطة كلما اقتربت من الكلية. وسأل عنه فعرفه، وكان طالبا بالسنة النهائية في دار العلوم. وقبض على الشاب في هذه المظاهرة، ثم سرعان ما أفرج عنه، وعرفته أنا منذ لا أذكر متى؛ فقد كان كثير الزيارة لأبي ونحن ما نزال نسكن بيتنا في شارع الملك الناصر. وأصبح بعد ذلك سكرتيرا لأبي في وزارة المواصلات والأوقاف، ثم مديرا لمكتبه، وعلى اختلاف السن بيننا قامت بيننا صداقة لم تزل حتى اليوم أقوى ما تكون الصداقة، وأحسب أنه مر عليها من الزمن قرابة خمسين عاما. لم أعرف في حياتي نقاء في السريرة، وصدقا في الوفاء، وتمسكا بالعهد، وحفاظا على الكرامة، وفناء من أجل الفكرة أو الصديق مثلما عرفت في هذا الرجل، مع إيمان بالله عميق، وعلم بالشريعة دقيق، ومع تذوق رفيع للأدب، وقلم متدفق صادق مع صاحبه غاية الصدق، حتى لتكاد ترى قلب الرجل يدق في كلماته.
أروي عنه رواية واحدة، وهي حسبي. كانت الثورة في عنفوان سلطانها وجبروتها، وكان هو مديرا لمكتب وزير أوقاف من وزراء الثورة. وجاءه خطاب ممهور بتوقيع مدير مكتب رئيس الوزراء موجها إلى الوزير شخصيا. فأمسك سماعة التليفون، وطلب مدير مكتب رئيس الوزراء: «سيادتك مدير مكتب رئيس الوزراء؟» - «أيوه، إنت مين؟» - «أنا مدير مكتب وزير الأوقاف، سيادتك بعت خطابا موقعا باسمك إلى الوزير؟» - «أيوه فيها إيه دي؟» - «هذا لا يجوز.» - «إيه هو اللي لا يجوز؟» - «أنت إذا أردت أن تخاطب الوزير، فيجب أن يوقع الخطاب رئيس الوزراء؛ لأنه وزير مثله، أما أنت فتخاطبني أنا.» - «إنت عارف بتكلم مين؟» - «أيوه مدير مكتب رئيس الوزراء.» - «أنا فلان عضو مجلس قيادة الثورة.»
وكان اسم فلان هذا يهز الجبال الراسية في ذلك الحين، ولكن الشناوي مضى في حديثه، وكأنه لم يسمع شيئا: «ولكني أكلمك كمدير مكتب رئيس الوزراء؟» - «أما إنت حمار صحيح.» - «إنت ستين حمار.» - «يلعن أبوك ابن كلب.» - «يلعن أبوك ابن ستين كلب.»
وانتهى الحديث، وبعد دقائق نادى الوزير مدير مكتبه: «إيه اللي إنت عملته؟» - «حافظت على كرامتك.» - «ملكش دعوة بي.» - «وهو كذلك.»
وذهب الشناوي إلى بيته، وأعد حقيبة السجن، ولكن الليل مضى ولم يأت أحد، وفي الصباح ذهب إلى مكتبه. ورن جرس التليفون ورفع السماعة: «من؟» - «أقولك من ولا تشتم.» - «أنا لست قليل الأدب.» - «يا سيدي أنا اللي قليل الأدب، حقك علي، أنا فلان.»
Shafi da ba'a sani ba