أفزع الكلبين العاشقين صوت العربة وهي تأخذ موقفها أمام البيت، وانتبه زين العابدين، وهم يستقبل زواره في حفاوة وتوقير؛ فقد كان يعلم أن حماه وحماته لا يحبان شيئا في الدنيا أكثر من أن يلاقيا التوقير أينما ذهبا.
وتقدم زين العابدين من العربة وأمسك بيد حماته، ينزلها منها؛ سيدة في الخمسين من عمرها، ولكنها تتخذ من الملابس والحجاب ما يجعلها في الستين؛ فوشاح أبيض يحيط برأسها، وخمار شفاف يدور حول أسفل وجهها الوردي اللون الذي لا تزال آثار نضرة تتخايل فيه. وبين الوشاح على الرأس والخمار على الفم تطل عينان فيهما طيبة وفيهما ذكاء وفيهما حب سيطرة لا تجد مجالا ولا متنفسا. أما قوام الست ازدهار الناضورجي فكان معتدلا لا يتهم بنحافة، ولا يعاب بإفراط سمنة. ونزلت ازدهار هانم وتبعها زوجها زكي بك الناضورجي وهو ذو شارب يلقى منه كل عناية وتكريم، أحمر الوجه قصير القامة أصلع الرأس حتى لا يفلح الطربوش الأحمر الزاهي في إخفاء صلعته جميعا، إنما تظل قطعة كبيرة منها بادية من مؤخرة الطربوش حيث ينسدل الزر في نظام وإحكام، وكأنما كانت هذه القطعة من الصلع تغافل الطربوش فتخرج إلى العيان دون أن يشعر بها.
وقبل زين العابدين يد حماته، وانحنى وهو يسلم على حميه انحناءة لا تخطئها العين، وشاعت في عيني ازدهار هانم علائم رضى، وهمت ظلال ابتسامة على شارب زكي بك، وأخذ الجميع سبيلهم إلى الطابق الأعلى. وثمة استقبلتهم بهية في ترحاب تحيط به كثير من القيود، فلا يبدو إلا في تقبيلها ليد أبيها ويد أمها ووجنتها، وإن كانت في دخيلة نفسها تريد أن تحتضن كلا منهما وتقبله قبلات كثيرة عارمة، وكأنما كانت آمال تدري ما في نفس أمها، فهي تهاجم جدها وتتعلق برقبته ويقع طربوشه على الأرض ويتخلج هو في وقفته حتى ليوشك هو أيضا، ولكن يتماسك وهو يغالب الضحك على فمه، محاولا بكل جهده أن يجعل من ابتسامته كشرة فلا يفلح جهده، وتتركه آمال إلى جدتها، فما هي إلا ضمة واعتناق حتى ينتهك ستر السيدة الوقور، فالخمار في الأرض والوشاح في منتصف الرأس والسيدة غير غاضبة ولا عاتبة، وكأنما كانت تشتهي هي أيضا هذا اللقاء من ابنتها؛ فأجابت حفيدتها خوافي رغباتها. وبهية تحاول أن ترد الابنة العاتية فلا تحفل بها، وزين العابدين ينظر فرحا أن رأى طربوش زكي بك الناضورجي على الأرض لأول مرة في حياته، فهو لم يره قبل اليوم إلا منتصبا على رأس صاحبه، لا يميل ولا يحيد، مثله مثل شارب زكي بك نفسه. ثم ها هو ذا اليوم يرى الطربوش في الأرض والشارب مهوشا من أثر تقبيل آمال. وتعربد في نفس زين العابدين ضحكة لا مبالية تذكره بالبار وسنية شخلع وهو يرى زكي بك ينحني في وقار إلى الطربوش يلتقطه مختلسا النظر إلى زين العابدين، كأنما كان يريده أن يلتقطه هو بدلا منه، أو كأنما يريده - على الأقل - أن يبدو وكأنه غير منتبه للطربوش الساقط وانحناء البك الكبير لإحضاره.
وتنتهي معركة الاستقبال، ويجلس الجميع، ويدور الحديث، ولكن لا يكاد، فإن زكي بك يقول في أمر حازم: زين العابدين بك، أنا سآخذ ابنتي وحفيدتي معي إلى مصر. وتعجب زين العابدين وقال في دهشة: نعم! لماذا ... لماذا يا سعادة البك؟! - البنت كبرت؛ ولا بد لها أن تدخل المدرسة.
وصمت زين العابدين، فإن هذا حق لا سبيل إلى التغاضي عنه، وهو لا يريد لها أن تتعلم تعليما مشوها، كما أن وجود ابنته في القاهرة يجعل ذهابه إليها مقبولا أمام نفسه على الأقل، ولكن لماذا تذهب زوجته، نعم. - ولماذا تذهب بهية؟ - لتمكث معها فترة حتى تتعود على المدرسة.
وأطرق زين العابدين. وقال زكي بك: زين العابدين بك، هل أنت مشغول هذه الأيام هنا؟ - أنا ... لا ... أبدا. - إذن تذهب أنت أيضا معنا، وتدخل ابنتك إلى المدرسة وتتنزه في ...
وقطع زكي بك جملته وتنحنح، ثم استطرد في لهجة جادة صارمة، كأنها لا تعني شيئا على الإطلاق. - أظن أنك لا تمانع. هيه، لا مانع، هيه.
وأطرق زين العابدين وكأنه يمتثل لأمر لا سبيل إلى التخلص منه. - أمرك يا سعادة البك. لا مانع، لا مانع.
الفصل الخامس عشر
ثلاث سنوات مرت بحسين في القاهرة، ثلاث سنوات يذكرها وهو مستلق على سريره بجوار قطة تلوذ بيده الحانية عليها في غرفته المنفردة مثله على سطح بيت ساقته إليه عجلة زين العابدين بك، وأبقاه فيه خوفه أن يواجه البحث عن بيت جديد، فقد كان يخشى أن يلقى من الغربة أكثر مما لقي، ولحجرة عرفها لمدة يوم ثم أسبوع ثم شهر أحب إليه من أخرى لم يعرفها قط مهما تكن تفضلها. لا ... لا يريد أن يوغل في الاغتراب أكثر مما اغترب، فهو يبقى في الغرفة، باردة في الشتاء حارة في الصيف، لكنه ألفها وألفته، وقل أن يجد شيئا يألفه في القاهرة الكبيرة الواسعة المترامية الأطراف. ومع الأيام التي أصبحت شهورا فسنين أصبحت هذه الحجرة على السطح ملاذه ومأمنه هرع إليها هالعا من القاهرة، فأمنت خوفه، وأقرت مضطربه، واستراح بين ضلوعه قلب مفزع شديد الوجيب عاصف الضربات. ليس ينسى يوم فزع إلى غرفته هذه في اليوم المشئوم من أيامه الأولى في القاهرة؛ يوم نزل مزهوا بجبته وقفطانه وحذائه اللامع يتبختر في الشوارع يزين لنفسه أن يتفرج على القاهرة، معتقدا أن الأعين فيها جميعا سوف ترمقه بالإجلال والإكبار. وسار على غير هدى، وراح يتلفت حواليه أينما سار، محاولا ما وسعه الجهد أن يرى أثر قفطانه وعمامته الزاهية على من يمر بهم من الناس، حذرا كل الحذر أن تنحدر هذه الدمعة التي لا تترك عينه، فهو يمسح خده، سواء لديه كانت الدمعة منحدرة أو كان مكانها جافا لا أثر للدمع فيه. وتعود إليه نظرته توهمه أن العيون تتبعه، وإن كان هو في بعيد نفسه يعلم أن ما تلقيه إليه نظراته وهم لا يتصل بسبب إلى الحقيقة؛ فالناس منصرفون عنه إلى ما يشغلهم من حديث أو عمل أو لهو، ولكنه مع ذلك يحب أن يصدق أوهامه أكثر مما يحب أن يصدق الحقيقة التي يعلمها، فهو وقور في مشيته، بطيئة خطواته قليلة حركاته إلا تلك اليد يمسح بها من حين إلى آخر دمعته الحقيقية أو الموهومة لا يدري، وإنما هي يده يرفعها بين الفينة والفينة؛ حتى لا تصيب الدمعة شيئا من وقاره أو أناقته.
Shafi da ba'a sani ba