الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الضباب
الضباب
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
بكرت الحاجة بمبة زوجة الحاج والي عبد الهادي، فلبست معطفها ووضعت على رأسها خمارا مما تضعه زوجات الأعيان في الريف، وأسقطته على وجهها، وخرجت إلى الطريق العام تسير في تؤدة وفي صحة مكتملة؛ فما كانت الست بمبة قد تعدت الأربعين من عمرها، وما كان بطء المشية إلا التزاما بما تمليه عليها مكانتها في القرية.
ولم يطل المسير بالست بمبة؛ فقد توقفت عند باب أحال وجهه لقاء الزمن، فهو كالح باهت لا استواء في ألواحه ولا نعومة، فكأنما ألقت عليه الأيام غضونا كهذه التي تلقيها على وجوه البشر. وطرقت بمبة الباب؛ فانشق عن امرأة في خريف العمر، وفي وجهها قناعة وطيبة، وفيه أيضا بعض غضون من العمر تزكيها خصلات من الشعر الأبيض جمحت فأبت أن تبقى حبيسة المنديل القديم الذي تعصب به رأسها. وقد دهشت سيدة أم عسل أن تقصد إليها الست بمبة في زيارة صباحية بغير داع إليها، ولكن دهشتها لم تمنعها أن ترحب بالزائرة أعمق ترحيب وأصدقه.
لم تكن الحاجة بمبة لتزور بيت سيدة أم عسل في الصباح، ولا حتى في المساء؛ إذا لم يكن هناك سبب ملح للزيارة؛ كأداء واجب في عزاء أو تهنئة لزواج، أما أن تسقط عليها كما يفعل الأصدقاء - رفعوا بينهم الكلفة والمواعيد - فهذا ما لا يتفق ومكانة الست بمبة أو الحاجة بمبة كما يدعوها الجميع؛ فهي زوجة الحاج والي عبد الهادي من أعيان قرية الحمدية، يملك في زمام القرية ثلاثين فدانا، وهو إلى هذا رجل ذو رأي صائب يلجأ إليه القوم في الملمات، وهو كذلك على صلات وطيدة بذوي الشأن في المديرية - مديرية الشرقية - وليس أدل على وجاهته ومكانته المرموقة من أن زين العابدين بك الدرملي وجيه القرية، بل المنطقة؛ لا يزور في القرية إلا قلة قليلة، من بينها - إن لم يكن في مقدمتها - الحاج والي عبد الهادي. فزيارة الحاجة بمبة إذن لسيدة أم عسل زوج محمدين أبو علي، زيارة من شأنها أن تثير الدهشة والعجب والحيرة.
والزيارة في الصباح تزيد من هذه الدهشة والعجب والحيرة؛ فما تعودت النساء في القرية أن يتزاورن في الصباح، فكيف بهذه الزيارة التي تقوم بها الحاجة بمبة إلى هذا البيت المتواضع؟ فما يزيد محمدين أبو علي على رجل طيب يملك فدانين اثنين وخمسة أولاد بين بنات ونساء وبنين، وهو بعد يزرع الفدانين بيديه؛ فالصلة إذن بين الحاجة بمبة وسيدة، صلة تقوم على العطف أكثر مما تقوم على الصداقة، وزيارة الحاجة بمبة لبيت محمدين في أي وقت، إنما تعتبر تنازلا يتلقاه أهل هذا البيت الطيب بكل امتنان وزهو، وزيارة سيدة أم عسل لبيت الحاجة أمر تستعد له سيدة استعدادا كبيرا، ثم هي لا تقوم بهذه الزيارة وحدها، إنما تحرص في غالب الأمر على أن تصحب معها ثلة من نساء القرية. وهذه الزيارات تتكرر مرات كثيرة في الأسبوع، في حين لا تتم زيارة الحاجة بمبة لسيدة إلا مرة في العام على الأكثر، ولا بد أن يكون هناك داع لتتم الزيارة؛ إذن فقدوم الست بمبة لا بد أن يكون مصحوبا بالخطير الجليل من الأمر.
قالت سيدة: أهلا ستي الحاجة، نورت. أهلا وسهلا، تفضلي.
ودلفت بمبة إلى البيت، ودخلت إلى القاعة التي تعرفها وقالت: كيف أنت يا سيدة؟
وأجابت سيدة: الله يبقيك ويطيل عمرك. دقيقة واحدة أحضر الحصير. - لا، سأجلس على المصطبة. - أهذا يصح يا ستي الحاجة؟! والله أبدا! حالا ...
وراحت ترفع صوتها، وهي تحضر الحصير من خارج الغرفة لتشعر الست بمبة أنها معها لم تتركها. وما لبثت أن عادت سيدة وفرشت الحصير على المصطبة المبنية من اللبن، وقالت: قهوة، عندنا بن يمني يستاهل حنكك. - اقعدي يا سيدة. - القهوة قبل أن أقعد. - اقعدي يا سيدة، أنا أريدك في شيء مهم. - يا ستي الحاجة من حقك علينا أن تأمري؛ لا ينسى المعروف إلا ابن الحرام. لماذا لم ترسلي إلي وأنا أجيء على عيني؟ - لا، أردت أن أجيء أنا إليك. - أهلا وسهلا، شرفت بيتنا. والنبي اتركيني دقيقة واحدة أحضر القهوة. - اسمعي يا سيدة، أنت تعرفين منذ متى وأنا متزوجة من الحاج. - نعم منذ أكثر من عشرين سنة. - أظن يا سيدة أن ليس في العالم واحدة فعلت ما أفعله أنا الآن. - خيرا يا ستي الحاجة.
وجذبت الحاجة بمبة نفسا عنيفا من أعماق أحزانها، ثم أطرقت لحظات وصمتت. واحترمت سيدة حزن الحاجة وصمتها فصمتت هي حتى عادت بمبة إلى الحديث: أنت تعرفين كم يشتاق الحاج إلى أولاد.
وأطرقت سيدة وتنهدت ومصت شفتيها وقالت: نعم يا ستي الحاجة، ربنا يكون في عونك. - الحاج الآن في الأربعين من عمره وهو ...
وقاطعتها سيدة قائلة: هل جربت التفاحة، سهلة، أقول لك ...
وقاطعتها الحاجة بمبة: أكثر من عشرين سنة أجرب يا سيدة. اسمعي الكلام لآخره ولا تقاطعيني. - أمرك يا ستي الحاجة. - الحاج لم يعد يستطيع صبرا، وهو محق ، فإن سنه لا تسمح له بأن ينتظر؛ بلغ من شغفه بإنجاب الأطفال أنه كان يريدني أن أذهب إلى مصر اليوم، وأعرض نفسي على طبيب.
ودقت سيدة صدرها، وكأنما طعن شرف الحاجة بمبة، وقالت سيدة: ماذا يا ستي الحاجة؟! طبيب رجل، يكشف عليك أنت، أنت يا طاهرة يا نظيفة! قطع الخلف وأيامه. أمن أجل العيال يكشف عليك رجل، رجل يا ستي الحاجة، رجل؟!
فقالت بمبة في أسى: لم أقبل يا سيدة، لم أقبل. ولكني أعرف زوجي فهو رجل غيور. - عارفة يا ستي الحاجة. - فقبوله أن يكشف علي رجل دليل على مقدار لهفته على الخلف. - لك حق يا ستي الحاجة. - رفضت، وقلت في نفسي ...
وصمتت الحاجة وأطلقت تنهيدة أخرى من صدرها، فما خففت التنهيدة شيئا. وكانت سيدة تتحرق شوقا لتعرف ما بنفس الحاجة. ولم تكمل الحاجة حديثها، بل إنها لوت طريقه في عنف يدعو إلى الدهشة، فهي تسأل سيدة: قولي لي يا سيدة، أيجري أحد على ابنتك صالحة؟ - نعم يا ستي الحاجة، ولكن ما المناسبة؟ - هل أعطى محمدين كلمة لأحد؟ - لا. - أنا أخطبها للحاج والي. - ماذا يا ستي الحاجة؟! ماذا قلت؟! - ما سمعت. أنا أخطب ابنتك للحاج والي زوجي.
كان الموقف أكبر من الدهشة من سيدة، وأكبر من الألم من بمبة؛ فلف المرأتين صمت امتزج فيه العجب الآخذ بالألم المرير، والتقت فيه دموع بدموع؛ دموع من أعماق الإنسانية الخالصة. وفهمت كل من المرأتين سر دموع الأخرى، وتمالكت الحاجة بمبة أمر نفسها سريعا وقالت: قلت له لن أذهب، ثم أدركت أنه سيتزوج، فقلت أزوجه أنا من امرأة أعرفها، خيرا من أن يحضر لي ضرة لا أعرفها، وتحاول أن تجعل من نفسها سيدة علي، فهي - في الغالب - ستكون أم العيال. أنا أعرف صالحة، إنها بنت حلال ...
وقاطعتها سيدة: خدامتك يا ستي الحاجة. - وهي أيضا قد تزوجت من قبل وخلفت وسنها معقول. هيه، ماذا قلت؟ - أمرك يا ستي الحاجة. - ستكون كابنتي تماما يا سيدة. - عارفة يا ستي الحاجة، عارفة. لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الثاني
كان الحاج والي جالسا في دوار زين العابدين بك ينتظر نزوله من الطابق الأعلى. ولم يكن أحد يشارك الحاج والي في جلسته في الدوار، فهو وحيد. ولم تكن السعادة بادية على محياه، فهو متجهم، شارد الذهن، مفكر تفكيرا لا تلوح عليه بوادر هناءة أو رضا؛ فوجهه الأسمر مقطب، وشاربه الذي تعود أن يعتني به كل يوم عند الحلاق مهمل أشعث غاضب كصاحبه، حتى العمامة التي لا يلبسها الحاج والي إلا وهي ملفوفة مسبوكة مهندمة، ألقى عليها الحاج والي ظلا من تجهمه، فهي منداحة على رأسه، تكاد تتهدل أطرافها على وجهه. وفي عينيه السوداوين ظل من أسف وأسى، وفي جبهته العريضة غضون من الألم لا من الزمن، وفي فمه كلمة حبيسة لا يدريها ولا يعرف ما هي، ولكنه يعرف أسبابها ودوافعها. كيف يقول ما بنفسه؟ كيف يعبر عنه؟ لم يكن يدري. وأنفه الكبير بعض الشيء يجتذب أنفاسا عميقة، ولكنها لا تريحه، فما يلبث من حين لآخر أن يفتح فمه الصغير؛ فيلتقط من الهواء شهيقا عميقا يزفره في نفخة حانقة ضيقة ملول، فما يجدي الشهيق ولا الزفير ولا الأنفاس اللاهثة التي يجتذبها له أنفه.
ويأتي متولي الخادم إلى الحاج والي، فما يرفع عينيه إلى متولي، ولم يكن متولي ليرضى هذا منه؛ فقد تعود من الحاج والي مداعبته، أو كلمة تحية إن كان جالسا إلى البك، أما أن يلاقيه بهذا الصمت، بل بهذا الإهمال، فأمر لا يمكنه السكوت عليه؛ فإن الحاج والي لا يفعل هذا إلا إن كان في حال من الضيق شديد. وقبل أن ينطق متولي يكون الحاج والي قد شهق من الهواء شهقة طويلة زفرها، وقد ضم شفتيه بعض الشيء فخرج الهواء كصفير فاشل حانق. وقال متولي: أعوذ بالله! لماذا هذا يا حاج والي؟! هون عليك يا شيخ، تبيت نارا تصبح رمادا. ما الذي يضايقك؟
وكأنما لم يكن الحاج والي يتوقع أن يتبين متولي حقيقة مشاعره، فهو يقول في أسى: الهم كثير والله يا متولي. النهاية الحمد لله على كل شيء. - ماذا، ماذا بك؟ عريس جديد؟ والمال - والحمد لله - موفور وشباب وصحة، وكل ما تشتهيه تجده. - اسكت يا متولي، اسكت. لا يعرف النفوس إلا خالقها. اسكت لا أراك الله ما أنا فيه. - يا رجل توكل على الله. هل أحضر الشربات؟ - بل القهوة يا متولي، ولتكن بغير سكر. - يا رجل أعوذ بالله! أهو حسد ما أصابك؟ ماذا بك قل لي؟ إنك منذ فترة طويلة مهموم، وقد حسبت أنك حين تتزوج سيزول عنك الهم، فإذا أنت تصبح تعسا. أين الضحكة الخالية من التفكير؟ أين النكتة الرائعة من كل كدر؟ أين أنت يا حاج والي؟ - لا عليك يا متولي، لا عليك. هكذا أمر الله. - يا رجل أنت متزوج من قريب، أهذه حال رجل تزوج من قريب؟ - أمر الله يا متولي. - لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكني رغم هذا سأحضر لك الشربات. لن أتأخر. شربات، شربات، مهما تكن مهموما، شربات.
وخرج متولي، وخلت الغرفة بالحاج والي، وثقل عليه الصمت، وثقل عليه التفكير الصاخب، وود لو عاد متولي ولو ليشقشق بهذا الحديث الذي تعود أن يشقشق به، ولكن متولي آثر أن يتركه، ولو كان يعلم أن حديثه الفارغ أهم عنده من الشربات الذي يصر على إحضاره ما تركه. وتأخر متولي، وسمع الحاج والي صوتا واهنا، ينبعث غير بعيد من مجلسه، ونظر فرأى مصيدة فيران فاغرة فاها، في شراهة يقف حيالها فأر يلوب حواليها، مصطنعا الذكاء والحذر، مقدما حينا على اللقمة التي تبدو للنظرة المجردة سائغة سهلة المنال، محجما حينا آخر، وكأنما يريد أن يعرف ماذا ستفعل اللقمة أو المصيدة، إن هو أعرض عنها ولم يقدم. وانشغل الحاج والي بالفأر واللقمة والمصيدة، وأمعن الفأر في مداورته، ثم هاجم اللقمة فجأة، وكأنما أراد أن ينتهز من المصيدة غفلة ويختطف اللقمة، ولكن المصيدة لم تغفل، فما هي إلا أن أصبح الفأر جميعه داخلها، حتى أطبقت عليه فمها الشره. ونظر الفأر إلى باب المصيدة نظرة حسيرة، ثم عاد إلى اللقمة فأكل جزءا منها، ثم ما لبث أن عافها. ونادى الحاج والي: يا متولي، يا متولي.
ولم يجب متولي النداء، وإنما دخل الغرفة زين العابدين بك؛ رجل في أواسط العمر، أبيض الوجه، سمح الملامح، يبدو عليه حرص على أن يأخذ من الحياة أحلى جوانبها، فهو متهيئ دائما لهذا الجانب الحلو من الحياة بابتسامة مشرقة لا تفارق وجهه، وجسم مليء منعم لا يحب أن يمنع نفسه من لذائذ الحياة. وقد كان زين العابدين بك في مثل سن الحاج والي، وإن كان مبسوط الجسم عريضه، وكان الشيب قد بدأ يرود فوديه في تؤدة وهدوء. وقد كان شأنه في إنجاب الذرية شأن الحاج والي، فهو أيضا لم ينجب أطفالا، وقد حاولت زوجته قدر طاقتها أن تنجب له بنين أو بنات؛ ولكنها لم تفلح. ويئس زين العابدين ولم تيأس زوجته. وقد رأى زين العابدين ألا يجعل يأسه يعوق أملها، فهو يترك لها مطلق الحرية أن تفعل ما تشاء من عرض على أطباء، إلى استماع إلى وصفات بلدية، إلى غير ذلك لا يقف دون مطلب من مطالبها، وإن كان هو قد شغل نفسه بغير ذلك، فهو مسرف غاية السرف في إمتاع نفسه، لا يعوقه عما يريد شيء، على استعداد دائما أن يقترض ويبيع ليفعل ما تصبو إليه نفسه؛ فهو كثير الولائم، كثير الذهاب إلى القاهرة، يحب لياليها جميعا والحمراء منها خاصة. ولولا أن الفلاحين قد ثاروا على الإنجليز، فقطعوا الخطوط الحديدية التي تصل القرية بالقاهرة؛ ما استقر زين العابدين في القرية. إلا أن الثورة اندلعت لا يقف في سبيلها شيء، وانقطعت الأسباب بالقاهرة، وكان زين العابدين بالقرية فأرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، وجعل أمره إلى الله، وأقام بالبلدة. وحين عسكر الإنجليز على مشارف القرية، أبى أن يتصل بهم، برغم الجهد الجهيد الذي بذله كبيرهم في الاتصال به، ولم يكن ذلك صادرا إلا عن مشاعره الصادقة. وراح الإنجليز يحاولون إصلاح الخطوط المقطوعة؛ فلا يجدون من الفلاحين إلا ازدراء، وقد حاولوا أن يغروا زين العابدين، بأنهم سيسعون له أن ينال رتبة الباشوية؛ فلم يكن هذا الإغراء كافيا، ورفض أن يعاونهم، وإن كان في دخيلة نفسه يتحرق شوقا أن يتم إصلاح الخطوط الحديدية ليجد وسيلة إلى القاهرة. لم تكن زوجته تعلم عن حياته في القاهرة شيئا، بل هي لا تعلم أنه يبيع من أرضه شيئا، كل ما تعرفه من شأنه أن تطلب منه مالا لتذهب إلى الطبيب، أو لتشتري ما يلزم لوصفاتها فلا يبخل عليها.
وقف الحاج والي يسلم على زين العابدين، فعاجله هذا قائلا: مبروك يا رجل.
وقال الحاج والي حسيرا: لا تهنئني يا زين العابدين بك. - لماذا؟! - لو تعرف ما أنا فيه ما هنأتني. - خيرا يا رجل، ماذا بك؟ - لا والله ليس خيرا أبدا. - قل ماذا حدث؟ - لا شيء. تزوجت. - وهل هذا يحزنك؟!
ويدخل متولي حاملا الشربات، ويقول زين العابدين: أحسنت صنعا يا متولي.
وقال متولي: تفضل يا حاج. مبروك.
وأخذ الحاج الكوب ووضعه على المنضدة، وقال زين العابدين: ماذا بك؟
وقال متولي: يا سيدي إنه منذ جاء وهو بهذا النكد.
وقال زين العابدين: عجيبة!
وخرج متولي وهو يقول: عجيبة!
والتفت زين العابدين إلى الحاج والي: ما لك يا حاج والي؟ - ألم تعرف كيف تزوجت يا زين العابدين بك؟ - نعم عرفت. - عرفت أن زوجتي هي التي خطبت لي؟ - نعم، ولا أكتمك؛ لقد اندهشت لهذا، وكنت أريد أن أسألك منذ سمعت، ولكنك لم تأت. - خجلت أن ترى وجهي. - ولماذا تخجل؟ - ما الذي يجعل امرأتي تخطب لي؟ لا بد أنها رأت حرصي الشديد على الإنجاب. - نعم، لا شيء في ذلك. - أليس هذا مخجلا؟ - لماذا؟! - كيف سولت لي نفسي أن أهين كرامة زوجتي إلى هذا الحد؟
يا سعادة البك أنت سيد العارفين، ألا تتصور مقدار الألم الذي عانته امرأتي، وهي تخطب لي امرأة غيرها؟ أقسم بالله يا سعادة البك إنني منذ جاءت زوجتي، وأنا أستحي أن أكلمها أمام الحاجة.
وصمت زين العابدين، وأحس الحاج والي ببعض الراحة، وهو يلقي هذا الحديث لأول مرة إلى مسمعي إنسان واسترسل: أكل هذا من أجل الأولاد؟! - وهل الأولاد شيء بسيط يا حاج والي؟ - والله يا سعادة البك أصبحت لا أدري. - اسمع يا حاج والي، لقد سمعت عن زوجتك الحاجة أنها عاقلة وكريمة، ولكنها بما فعلته جعلت نفسها مثلا أعلى فأكرمها. - أكرمها! أكرمها يا سعادة البك! إنني لا أدري كيف أعاملها. يتهيأ لي أحيانا أنها ليست من البشر، ولا أدري كيف أعامل الملائكة. لقد جعلتني لها عبدا. أنا عارف يا بك، أنا عارف بشعور المرأة وبغيرتها، عارف. كيف أستطيع أن أوفيها حقها؟ - أنت محق يا حاج والي، الحاجة بمبة تستحق ما تقوله عنها. - ولكن ... ولكن أنا ... أنا خجلان يا سعادة البك. - أخطبت لك دون أن تخبرك؟ - أخبرتني بعد أن خطبت. - وماذا فعلت؟ - فعلت ما لا زلت أخجل منه. - ماذا؟ - ثرت، ولكنني في دخيلة نفسي كنت مسرورا. - كيف؟ - غضبت. قلت لها أتزوج؟! هذا كلام فارغ ... و... و... ولكن لم أفلح في إخفاء حقيقة نفسي. إنها زوجة عشرين سنة وذكية؛ أدركت أنني مسرور، فإذا هي تقول في كل هدوء، سأشتري لعروسك بعض، ملابس وتتزوجها في الأسبوع القادم إن شاء الله. وكأنما ألقت على رأسي ماء باردا، فإذا أنا صامت وكأني مستسلم. ثم قمت وخرجت؛ فإذا جميع من في البلدة يعرفون أمر الخطبة، فهم يهنئونني، وأرى في عيونهم ابتسامة تجمع بين التعجب والحسد، يخيل لي أنهم كلهم يتمنون أن تكون زوجاتهم مثل زوجتي، مع أنهم جميعا آباء، لهم من البنين ما تضيق به البلدة. لم أجد من أشكو له همي إلا أنت، ولكني كنت خجلا منك، فغبت عنك ثم لم أجد بدا من أن أتغلب على خجلي، وإلا انفجرت بالألم الذي أعانيه فجئت، وارتحت أن قلت لك ما قلت يا زين العابدين بك. أبقاك الله لنا. - يا رجل، المسألة لا تستأهل كل هذا. - بل تستأهل يا سعادة البك، ولكن ماذا أفعل؟ لم تعد هناك فائدة. أيستحق الأطفال كل هذا؟ أيستحق الأطفال أن تطعن امرأة صالحة كزوجتي كرامتها كامرأة، وتتجاهل أنوثتها إلى درجة أن تخطب لزوجها امرأة لتنجب له أطفالا؟ ماذا أصنع بهم؟ لماذا كنت شديد الرغبة في الإنجاب إلى درجة أن جعلتها تقتل أنوثتها بيديها، وكأنها تنتحر؟ ماذا سأصنع بهم؟ وماذا سيجري في الدنيا إذا لم أنجب أنا أطفالا؟ هل ستتوقف الدنيا عن الدوران؟ ماذا أصنع بهم؟ أرى من عندهم أطفال يضيقون بهم، وأراهم إذا مرض أحدهم يكاد الأب يموت من قلق وخوف وشفقة! ثم إذا صح الطفل المريض؛ وجدت الأب ضيقا غاية الضيق بما يحمل من مسئولية. لا تؤاخذني يا سعادة البك، فأنت لم تنجب. أي شعور عجيب يشعر به الأب فيجعلني حريصا كل هذا الحرص على أن أنجب؟ أنت لا تدري شعوري هذا، أم تراك تدري؟ - بل لا أدري، حقا أنا لا أدري. ولا أكتمك، فقد كنت أحب أن أدري. - أهو حرصنا على أن يظل اسمنا من بعدنا؟ - وماذا يهم من بعدنا إن بقي اسمنا أو لم يبق؟ - فماذا إذن؟ أي شيء عجيب في هذه المخلوقات الصغيرة الجبارة يجعلنا نحبها ونحرص عليها، ونتوق إلى أن نصبح آباء لها؟ - لعلنا نحب فيهم الحياة يا حاج والي، فهم حياة جديدة. وإقبال الأطفال يشعرنا - أو هو يشعر الآباء - أن الحياة ما زالت تستطيع أن تجدد نفسها.
وماذا نحب في هذه الحياة؟ هذه الحياة التي لا نستطيع فيها أن ننال ما نهفو إليه إلا على أشلاء أحبائنا وكرامتهم! - ليس هناك كثيرون خطبت لهم زوجاتهم يا حاج والي. - نعم، ولكن هناك كثيرين سعوا إلى الإنجاب بشتى الوسائل، وسهروا الليالي الطوال لتحقيق هذه الأمنية. لقد كانت زوجتي شريفة فيما فعلته؛ سمعت عن نساء أخريات بذلن أنفسهن لغير أزواجهن ليهبوا لأزواجهن أطفالا، أحبوا أزواجهن إلى درجة الخيانة من أجلهم. هل يستحق الأطفال هذا؟ هل يستحقون؟ أم نحن مخدوعون؟ أنا حائر يا سعادة البك، حائر. ماذا في هذه المخلوقات الصغيرة؟ أي سحر فيها؟ إنهم أقوى من الحياة يا زين العابدين بك، أقوى من الحياة؛ يهون على المرأة أن تموت ولا ترى زوجها مع غيرها، ولكن زوجتي خطبت لي، خطبت لي؛ لأنها أحست إلى أي مدى أريد أن أرى لنفسي أطفالا. هذه المخلوقات اللعينة، اللعينة، اللعينة. - ولكنك مع هذا تريد أطفالا يا حاج والي.
وأطرق الحاج والي لحظة، وخيل إليه أن سحابات من ضباب تغشى ناظريه، ثم قال في أسى: نعم يا زين العابدين بك، نعم، إني أريد أطفالا.
الفصل الثالث
تعتبر الحاجة بمبة أمهر سيدة بالقرية في رؤية المستقبل في الفنجان، وطالما قصد إليها نساء القرية لتطلعهن على ما تخفيه لهن الأيام، ويا طالما رأت بقايا القهوة في فنجانها، ويا طالما رأت الأطفال قادمين إليها لا تحصيهم عددا. ها هي ذي اليوم ترى أن تحقيق أمنيتها قريب؛ فإن الفنجان لم يخبرها إن كانت هي التي ستلد هؤلاء الأطفال، أم أن غيرها ستنجبهم لها، وإنما غاية ما أنبأها به أن الأطفال سيفدون إلى البيت؛ وهكذا اقتنعت أن فنجانها لم يخطئ. وها هي ذي تنتظر الأطفال من صالحة، ولكنها غير سعيدة، يزيد من تعاستها أنها مصممة على أن تبدو سعيدة. وكانت الحاجة بمبة بيضاء، في خدودها حمرة، وفي وجهها طيبة واستدارة، ترهل جسمها ولم يفقد انسجامه، وهي صاحبة حديث شهي، سهل المأخذ، وهي قريبة الغور سمحة، ولكنها قادرة على أن تحسم أمورها، قادرة أيضا على إنفاذ ما تريد، وقد أعجب بها الحاج والي، وهو طالب في الأزهر الشريف، وتزوجها يوم أزمع البقاء في القرية، بعد أن ظلت مخطوبة له مدة أربع سنوات كاملة. وقد شهد العام الأول من زواجهما صفاء وحبا، أما العام الثاني فقد كدره لهفتها أن تصبح أما، وزاد هذه اللهفة تساؤل قريباتها عما أخرها عن الإنجاب، ثم صارت السنوات التالية جميعا كفاحا من أجل الإنجاب، وقد كان العلم في ذلك الحين يضرب في غياهب من الجهل، ولم يكن من المعقول في ذلك الحين أيضا أن ترى الحاجة بمبة غير النساء؛ فزوجها رجل صارم، وقد زادته تربيته الدينية صرامة. ولم يكن في الحجاب الذي يفرضه المجتمع على النساء في ذلك الحين أي عجب، بل إن النساء حتى تلك الأيام لم يشعرن بأية غضاضة أو ضيق. وقد كانت الحاجة بمبة من أولئك النسوة اللائي يرين أن أوامر أزواجهن مقدسة لا سبيل إلى التهاون فيها. وكان الحاج والي يحب زوجته، وما كان ترهلها يزيده إلا حبا لها؛ فقد كان الجمال كل الجمال أن تكون المرأة سمينة، حتى لا يكاد زوجها أن يحيطها بذراعيه. ولولا رغبة الحاج والي اللاهفة في أن ينجب أطفالا لما فكر في الزواج، فقد ازدادت زوجته جمالا على جمالها في السنوات الطويلة التي عاشتها معه، فإنه لم يكن يأخذ عليها يوم تزوجها إلا أنها نحيفة القوام.
ولم يكن الحاج والي من هؤلاء الرجال الذين يميلون إلى العنف في معاملة زوجاتهم، بل كان رقيق المعاملة، يحب حديث زوجته ويأنس إليه. وكم تمنى أن يتخلص من رغبته في إنجاب أطفال، بل لكم خيل إليه أنه تخلص من هذه الرغبة، ولكنها ما تلبث أن تثور عاصفة في نفسه. وقد أخذ نفسه منذ تزوج صالحة أن يزيد من اهتمامه بالحاجة بمبة؛ فهو لا يخرج من البيت إلا بعد أن يجلس إليها، ويشرب معها قهوة الصباح.
وقد بكر في يومه هذا ونظر إلى الشباك، فوجد السماء متجهمة صلبة الملامح.
وكانت النخلات التي يطل شباكه عليها تهتز في غير سرور، فقال في نفسه: أهذا ربيع؟! اللهم اجعله خيرا، ثم صلى ركعتي الصباح. والتفت إلى صالحة يسألها: لماذا لا تصلين الصبح يا صالحة؟! - سأصليه عندما تخرج يا عم الحاج. - أتصرين على أن تقولي يا عم الحاج؟! - تعودت قولها. - إن أردت الحق، فأنا أحب أن أسمعها منك. لا أدري لماذا رغم أنها تجعلني أحس أنك صغيرة، وأني كبير، ولكني أحب أن أسمعها منك، لا تغيريها.
وضحكت صالحة وهي تقول: إني لا أستطيع أن أغيرها.
لكن الحاج والي تجهم لحظة وقال: ألم تعلق الحاجة بمبة عليها بشيء.
ودهشت صالحة بعض الشيء وقالت: تعلق على ماذا؟! - على قولك يا عم الحاج. - وبماذا يمكن أن تعلق عليها؟ - قد ترى بها تدليلا أو شيئا من هذا القبيل. - لا تخش شيئا، فإن أحدا لا يرى فيها تدليلا إلا أنت. - لا تؤاخذيني يا صالحة؛ فالحاجة بمبة ست طيبة، ولا أريد أن أغضبها. - يا عم الحاج لا تخش شيئا، فأنا أيضا أحبها وأحترمها من أجل خاطرك، ومن أجل خاطرها هي أيضا، فأنا أعرف أنها لا تكرهني. أو هي على الأقل لا تظهر لي إلا كل خير، فلماذا أغضبها؟ - الله يسترها معك يا بنتي. - إنني أعمل لها كخادمة؛ لا أعصي لها أمرا. ولكني أحس أن في هذا راحتي ما دام يرضيك. - ولكنك لست راضية كل الرضا. - كل امرأة تريد أن تكون ست بيتها. - ألا يكفيك أن تكوني ست هذه الحجرة؟ - يكفي أن أعيش معك يا عم الحاج. - الله يرضى عليك يا صالحة. لقد تأكدت أن الله راض علي منذ عرفت حقيقة أخلاقك، وازددت تأكدا من رضاه سبحانه وتعالى يوم بشرتني بما تحملينه لي في أحشائك من خير. - أنت رجل طيب يا عم الحاج. - أفوتك بخير. - مع السلامة.
وخرج الحاج والي إلى بهو بيته، فوجد الحاجة بمبة جالسة في مكانها وأمامها معدات القهوة فبادرها: صباح الخير يا ستنا. - صباح الخير يا حاج، أهلا. - هل شربت القهوة؟ - من غيرك؟! لا والله لا أذوقها من غيرك أبدا. - والله يا حاجة لا أجد للقهوة طعما إن لم تكن بيدك.
وبدأت الحاجة بمبة تعد القهوة وهي تسأله: إلى أين العزم إن شاء الله؟ - إلى الشيخ حسنين المحلاوي؛ فقد وعدني اليوم أن أزوره وأشرب عنده القهوة وأتقاضى ديني. - أتذهب إلى العشماوية في هذا اليوم العاصف؟ - يا حاجة بمبة نحن فلاحون، إذا قبعنا في بيوتنا من أجل الجو تعطلت أعمالنا. - ربنا يكون في عونك يا حاج والي.
وكانت القهوة قد أعدت، وأخذ الزوجان يحتسيانها وفي ذهن كل منهما أفكار تضطرب يحاول أن يسترها عن رفيق عمره ما وسعه الجهد. وقال الحاج والي: لو كانت القطارات تسير لوجدت الجرائد في المحطة. - لا عليك، فالإنجليز يعملون بهمة في إعادة الخطوط الحديدية. - والله يا حاجة لا يضايقني من هذه المهمة إلا أنني سأمر على الإنجليز. - يا أخي ما لك وما لهم؟! - يكفي أنني سأنظر إلى وجوههم المسلوخة. - إذا وصلت إليهم فانظر إلى الجهة الأخرى. - على رأيك، أفوتك بعافية. - انتظر. - ماذا؟ - سأقرأ لك الفنجان. - كدت أنسى والله يا شيخة. - انتظر، أرى كأنك في طريق ستحصل منه على مال. - لا يا حاجة هذه ليست في الفنجان، لقد أخبرتك الآن أنني سأتقاضى ديني من الشيخ حسنين ... - انتظر، وأرى كأنك جالس في وسط الطريق. - إني سأقطع الطريق كله جالسا؛ لأني سأمتطي الحمار.
وضحكت الحاجة بمبة وهي تقول: لا بد أنك ستقع من على الحمار يا حاج والي، لأني أراك جالسا على الأرض!
وضحك الحاج والي قائلا: هذا هو الجديد، لا شك أن هذا هو الجديد. لم يبق إلا أن أقع من على الحمار. - هذا كلام فنجانك. وأراك منصورا والله يا حاج والي، إن شاء الله أنت منصور على أعدائك يا حاج. - ربنا يسمع منك يا حاجة، فأنت طيبة ونفسك طاهر. أفوتك بعافية. - عافاك الله.
وخرج الحاج والي إلى الطريق وقد ركب حماره، وكان الفلاحون في طريقهم إلى حقولهم، وفئوسهم على أكتافهم، وفي أيديهم دوابهم. وتبادل الحاج والي التحايا مع الفلاحين، وقد كان الحديث بينهم عن الثورة المشتعلة في القاهرة والريف، فقد كانت تسيطر على سماء مصر في ذلك الحين أجواء من الحيرة والاضطراب.
أما أبناء مصر أنفسهم فقد كانوا بعيدين عن الحيرة كل البعد؛ فقد عرفوا الغاية والطريق، فهم ينشدون الحرية، والثورة هي سبيلهم إليها، فهم يشعلونها في كل ما تقع عليه أيديهم. تأتيهم الأنباء من مصر فيها قهر من المحتل، وعنف، وعسف، وظلم؛ فلا يزيدهم شيء من هذا إلا إصرارا واندفاعا. فهم التيار الآخذ لا يصده عن متمناه شيء. سمعوا عن اعتقال سعد وصحبه فثاروا، وسمعوا عن مأمور الضبط الذي قبض على الأجانب المستكبرين بالحماية الإنجليزية فأجرى معهم التحقيقات الرسمية ووقعها باسمه ثم استقال من الحكومة؛ فشعروا أن شباب مصر يستطيعون أن يبلغوا الآمال وإن غاب عنهم القادة والزعماء. وكانت الثورة في داخل النفوس، فهي نيران. وكان وجود الإنجليز وحده كافيا أن يمد هذه النيران بوقودها، فهي متأججة دائمة الأوار.
وانقطعت الأنباء عن الفلاحين في قراهم بعد أن قطعوا الخطوط الحديدية، ووقفت السلطات الإنجليزية تعيد الخطوط إلى أمكنتها وتمنع الحوادث؛ فسكن الفلاحون ينتظرون. ولكن الثورة في نفوسهم لم تسكن، فلا حديث لهم إلا عما كان من الحوادث وما يرغبونه من مستقبل. وكان الحاج والي وهو في طريقه إلى العشماوية لا يكاد يمر بجماعة من الفلاحين في طريقهم إلا وسمع كلمة «سعد» أو كلمة «الإنجليز» أو كلمة «الثورة» أو كلمة «القضبان»، لم يسمع الحاج والي فيما سمع كلمة السماد، أو القمح، أو الأرض، أو كلمة من هذه الكلمات التي تعود أن يتبادلها أبناء القرية في مألوف حياتهم.
وبلغ الحاج مشارف المحطة، وعبر مواضع القضبان الحديدة المنزوعة، متعمدا أن يلقي بنظره بعيدا عن الإنجليز. وما كاد يبتعد عنهم حتى أطلق تنهدة مستريحة، وهو يقول: الحمد لله.
وكأنه خرج من مأزق حرج. وبلغ الحاج والي مقصده وتقاضى دينه، وعاد طريقه. وعبر موضع القضبان مرة أخرى وأوشك أن يبتعد ويطلق التنهدة، ولكن طلقا ناريا كان أسرع من تنهدته! وفي لحظة خاطفة كان الحاج والي جالسا في الطريق فوق الحمار المتهاوي تحته، ومر بذهنه أنه أصيب؛ فلبث مكانه ينتظر أن ينبثق الألم من أي مكان في جسمه، وطال لبثه، ولكنه لم يتألم، فأخذ يتحسس ما تصل إليه يده، فعادت إليه يده كما أطلقها لم يعلق بها شيء يؤكد شكه، ففكر أن يعتدل؛ فحرك جسمه فتحرك معه، وتهيأ ليقف. وأخذ يرسم حركاته قبل أن يتحركها؛ فراح جسمه يطاوعه في كل ما يحاوله حتى استقام أمره أخيرا واعتمد رجليه، ووقف. ونظر إلى حيث كان جالسا فتبين الحادث بأكمله؛ لقد أطلق الإنجليز الرصاص على الجزء الأعلى من ذيل الحمارة. لو لم يكن الحاج والي مشغولا بما أصابه، ولو لم يكن ضجيج الذهول والاضطراب محيطا به من كل جانب؛ لسمع القهقهات العالية التي كان الإنجليز يطلقونها بعد عيارهم. وقصد إليهم الحاج والي في ثورة عاتية يمسك بأطرافها في نفسه، خوفا من عيار ناري آخر يصوب إليه هو في هذه المرة، وما أرخص الأرواح عند الإنجليز! وما ضر أن يموت هو كما مات الحمار! فما كانوا يقيمون كثير فرق بين إنسان مصري وحمار. قصد إليهم يفكر فيما يقول أو يفعل، وتقدم إليه قبل أن يصل شاب مصري يرافقهم من قبل مصلحة السكك الحديدية وقال: على رسلك يا شيخ.
وقال الشيخ في غضبته: أيرضي الله هذا؟ - وهل يعرف هؤلاء الله؟! - ماذا فعلت حتى يفعلوا بي هذا؟ - لا شيء، لقد تراهن أحدهم مع آخر على أنه يستطيع أن يصيب الحمارة التي تركبها دون أن يصيبك، وها هو ذا يضحك لأنه كسب الرهان. الحمد لله أنه كسب الرهان. - الحمد لله؟! - لو كان خسر الرهان؛ لخسرت أنت حياتك. - لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
ونادى أحد الإنجليز الشاب المصري فذهب إليه، وأوشك الحاج والي أن ينصرف، ولكن الشاب ناداه: انتظر يا عم الشيخ.
فانتظر الحاج والي، وجاء إليه الشاب وفي يده جنيه ذهبي وقال: خذ هذا. - ما هذا؟ - يقولون إنه ثمن الحمار.
وقال الحاج والي في غيظ: قطعت يدي إن أخذته. - خذه بالله؛ فإن أولاد الكلب هؤلاء لا يرحمون وقد يغضبون ويطلقون عليك أنت النار. وما أسهل أن يقولوا بعد ذلك أنك حاولت أن تعتدي عليهم. خذ ... خذ ...
وأمسك الحاج والي الجنيه الذهبي، وألقى به إلى الأرض في شيء من الخوف، وفي كثير من الحزم، مراعيا أن يسقط الجنيه بحيث يرى الإنجليز أنه رماه، وبحيث يجدونه أيضا إن تفقدوه. وأولى الجمع ظهره وأخذ سمته إلى القرية منتظرا في الخطوات الأولى أن ترديه رصاصة محكمة التصويب فيقول في نفسه: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله». ويملأ نفسه شعور بالكرامة، فهو يستأني في خطوه، وكأنما يتحدى، حتى إذا وثق أنه صار بمنأى عن مرمى الرصاص منهم؛ سار طريقه في خطوات متفلتة يحمد الله أن نجا، يملؤه شعور بأنه انتصر، ويملؤه شعور آخر بأنه مظلوم، تختلط في نفسه ألوان من الغيظ ومشاعر من العزة.
الفصل الرابع
لم يكن بيت زين العابدين بك باذخ الفخامة، وإنما كان رحب اللقاء تستقبل الداخل إليه شرفة واسعة ليست مرتفعة عن الأرض إلا ببعض درجات قلائل، ثم هي تفضي إلى بهو كبير تحيط به من الجانبين حجرات واسعة للاستقبال، وأما الطابق الأعلى منه فهو حجرات للنوم.
وتحرص بهية هانم زكي على العناية بالمنزل بغاية ما تستطيع من نظافة، وإن كانت الفيران كثيرا ما تعدو على نظافتها بما لا تحب، فهي تطاردها ما وسعها الجهد؛ فبهية هانم سيدة نشأت في بيت النظافة فيه قطعة من الدين، والدين فيه هو كل شيء. فهي لم تقل يوما لزوجها إلا ما يرضيه؛ شأنه أن يأمر، وشأنها أن تطيع، دون أن تحاول تعليل أوامره أو مناقشتها. ولولا ما يشغلها من إنجاب الأطفال لسعدت بحياتها في ظله كل السعادة، فما ينقصها من حياتها شيء إلا أن تصبح أما، فهي تسعد حين تنظر إلى المرآة غاية السعادة، إنها جميلة القسمات؛ فم متسع بعض الشيء، يعلوه أنف صغير، تحيط به وجنتان فيهما امتلاء وفيهما نعومة وإشراق، يغطي الشعر الأصفر أذنيها الصغيرتين، بادئا من رأس متسع، تاركا بينه وبين العينين السوداوين جبهة صافية عريضة. وبهية ممتلئة القوام في غير إفراط، وإنما هو القوام كما يشتهيه زوجها طولا وعرضا. ولم تكن بهية قد أدركت الخامسة والثلاثين من عمرها؛ وهكذا كان أملها في الإنجاب تمهد له هذه السن الباكرة أن يزدهر ولا يتضاءل.
كان الوقت مساء، وقد صعد زين العابدين مبكرا من الطابق الأدنى، وقال لها مبتسما: هيه، ما رأيك لو سافرنا إلى مصر في باكر؟ - صحيح، هل أصلحت السكة الحديد؟ - سيمر بنا أول قطار إلى مصر صباح غد. - ولكن لي شرط. - ألك شروط أيضا؟ - شرط واحد. - آخذك معي إلى مصر لتري أباك وأمك، وتملي شروطك أيضا. - قلت لك إنه شرط واحد. - أمرك يا ستي. قولي شرطك. - أذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ. - ماذا؟! - دكتور مشهور في مصر سمعت عنه من زوجة مأمور المركز؛ ظلت عشر سنوات بلا خلف، حتى كتب لها الدكتور محفوظ دواء فأصبح لها ولد وبنت. - أمرك يا ستي، أمرك. ولكن لي أنا الآخر شرط. - أمرك. - لا تطلبي مني أن أقيم معك في بيت والدك. - لماذا؟! - لا أرتاح هناك. - أمرك. - اتفقنا.
وكان الصباح، ونزل زين العابدين إلى الطابق الأسفل بعد أن أوصى زوجته ألا تتأخر في إعداد الحقائب. وكان في انتظاره الحاج والي الذي جاء بناء على موعد سابق. - صباح الخير يا حاج والي. - صباح الخير يا سعادة البك. - هيه، هل أحضرت المبلغ؟ - المائة جنيه معي، إلا أن لي كلمة. - لا تقلها. - لا بد أن أقولها. - يا حاج والي إن لم أتمتع بمالي فلمن أتركه؟ ها أنت ذا ترى، لا ولد ولا بنت. - يا سعادة البك العمر أمامك طويل، وقد بعت حتى الآن ما يقرب من الخمسين فدانا، ماذا تفعل غدا إذا رزقك الله الولد أو البنت؟ - هل كان أحد يصدق أنني سأخلف؟ ها أنا ذا أنتظر مولودي. اعمل معروفا يا زين العابدين بك، كفاك بيعا. - ربنا يسمع منك يا حاج. لك حق من يدري، فها نحن أولاء سنذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ في القاهرة. - إن شاء الله ربنا يستجيب لدعائنا. - ربنا يهيئ الخير يا حاج. - على بركة الله، تفضل المبلغ. - العقد الذي معك سليم؟ - نعم، أبقاك الله. نحن جميعا نشهد لك بأن بيوعك شريفة، وعقودك نظيفة والحمد لله. - الحمد لله. - أستأذن أنا. - مع السلامة يا حاج والي. - وقام الحاج والي وخرج، وظل زين العابدين وحده يفكر فيما قال له الحاج، ثم ما لبث أن أبعده عن ذهنه، وقام إلى شرفة داره يذرعها في انتظار موعد القطار، وألقى نظرة إلى الشجر الذي يحيط ببيته، فوجد طيورا كثيرة مطمئنة الجلسة فوق أعرافه؛ ما الذي يمسك بهذه الطيور هنا؟ لماذا لا تذهب إلى القاهرة ولها أجنحة؟ أهو الأمن الذي يشيع حول بيته، فهو لا يصيد الطير، فليس ثمة صوت قذيفة يسمع؟ وهل يكفي الأمن حتى تستقر الطير فوق أشجاره؟ ما لها لا ترود السماء والأشجار؟ إنها غبية هذه الطيور ، غبية.
ومال زين العابدين بك فجأة فأمسك بحجر وألقاه على شجرة حافلة بالطير؛ فانبعث الحمام واليمام صاعدا في السماء، وحوم مرة ثم أتبعها بأخرى، ثم عاد إلى الشجرة، واطمأن به المقام، وزين العابدين ما يزال يقول: غبي هذا الطير، غبي.
حان موعد القطار، ونزلت بهية هانم تتقدمها الحقائب. واستقل الزوجان العربة إلى المحطة، وأقبل القطار بعد قليل، بطيئا في قدومه، وكأنه يتحسس طريقه ليستوثق أن الإصلاح قد تم بإتقان. وحين بارح القطار المحطة بطيئا، نظر زين العابدين إلى السماء، وارتاحت نفسه حين رأى يمامة تسير بجانب القطار وكأنها تسابقه، ثم ما لبث أن انشغل عن السماء بالأرض، وعاد ينظر إلى الطريق الذي انقطع عن السير فيه أشهرا طوالا، وشاركته بهية هانم في الصمت والنظر إلى الطريق حتى إذا وصلا إلى القاهرة طلبت بهية في تردد أن يذهبا إلى الطبيب أولا ما داما قد وصلا في موعد مناسب، والتقى طلبها برغبة زين العابدين الذي أراد أن ينتهي من هذه المهمة ليفرغ بعد ذلك إلى القاهرة التي بلغ شوقه إليها أقصى مداه. وتم لهما ما أرادا، وعادا من عند الطبيب، وقد كتب الدواء للست، واستقبلت التذكرة بأمل عريض مشرق، واستقبلها زين العابدين كما تعود أن يستقبل كل وصفة جديدة يجيء بها إلى زوجته.
واشترى لها الدواء، وذهب بها إلى بيت أبيها، وقبل أن يدخل قال سائق العربة الأجرة: هل أنتظر سعادتك؟
وبدون وعي قال زين العابدين: نعم.
وصعد فأدى زيارة عاجلة ثم استأذن وخرج، إلى القاهرة.
كان «بار الأنس» هو البيت الحقيقي الذي يقطنه زين العابدين حين يأتي إلى القاهرة، وكانت صديقته فاطمة العراقية؛ فتاة أتقنت إرضاء الرجال، فنصيبها من زوار البار هم الأغنياء الذين يحبون أن يبذلوا أموالهم في كرم وإسماح. وقد كانت في هذه الشهور التي غاب فيها زين العابدين قد وطدت صداقتها بوجيه آخر من وجهاء القاهرة الذين لم تمنعهم الثورة وتقطيع الخطوط الحديدية من زيارة البار. وهكذا كان دخول زين العابدين إليها أمرا لا تستقبله بالحفاوة والترحاب في دخيلة نفسها، وإن كانت قد أبدت له كل ما تعلمته طوال حياتها العريضة من حفاوة وترحاب. جلست إليه بضع دقائق، ثم استأذنت وقامت إلى زميلتها أنيسة ولعة وقالت: هذا السوار يعجبك من زمان. - نعم. - وهذا القرط؟ - ما شأنك؟ - الذي أحضر السوار والقرط هو هذا الرجل الجالس هناك. - نعم أعرفه زين العابدين. - يدي مشغولة في هذه الأيام بغيره. - فأنت تتنازلين لي عنه؟ - بعينك. - فماذا تريدين؟ - كم تدفعين لأتركه لك؟ - أعطيك أول هدية يحضرها. - وإذا كنت خائبة، ولم تستطيعي أن تنالي منه هدية مناسبة فماذا أعمل أنا؟ - وماذا أعمل أنا؟ - تدفعين فيه ما أطلبه الآن، والله يهنيك به بعد ذلك. - قولي، ماذا تريدين؟ - هذا المصحف الذي يتدلى على صدرك. - هذا! لقد ثمنته بعشرين جنيها. - أنت تعرفين أنني أستطيع الاحتفاظ برجلين وبعشرة عند اللزوم. - النهاية، أمري إلى الله. خذي.
وخلعت أنيسة المصحف وتقدمت هي وفاطمة من مائدة زين العابدين وجلستا، وقالت فاطمة في دلال: يا زين العابدين بك، أنت فاجأتني بزيارتك، وأنا الليلة مشغولة في فرح، وقد رجوت أنيسة أن تصاحبك الليلة. - يا ستي أهلا بأنيسة.
وتم الاتفاق دون أي اعتراض من زين العابدين، فما كان يمكن أن يعترض بمشهد من أنيسة، وهو بعد ليس حريصا كل الحرص على أن تطول صلته بفاطمة أكثر مما طالت، وما كادت فاطمة تقوم عنهما حتى سارع هو يسألها: أين نتعشى الليلة؟
وكانت خبيرة بما يرضي الرجال، خبيرة أيضا بالأمكنة التي يمكن أن تقصد إليها إذا كان معها زبون على هذا الغنى الذي يتمتع به زين العابدين. وسرعان ما اكتشف فيها زين العابدين هذه المواهب، فهو يسألها بعد العشاء: وأين الغداء؟ - غداء! أي غداء يا رجل، ونحن ما نزال في العشاء؟! - أقصد غدا. ماذا بك، لماذا لا تفهمينني؟ - غدا! أي غد يا سعادة البك؟! الكلام كان عن ليلة واحدة، وأنا لا أعرف لليلة واحدة. - وأنا لا أعرف على ضرة. - فماذا أنت فاعل بفاطمة؟ - من باعك بعه. - يا راسي. - يا ستي، كم من أفراح أحيتها ونحن أصدقاء ولم تعتذر! - تعجبني. - عارف. - نتغدى غدا في روض الفرج. - يا بنت! في الهواء الطلق على النيل. - فاهمني. - وغدا سأكون فهمتك أكثر وأكثر.
وفي الغد قصد هو وأنيسة روض الفرج، واختار منضدة على النيل وأمر بالغداء، وطلب زين العابدين حمامة مشوية، وطلبت هي كبابا، وفي انتظار الأكل أن يأتي نظر زين العابدين إلى السماء وكأنما يريد أن يرى مقدار سطوع الشمس، ولكن أدهشه أن وجد حداءات كثيرات تحوم حول المكان. وقال لأنيسة: ماذا تفعل كل هذه الحداءات هنا؟ - كل مخلوق يبحث عن رزقه.
وسكت، وجاء الطعام، واستقر على المائدة، وبدأ زين العابدين يأكل، فقطع لنفسه لقمة خبز غمسها في سلطة الطحينة، حتى إذا ابتلعها، مد يده للحمامة المشوية، وقد أخذ به الجوع مأخذه، ولكن لم يكد يمد يده حتى انقضت على الحمامة حدأة بارعة، فإذا الحمامة المشوية في مخالبها، وإذا هي في السماء مرة أخرى قبل أن يفيق زين العابدين من المفاجأة المذهلة.
خرج زين العابدين من الفندق يريد أن يقصد حي الصاغة؛ فقد كان لا بد له أن يشتري هدية للصديقة الجديدة، ووقف ينتظر عربة أن تمر به، ولكن طال به الوقوف دون أن تمر به عربة، وسئم زين العابدين الانتظار، فراح يمشي آملا أن يلتقي بعربة، ولم يمر بذهنه أنه من العسير أن يجد هذه العربة؛ فقد ترك القاهرة حين تركها قبل الثورة، وقائدو العربات يلحقون على المارة أن يركبوا، وحين نزل في أمسه من القطار لم يجد صعوبة تذكر في الحصول على عربة، وقد ظلت العربة معه حتى عاد إلى الفندق، وسأله السائق إن كان يريده في اليوم التالي، ودهش من السؤال، ولكنه وافق، وظن أن سائق العربة يريد أن يضمن رزق غده، ولم يشأ أن يحطم آماله، فوافق، وظلت معه العربة طوال اليوم التالي حتى عاد إلى الفندق، فهو إذن يجهل كل الجهل ما ألم بالمواصلات حتى في القاهرة، وقد أوقعه هذا الجهل في خطأ يدفع ثمنه الآن، فهو لم يطلب إلى السائق أن يعود في يومه هذا ، فما كان يتصور أنه لن يجد عربة في أية لحظة يشاء. ومرت به عربة كارو، وتولته الدهشة، ولكن لم تكد تمر من أمامه حتى ظهرت عربة أخرى كارو أيضا، ولم تكن مزدحمة، فإذا سائقها يقف بجانبه ويقول: تفضل يا بك. - ماذا؟!
وأوشك أن يغضب، ولكنه نظر فوجد الراكبين لا يقلون عنه وجاهة.
وقال أحدهم وهو أفندي أنيق: تفضل يا بك. يظهر أنك حديث القدوم من الريف.
وقال زين العابدين، وهو لا يزال في دهشته: نعم. - هذه هي وسيلة المواصلات الرسمية الآن؛ فسائقو الحنطور مضربون.
وقال السائق: أتحب أن تجلس في الدرجة الأولى؟ - ماذا؟! وهل عندك درجة أولى؟! - نعم، هنا في المقدمة. تجلس على وسادة، وستجد الجلسة مريحة ونظيفة. - وكم الأجر؟ - قرشان. إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى الصاغة. - تفضل.
ودفع زين العابدين القرشين، وركب واستأنف الحديث: ولكني ركبت بالأمس عربة حنطور.
وقال السائق: لا بد أنك ركبتها من المحطة. - نعم. والترام؟ - أضرب عماله أيضا.
وقال أحد الراكبين من الوجهاء: لقد وجدنا «الكارو» أمتع.
وقال السائق: إنها ركبة سلطاني!
وقال زين العابدين: ولكن لماذا الاستمرار في الإضراب، وقد سمح للوفد بالمفاوضة وتألفت وزارة رشدي، وأوشكت الأمور أن تستقر؟
وقال الأفندي الذي حادثه أولا: لجنة الموظفين لا تزال مضربة، وقد وضعت شروطا للعودة للعمل، وهكذا استمر الإضراب.
وقال آخر: الإضراب مستمر وإن كانوا قد أخذوا يجمعون الاكتتاب للوفد. - أعانهم الله. لا بد أن ينجح الوفد في مهمته.
واستمر الحديث بين الراكبين حتى بلغ زين العابدين الصاغة فنزل واختار سوارا من الذهب الثقيل دفع فيه عشرين جنيها، وعاد وقد عرف طريقه فوقف إلى موقف العربات الكارو فركب الدرجة الأولى، وصعد معه شاب يلبس الملابس البلدية، وأفندي لا تبدو عليه مظاهر الغنى، كما ركب إلى جواره في الدرجة الأولى وجيه يرتدي ملابس الفقهاء، وإن كان يبدو عليه أنه تاجر. وسارت العربة، وبدأ الأفندي غير الأنيق حديثه مع الذي يلبس الملابس البلدية: يا ليتني كنت أملك أكثر من هذا كنت قدمته. - وما له؟ كل إنسان يقدم ما يستطيع. أنا لم أجد شيئا، ولولا زوجتي لظللت حزينا طول العمر. - وما له يا أخي! ألستما زوجين؟ - نعم، ولكنها عروس جديدة، ولم أحضر لها إلا هذا العقد. - والله إنها عاقلة. - رأت مقدار ضيقي، فقالت لي بعه، وحين يأتي المال تشتري لي غيره. - هل بعته؟ - لا، سأقدمه إلى لجنة الاكتتاب، فإني أخشى إن بعته أن يبخسوا ثمنه؛ أنا اشتريته بعشرة جنيهات، ومعي عقد شرائه، سأقدمه هو والعقد إلى اللجنة، واللجنة ستبيعه بثمنه.
وسمع زين العابدين الحديث فعجب له، وراح يفكر في هذه القاهرة التي انتفضت هذه الانتفاضة، فلم يعد يسمع شيئا، إنما هو طنين من الدماء الفوارة في عروقه، إنه البعث. ووقفت العربة فما درى أين وقفت، ونزل الأفندي والشاب فوجد زين العابدين نفسه ينزل معهما، وسارا فسار خلفهما ودخلا بيتا وقدم كل منهما اكتتابه، وأخذ كل منهما إيصالا وانصرفا، وتقدم هو فقدم السوار الذي اشتراه ومعه العقد الذي يثبت ثمنه، وسأله الذي يتولى جمع الاكتتاب: اسم حضرتك؟
ودون وعي قال: أنيسة ولعة.
وقال الرجل مدهوشا: ماذا؟!
وانتبه زين العابدين ليقول: اكتب الإيصال باسم أنيسة ولعة.
وحين التقيا قدم لها الإيصال، فنظرت إليه نظرة عميقة، واحتضنته وهي تقول: هذه أعظم هدية نلتها، بل أظنها أعظم هدية سأنالها في حياتي؛ لقد جعلت مني إنسانة لها وطن وعليها واجب نحوه. أطال الله عمرك.
الفصل الخامس
كانت الحاجة بمبة جالسة في بهو بيتها تنتظر الحاج والي أن يعود، فهي تريده في أمر قد يدهش له، ولكنها تراه عدلا، ولا بد أن تقوم به.
وكان يجلس إلى جانبها طفل في الخامسة من عمره دقيق القسمات، دقيق الجسم أسمر البشرة، رغم المجهود الكبير الذي بذلته يد رحيمة لتزيل عنه قذر أيام، إن لم يكن قذر شهور طويلة. وكان يرتدي جلبابا من القماش الرخيص، وإن كان يبدو هو الآخر أنه انفلت من النظافة منذ لحظات.
وكان الطفل جالسا ذاهل النظرات، في عينه اليسرى دمعة منسابة لا يدري لانسيابها سببا، وإنما هي تلازم عينه، كلما أزالها عادت تنسكب في إلحاح وإصرار، ولكن عينه تزجي مع الدمعة إشعاعا من الذكاء لا يخفى، وقد حاول الطفل في عزم ألا يبدو منه إلا الهدوء والطاعة؛ فقد كان جديدا على هذا المنزل، جديدا على هذه النظافة التي تواكبت عليه فجأة، فكان مجالها جسمه وملبسه في آن معا. فهو واجف صامت، في نظرته انتظار لمجهول ودهشة بادية على محياه جميعا، وقد حاولت الحاجة بمبة أن تطمئن وحشته وتؤنس غربته؛ فيلجأ الطفل فيها إلى هذه الطيبة لجوء اللاهف الغريب، يستشف الحنان ويتلمس اليد الرحيمة أو الكلمة العطوف، لا يبحث عن مصادرها، ولا يهتم ببواعثها. وينشغل الطفل حينا من الزمن ببعوضة تلح على يده فينظر إليها طويلا، وهي مستقرة لا تبارح مكانها. ويحرص الطفل ألا يحرك يده، وكأنما يحاذر أن يقلق البعوضة فتلدغه، ولكن البعوضة لا تقابل عطفه بغير عضة في يده؛ فتختلج يده خلجة مذعورة داهشة تطيح بالحشرة بعيدا، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى يده الأخرى، فيتكرر ما حدث من الطفل والبعوضة، وتجلو البعوضة عنه فيبحث عن شيء آخر يشغله، فلا يجد إلا نور المصباح المتراقص لا يقر له قرار.
وما تلبث صالحة أن تدخل إلى البهو قادمة من حجرتها، يتقدمها جنينها ولسانها وهو لا يكف عن الدعاء للحاجة بطول العمر والهناء والسعادة، والحاجة تتقبل هذا الدعاء في تواضع وتهوين من شأن المعروف الذي تلهج بذكره صالحة. وتحاول صالحة في إخلاص أن تتلمس أوامر الحاجة، فهي تسألها إن كانت تريد شيئا أي شيء، وتجيب الحاجة أنها تريدها أن تستريح وتريح هذا الجنين الذي ترهقه معها في الذهاب والمجيء ذارعة به غرفات البيت، لا تهدأ ولا تجعله يهدأ. والطفل يسمع ما بينهما من نقاش لا يدري من أسبابه شيئا، ويهم أن يسأل علام الشكر، ثم تمسك بلسانه وحشة الغريب فيبتلع استفساره مع أحاديث كثيرة تتوارد على ذهنه، ما إن تبدو على صفحة عقله حتى يقمعها فتعود مختفية متراجعة إلى واد من النسيان، حيث لا يعلم الطفل، ولا يعلم أحد، أين تذهب.
ويأتي الحاج من الخارج ويرى الطفل فيدهش لحظة، ثم يقول في ترحيب طيب: أهلا حسين. مساء الخير يا حاجة. كيف حالك يا صالحة؟ وتجيب الزوجتان التحية، ويتقدم حسين إلى الحاج والي فيقبل يده، ويقعد الحاج على الأريكة بجانب بمبة، وتقوم صالحة وهي تقول: تعال يا حسين.
ويتبع حسين أمه إلى حجرتها. وتقول الحاجة: لي طلب عندك. - طلبك أمر يا حاجة. - أريد أن يقيم حسين معنا. - ماذا؟! وأنت التي تطلبين؟! - ومن يطلب هذا إذا لم أطلب أنا؟ إن زوجتك صالحة على وشك الوضع، ولا شك أنك ستربي ابنك أحسن تربية، وحسين أخوه على كل حال، وأنا لا أحب أن يكون أحد الأخوين متعلما، والآخر جاهلا. - ربنا يعطيك بقدر طيبتك يا حاجة. - لو أقام حسين عند جده؛ لما استطاع أن يعلمه، وليس بكثير عليك أن تربي ابن زوجتك كأنه ابنك؛ فهو يتيم، ويستحق العطف. - يا حاجة أنت طيبة وصالحة. - ماذا قلت؟ - البيت يا حاجة بيتك، لك أن تقبلي فيه من تشائين وتخرجي منه من تشائين. وقد كان الأجدر بي أن أطلب أنا هذا الطلب؛ إكراما لصالحة، إنما أنت دائما تسبقين إلى الخير.
الفصل السادس
كانت الريح عاصفة يشتد عصفها كل حين، بدأت أول ما بدأت بذرات الرماد تحملها، ثم قويت فأصبحت تحمل الأوراق الجافة المتساقطة على الأرض، ثم راحت تخلع عن أشجار الكافور أوراقها، ثم اشتد ساعدها فإذا هي تحطم أعراف الشجر لا تفرق بين الكافور أو غيره من الأشجار، وراحت تحمل الأعراف في سرعة مجنونة تندفع إلى حيث لا تدري مقصدا.
رياح عمياء مجنونة معربدة ليس فيها من الثبات إلا أنها تندفع إلى هدف واحد، وإن كانت لا تدركه، ولا تدري لماذا اختارت هدفها هذا، وهي مع ذلك تتردد أحيانا في الاندفاع إلى متجهها؛ فهي تدور حول نفسها بما تحمله في دوامة عنيفة من الهواء والرماد وأعراف الشجر، ولكن قليلا ما يدوم ترددها، ثم هي تمضي في سبيلها لا تلوي على شيء، ريح قل أن تعرفها مصر. وسارع المطر ينهمر، فهو السيل الجارف ينسكب أنهارا من السماء، فهو أنهار في الأرض فياضة تحتفر المجرى في إصرار وإلحاح. وكأنما أرادت السماء أن تنير الطريق للأنهار الناشئة الصغيرة؛ فالبرق يخطف الأبصار إن وجدت في العراء أبصار، فالناس في بيوتهم يعتصمون من اليوم الراعد والسيول والأعاصير بالجدران الصماء والضلف المغلقة من النوافذ، ويستعينون في القرية بالمواقد والأفران على البرد الزمهرير القارس.
أما الحاج والي وأهل بيته فهم في شأن غير شأن الناس، فقد كانت صالحة تعاني آلام الوضع، تقف إلى جانبها قابلة القرية الحاجة زينب أم عوضين، والحاجة بمبة تعين بكل خبراتها التي تلقتها من المواقف المماثلة مع الصديقات أو قريباتها. بينما انتبذ حسين مكانا قصيا يحاذر أن يعرقل الأرجل المتسارعة غدوا ورواحا بين جنبات البيت، تنسكب من عينه تلك الدمعة التي لا تفارقها، والتي تعود إلى الانسكاب كلما أزالها حسين بيده. أما الحاج والي فقد جلس إلى الأريكة ممسكا بمسبحته يتمتم عليها بذكر الله، محاولا ما وسعه الجهد أن يبدو في هدوء الرجل، وإن كانت طبيعة الإنسان تأبى عليه الهدوء أو القرار.
وخرجت القابلة فطلبت تبنا، وذهل الحاج والي، ولكنه لم يسأل عما يدعوها إلى طلب التبن، وإنما قام وصحب حسينا إلى المتبن فملأ قفة وعاد هو وحسين يحملانها، ويحملان على ملابسهما كميات كبيرة من ماء المطر، وفي أقدامهما ألواح كاملة من الطين؛ فقد كان لا بد لهما أن يخرجا إلى العراء ليصلا إلى المتبن.
وعاد الحاج والي إلى أريكته وحسين إلى مكانه القصي، وعادت المسبحة إلى أصابع الحاج، والدمعة إلى عين حسين.
ولكن آلام صالحة لا تنقطع، تتنفسها في آهات ينشق عنها كيانها كله، والغرفة ذات الباب المقفل صماء لا تفلت أحدا من داخلها ليخبر الحاج والي ماذا يحدث في الداخل، وأخيرا انشق الباب عن القابلة وهي تقول: لا بد من طبيب يا حاج، أنا لا أستطيع أن أقوم بولادتها وحدي ...
وقال الحاج والي: طبيب؟! تقولين طبيب؟!
وخرجت الحاجة بمبة وهي تصيح: نعم يا حاج! طبيب! أم نترك البنية تموت؟! - ومن أين آتي بالطبيب الآن، كيف لي به؟! - اطلبه من تليفون العمدة. اطلبه يحضر بأية وسيلة.
وقام الحاج والي يريد أن يخرج، وحينئذ تقدم حسين وهو يقول في صوت واهن حازم: أنا قادم معك يابا الحاج.
ويقول الحاج في صوت طيب، ولكنه حازم أيضا: لا، ابق أنت هنا يا حسين.
ويخرج الحاج إلى الطريق، يشق سبيله في الرياح العاصفة يكاد لا يبصر ما أمامه من شدة الرياح وانسياب الماء حتى يصل آخر الأمر إلى بيت زين العابدين، ولا يعرج إلى البيت، وإنما يقصد إلى دار سائق العربة محمود أبو عبد الهادي، فيطلب إليه أن يجهز العربة ليذهب إلى المركز، ويوشك محمود أن يقول إن الخيل لا تستطيع المشي في هذه الأنواء العاصفة، ولكنه يرى لهفة الرجل ويقدر أيضا ما سيناله من عطاء فيطيع، ويركب الحاج العربة وتأخذ سبيلها إلى المركز ولكنها - على رغم قوة الخيل - تمشي بطيئة متمايلة تغرس عجلاتها في الطين كلما سارت. وحين عادت العربة بالطبيب كان الفجر قد أوشك يرسل نوره، وكانت السماء قد أقلعت عن المطر، وكانت الريح تبدو وكأنما مسها الكبر، ولكنها مع ذلك تأبى أن تعترف بالوهن؛ فهي تجر الأشياء التي كانت تحملها في صدر النهار بخفة واستهزاء، ولكن البرد كان ما يزال شديدا قارسا.
ودخل الحاج والي والطبيب إلى البيت، ونادى الحاج والي: يا حاجة بمبة.
وخرجت إليهما الحاجة، وما لبثت أن قالت: الحقنا يا دكتور. تفضل.
ودخل الطبيب ودخل معه الحاج والي، وكانت صالحة تلقف أنفاسها في ضعف وإصرار، وكأنما هي تنتزع الهواء من الحياة انتزاعا. ومرت بذهن الحاجة بمبة خاطرة عجبت لها في هذا الموقف الضنك؛ لقد رفضت أن يراها طبيب رجل، وخطبت لزوجها هذه الفتاة لتلد له، ولكن الله أراد - لحكمة لا يعلمها إلا هو - ألا يأتي الولد - إن هو جاء - إلا على يد طبيب رجل. وصحت الحاجة من خاطرتها على صوت الطبيب: اتركونا أرجوكم. لا أريد إلا القابلة. أيصح يا حاجة زينب أن تعملي التبن؟! كم مرة أنهاك عن هذه القذارة! أرأيت نتيجة عملك؟ اتركونا أرجوكم.
وخرج الحاج والي، وخرجت من ورائه الحاجة، واقتعدا الأريكة ولم يخرج الحاج سبحته، وإنما راح يسأل الحاجة بمبة في إشفاق: هل الحالة خطيرة؟ - ربنا يسلم يا حاج. أنا لم أر في حياتي ولادة كهذه.
وأراد أن يعيد السؤال، فوجد أنه سيصبح سخيفا، كما وجد أنه لن يسمع الجواب الذي يتلمسه، فلم يجد مناصا من أن يعود إلى مسبحته، فهو يخرجها ويأخذ في إسقاط حباتها الواحدة بعد الأخرى في محاولة فاشلة للهدوء أو الاطمئنان، وحسين ينظر إلى الحاج والحاجة والدمعة في عينه، وشعور بالخطر يملأ جوانحه، وإن كان لا يدري ما وجه الخطر أو أسبابه.
وطال غياب الطبيب وطال، وباب الحجرة مقفل لا يند عنه إنسان يعرف منه الحاج ما يجري داخل الغرفة.
وأطل الصباح في تباشيره الأولى وتهيأ الحاج للصلاة، ولكن الصوت الخالد الذي يستقبل به الأطفال الحياة ند عن الغرفة المقفلة ببكاء. وتوقف الحاج باهتا وراح ينظر إلى الغرفة، ولكن بابها ظل صامتا إلا عن البكاء، ولم يطق الحاج صبرا فاندفع إلى الباب وفتحه وقبل أن يقتحم الحجرة واجهه الطبيب مرتبكا لا يدري ما يقول. وعاجله الحاج والي: هيه، خير يا دكتور؟
وصمت الطبيب وقالت القابلة: أصبح لك ولد يا حاج.
وقال الحاج: وهي ... صالحة ... كيف هي؟
واستخذت القابلة حسيرة، وألقت بنظرها إلى الأرض، وقال الطبيب: تعيش أنت يا حاج.
وذهل الحاج وأقدم على سرير زوجته ثم أحجم، وترك الغرفة ثائر النفس ممزق المشاعر بين أمل تحقق وروح أزهقت في سبيل تحقيقه. لا يدري ماذا يفعل إلا أنه دون وعي استقبل القبلة وكبر وانتوى الصلاة ودمعات تموج في عينيه وقرأ الفاتحة ثم وجد نفسه يتلو الآية الكريمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب
صدق الله العظيم.
الفصل السابع
كان لا بد لزين العابدين أن يعود إلى القرية بعد أن أقام أكثر من شهرين في القاهرة فصحب زوجته وعادا، وهناك علم بما ألم بالشيخ والي من فقد زوجته وإنجابه؛ فما استراح من السفر وإنما ذهب إليه، واستقبله الشيخ في وجه جامد فيه من الحزن أكثر مما فيه من الراحة. ولم يكن زين العابدين يدري هل الأجدر به أن يهنئ الشيخ والي بمولوده الجديد، أم يعزيه على فقد زوجته؟ ولم تطل به الحيرة؛ فقد اختار آخر الأمر أن يجري الحديث في مجال آخر بعيد كل البعد عن التهنئة أو التعزية، وإن كان هذان المعنيان يملآن رأسه ويختلطان في وقت معا بأفكاره، فهو عاجب كيف يختلط أمران متنافران كل التنافر في وقت واحد بتفكيره؟! كيف يأتي عليه حين من الزمن لا يدري أيهما الأجدر به؛ تهنئة، أم تعزية؟ كيف تداعب الأقدار حياة الناس إلى هذا الحد فتجعلها خليطا من الفرح والحزن، ومزاجا من الهناءة والأسى؟! ولم تشغله حيرته هذه عن أن يروي على الحاج والي ما شهده في القاهرة من آثار الثورة. والحاج والي يشارك في الحديث متعجبا قد أخذته الأنباء عما يعانيه من مشاعر مختلطة، ولكنه في أعماقه ما يزال يعاني آلاما حادة مما لقيه في سبيل تحقيق آماله، حتى كاد يستقر في نفسه في يوم ما أنه هو المسئول عما عانته زوجته من آلام، ولولا الحاجة بمبة وما أخذت تروضه به من حديث؛ لأصابه التلف وعجز عن مواجهة الحياة. ليس ينسى كيف احتضنت الوليد وراحت ترعاه رعاية أم، بل ليس ينسى كيف أبت أن تترك جد حسين وجدته يأخذانه، وكيف بعثت إلى نفسه الرضا والطمأنينة. إنه حين يقوم بشأن حسين سيرضي روح هذه التي ضحت بحياتها وهي تهب له أعز أمنية تمناها في حياته. وليس ينسى كيف راحت تقول لسيدة أم عسل وزوجها محمدين إن حسينا سيكون لها بمنزلة الابن وهي التي لا ولد لها. ليس ينسى الحاج والي شيئا من هذا، وكيف له أن ينسى أنه بهذه اليد الكريمة التي تولته بها الحاجة بمبة استطاع أن يعود إلى الحياة، واستطاع أن ينظر إلى طفله الوليد وقد كان يرى فيه جريمة ارتكبها ليس لها من غفران؟ وكان يتصور نفسه أزهق روحا بشرية ليحقق أمله هذا! استطاع - ويد الحاجة بمبة تمسح نفسه الهالعة - أن ينظر إلى ابنه محمد، وأن يحمله ويهدهده، بل استطاع أن يفرح به، واستطاع أن يعود إلى الناس، وأن يجلس هذه الجلسة التي يجلسها إلى زين العابدين فيسمع منه ويجيب، فلا يذهل عن حديث يلقى إليه إلا لحظات قلائل ثم يعود إلى ما كان فيه من حديث.
وألقى زين العابدين حمله؛ فأفرغ كل ما كان في جعبته من حديث. وكان لا بد للحديث أن ينتهي وسكت زين العابدين، وظل رانيا إلى الحاج والي تواجهه فيه حيرته مرة أخرى؛ أيعزيه أم يهنئه؟ ولم يكن زين العابدين مداورا، فالتقى بحيرته في خط مستقيم. - حاج والي ... أنا حائر فيما أقوله لك ... - وأنا والله يا بك حائر فيما وقع لي. - أأعزيك أم أهنيك؟ - أنا أيضا لا أدري يا زين العابدين بك. - أنت تعرف أني حزنت لك، وفرحت لك أيضا! - أعرف. - ثم سعدت بما سمعته عن بقاء حسين عندك. - أتتصور أن الحاجة هي التي ألحت في إبقائه؟! - الست التي تخطب لزوجها لا يستغرب عليها شيء! - إنها ست صالحة يا زين العابدين بك. - إنها من أعظم نعم ربنا عليك يا حاج. - وماذا فعلت مع الدكتور نجيب محفوظ؟ - كل خير. - ماذا؟ أصحيح ما تقول؟ - والله إلى الآن لسنا متأكدين، ولكن الغالب أن يكون الله قد جبر خاطرنا. - إن شاء الله يا سعادة البك، إن شاء الله. أرأيت؟ ألم أقل لك قبل سفرك إن أحدا لا يعلم الغيب إلا الله؟ أرأيت؟ ألم أكن محقا؟ والآن ألا ترى معي أن تضم يدك بعض الشيء؛ لقد أصبحت مسئولا الآن. - أجعلتني مسئولا من الآن يا حاج والي، ونحن لم نتأكد بعد؛ هل هناك حمل أم لا؟ - يا زين العابدين بك أنت أكثرت من البيع؛ كم فدانا بقيت لك؟ - سبعون. - لا أظنها تكفي مصاريفك. أرجوك كف عن البيع. - والله يا حاج والي إن كانت زوجتي حاملا حقا؛ فإنني أعاهدك أنني لن أبيع بعد ذلك أبدا إلا ... - إلا ماذا يا سعادة البك؟ - إلا لأسدد الدين ... ثمن خمسة أفدنة أو ستة. - أنا أسدد الدين وأشتري الأرض، ولا تبع بعد ذلك. - هو ما تقول. إن حقق الله الآمال؛ فلن يكون إلا هذا. - على بركة الله. - على بركة الله. وحسين هل يذهب إلى الكتاب؟ - والله يا سعادة البك إنني أخاف أن أحسد هذا الولد؛ ذكي جدا ويحفظ بسرعة، وسيدنا يمدحه دائما. - أنت رجل طيب يا حاج. - قالت الحاجة إنك ستعلم ابنك، ولا يصح أن يكون أخوه غير متعلم.
وإن جئت للحق يا زين العابدين بك أنا منذ حادثة الإنجليز معي وأنا أتمنى أن أعلم أبناء مصر جميعا، وقد أرضاني الله فجعل لي بدل الولد ولدين. - قواك الله. - إلا أن حسينا لا يجعلني أهتم بشيء له أبدا؛ إنه حريص على ألا يشغلني بنفسه أبدا. - طبعا شعوره بأنك تتفضل عليه. - إنه يفضي بدخائله للحاجة، وهي تعامله وكأنها ولدته.
وقبل أن يكمل جملته مر حسين بباب الغرفة، فاستدعاه الحاج والي. يا حسين، تعال.
ودخل الطفل إلى الحجرة في أدب هادئ وديع، والدمعة ما تزال منسابة من عينه، وأمره الحاج والي أن يسلم على زين العابدين فسلم، ثم مسح دمعته بيده وانتظر لحظة فسأله زين العابدين: إلى أين بلغت في القرآن؟ - إلى أول جزء عم. - اجلس واتل علينا شيئا مما تحفظ.
ولم يتوان حسين، فاتخذ مجلسه على الأريكة، وخلع نعليه وفي صوت طيب راح يقرأ في خشوع.
الفصل الثامن
أشرقت الفرحة على بيت زين العابدين إشراقة لم يكن البيت يتوقعها، بل كان سيد البيت أبعد الناس عن التفكير في أن أمله هذا قد يوافيه التحقيق. ومن أين؟ وقد مرت بزواجه السنوات الطوال، ومحاولات زوجته لا تقف على طول هذه السنوات، وما كانت إطاعته لها في الذهاب إلى الطبيب إلا إذعانا يائسا ؛ فما كان يحب أن يتعلق أملها بشيء ويقصيها عنه. ومن حيث لا يحتسب أشرق الأمل وتحقق، وأنجبت له زوجته ابنة! نعم ابنة. وما غض من فرحته أن الوليد بنت وليست ولدا، إنما أحس الفرحة كاملة لا ينتقص منها شيء. حين حمل الفتاة وأحس خفق قلبها بين يديه، وسمع صراخها العريض؛ أحس أن الله قد وهب له حياة ثانية يمسكها بين يديه، بل أنه أحس أنه يمسك الحياة كل الحياة بين يديه. وحين سرى هذا المعنى في كيانه وأحس به في أعماقه ليتملكه جميعا؛ أحس دموعا عجيبة تطفر إلى عينيه كأنها فيض فرحة لم يتسع جسمه الصغير على ضخامته أن يتسع لها. وأقسم بينه وبين نفسه أن يهيئ لهذه الفتاة من غدها خيرا، وأقسم بينه وبين نفسه أن يكبح جماح شهواته حتى يبقي من المال ما يرد الحاجة عن هذه الطفلة الصغيرة التي ما تزال تسعى في الهواء على أربع نحو مستقبل جديد. وكالعابد قد أتم طقوسه أعاد زين العابدين الوليدة إلى أمها، ثم قبل الأم وقبل الوليدة، وخرج من الحجرة، ثم خرج من البيت، ونظر حواليه، ونظر إلى السماء، ودارت عيناه ودارتا، فوجد الطيور على أعراف الشجر مستقرة الجلسة مطمئنة هادئة كشأنها دائما كلما اتخذت من أعراف أشجاره مكانا لها. وفي هذه المرة لم يعجب للطيور مقيمة على أشجاره على رغم الأجنحة التي تتمتع بها، بل عجب من نفسه كيف كان يريدها أن تظل سابحة في السماء لا تراح إلى عش مطمئنة، ولا تستقر إلى بيت آمن كأشجاره هذه. وأنعم زين العابدين النظر فيما تخفيه أعراف الشجر عن العيون، وأنعم، حتى إذا رأى عشين متواريين بالأوراق انشرح صدره وأحس بالسرور والفرح والاطمئنان يشيع في نفسه جميعا.
أما فرحة بهية هانم بابنتها، فقد كانت توشك أن تصبح جنونا يحتاج إلى من يكبح جماحه، وهي معذورة؛ فلم يكن إنجاب هذه البنية مجرد أنها أصبحت أما، وما هذا في ذاته بقليل، إنما هي بهذه البنية الصغيرة ترد كيد الكائدات من أهل زوجها اللواتي كن يدعين أنها عاقر لن ترى لنفسها أطفالا أبد الدهر، وكن يسرفن في الكيد فيغرين زوجها أن يتخذ لنفسه زوجا أخرى، وأن إنجابها أيضا إنقاذ لها من هذا الفراغ الذي كانت تعانيه في أيامها الطوال بالقرية. لقد أصبحت أما! أصبحت تؤدي الوظيفة الكبرى في الحياة؛ إنها تشارك الحياة في تكوين الناس، إنها، هي نفسها أصبحت حياة وتمد بالحياة روحا أخرى؛ روحا تحيا وتنبض ولها قلب يخفق وعقل سيفكر ويدان ورجلان. إنها أم! أم! قد لا تعني هذه الكلمة شيئا لسيدات كثيرات، أما لها هي ... هي التي سعت إلى هذه الأمومة بكل دقة من دقات قلبها على مدى السنوات الطوال التي تزوجت فيها، وهي ... هي التي لم تترك سبيلا إلى هذه الأمومة إلا سلكته، أما لها ... لها هي ... فكلمة أم القصيرة الحاسمة هذه تعني لها كل شيء؛ لم تعد تريد من الحياة شيئا آخر، لا ... لا تريد ولدا، لا تريد إلا أن يطيل الله عمر ابنتها هذه، فإنها هي التي منحتها هذا اللقب، وقد كانت تقول، ويا طالما قالت إنها على استعداد أن تتنازل عن إحدى عينيها لتنال هذا اللقب. وقد كانت جادة فيما تقول، ولا أحد يدري هل كان مصدر الجد فيما تقول أن أحدا لن يطلب منها عينا ليعطيها وليدا أم لا، ولكنها كانت جادة على أية حال، فكيف بها وقد جاءها الوليد، دون أن تتنازل عن عينها؟ ألا أنها لا تريد من هذه الحياة إلا أن تبقى على لقبها؛ «أم» دون زيادة. شكرا لله، شكرا لله. وفي غمرة فرحتها أمرت أن يشترى خروف وثلاثة من الديكة الرومية، وخمسة أزواج من الفراخ وعشرة أزواج من الحمام وأن ترسل جميعها إلى الدكتور نجيب محفوظ بالقاهرة. ولا يعنيها ما يصنعه الدكتور بهذه الهدية، ولا كيف سيحافظ عليها، إنما كل ما يعنيها أن ترسل إليه هذا الشكر ممثلا في هذه الحيوانات، وقد ظلت تقول في نفسها: «لو استطعت أن أرسل له الدنيا جميعا لأرسلتها وظللت مقصرة.»
الفصل التاسع
أتم حسين تعليمه في الكتاب وختم القرآن حفظا، وقد كان يحب أن يترنم بما حفظ، وكان يحلو للحاج والي أن يطلب إليه من حين إلى آخر أن يرتل بعض أجزاء القرآن؛ فكان الفتى يسارع إلى الطاعة، سعيدا غاية السعادة أنه يستطيع أن يلبي طلبا لهذا الرجل. وكان في قراءته خاشعا تدمع عيناه معا في صمت وروحانية. كانت هذه الجلسات التي يجلس فيها حسين مرتلا القرآن في غير تجويد أمام الحاج والي هي أجمل لحظات حياته؛ كان يحس أنه يستطيع أن يكون مفيدا، وأنه يستطيع أن يمتع هذا الرجل الذي يعوله في غير ضيق به، بل إنه يوسع أمامه آفاق المستقبل في إقبالة أب وفرحة كريم. وكانت السن قد تقدمت بحسين فأصبح يعرف تمام المعرفة موقفه من الحاج والي، وأصبح يشكر هذا الموقف في نفسه أعمق الشكر وأصدقه، فهو دائما حائر بهذا الشكر.
ماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل هذا الرجل؟ وماذا بيدي أن أفعل لأرد فضل الحاجة؟ ماذا فعلت لأنال هذا الحنان منهما؟ سيد أبو عبد الكريم يعيش مع أمه وأبيه؛ فهما يضربانه في كل يوم ليترك الكتاب ويذهب إلى الغيط. إلى أي مصير كنت ألقى لو أنني عشت مع جدتي وجدي، فلاحا يصبح بالطعام لجده، ويمسي بالماشية يعود بها إلى البيت؟
وأنظر إلى نفسي الآن؛ فتى يحيط به الاحترام إن مشى، فهو لا يمشي فردا إنما يحمل كلام الله، ولكن أأحمل كلام الله ولا أفهم معناه؟! ألا أفهم معناه أنا؟! هيه، أأخادع نفسي أيضا؟ لأذهبن من فوري إلى الحاج سالم فخر الدين فآخذ عليه التفسير؛ فقد درسه في الأزهر الشريف، وليس في البلد من يفقهني فيه مثلما يستطيع هو أن يفعل. ولكن أتطول بي هذه الدراسة؟ وما لي لا أذهب مباشرة إلى الأزهر الشريف؟ لقد ختمت القرآن، وحسب الحاج والي ما أنفقه علي من طعام وملبس ومأوى حتى ختمت القرآن. أتراني أريد الذهاب إلى الأزهر لأخفف المئونة عن كاهل الرجل الطيب، أم أني أزين لنفسي أنني عفيف؟ وأنا أتحرق شوقا للذهاب إلى الأزهر لألبس العمامة والجبة والقفطان، وأروح في البلد وأعدو فلا والله ما الشيخ سالم ببالغ ما أبلغه من الفخامة والمهابة، والبنت هنية أم عبد الحميد التي لم ترض أن تلعب معي؛ لتأتين صاغرة تقبل يدي وطرف جبتي. فأي مكانة في العالم أرفع من مكانتي؟! لتكونن الجبة الخضراء فاقعا لونها يسر الناظرين، وليكونن القفطان زيتونيا. أيشتري لي الحاج والي ما أطلب؟ أيقبل أولا أن أذهب إلى الأزهر؟ سأذهب؛ فإن حبي للحاج والي لن يجعلني أغير مستقبلي كله من أجله. إنني على أتم استعداد أن أقدم له حياتي، أما مستقبلي فهو لي وحدي ما دام لا يريد حياتي. ما دمت سأعيش؛ فأنا الذي سأصنع مستقبلي بيدي ولن يصنعه لي أحد. أراه منذ اليوم يتكلم عني أني سأصير محاميا، وعن محمد أنه سيصير طبيبا، ومحمد لا يزال في الخامسة يتلقى أول دروس الكتاب، ولكن الحاج يرسم المستقبل لكلينا. لن يكون هذا ... لا ... لن يكون؛ ألا يقولون إن الثورة قد نشبت في مصر من أجل الحرية؟ ما الحرية إن لم تكن حريتي في اختيار طريق حياتي، وطريق حياتي هو الأزهر، فإني أحب أن أسير لابسا الجبة الخضراء والقفطان الزيتوني اللون ويقبل الرجال، والنساء ... نعم وخاصة النساء وعلى رأسهن هنية يدي، وأرى نفسي عظيما في القرية يحيط بي التوقير والاحترام من كل جانب، بل إني أرى المشايخ في البلد أيضا يحيط بهم ...
وصحا حسين من خواطره وأحلامه على صدمة عنيفة من حمار يحمل حملا عاليا من البرسيم ويسير خلفه طفل صغير لا يستطيع أن يرى الطريق؛ فالطفل قصير، وحمل البرسيم مرتفع شاهق في الهواء. واغتاظ حسين وهو يرى نفسه مصدوما من حمار، ولم يستطع أن يكتم غيظه، فما أسرع ما دار حول الحمار وأمسك بالطفل: ولد، أأنت الحمار أم هو؟ - دعني، اترك ملابسي. - أتترك الحمار يقودك يا ابن الحمار؟ - لا شأن لك بي. - كيف؟! أتترك حمارك يصدم خلق الله، وتقول لا شأن لك بي؟! طيب والله لأذهب بك إلى أبيك. ابن من أنت؟ - دعني، اترك ملابسي ، لا شأن لك بي.
وتجمع حول حسين والطفل نفر من القرية وراحوا ينحون على حسين باللوم حينا أو قد ينحو بعضهم باللوم على الطفل. وفجأة تقدم إلى ميدان المعركة رجل طويل القامة عريض الكتفين وأمسك بتلابيب حسين: ماذا يا ابن شحاته، ألم تجد إلا ابني لتهينه؟ - لقد ترك الحمار يصدمني. - وما له يا أخي؟! أما عجيبة! ألم يبق إلا أنت يا من تعيش عالة حتى تتعدى على طفل صغير؟
وألجمت الكلمة حسين فأطال النظر إلى الرجل، ولم يستطع أن يمنع عينه الأخرى أن ترسل دمعة، ثم ألقى برأسه إلى الأرض وأولى الجمع ظهره ومشى. وصمت الرجل العريض المنكبين كقاتل أدرك بشاعة جريمته بعد أن ارتكبها، ونظر حواليه فرأى في عيون الناس جريمته مجسمة في نظرات آلمة؛ فما استطاع مكثا، وخف خطاه وراء حسين: يا حسين، يا حسين.
ولم يقف حسين. فعاد الرجل ينادي: يا شيخ حسين.
وأحس حسين حلاوة كلمة «شيخ» فتلكأ هونا وأدركه الرجل: أزعلت مني.
وصمت حسين. - حقك علي. هات رأسك لأبوسها.
ولم يدر حسين من أمر نفسه إلا أن دمعاته الصامتة أصبحت نشيجا عاليا. وواصل الرجل كلامه: إن الله غفور رحيم يا شيخ حسين. يا رجل أنت حامل كلام الله؛ فاغفر لي.
وربت كتفه، ثم احتواه في حضنه الواسع، وتجمع الناس الذين شهدوا موقفهما الأول، وراحوا يجاملون حسين، ويرجونه ألا يحمل على الرجل غلطة لسانه، وتهافت النشيج من حسين واقترب من الصمت، وقال الرجل العريض الكتفين: لا تذكر ما قلته للحاج والي؛ فإنه لو عرف ما قلت لم يعفني من الزجر والتأنيب. اصفح عني يا شيخ حسين، وأقسم بالله لا أعود لها أبدا.
ثم نادى بأعلى صوته على الطفل الذي كان يسير خلف الحمار فجاء فقال له: قبل يد الشيخ حسين يا ولد واعتذر له.
وقال الطفل: يا أبي أنا لم أره.
وزجره أبوه في عنف: قبل يده قلت لك.
وتكلم حسين أخيرا مغمغما: أستغفر الله! لا لزوم لهذا.
وقال الرجل: اجعله يقبل يدك لينال بركتك؛ أنت حامل كتاب الله، ومبروك. اجعله يقبل يدك من أجل خاطري، أعطه يدك حتى أعرف أنك صفحت عني.
وأمسك الطفل يد حسين فقبلها في سرعة قبل أن ينتبه حسين. وأحس حسين رضى في نفسه وقال: أستغفر الله العظيم! يا سيدي أنا متشكر على كل حال. سلام عليكم.
ورد الجميع السلام في همهمات، وانصرف حسين، وقد أصبحت رغبته أن يصبح شيخا أعمق في نفسه وأبعد غورا.
لم يذهب حسين إلى الحاج والي، وإنما قصد إلى الحاج سالم فخر الدين، وهو رجل قطع من مراحل التعليم في الأزهر شوطا ليس بالبعيد، وإنما كان ما تعلمه كافيا لأن يجعل منه مفتي القرية، فإليه يقصد الناس ليفسر لهم ما غمض عليهم من شئون دنياهم ودينهم، وقد كانت الدنيا عندهم تختلط بالدين في أغلب الأمور، وقد كان الحاج سالم ذكيا يفصل في الأمور بحدة ذكائه أكثر مما يفصل فيها بعلمه، وكان جميل السمت، ذا لحية مهيبة وضاح الجبين، تتوسط جبهته تلك العلامة السمراء التي تختلف سمرتها بين الدكنة والخفة حسب كثرة صلاة صاحبها أو قلة صلاته؛ تلك العلامة التي تأخذ مكانها على جبهة المصلين جميعهم لا تفرق بين الصالح منهم والمرائي. وكان الحاج سالم إلى جانب مكانته الدينية ذا عمل آخر بالقرية؛ فقد كانت الودائع جميعها تأخذ طريقها إليه فيحفظها لأصحابها حتى إذا احتاجوا إليها وتلمسوها عنده وجدوها كما أودعوها إياه بربطتها كما يحلو لهم أن يقولوا.
كان الشيخ يجلس منفردا حين دخل إليه حسين. - السلام عليكم يا عم الحاج. - وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلا. - أنا حسين بن شحاته أبو إسماعيل. - أهلا وسهلا. رحم الله أباك، كان رجلا طيبا. - أريد أن أذهب إلى الأزهر يا عم الشيخ.
وتجهم وجه الشيخ قليلا، ثم قال: وماذا بعد ذهابك إلى الأزهر؟ - وماذا بعد يا عم الشيخ؟ - أي ماذا تنوي أن تفعل؟ - أريد أن أحصل على شهادة العالمية. - العالمية؟!
وسكت الشيخ قليلا. إذن فسيأتي له منافس في القرية، نعم إن أمامه سنوات طوالا حتى ينال الشهادة ، وربما مت أنا في هذه الفترة، ولكن ماذا يكون العمل لو أنني عشت، أيأتي هذا الطفل وقد حصل على شهادة العالمية، وأصبح أنا نسيا منسيا في هذا البلد؟ - وماذا تنوي أن تفعل إذا أخذت العالمية إن شاء الله؟ - أريد ... أريد ...
وسكت. فقد أصبح لا يدري ما يقول، فما كانت آماله وأحلامه بصالحة أن تلقى على مسمعي الشيخ الجليل. وقال الشيخ: أتنوي بعدها أن تقيم هنا معنا، أم تأخذ طريقك في القاهرة بعد ذلك؟
وقال حسين مترددا: كل ما أريده الآن أن أحصل على العالمية. - يا بني إنها شهادة صعبة. - أعرف ذلك. - وقد سقط الكثيرون وهم يحاولون الحصول عليها. - أنا أريد أن أفهم كلام الله الذي أحفظه ولا أفهمه.
وأطلق الشيخ تنهدة وقال: هل تصدق أن أحدا قد فهم كلام الله كله؟ - لا بد أنه مفهوم يا سيدنا، ولكنني أنا عاجز عن فهمه. فأنت مثلا تفسره بكلام مفهوم واضح، وأنا أريد أن أفهمه كما تفهمه أنت. - يا بني فهمت شيئا وغابت عني أشياء. - لا بأس، إنما أريد أن أفهمه. - ولماذا؟
وسكت حسين قليلا ثم قال: لماذا أريد أن أفهم كلام الله؟ - نعم لماذا؟ - لأعرف ديني. - ألا تعرفه؛ الحلال بين، والحرام بين. - نعم، ولكني أريد أن أفهمه جميعه، وأن أدرس ديني على الأساتذة الكبار في الأزهر، لأني ... لأني ... - لأنك تريد أن تشرحه لغيرك. - نعم، ولأني أيضا ...
وسكت حسين لحظات حتى قال الشيخ: ولماذا أيضا؟ - ولأني أجد حلاوة في كلام الله لا أدري أسبابها ... - لعلك إذا أصبحت وكلام الله حرفتك تفقد هذا الشعور بالحلاوة. - أفقدت أنت هذا الشعور يا مولانا؟
وبهت الشيخ، ثم ما لبث أن قال ملهوفا، وكأنه يدفع عن نفسه تهمة كفر وإلحاد: لا ... لا أبدا ... أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم ... إنه لا تغني الدنيا عن الآخرة ... لا ... لا تغني الدنيا عن الآخرة ... ماذا تريدني أن أفعل لك يا بني؟ - أريد منك توصية لأصدقائك هناك. - أكتب لك ما تريد إن شاء الله. - بارك الله لنا فيك يا عم. - بارك الله خطاك يا ابني، مع السلامة.
الفصل العاشر
كان حسين جالسا في بهو البيت إلى أخيه محمد، وقد راح محمد يتلو السور القصار وحسين يستمع إليه ويصحح خطأه من حين إلى آخر، وكانت الحاجة بمبة تجلس إلى الأريكة التي تحب الجلوس إليها وأمامها معدات القهوة، وقد ارتاحت نفسها لمنظر الولدين تكاد تحس أنهما ابناها، نعم هما ابناي؛ أما الصغير فأمه لم تره ولم يرها، وأما الكبير فإنه إن ذكر أمه فكما يذكر حلما بددته اليقظة، هما ابناي وإن لم ألدهما. وقد كان الصبي والفتى في شغل عما تفكر فيه الحاجة؛ فأما محمد فمشغول بهذه السور القصار التي إن لم يحفظها انهالت عليه في صبيحة اليوم التالي عصا الشيخ، وأما الفتى فبأحلامه التي يريد أن يسلك إليها السبيل، ويخشى أن تعوقه عنها رغبة الحاج العنيفة في أن يعلمه تعليما مدنيا؛ فقد سمعه يقول للحاجة إنه يريده أن يقصد به إلى المدرسة الابتدائية في المدينة، آملا أن يقبلوه في السنة الثالثة، وإلا ففي السنة الثانية. ولم يستطع أن يهاجم الشيخ في آماله وهو يبنيها له، فصبر ريثما تلوح فرصة أخرى فيكشف عن خوالج أمله هو التي امتزجت بنفسه فهي تملأ عليه جوانب حياته جميعا.
وانتهى محمد من حفظ اللوح، وخرج إلى رفاق ملعبه، وظل حسين مكانه، وتطلع إلى الحاجة يريد أن يقول ولا يقول، فلا يجد ما يفعله إلا أن يمسح تلك الدمعة التي تلازم عينه. ورأته الحاجة وهو يزيل دمعته فأحست خالجة عطف نحوه، ورأت على شفتيه الكلمات، وأرادت أن تصمت حتى يبين، ولكنها ما لبثت أن أشفقت عليه فقالت: هيه يا حسين، ماذا تريد؟
واندهش حسين، ولكنه انتهز الفرصة فقال: أريد أن أذهب إلى الأزهر الشريف يا أم الحاجة.
وقالت الحاجة بمبة: أي نعم يا ابني، تذهب إن شاء الله. - أخاف أن يرفض أبا الحاج. - لماذا؟ - أنا أعرف أنه يريدني أن ...
ودخل الحاج والي قبل أن يكمل حسين جملته، فصمت حسين وقام يستقبل الحاج، ورحبت الحاجة بزوجها الذي اتخذ مجلسه على الأريكة.
والتفتت الحاجة إلى حسين، ثم نظرت إلى الحاج، وأحس الحاج أن بين الاثنين حديثا يريد أن يرقى إلى مسامعه، بل أحس أن الحاجة تريد أن ترجوه في شأن يهم حسينا، وقد كان يحب أن ترجوه الحاجة في أمور حسين، حتى يشعر بالراحة وهو يجيب مطلبها. ولكن الحاج والي تظاهر بأنه لم يفهم شيئا، فأخرج سبحته وراح يساقط حباتها مسبحا في تمتمة وترقب.
وقالت الحاجة: لنا عندك رجاء يا حاج. - قوليه يا حاجة. - حسين يريد أن يذهب إلى الأزهر.
وجمع الحاج سبحته في حركة سريعة وقال: ماذا؟
وقالت الحاجة: ولماذا لا يا حاج؟
وتجاهل الحاج تساؤلها، والتفت إلى حسين: أهذا ما تريد يا حسين؟
وأطرق حسين وهو يقول: إن شئت يا با الحاج. - لماذا؟ - أريد أن أتفقه في القرآن. - أهذا ما تريد حقا؟ - نعم. - ولكن ... ولكن ...
وصمت الحاج وألقى بصره إلى أمامه وراح يفكر؛ أيهما أفضل لهذا الفتى؟
من يعلم الغيب؟ وأحس كأن ضبابا كثيفا يتكون شيئا فشيئا أمام عينيه المتطلعتين إلى المستقبل، ولم يفق الحاج من شروده إلا على يد الحاجة وهي تربت ذراعه: وماذا في أن يتعلم الفتى الدين؟
ونظر الحاج إلى حسين قائلا: أخشى يا حسين أن تكون قد اخترت الأزهر؛ لأن التعليم فيه لا يكلف مالا. - لا ... لا ... لا أبدا يابا الحاج. - إن أمنيتي أن تكون محاميا أو طبيبا؛ فإني أعتقد أن مصر في أشد الحاجة إلى المحامين حتى يدافعوا عن حقوقها، أو الأطباء حتى يشفوا المرضى بها، وهم كثير. إنني فعلا أرجو أن تكون واحدا من هذين.
وقال حسين، وقد نكس رأسه: وأنا لا أريد من الدنيا إلا أن أنفذ رغباتك جميعا، ولكني أحس أنني لن أوفق إلا في الأزهر الشريف.
وصمت الحاج والي قليلا مداعبا حبات مسبحته، ثم قال: يا ابني، أنا لا أحب أن أملي عليك ما تفعل، لتكن مشيئة الله نافذة. تستطيع أن تجهز نفسك لتذهب إلى الأزهر بإذن الله.
وأشرق وجه حسين، وانبسطت أسارير الحاجة، وأكمل الحاج والي تسبيحه، وإن كان الضباب ما يزال جاثما أمام ناظريه.
الفصل الحادي عشر
كان زين العابدين بك مسافرا إلى القاهرة، وقد انتهز الحاج والي الفرصة فرغب إليه أن يصحب حسينا، ويمهد له السبيل في الإقامة بالقاهرة التي لم يرها الفتى قبل ذلك أبدا.
وهكذا هبط حسين القاهرة لأول مرة في رفقة زين العابدين بك، ولو لم يكن في هذه الرفقة لعاد مرة أخرى طريقه إلى القرية وقد استقر في نفسه أن القاهرة جميعا ترتحل؛ وإلا فما هذا الزحام وهذه الضجة، وهؤلاء الناس، وما لهم جميعا ملهوفين متسارعين تتصادم أيديهم، أو يتصادمون جميعا بعضهم ببعض، كأنهم مطالب الحياة المتعارضة المتضاربة! أهكذا المدينة، يعجل أهلها إلى مقاصدهم في هذه السرعة اللاهفة، وهذا الجد الصارم؟ ما لهم يمر بعضهم ببعض أو يحتك بعضهم ببعض، فلا تحية ولا سلام، ولا حتى اعتذار؟! مشدوه حسين مما يرى، فهو ذاهل عما يحمله من أثاث ومئونة. يتولى عنه زين العابدين بك الإنفاق على الحمالين، وقد كان الأثاث قليلا غاية القلة، وكانت المئونة كثيرة غاية الكثرة؛ فالأثاث سرير وصندوق كبير، والمئونة سلال متكاثرة انسكبت عليه من حنان الحاجة بمبة، ومن شعور جده وجدته بما عليهما من واجب نحوه.
وفي غمرة الدهش والذهول وجد حسين نفسه مسوقا مع الموجات المسوقة، وقد أمسكت بذراعه يد زين العابدين لا تفلته، وأحس لحظة باليد، وخيل إليه - وإن كان لا يدري لماذا - أن يدا ما تمسك هؤلاء السائرين جميعا؛ فهم قطيع سائر يلتمس المرعى أو يلتمس المأمن.
وخرج حسين إلى باحة المحطة الخارجية. إن ثمة متسعا كسعة الريف، ولكن العربات الكارو، والحنطور، والسيارات، والناس، تعدو على هذه السعة، فهي زحام. ووجد نفسه في عربة حنطور بجانب زين العابدين بك وكاد ينسى ما يحمله، ولكنه نظر خلفه فوجد كل ما حملته إياه القرية قد وضع في عربة حنطور أخرى فلم يملأ من فراغها إلا قليلا! نعم إلا قليلا؛ فما أقل ما حمل من القرية من أثاث، وما أكثر ما حمل من القرية في نفسه!
وراحت العربة تسعى بهما في شوارع القاهرة. الحصان يسير وقد وضعت حول عينيه من الجانبين قطعتان من الجلد؛ حتى لا يبصر إلا ما يريد له قائده أن يبصر، فهو يمشي بالعربة، ولا يملك أن يبصر إلا ما تتركه له قطعتا الجلد، فالطريق أمامه ليس إلا بقية مما تترك له الغمامة، وصاحبه مع ذلك لا يعفيه من الضرب، فهو يسوطه من حين إلى آخر. ونظر حسين إلى الحصان؛ لقد عرف الحصان طريقه وإن تكن غمامة حول عينيه، وإن يكن صاحبه يسوطه إلا أنه عرف طريقه، أيستطيع هو أن يعرف طريقه؟ أتراه يعرف طريقه؟ إنه تائه في هذا الزحام وفي هذه الشوارع الواسعة، ودون وعي أمسك بذراع زين العابدين، وتمنى لو يبقى معه لا يتركه، ولكن هيهات! فإنه ليعلم أنه ما هو إلا بعض الوقت حتى يتركه زين العابدين فردا يواجه هذه القاهرة جميعا بكل ما فيها من ناس وخيل وعربات وعلم.
البيوت الفخمة الضخمة يتضاءل بجانبها أكبر بيت في القرية، والمآذن الفارعة سامقة إلى السماء، فالأذان منها دعوة من السماء إلى الأرض أن تشرئب إلى الله؛ هدى في السبيل القاتم، وضياء يبدد الظلمات، وصفاء يدحر العتمة الكثيفة من الرغبات اللاهثة والمطالب المتزاحمة. والناس يمضون في سبلهم لا يرفعون للمآذن عينا، ولا يعنيهم إلا ما يقصدون إليه، وحسين يزداد ذهولا على ذهول، وزين العابدين يتفزز على مقعده في العربة يريد أن ينتهي من هذه المهمة لينصرف إلى قاهرته التي لا يعرف غيرها هناك في البار، ومع النسوة اللاتي يستبدل الواحدة منهن بأخرى، ضاربا بوعده لابنته - وهي بعد وليدة - عرض الأفق، والعربة يسعى بها الحصان والسوط يسوطه كلما جرى بضع خطوات في أوقات تكون منتظمة، فما فعل شيئا يساط من أجله، وإنما هي رغبة سائقه وحبه أن يسوط شيئا، أي شيء، دون أن تدعو لهذا حاجة من تلكئ، أو عصيان لأمر.
وفجأة انتقلت العربة من الشوارع الفسيحة العريضة إلى أخرى ضيقة، ما زالت تضيق حتى أصبحت العربة لا تسير إلا بشق النفس، فهي تزحف زحفا، وتنهال السياط على الحصان، ويتدافع السباب إلى المارة، فما تجدي السياط، ولا يفلح السباب. والتفت السائق إلى زين العابدين يسأله عما يريد من مناطق الدراسة. وقال زين العابدين: أريد أن أجد بيتا للشيخ.
وتنبه حسين فجأة أنه شيخ، وأنه يلبس العمامة والجبة الخضراء والقفطان الزيتوني. لقد أذهلته القاهرة عن نفسه، وعما يلبس.
وقال سائق العربة: أعرف بيتا هنا به حجرة خالية على سطح. أتريد أكثر من حجرة يا مولانا؟
وابتهج حسين من كلمة مولانا، وقبل أن يجيب كان زين العابدين يقول: وأقل من غرفة إن أمكن. أين هي؟
وقال السائق: نترك العربتين هنا ونذهب لنتفق. - وقال زين العابدين: لماذا؟ ألا نستطيع أن نذهب بالعربة إلى هناك؟ - البيت في زقاق ضيق.
وقال زين العابدين: وهل البيت بعيد؟ - لا، إنه هنا على بعد خطوتين.
ونزل زين العابدين، ولحق به حسين، وتقدمهما السائق بعد أن أوصى زميله الآخر أن يولي العربة عينا يقظة.
ومشى الركب. لم يكن البيت على بعد خطوتين، لا ولا ثلاث، ولا عشر، لا ولا تصلح الخطوات وحدات لقياس المسافة التي يبعدها البيت عن المكان الذي تركوا فيه العربات، لقد مشوا ما يقرب من كيلو ونصف كيلو، ثم توقفوا. وطلب إليهم السائق أن ينتظروا لحظات ريثما يلقى صاحب المنزل. وصعد ثم نزل؛ إن صاحب المنزل في دكانه. وأين الدكان؟ على بعد خطوتين أيضا. وقال زين العابدين: ألا نرى الحجرة أولا؛ حتى إذا أعجبتنا نتفق.
وصعد السائق ثم ما لبث أن قال: تفضلوا. كان المنزل مكونا من ثلاثة طوابق، ولكنها طوابق مرتفعة، فدرجات السلم كثيرة، ترتفع كل درجة عن زميلتها ارتفاعا مضنيا. وهكذا راح زين العابدين بك ينتزع نفسه انتزاعا ليبلغ حجرة السطح. حتى إذا بلغ الركب الطابق الأخير الذي لا يعلوه إلا السطح لاحظ زين العابدين، كما لاحظ حسين، أن الباب منفرج انفراجة هينة تسمح للعين أن تتلصص من الداخل إلى الخارج، ولا تسمح للعيون الأخرى أن تتسلل من الخارج إلى الداخل. والتفت زين العابدين إلى حسين، والتفت حسين إلى زين العابدين ! ولكن زين العابدين كان يلهث لا يستطيع أن يقول شيئا إذا أراد أن يقول، وكان حسين يفكر أفكارا غير محددة ولا واضحة حول هذه الانفراجة التي طالعتهم من الباب الذي لا يعلوه إلا السطح. وقال السائق: لقد ألقت لي زوجة المعلم بالمفتاح من تحت الباب، فأنا لا أعرف أين الغرفة وأين الحمام، ولكني سأجربها على كل حال.
وتقدم بمفتاحه يعالج الأبواب الثلاثة على السطح، حتى إذا انصاع له أحدها فتحه على مصراعيه وهو يقول: بسم الله ما شاء الله! غرفة تشرح الصدر. وها هو ذا الحمام أمامها مباشرة ...
وقال زين العابدين مشيرا إلى الباب الثالث: وما هذه؟ - هذه - والله أعلم - غرفة أصحاب البيت التي يغسلون بها غسيلهم بطبيعة الحال. سيكون الغسيل في الصباح، ومولانا سيكون في الأزهر، فلا شأن له بهم.
كان التعب قد بلغ من زين العابدين مبلغا لا يسمح له بالمناقشة، فهو يسأل حسين في سرعة: أتعجبك الغرفة يا حسين؟
ولم يجد حسين سببا ألا تعجبه الغرفة، فهو يقول: نعم.
وبعد ساعة أخرى كان حسين مستلقيا على السرير في غرفته وحيدا في القاهرة على سطح أول بيت دخله غير بيوت قريته، ودمعة عينه منسكبة، لم يزد عليها إلا دمعة أرسلتها عينه الأخرى أحس أنها تريحه وهي تأخذ سبيلها على خده، وإن كانت أسباب بكائه متخفية في أعماق نفسه لا يدري حقائقها ولا أسبابها. وفي هدوء مد يده إلى صدره وتحسس الخطاب الكامن هناك، حتى إذا تأكد من وجوده رفع يده إلى عينيه يمسح عنها الدموع. إن قريته لم تتركه وحيدا؛ فها هو ذا خطاب الحاج سالم فخر الدين الذي يوصي فيه رفيق دراسته الشيخ صالح الأشموني بحسين خيرا، في جيبه يؤنس وحشته، ويجعله يؤمل أنه واجد في القاهرة إنسانا قد يوليه بعض عطف، أو بعض اهتمام، وحسب الغريب في غربته بعض عطف، أو بعض اهتمام.
الفصل الثاني عشر
أحس الشيخ والي حين سافر حسين أنه لم يحقق فيه الأمل الذي كان ينشده من تعليمه، وصبر نفسه أنه على كل حال ليس ابنه، وازداد عزما أن يعلم ابنه التعليم الذي كان يريده له، وكأنما أراد أن يستعجل السنين؛ فهو يفكر أن يدخل محمدا منذ سنه هذه الباكرة إلى المدارس الأميرية. وهم أن يفعل، ولكنه ما لبث أن تذكر أن سنه لا تسمح بذلك، فانتظر على كره منه، عازما ألا يبدأ العام الدراسي الجديد إلا ومحمد تلميذ في المدرسة الأميرية.
وكان محمد يذهب إلى الكتاب في انتظام، وكان يخاف عصا الشيخ التي يتناول بها المهملين من لداته، فهو حريص على أن يحفظ اللوح فيجيد حفظه، إلا أنه بعد أن سافر حسين وانفرد به اللوح أصبح الحفظ بالنسبة إليه عملية شاقة، يبذل فيها ساعات طويلة كانت تخلو بفضل حسين ليلعب فيها «الحكشة» أو ما يحلو له ولرفاق ملعبه من ألعاب.
فهو الآن لا يفرغ من حفظ اللوح إلا والشمس قد مالت للغروب، فهو لا يصيب من اللعب إلا حظا يسيرا، ولكنه مع ذلك لا يتخلى عن حفظ اللوح مهما يفقد من ساعات اللعب، فلعب قليل مع تجنب لآلام العصا خير من لعب كثير يعقبه هم كثير.
وكان محمد يذهب في بعض الأحيان إلى بيت زين العابدين ليلعب هناك مع ابنته آمال، وكان يصحبهما في الملعب أطفال آخرون، من بينهم رشاد أبو عبد الباقي. وكان رشاد يلاحظ اهتمام آمال بمحمد، ويحاول جهده أن يستثير اهتمامها به، فقد كان يحس فيها شيئا مختلفا عن الفتيات الأخريات؛ فملبسها غير ملبسهن، وطريقة كلامها غير طريقتهن. فهو يحس أن ثمة فارقا بينها وبين بنات القرية، وإن كان لا يدري سبب هذا الفارق ولا حقيقته. وكان يرى في ذهابهم إليها دون أن تذهب هي يوما إلى ملعبهم في جرن القرية فضلا لها لا يمكن التغاضي عنه.
ولم يكن يدري السبب في أن الصلة التي تصلها بمحمد أقوى من جميع الصلات الأخرى التي تصلها بأطفال القرية، كما كان يعلم أن الحاجة بمبة كثيرا ما تزور بهية هانم مصطحبة معها محمد في زياراتها؛ فآمال معذورة أن تأنس إلى محمد ، فهو وحده الذي يكثر من زيارتها. ولكن رشادا لا يهمه من هذه الأسباب جميعا، إلا أن محمدا أقرب إلى آمال منه، وهو لا يقبل هذا، فهو يتحين الفرص لينال من محمد نيلا يصيب منزلته عند آمال، وقد واتته الفرصة من قريب.
كانوا يلعبون أمام بيت زين العابدين حين جاءت الحاجة لتزور بهية هانم، وكان الليل قد أوشك أن يخيم على القرية، فرأت الحاجة بمبة أن ينتهي لعب الأطفال، فهي تنادي «محمد وآمال» وتصعد بهما إلى الطابق الأعلى، ويضيق رشاد بهذا ضيقا شديدا؛ فإن أمه لا تكثر من زيارة بهية هانم كما تفعل الحاجة، ولا يستطيع هو أن يصعد وحده؛ فما له من رفيق يجعل صعوده طبيعيا، ولكنه يأبى أن ينصرف مع الأطفال الآخرين الذين انصرفوا، فهو يمكث مراقبا لباب البيت منتظرا - وإن كان لا يدري لماذا - خروج الحاجة بمبة ومحمد. وفي الطابق الأعلى يكون إجهاد الملعب قد أخذ من محمد مأخذه، فما هي إلا أن يريح جسمه إلى الكرسي؛ حتى يهاجم النوم عينيه، فيستسلم له في إذعان ودعة، والحاجة بمبة مشغولة عنه بالحديث إلى بهية هانم، حتى إذا حان موعد الانصراف نظرت إلى محمد في كرسيه فوجدته في نومته العميقة، وتحاول أن توقظه، ولكن بهية هانم تلح عليها أن تتركه يقضي الليل عندهم، وتعدها أنها ستوقظه في الصباح ليذهب إلى الكتاب؛ وتشفق الحاجة بمبة على محمد، وتتركه وتأخذ سبيلها إلى الخارج.
وما تكاد تغادر باب زين العابدين حتى ينبت رشاد من ثنايا الظلام: أين محمد يا خالتي الحاجة؟ - بسم الله الرحمن الرحيم! ماذا تفعل هنا يا رشاد؟! - لا شيء، كنت هنا. أين محمد؟ - نام فتركته عند الست حتى الصباح.
وفي الصباح أيقظت بهية هانم محمدا وقدمت إليه فطورا كريما، وتركته ينطلق إلى الكتاب، ومر محمد بمنزله فأخذ اللوح وتوجه إلى الكتاب. وهناك كان رشاد قد دبر مؤامرته، فقد لقيه الشيخ في غضبة عنيفة: أين بت الليلة يا محمد؟ - في بيت زين العابدين بك.
ولم يزد، فقد أمر به الشيخ فأمسك غلامان بقدميه وانهال الشيخ عليهما ضربا مبرحا. وبينما كان الحاج والي يختم صلاة الضحى فوجئ بضجة على الباب، فنظر من شباكه فوجد محمدا على حمار يبكي بكاء مرا، فخف إليه فوجد قدميه متورمتين لا يستطيع أن يلمس بهما الأرض، واحتمل الشيخ ابنه وقلبه ينفطر لهفا عليه، وما أن أودعه السرير حتى قصد إلى الشيخ في كتابه. - لماذا هذا يا عم الشيخ عبد العظيم؟ - ألم ترسل لي رشادا أن أضربه؛ لأنه بات ليلته خارج المنزل؟ - لا، لم أفعل. وإن كنت فعلت أهكذا يضرب الأطفال؟ لن يعود محمد إلى الكتاب ثانية يا شيخ عبد العظيم.
وخرج الحاج والي وقد ازداد إصراره أن يتوجه محمد منذ الآن إلى التعليم المدرسي، فهو يقصد إلى زين العابدين ويتفق معه على أن يشارك محمد آمال في الدراسة المنزلية، حتى يبدأ العام الدراسي الجديد، فيذهب إلى مدرسة البندر.
أما رشاد فلم يكفه ما وقع عليه من عقاب الشيخ الذي حرم مما كان يفيده من تعليم محمد، بل زاد الطين بلة أن محمدا أصبح رفيق آمال في الدراسة أيضا، لا في الملعب وحده.
الفصل الثالث عشر
اشترى الحاج والي عربة وحصانا حتى ييسر لمحمد أن يذهب إلى المدرسة في الصباح الباكر، وقد كان يشفق على الطفل الصغير، وهو يصحو معه في الفجر ثم يخرج إلى برد الشتاء القارس ليقطع ثمانية كيلومترات إلى المدرسة. وكان الحاج والي كلما تساءل: أتساوي الحياة هذا الجهد؟ نبتت أمام عينيه تلك القطعة من الضباب جوابا عن تساؤله، فيزداد على حيرته حيرة، ولا يملك إلا أن يوقظ وليده في فجر اليوم التالي فيصليان الفجر معا، ثم ينفتل الطفل إلى مدرسته لا يدري ما يكابده أبوه من ألم لخروجه هذا، ومن تساؤل وحيرة؛ ألهذا كنت أتمنى لي ولدا؟ ألهذا ضحت أمه بحياتها؟ وضحت زوجتي بكرامتها؟! أنجيء بهم لنملأ حياتهم تعبا؟ ونملأ حياتنا إشفاقا؟!
وماذا لقي محمد بعد من الحياة؟ وماذا أفعل حين يوغل فيها وتلقاه بوجهها هذا القاسي الجامد؟ ويتصاعد الضباب أمام عينيه يغلق على نفسه منابت التساؤل والحيرة ويلقي بنفسه إلى دفاع الحياة.
عاد محمد في يوم من المدرسة وهو يحس رعشة تهز جسمه جميعا، فأسنانه تصطك فتصك جسمه كله كأنها المطارق، وأطرافه ترتعش رعشة تهز كيانه، فهو كنبات هش ضعيف انصبت عليه ريح عاتية توشك أن تقتلعه من الجذور.
وتلقته الحاجة بمبة بإشفاق، وراحت تضع عليه الأغطية وتحيطه بزجاجات الماء الساخن، ولكن الرعشة لا تريم عنه، فإنما هي في مكان خبئ من جسمه، لا يدرك مكانها الماء الساخن، ولا يصل إليها دفء الغطاء!
وأقبل الحاج والي من الخارج، فوجد ابنه على حاله هذه؛ فهو يسارع إلى البندر ويجتلب الطبيب الذي يقرر أن الطفل قد أصيب بالتهاب رئوي حاد. وحين يسأله الحاج والي: أخطر هذا المرض؟ - كل الخطورة. - وماذا أفعل؟ - الأعمار بيد الله.
الأعمار! وهل بلغت الحالة إلى ذكر الأعمار؟! الأعمار! أكل ما كان ينتهي إلى هذا؟ أكانت الحاجة بمبة تخطب لي، وكان موت صالحة المسكينة من أجل الالتهاب الرئوي؟! أهو الذي يحصد ثمرة ما ضحت به المرأتان الطيبتان؟! أمن أجل هذا يأتي الأطفال؟! ولدي ... ماذا؟ ماذا أنت فاعل بي؟ أهذا أملي بعد أن تحقق؟ أكان قد تحقق من أجل الالتهاب الرئوي؟ أيرضى الله بهذا؟ نعم يرضى؛ فما هذه الدنيا بالتي يجزي الله فيها المحسن خيرا والمسيء شرا، ألم يمت إبراهيم بن محمد رسول الله ... وحيده ... مات طفلا، فلماذا لا يموت محمد بن والي؟! وما محمد بن والي في حساب الدنيا؟ مجرد روح صغيرة لم تتفتح بعد للحياة، وما والي؟ شقي من الأشقياء قطع عمره على أمل أن يكون له طفل حتى إذا كان؛ جاءه الالتهاب الرئوي، وفي الآخرة يتولى الله ثوابه. ولكني بشر؛ لقد صبر النبي على بلواه، أترى أصبر أنا؟ يا رب إنني أصغر من هذا الامتحان، وأنت تدري ... أنت تدري أنني أوهى عظاما، وأقل صبرا من أن أحتمل هذا الابتلاء ... يا رب إنك تقول:
المال والبنون ... وتقول:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين
فليكن ابتلاؤك في المال، كل المال، أما البنون فما عندي من بنين إلا محمد هذا فدعه لي؛ فما أنا بالذي يصبر لهذا البلاء. إني أعلم وإنك تعلم أنني أقل من هذا البلاء. يا رب ... يا رب ...
كان الدعاء والدواء والصبر هو كل ما يملك الحاج والي، وكانت الحاجة بمبة هي التي تقوم بتمريض الطفل في حنان وأناة وامتثال تكاد لا تذكر إلا أنه ابنها، فما عرفت لنفسها ابنا إلا بالتبني، وما عرف هو أما إلا هي.
وفي بطء شديد شفي محمد، وعادت الابتسامة إلى الحاج والي، وعاد النوم إلى الحاجة بمبة. أحس الحاج والي سعادة ... سعادة لم يعرف لها مثيلا في حياته. ما أحلى أن يكون لي ابن يحيط به الخطر ثم ينجو! كأنما أصبح لي ولد جديد. إنهم ليمدون قلوبنا بالسعادة والجدة هؤلاء الأطفال ... لا ... لا شيء يعدل أن يشفى ابني من مرض خطير ... لا ... لا شيء يعدل هذا في الوجود.
وواجهت الحاج والي مشكلة أخرى؛ أيعود محمد إلى المدرسة فيتعرض للبرد مرة أخرى وللمرض؟ وسرعان ما حسم المشكلة، فماذا يصنع محمد إن لم يذهب إلى المدرسة؟!
ومن جديد عاد الحاج والي يوقظ محمدا في الفجر فيصليان جماعة، ثم ينفتل محمد إلى مدرسته ليواجه البرد الشديد، والحر الشديد، والعلم الثقيل.
الفصل الرابع عشر
كان زين العابدين جالسا في شرفة داره ينتظر عربته أن تعود من المحطة حاملة حماته وحماه الذي أبرق إليه أنه قادم في يومه هذا.
وكان زين العابدين سعيدا في انتظاره هذا؛ فقد تولت ثلاثة كلاب أو كلبان وكلبة تسليته بتمثيلهم أمامه قصة الثلاثي الخالد الزوج والزوجة والعشيق، وقد اندمج ثلاثتهم في أدوارهم اندماجا أنساهم المتفرج الوحيد زين العابدين.
وقد اختارت الكلبة دور المنتظر لا تجنح بعواطفها أو تصرفاتها جنوحا ينبئ عن حقيقة مشاعرها، بينما راح الكلبان يعتركان ويتجه كل منهما إلى الكلبة كلما خيل إليه أنه بلغ من عدوه ما يشتهيه له من هزيمة؛ فما يلبث الآخر أن يلحق به في منتصف الطريق يرده عن الكلبة أن يصل إليها. ولم يكن زين العابدين يعلم أي الكلبين هو الزوج وأيهما العشيق، فإنهم في دنيا الحيوان يتقاربون فيختلطون، ولكن زين العابدين رأى في عيني أحد الكلبين ذلة وانكسارا، ورأى في عيني الآخر توقحا وجرأة، وكاد يعرف من هذه النظرات حقيقة كل منهما، إلا أنه عاد فاختلط عليه الأمر، لا يدري مدى ما أصابه من صدق النظرة وقوة الاستنتاج. واستطاع أحد الكلبين ذو النظرة المتقحمة أن يصل إلى الكلبة آخر الأمر؛ واستقبلته العاهرة استقبالا حارا جعل الكلب الآخر الكسير النظرات مذهولا محجما عن محاولة كان قد بدأها ليرد الكلب المنتصر، وكأنما أصاب هذا الترحيب من الكلبة كبرياءه، فهو ينعم النظر، وتبدو عليه ألوان من الحيرة والذلة والرغبة والزهد، ثم يولي الكلبين والمتفرج ظهره وينصرف عن المسرح جميعا.
ولو كان للمسرح ستار لأسدل على الكلبين الآخرين؛ فإن الرواية كانت بلغت ما يجب عنده أن تتخفى شخوصها بين الكواليس، ولكن زين العابدين ظل يرنو إلى الكلبين متشوقا إلى القاهرة وصديقته الجديدة سنية شخلع حسيرا في الوقت نفسه لقلة المال معه، أسيفا أنه لم يعد يستطيع أن يبيع أكثر مما باع، فقد تضاءلت أرضه فأصبحت أربعين فدانا، وما يستطيع بعد ذلك أن يبيع منها شيئا، ولا يستطيع كذلك أن يواجه ما تحتاج إليه سنية من مصاريف، ولا هو مطيق أن يهجر سنية أو البار، فهو في دوامة من الحيرة يتخبط بين جدران من خوف الفقر، ومن الرغبة العارمة في بقاء محبوبته، ومن قلة الأرض لا تستطيع أن تغل له ما يكفي رغباته، ولا تستطيع أيضا أن تتضاءل أكثر مما تضاءلت. وقد كانت حيرته هذه قديمة، ليس للكلاب فيها شأن إلا تذكير بحقيقة تسيطر عليه أغلب الوقت، وقد كان بقاؤه بالقرية أكثر ما يضيق له، ولكنه لا يملك إلا أن يبقى بها، وإن كان هو لا يتولى زراعة الأرض بنفسه، بل يؤجرها إلى الفلاحين، فإشرافه على المستأجرين إشراف هين لا يستغرق من وقته إلا أقل وقته، ثم يفرغ بعد ذلك إلى هذه الحيرة وهذا الضيق بالقربة، وهذا الشوق اللاهف للقاهرة وسنية والبار.
أفزع الكلبين العاشقين صوت العربة وهي تأخذ موقفها أمام البيت، وانتبه زين العابدين، وهم يستقبل زواره في حفاوة وتوقير؛ فقد كان يعلم أن حماه وحماته لا يحبان شيئا في الدنيا أكثر من أن يلاقيا التوقير أينما ذهبا.
وتقدم زين العابدين من العربة وأمسك بيد حماته، ينزلها منها؛ سيدة في الخمسين من عمرها، ولكنها تتخذ من الملابس والحجاب ما يجعلها في الستين؛ فوشاح أبيض يحيط برأسها، وخمار شفاف يدور حول أسفل وجهها الوردي اللون الذي لا تزال آثار نضرة تتخايل فيه. وبين الوشاح على الرأس والخمار على الفم تطل عينان فيهما طيبة وفيهما ذكاء وفيهما حب سيطرة لا تجد مجالا ولا متنفسا. أما قوام الست ازدهار الناضورجي فكان معتدلا لا يتهم بنحافة، ولا يعاب بإفراط سمنة. ونزلت ازدهار هانم وتبعها زوجها زكي بك الناضورجي وهو ذو شارب يلقى منه كل عناية وتكريم، أحمر الوجه قصير القامة أصلع الرأس حتى لا يفلح الطربوش الأحمر الزاهي في إخفاء صلعته جميعا، إنما تظل قطعة كبيرة منها بادية من مؤخرة الطربوش حيث ينسدل الزر في نظام وإحكام، وكأنما كانت هذه القطعة من الصلع تغافل الطربوش فتخرج إلى العيان دون أن يشعر بها.
وقبل زين العابدين يد حماته، وانحنى وهو يسلم على حميه انحناءة لا تخطئها العين، وشاعت في عيني ازدهار هانم علائم رضى، وهمت ظلال ابتسامة على شارب زكي بك، وأخذ الجميع سبيلهم إلى الطابق الأعلى. وثمة استقبلتهم بهية في ترحاب تحيط به كثير من القيود، فلا يبدو إلا في تقبيلها ليد أبيها ويد أمها ووجنتها، وإن كانت في دخيلة نفسها تريد أن تحتضن كلا منهما وتقبله قبلات كثيرة عارمة، وكأنما كانت آمال تدري ما في نفس أمها، فهي تهاجم جدها وتتعلق برقبته ويقع طربوشه على الأرض ويتخلج هو في وقفته حتى ليوشك هو أيضا، ولكن يتماسك وهو يغالب الضحك على فمه، محاولا بكل جهده أن يجعل من ابتسامته كشرة فلا يفلح جهده، وتتركه آمال إلى جدتها، فما هي إلا ضمة واعتناق حتى ينتهك ستر السيدة الوقور، فالخمار في الأرض والوشاح في منتصف الرأس والسيدة غير غاضبة ولا عاتبة، وكأنما كانت تشتهي هي أيضا هذا اللقاء من ابنتها؛ فأجابت حفيدتها خوافي رغباتها. وبهية تحاول أن ترد الابنة العاتية فلا تحفل بها، وزين العابدين ينظر فرحا أن رأى طربوش زكي بك الناضورجي على الأرض لأول مرة في حياته، فهو لم يره قبل اليوم إلا منتصبا على رأس صاحبه، لا يميل ولا يحيد، مثله مثل شارب زكي بك نفسه. ثم ها هو ذا اليوم يرى الطربوش في الأرض والشارب مهوشا من أثر تقبيل آمال. وتعربد في نفس زين العابدين ضحكة لا مبالية تذكره بالبار وسنية شخلع وهو يرى زكي بك ينحني في وقار إلى الطربوش يلتقطه مختلسا النظر إلى زين العابدين، كأنما كان يريده أن يلتقطه هو بدلا منه، أو كأنما يريده - على الأقل - أن يبدو وكأنه غير منتبه للطربوش الساقط وانحناء البك الكبير لإحضاره.
وتنتهي معركة الاستقبال، ويجلس الجميع، ويدور الحديث، ولكن لا يكاد، فإن زكي بك يقول في أمر حازم: زين العابدين بك، أنا سآخذ ابنتي وحفيدتي معي إلى مصر. وتعجب زين العابدين وقال في دهشة: نعم! لماذا ... لماذا يا سعادة البك؟! - البنت كبرت؛ ولا بد لها أن تدخل المدرسة.
وصمت زين العابدين، فإن هذا حق لا سبيل إلى التغاضي عنه، وهو لا يريد لها أن تتعلم تعليما مشوها، كما أن وجود ابنته في القاهرة يجعل ذهابه إليها مقبولا أمام نفسه على الأقل، ولكن لماذا تذهب زوجته، نعم. - ولماذا تذهب بهية؟ - لتمكث معها فترة حتى تتعود على المدرسة.
وأطرق زين العابدين. وقال زكي بك: زين العابدين بك، هل أنت مشغول هذه الأيام هنا؟ - أنا ... لا ... أبدا. - إذن تذهب أنت أيضا معنا، وتدخل ابنتك إلى المدرسة وتتنزه في ...
وقطع زكي بك جملته وتنحنح، ثم استطرد في لهجة جادة صارمة، كأنها لا تعني شيئا على الإطلاق. - أظن أنك لا تمانع. هيه، لا مانع، هيه.
وأطرق زين العابدين وكأنه يمتثل لأمر لا سبيل إلى التخلص منه. - أمرك يا سعادة البك. لا مانع، لا مانع.
الفصل الخامس عشر
ثلاث سنوات مرت بحسين في القاهرة، ثلاث سنوات يذكرها وهو مستلق على سريره بجوار قطة تلوذ بيده الحانية عليها في غرفته المنفردة مثله على سطح بيت ساقته إليه عجلة زين العابدين بك، وأبقاه فيه خوفه أن يواجه البحث عن بيت جديد، فقد كان يخشى أن يلقى من الغربة أكثر مما لقي، ولحجرة عرفها لمدة يوم ثم أسبوع ثم شهر أحب إليه من أخرى لم يعرفها قط مهما تكن تفضلها. لا ... لا يريد أن يوغل في الاغتراب أكثر مما اغترب، فهو يبقى في الغرفة، باردة في الشتاء حارة في الصيف، لكنه ألفها وألفته، وقل أن يجد شيئا يألفه في القاهرة الكبيرة الواسعة المترامية الأطراف. ومع الأيام التي أصبحت شهورا فسنين أصبحت هذه الحجرة على السطح ملاذه ومأمنه هرع إليها هالعا من القاهرة، فأمنت خوفه، وأقرت مضطربه، واستراح بين ضلوعه قلب مفزع شديد الوجيب عاصف الضربات. ليس ينسى يوم فزع إلى غرفته هذه في اليوم المشئوم من أيامه الأولى في القاهرة؛ يوم نزل مزهوا بجبته وقفطانه وحذائه اللامع يتبختر في الشوارع يزين لنفسه أن يتفرج على القاهرة، معتقدا أن الأعين فيها جميعا سوف ترمقه بالإجلال والإكبار. وسار على غير هدى، وراح يتلفت حواليه أينما سار، محاولا ما وسعه الجهد أن يرى أثر قفطانه وعمامته الزاهية على من يمر بهم من الناس، حذرا كل الحذر أن تنحدر هذه الدمعة التي لا تترك عينه، فهو يمسح خده، سواء لديه كانت الدمعة منحدرة أو كان مكانها جافا لا أثر للدمع فيه. وتعود إليه نظرته توهمه أن العيون تتبعه، وإن كان هو في بعيد نفسه يعلم أن ما تلقيه إليه نظراته وهم لا يتصل بسبب إلى الحقيقة؛ فالناس منصرفون عنه إلى ما يشغلهم من حديث أو عمل أو لهو، ولكنه مع ذلك يحب أن يصدق أوهامه أكثر مما يحب أن يصدق الحقيقة التي يعلمها، فهو وقور في مشيته، بطيئة خطواته قليلة حركاته إلا تلك اليد يمسح بها من حين إلى آخر دمعته الحقيقية أو الموهومة لا يدري، وإنما هي يده يرفعها بين الفينة والفينة؛ حتى لا تصيب الدمعة شيئا من وقاره أو أناقته.
وظل سائرا يتهدى به شارع إلى حارة، أو حارة إلى زقاق، حتى انتهى به المطاف إلى أصوات عالية أوضح ما فيها أيمان مغلظة، تتراوح بين أيمان الطلاق والقسم بالله ثلاثا، وراح يقترب من الأصوات، لأن طريقه يحتم عليه أن يقترب منها، حتى أصبح في مركز الدوامة من الصراخ المرتفع. - وأنت من أدراك بكلام الله؟ يا رجل دع العلم لأهله، أنا لم أرك في يوم من الأيام تلبس العمامة، إلا إذا كان ذلك قبل أن أعرفك، أي قبل أن تولد. - يا رجل! يا رجل اتق الله! زوجتي طالق يا شيخ إن لم تكن هذه الآية من كلام الله. - تعني أنها من القرآن؟ - في القرآن. - زوجتي طالق ثلاثا إن كانت في القرآن أو كانت تعرفه أو شافته. الرجلان على جانبي الطريق؛ أحدهما على باب دكان حوله رهط من الأصدقاء، والآخر على المقهى في الجهة المقابلة يحيط به هو الآخر رهط من المعجبين، وكلا الرجلين يريد أن يكون ذا علم. وحسين يمر بينهما وتختطف أذنه هذا النقاش فيسير طريقه واثقا أن الجماعة ستنشغل بنقاشها عن قفطانه وعمامته. ويعبر حسين المقهى والدكان ويوشك أن يبتعد، ولكن الصراخ ينقطع بشكل مفاجئ فلا يسمع حسين إلا كلمة واحدة. - نسأله.
ويعقبها صوت يصبح أصواتا: يا أستاذ.
ويمضي حسين سبيله، ولكن الأصوات تتعالى: يا سيدنا، يا سي الشيخ.
ويقف حسين ويلتفت وفي عينيه سؤال يريد أن يتأكد به أنه هو المقصود. وتتعالى الأصوات مرة أخرى: نعم أنت. تسمح لحظة.
ويتجه حسين إلى الجمع. ويبادره الرجل الجالس إلى المقهى: نريدك في سؤال.
ويفرح حسين؛ فقد واتته الفرصة مبكرة أن يصبح أهل إفتاء فيجلس القرفصاء معتمدا قدميه دون أن يلامس جسمه الأرض، موليا وجهه إلى أهل المقهى وظهره إلى أهل الدكان. وقال وقد تمكن من جلسته: نعم. - هل في القرآن: وإذا الصحف تطايرت وانتشرت؟
ويقول حسين في وقار وثقة: لا، إنما يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
وإذا الصحف نشرت * وإذا السماء ...
ولا يكمل الآية، وإنما هي ركلة عنيفة في ظهره ترفعه إلى أعلى قليلا ثم تهوي به على الأرض منكفيا على وجهه، عمامته نافرة عن رأسه، وصوت يطن في أذنه: ألم يبق إلا العيال نسألهم في كلام الله؟ وأنت ماذا تفهم في كلام الله يا ابن ... يا ضائع. قم ... قم خيبة الله عليك وعلى أبيك.
ويغرق الجانبان في الضحك لمنظر حسين وعمامته، ويقفز حسين إلى عمامته حيث هي، وينفجر باكيا وينتهز مكانا خاليا وينفلت منه، وقد علا بكاؤه. تملأ نفسه الحسرة ويروح ويعدو، وقد أحست نفسه الظلم مريرا حانقا، يزيده الرعب مرارة وحنقا، لا يجد متنفسا منه إلا الدموع والنشيج.
وراح يعدو لا يدري إلى أين، وانغلقت عليه المسالك فأصبح لا يدري كيف يصل إلى حجرته، فيقف وينظر إلى حاله، وينظر إلى خلفه، حتى إذا استيقن أنه غير متبوع راح يتحسس طريقه إلى الحجرة حتى بلغها، وحين دخلها عاوده الأمن وإن لم تفارق نفسه المرارة. واحتضنته الغرفة ذلك اليوم ووجد فيها مأمنا ووجد فيها أنيسا. هذه القطة التي عرفها أول ما عرفها في ذلك اليوم، وكأنما جاءته ليشكو إليها ما وقع له، ولتشكو هي إليه الجوع والتسكع، كان هو وحيدا بغربته، وكانت هي وحيدة بجوعها، والتقى الاثنان وبدأت بينهما في ذلك اليوم صداقة لا تزال مشدودة الأواصر حتى يومه هذا. لا، لا ينسى حسين كيف كانت هذه الغرفة مأمنا له من الفزع، وكيف صارت القطة أنيسا من الوحدة، وليس ينساهما أيضا فيما وقع له بعد ذلك من ظلم.
كان ذلك بعد إقامته في القاهرة ببضعة أشهر، وكان الأزهر قد أتاح له بعض صداقات، وكان أقرب الأصدقاء إليه فتى من القرية المجاورة لقريته سبقه إلى القاهرة بسنة، واستطاع أن يجد عنده ما يحب من حديث عن أماكن وأشخاص يعرفها كلاهما، هذا الحديث الذي يذيب الوحشة ويثير الحنين ويشعر الإنسان بدفء الحياة في ظلال بلدته وعلى وديانها وحقولها، وتحته النخيلات هناك وعلى ضفاف النهيرات، وذلك الحديث الذي لا يجده حسين في القاهرة إلا حين يلم به الحاج والي وقليلا ما يفعل، ثم هو لا يستطيع أن يفيض معه في الحديث إفاضة الصديق إلى صديق، وإنما هي أسئلة يمنعها الإجلال أن تكثر، ويعوقها الخجل أن تصل إلى التفاصيل. أما حين يتحدث حسين إلى صديقه حمدي؛ فالذكريات المشتركة، والأماكن التي يعرفها كلاهما، والأشخاص الذين تربطهم بهما صلات الملعب والكتاب؛ فقد كان كتاب القريتين واحدا. وهكذا توطدت الصداقة بين حسين وحمدي، وأصبح حمدي مرشدا لحسين في القاهرة، وصار حسين يبتعد عن حي الدراسة، مطمئنا إلى خبرة حمدي ومعرفته بالطرق، فهو يزور أحياء القاهرة، معتمدا في السير على رجليه، وفي معرفة الطريق على حمدي. حتى كان يوم زارا فيه حديقة الحيوانات، وأتما زيارتها وأرادا العودة، وكان التعب قد أخذ منهما أخذا وبيلا. فقد قضيا يومهما جميعه سائرين. وقال حسين: نركب الترام. - نركبه، لكن اسمع: أتريد أن نركب أم تريد أن أجعلك تتنزه نزهة أخرى؟ - أنا متعب. - إنها نزهة مريحة. - كيف؟ - نركب سلم الترام بدلا من الترام نفسه، فنكسب مكسبين؛ الأول أننا سنكون خارج الترام لنتفرج على الشوارع التي سنمر بها فرجة لا نستطيعها من داخل الترام، أما المكسب الثاني فهو أننا لن ندفع شيئا. - لا بأس.
وكان حسين قد تعلم منذ حادثته الأولى ألا يخرج بعد الظهر بملابس الأزهر، فهو يلبس طاقية ومركوبا وجلبابا، وكان حمدي يرتدي مثل هذه الملابس أيضا. وبدأ الاثنان المغامرة، ولكن لم يكادا، فقد ركبا أول ما ركبا تراما ذا سائق لا يحب هذه العادة من الفتيان؛ فما كاد الاثنان يقفان على السلم حتى وجد حسين طاقيته تختطف عن رأسه، وقبل أن ينظر إلى من اختطفها كانت طاقية حمدي تلحق بطاقيته، ونظرا فإذا السائق يضع الطاقيتين على المقبض الذي يمسك به ليتحكم في الترام وهو يقول: حتى لا تركبا مجانا مرة أخرى يا أولاد الكلب.
وراح حسين وحمدي يستعطفانه، ولكن الرجل ظل صامتا، وكأنه فقد النطق، حتى إذا بلغا انحناءة شديدة أمال السائق الترام بعنف؛ فإذا حسين وحمدي على الأرض، وقام كلاهما يجري ولم يكن الترام في سرعته الكاملة، فهما يعودان بجانبه يستعطفان السائق أن يرد إليهما الطاقيتين، ولا يجيب، ويخشيان أن يثبا مرة أخرى إلى السلم أن يضربهما الرجل الصارم. وزاد الترام من سرعته، وزاد الاثنان من سرعة عدوهما وينفلت المركوب من رجل حسين، ويستقر على شريط الترام وتمر عليه العجلات الحديدية فإذا هو نصفين، ويقف حسين ويضطر حمدي للوقوف. كانت المصيبة واحدة، فصارت مصيبتين، والطاقية مهما تكن من الوبر غالية، إلا أنها على أية حال أرخص من المركوب، ويمسك حسين ببقايا المركوب بين يديه، والترام يبتعد عنهما بالطاقيتين، وينظر حسين إلى حمدي: أرأيت شورتك، نتفرج ولا ندفع؟
ويضع حسين فردة المركوب تحت إبطه، ويمكسك بالمركوب الآخر الممزق ويقطع الطريق حافيا، حريصا أن يميل إلى كل محل أحذية يلاقيه كبيرا كان أو صغيرا، يسأل الواقف به سؤالين: أيمكن إصلاح هذا؟ - لا. - أيمكن أن تبيع لي فردة واحدة؟
وقد يجيب المسئول بلا ساخرا، أو يجيب بطرده هو وصاحبه في صلف وكبرياء.
ويصل حسين إلى غرفته، ويقفل الباب، ويرتمي إلى فراشه ويبكي. وتثب القطة إلى جانبه فيمد إليها يده بغير وعي، ويمسح على ظهرها وتنحدر الدموع من عينيه.
كانت الحجرة في ذلك اليوم ملاذا له في بؤسه وشقائه؛ فهو إذن لا يريد أن يتركها، فقد ألفها وألفته.
وألف أيضا أهل البيت؛ فإن زوجة صاحب البيت وهي شابة في ريق العمر كثيرا ما تلقي إليه نظرات فيها عطف وفيها انتظار لشيء. لم يكن حسين يدري ماذا تنتظر، ولكنه كان يحس أن هناك شيئا تنتظره هذه الفتاة، ولكن الأيام في مرورها البطيء جعلته يعرف أن هناك ما تنتظره امرأة من رجل وما ينتظره رجل من امرأة. حين بلغ اليوم الذي يعرف فيه هذا الشيء؛ كان يقول كلما تذكر الست مفيدة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
الفصل السادس عشر
مر وقت طويل على الحاج والي لم يزر الزقازيق، فانتهز فرصة وجود بعض غلال عنده يريد أن يبيعها فأخذ أهبته لزيارة البندر وسأل الحاجة بمبة إن كانت تريد شيئا، فذكرت له ما تحتاج إليه، ولم يكن ما تحتاج إليه كثيرا، وأخذ الحاج والي طريقه إلى البندر، راكبا عربته الحنطور، التي كان قد طلب إلى سائقها أن يعود إليه بعد أن يذهب بمحمد إلى المدرسة.
وفي الزقازيق لم يجد تاجر الغلال الذي تعود أن يعامله، فراح يشتري ما طلبته الحاجة بمبة، حتى إذا انتهى من الشراء مال إلى المقهى الذي يجلس إليه كلما ألم بالبندر، وفجأة تذكر أنه منذ زمن بعيد لم يزر محمدا في المدرسة ليعرف كيف يسير في الدروس.
فانتهز الفرصة وقام إلى المدرسة.
وكأنما كان الناظر ينتظر: كنت سأكتب إليك الآن. - خير؟! - المدرسون يشكون من محمد. - لماذا؟ - لا يريد أن يكتب في الفصل، ويهمل واجباته.
وصمت الحاج والي قليلا. أهكذا تنتهي آماله؟! أهذا ما كان يصبو إليه؟! أيربي طفلا ليس ابنه فيتجه من التعليم وجهة لم يكن يبتغيها، وحين يريد أن يربي ابنه هو الوحيد يعزف عن التعليم جميعا؟ ويلتفت إلى الناظر - وفي قلبه هم ثقيل كأنما هو أمام طبيب يعلنه بنهاية الحياة - ماذا أفعل؟ - أتراك لينا معه؟ - لا أدري، فأنا لا أؤخر له مطلبا. - لعلك لو اشتددت عليه بعض الشيء. - بل أريد أن أشتد عليه كل الشدة. إنه ابني الوحيد يا حضرة الناظر. - أعرف. - وليس لي أمل في الحياة إلا أن يتعلم. - أعرف. - ماذا لو ضربته الآن أمام إخوانه؟ - عقاب شديد لا أريد أن تلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى. - إذن؟ - عقابا أهون من هذا. - حسن. سيسير محمد في دراسته على أحسن وجه.
سأجيء إليك كل أسبوع لأتأكد من ذلك بنفسي، وأشكرك يا حضرة الناظر.
وخرج الحاج والي عائدا إلى المقهى، وانتظر حتى موعد خروج محمد، وركب العربة وانتظر مع المنتظرين. وخرج محمد، وفوجئ بأبيه في العربة. - سلام عليكم يابا ... - اركب.
وركب محمد، وسارت العربة، ولم ينبس الحاج والي بكلمة. وظل محمد صامتا حائرا، وقد داخل نفسه هلع لا يدري مأتاه؛ فما هكذا عوده أبوه. كان يتحرق شوقا أن يدري ما يعتمل بنفس أبيه، ولكن أنى له هذا وهو لا يستطيع أن يفتح حديثا يغلق أبوه أبوابه! وصار الطريق الذي يقطعه محمد مرتين كل يوم دون أن يحس طوله طويلا لا ينتهي؛ فقد كان محمد يحادث السائق في أثناء الركوب، أما الآن فهو في صمت مطبق لا يشغله إلا صوت العجلات، وحوافر الخيل، والخوف الراعد الذي يملأ قلبه. وأحس الحاج والي بالحيرة التي يعانيها ابنه، ولكن أين هي مما يشغل قلبه من حزن وألم؟!
ووقفت العربة أمام البيت، وقفز محمد يريد أن يبتعد عن نفس أبيه هذه الغاضبة، ولكن أباه عاجله: انتظر.
وكأنما كانت الكلمة حبلا يمسك بالطفل الصغير، فهو يقف مكانه متسمرا، ويهبط الحاج والي من العربة، ولا يقول إلا كلمة واحدة: تعال.
ويدخل محمد وراء أبيه، ويجدان الحاجة بمبة في بهو البيت، فيلقي عليها الحاج تحية سريعة، ويدخل إلى الحجرة وهو يقول لمحمد: تعال.
وينظر محمد إلى الحاجة وتنظر إليه وتقول: أنت عملت حاجة؟
وقبل أن يجيب محمد، يعلو صوت الحاج والي مرة أخرى في غضب: تعال.
ويدخل محمد إلى الغرفة، وتهم الحاجة أن تلحق به، ولكن الحاج والي يردها في شيء من اللين: انتظري قليلا أنت يا حاجة.
وترجع الحاجة إلى مكانها من البهو، ويغلق الحاج باب الغرفة بالمفتاح: لماذا لا تكتب في الفصل؟
ويصمت محمد. لقد عرف الآن السر في غضب أبيه، ولكن لات حين معرفة. ويصرخ أبوه في وجهه: انطق.
ويرتعد محمد من هول الموقف. ويعود أبوه يسأله: ولماذا تهمل في واجباتك؟
ولم ينتظر الحاج والي؛ بل إن يده كانت أسرع من إجابة محمد، وانهال على الطفل ضربا. والطفل باهت أمام أبيه تدور عيناه في محجريهما، ويحس شيئا ساخنا يبل فخذيه، ثم تنفجر عيناه بالبكاء، والأب يضرب حتى أصبح لا يريد أن يقف، ويصرخ: ماذا؟! أمجنون أنت؟! ليس لي إلا ابن واحد، ويريد أن يصبح ضائعا تافها.
ويضرب، والفتى يحيط وجهه بذراعيه، والأب يضرب لا يدري أين مواقع ضربه! ويضرب، والطفل يبكي، حتى صرخ الطفل أخيرا بصوت علا على صوت أبيه: كفى يابا ... كفى ...
وكأنما كانت كلمات الطفل القليلة يدا سلطت على قلب الحاج والي فاعتصرته اعتصارا، كانت كلمات بسيطة قليلة ليس فيها اعتذار ولا طلب مغفرة، ولكنها هزت كيانه كله حتى أوشكت الدموع تطفر من عينيه. كفى يابا كفى. لم يقل غيرها، فما له قد زلزل زلزالا؟ وما له قد كف يده وكأنما قبضت عليها يد أخرى قدت من حديد؟! وتنبه إلى طرق زوجته على الباب ففتح لها، ولم تسأله، وإنما أحاطت الطفل بحنانها، وأخذته وخرجت من الغرفة.
وظل الحاج والي وحيدا. ألهذا كنا نأتي بهم، لعذابهم وعذابنا؟ ومرة أخرى عاد الضباب يغشى ناظريه، إلا أنه في هذه المرة كان ضبابا أكثر كثافة من كل مرة. وأخرج الحاج والي مسبحته وراح يسبح: لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله.
الفصل السابع عشر
لم تكد بهية تستقر في بيت أبيها حتى سارعت إلى التليفون تطلب صديقة الطفولة نعيمة؛ فقد طالت بينهما الغيبة، فهي إليها مشوقة تريد أن تسمع من أخبارها الكثير الذي تجمع في هذه الفترة المتطاولة التي لم تزر فيها القاهرة. وكأنما كانت نعيمة معها على موعد؛ فإن عامل التليفون لم يكد يدق لها جرس تليفونها حتى رفعت السماعة واتصل صوت الصديقتين.
وما كان التليفون إلا وسيلة لتتم الزيارة، فما إن انتهى الغداء حتى كانت نعيمة في بيت زكي بك الناضورجي، مصطحبة معها ابنتها ناهد. أما الأم فسيدة في ريق العمر، عدا السمن على جسمها فهو مترهل، ولم تعد السنون على وجهها فهو ناضر، ذات شعر أسود، وثغر يحتفظ لنفسه من الحياة بابتسامة كثيرا ما تصبح ضحكة رنانة تصدر عن قلب يهفو إلى السعادة تخلصت من كل تفكير أو هم، لها عينان تشقان طريقهما في الحياة بشعاع من الهناءة المترعة، والسعادة الغامرة، فيهما تطلع إلى ما يجتلب إليها السرور والمتعة، وفيهما قدرة أن يتجنب كل ما من شأنه أن يزيل الابتسامة عن الفم، والسعادة عن القلب.
أما ابنتها فطفلة لم تزد على عمر آمال، إلا أنها أكثر منها حركة وحياة، ورثت عن أمها الشعر الأسود والابتسامة. وقد يرد أمها عما تصبو إليه بعض خجل أو حياء، أو قد يردها عمر ليس بالطفل، أما الابنة فلا شيء يردها، فهي تفعل ما تريد، وقتما تريد.
جلست الأمان، وسرعان ما بدأ الحديث، بطيئا وانيا أول الأمر ولكن ما هي إلا لحظات حتى تفجر الينبوع وتشابك الحديث كأنه غابة من الكلمات المتدافعة، حتى أصبحت كل منهما وهي لا تدري إن كانت صاحبتها تسمع أو لا تسمع، وإنما كل ما تعنيان به أن تتحادثا.
ولم تستطع ناهد أن تصبر طويلا على حديث الأمين، فما أسرع ما تمت الصداقة بينها وبين آمال، وما أسرع ما انسحبتا من الغرفة لتخلوا إلى حديثهما أيضا. - ماذا تعملين في المدرسة؟
وتجيب آمال: أنا لا أذهب إلى المدرسة. - ياه! وماذا تعملين؟ - ألعب مع محمد أمام بيتنا، هناك في البلد. هل عندكم بلد مثلنا؟ - لا، ولكني أذهب إلى المدرسة. وفي البيت نغني، ونرقص. - أنا أتعلم في البيت، وبعد الظهر ألعب بالكرة. - تجيء عندنا الست عطيات، المغنية المعروفة، مشهورة جدا. أتعرفينها؟ - لا. أنا أذهب إلى الغيط، وأركب النورج. هل عندكم نورج؟ - لا. أنا أرقص، وأغني مثل الست عطيات. أترقصين؟ - أنا! أبدا. - يا خسارة! سأعلمك الرقص. - وأنا سأعلمك ركوب النورج، وأجعلك تضربين البقر الذي يجر النورج. - عندما ترقصين تصفق لك أمك وأبوك والزوار. - عندنا إسماعيل أبو شعبان، أخذني لأتفرج عليه وهو يدير الطمبور. أتعرفين الطمبور؟ - الست عطيات أحسن واحدة تدق الصاجات. - كان إسماعيل أبو شعبان يلف الطمبور وهو عاري الساقين فيخرج الطمبور ماء. - الماء عندنا في الحنفية. - وفي الصيف كنت أقف بجانب الغلة وهم يذرونها في الهواء، فتطير، ثم يسقط الحب وحده، والتبن وحده. - نحن في الصيف نصعد إلى سطح البيت، وتغني الست عطيات وترقص، وكنت أرقص معها، ويقول أبي إنني أرقص أحسن منها، ولكن أمي تقول إنها أحسن من يمسك صاجات في مصر.
وقالت الست بهية لصديقتها نعيمة: وناهد هل تذهب إلى المدرسة؟ - نعم. - ما اسم مدرستها؟ - والله لا أدري، أبوها هو الذي أدخلها. - ألا تعرفين مدرسة ابنتك؟ - وأنا ما لي! - كيف؟ - يا أختي بلا هم. وماذا ستعمل بالعلم؟ مصيرها تتزوج. أحسن لها أن تتعلم كيف ترضي زوجها.
وتضحك بهية ضحكة مجلجلة وتقول: وهل تعلمت هذا؟ - ترقص على كيفك.
وتقول بهية وبقية الضحكة ما زالت عالقة على شفتيها في شكل ابتسامة: ولكني أريد أن أدخل آمال المدرسة. - أسأل لك عبد السميع عن مدرسة ناهد. - وأخبريني غدا بالتليفون. قولي لي، كيف حالك مع زوجك؟ أما زال مبسوطا من ضحكك ولهوك؟ - الرجال أطفال، الضحكة تجعلهم كالخراف، يفعلون ما تشائين. لا يؤخر لي طلبا، طلبت منه أن يشتري جهاز ناهد من الآن فاشترى. - وما الداعي؟ - ألا تعلمين أنه كان متزوجا أخرى وله منها أولاد؟ وأنا ليس لي منه إلا ناهد. إن لم أحصل على كل ما أستطيع منه في حياته ضعت بعده. - أنت لئيمة ولا يبين عليك. - لا يا حبيبتي. الضحك شيء والجد شيء. جعلته يبيع أرضا لي وسجلها في المحكمة. لا، كل إنسان يجب أن يبحث عن مصلحته. - وهو يطيع دائما؟ - ضحكة هنا، ورقصة هناك، وليلة أنس؛ يتم ما أريد. وأنت ماذا تفعلين؟ - أنا زوجي ليس له إلا آمال، ولا أعرف شيئا عن أحواله إلا أنه رجل طيب ويفعل ما أريد. - وهل يحب آمال؟ - يعبدها. - وهل تضحك عليه مثل ناهد؟ - آمال؟! أبدا. - لا. ناهد تعرف كيف تضحك على أبيها؛ إن شافته وهو زعلان مكشر تهمس في أذني، وتضع الحزام حول وسطها، وأطبل أنا وترقص هي؛ فإذا تكشير أبيها ضحك وانبساط. انتظري حتى أجعلها ترقص لك. - انتظري أنت حتى أنادي زين العابدين، وبابا، ونينا، ليتفرجوا عليها. - وأنا كيف أقابلهم؟
وسكتت بهية لحظة فقالت نعيمة: أطبل لها أنا من هنا، وهي ترقص في البهو.
وتجمعت العائلة، وأمرت الأم ابنتها أن ترقص، ولم تعترض الابنة، أو تدعي الخجل. كأنما هي راقصة محترفة تنتظر موعدها لتحيي الليلة، وبدأ الرقص، وراحت ناهد تتمايل في أنوثة محترفة. وظهر العجب على وجه زين العابدين، وقطب زكي بك بعض الشيء! وارتسمت ضحكة طيبة على وجه ازدهار، وفرحة ساذجة على وجه بهية. وفجأة مالت ناهد برأسها إلى الخلف حتى كاد رأسها يلامس الأرض، وفي غمرة الدهش صفق زين العابدين تصفيقا حارا، فهو لم يتوقع أن يرى من الطفلة الصغيرة ما يراه في الكباريه، ودون وعي تقدمت آمال إلى المسرح وراحت تهز نفسها مثلما تفعل صديقتها الجديدة. وقال زكي بك دون وعي: بنت!
ولكن البنت لم تسمع، وخجل زكي بك أن يصر على منعها خشية أن يمس إحساس نعيمة صديقة ابنته، واندمجت آمال في الرقص مع ناهد، وراح زين العابدين يصفق تصفيق الخبير محترف الكباريه، وراحت امرأته وحماته تقلدانه في تحرج ما لبث أن أصبح حماسة. بينما تصاعد الدم الأحمر القاني إلى وجه زكي بك، فغمر وجهه وصعد إلى رأسه، حتى أصبحت القطعة الصلعاء التي تغافل الطربوش وتبرز للعيان من الخلف في لون الطربوش ذاته.
الفصل الثامن عشر
إن له لنغمة حلوة قريبة إلى النفس، يصبو إليها القلب في تجاوب خفاق، عذب هو، لا تملك الأذن إذا سمعته إلا أن تميل إليه في حنين، يملك على الإنسان مشاعره جميعا، فكأنما الدنيا لم تخلق إلا ليسمع الإنسان فيها الشعر. يقولون إن للخمر نشوة، فما نشوتها إذا قيست بنغمة الشعر الجميل الجرس الحلو الأرانين؟ فالقلب حين يصغي إليه وجيب، والعين دمعة حائرة تنطلق عن سعادة غامرة وهناءة تتماوج في النفس جميعا.
هكذا أحب حسين الشعر؛ فحياته منذ أحبه شعر، وليس غير الشعر. يستعير الدواوين من مظانها جميعا، ويحفظ العروض فيجيد حفظه، ويحفظ المنظومات الأزهرية جميعا في سهولة ويسر، ويحب شواهد النحو التي يضيق بها إخوانه من الأزهريين. شعر، أصبحت آفاق حياته كلها شعرا، ولكن آماله في أن يصبح شيخا للوعظ لم تبرح نفسه، فهذا أمل راسخ في بعيد نفسه ليس له عنه حول ولا منصرف ؛ آمال الصبا الباكر الحالمة، الجبة والقفطان والعمامة والنساء والرجال وهنية، وخاصة هنية، يقبلون يده، ومن يدري فقد يأتي يوم يقبلون فيه طرف الجبة، الخضراء، أو غير الخضراء، وإن كان لا بأس بالخضراء. وأقول شعرا؛ شعرا في الصوفية، في حب الله؛ فإنه لا يجوز لشيخ مثلي أن يقول في غير حب الله. ولكنه شعر جميل، يستثير مكامن الدموع، ويداعب خوافي الأشجان، ويجعل النفس تثوب إلى الإيمان من حب الله والتفاني في ذاته العليا، سبحانه. وكانت يد الشيخ اليمنى تداعب قطته وهو مستلق على السرير، تاركا لآماله الحرية أن تفعل به ما تشاء. وانتبه الشيخ إلى نفسه وإلى يده تداعب فرو القطة الناعم، ويده الأخرى تمسح دمعة عن عينه. وحيد، وحيد ليس لي إلا القطة، ألم تصدف عن صاحبة البيت؟! لكم عرضت عليك أن تنظف لك الحجرة أو تغسل لك الملابس ولكنك أبيت في إصرار، بل إنك حتى رددت الطعام الذي أرسلته إليك مع الخادمة الصغير. أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم. ولكني وحيد؛ أتصلح هذه الكلمة بداية قصيدة؟ أو تكون مثل هذه القصيدة صالحة للتصوف؟ لا بأس أن أقول في الحب العفيف أو في المشاعر الإنسانية البعيدة عن الدنس والعياذ بالله؛ فالوحدة موضوع لا بأس به. أتراك لو كتبت القصيدة تمتدح الوحدة؟ أم تراك تقول ما تجده فيها من بؤس وضياع. ما هي إلا سنوات قليلة، نعم ... نعم ... تصبر نفسك، إنما هي سنوات قلائل وتصبح وحدتك شملا مجتمعا، أنت وهنية ... نعم إنك تريدها زوجة ... هنية ... تلك البنت ... الفتاة التي تريدها أن تقبل يدك أو طرف جبتك ... نعم فإنه لا رهبانية في الإسلام. أريد أن أحترف الوعظ وأتزوج وأنجب البنين والبنات، وأعوض نفسي عن الوحدة الطويلة التي عانيتها ... طويلة ... طويلة هي الوحدة؛ القطة، الوقت المتثائب، رائحة الركود، الزمن المتجمد، الضياع في طوفان الفراغ، دوامة الصمت، لا حس إلا تسبيح القطة، لا رائحة إلا أنفاسها كأنها أنفاس الملل والضيق والضياع، لا عمل إلا الانتظار لمجهول وذكريات من الماضي أضيق بها من كثرة ما تذكرتها، وآمال في المستقبل أكاد أزهدها لهذا الزمن الطويل الذي يفصل بيني وبينها. مروعة هذه الوحدة ... لا ... لا شيء يصفها إلا نفسها؛ الوحدة، الانسلاخ عن البشرية المتماوجة حولك، البعد عن دوامة الحياة، العزلة كأنك عمل سيئ، القطة وأنا. وفجأة وجد القطة تضطرب تحت يده وتقفز فتهوي يده إلى السرير ويجتذب نظره عن الحائط الذي أطال إليه النظر يريد أن ينظر إلى مكان القطة فيجد جسم إنسان ... امرأة! إنها مفيدة زوجة صاحب البيت! وينظر إلى الباب فيجده قد أقفل وإلى القطة فيجدها متعبة عند الباب تنظر إليه وكأنما تنتظر ما هو فاعل، ويعود إلى المرأة ثم يثوب إلى نفسه، ثم ينتفض من مكانه، يريد أن يقوم وهو يقول: «أهلا.»
ذاهله دهشة خائفة، وقبل أن يقوم تدفعه يد المرأة في جرأة: نم.
ويرتمي مكانه: لماذا؟ - إلام تظل خائبا؟ - نعم؟! - يا رجل اصح من نومك. أصبحت رجلا. - نعم؟!
وأطبقت بشفتيها على شفتيه، والتهبت حواسه، وحين أخلت سبيل فمه وجدته ووجد نفسه يقول: حرام!
فأطبقت على شفتيه مرة أخرى، وحين تركته قال مرة أخرى: حرام!
ونامت المرأة إلى جانبه، وهو لا يتوقف عن القول: حرام! - حرام ... حرام ... حرام.
أقام صلاة الفجر حاضرة ثم تناول إفطاره وراح يذاكر بعض الحين ثم لبس ملابسه ومد يده ليتناول العمامة؛ فأحس يده كأنها تريد أن ترتد عن العمامة دون أن تأخذها، حتى إذا استجمع قواه اختطف العمامة إلى رأسه؛ فأحس كأنها أطواق من حديد تضغط على رأسه حتى ليكاد رأسه ينفجر. ليست هذه هي العمامة التي يعهدها، لا ولا هي التي يتيه بها عجبا. ماذا دهى العمامة، ماذا ألم بها؟!
خلع ملابسه وعاد إلى الحمام مرة أخرى وراح يسكب مزيدا من الماء على جسمه. وانهمر الماء وانهمر حتى إذا خيل إلى حسين أنه يستطيع أن يلبس عمامته دون أن يضيق بها أو تضيق هي على رأسه؛ خرج من تحت الماء وعاد إلى غرفته. وقبل أن يجفف الماء عن جسمه انفرج الباب عن مفيدة، ولم يلبس حسين العمامة، لا ، ولا ذهب إلى الأزهر في يومه هذا.
لم تعد علوم الأزهر تعنيه، إنما كان يهتم بالشعر فيها فقط، وهو منذ عرف مفيدة أشد انصرافا عن العلوم الدينية. وكان يحس أنه غير متلائم مع ملابسه، ولا مع المستقبل الذي يعد نفسه له، حتى لقد أخذ يتجه بآماله إلى آفاق أخرى غير الأفق الذي كان قد رصد له حياته.
ولكنه مع ذلك مضطر أن يظل على عهده من لبس الجبة والقفطان والعمامة، وإن كان في داخل نفسه يخلع العمامة والجبة والقفطان. لم يعد يعنيه أن يقول شعرا في الصوفية، وإنما أصبح يعنيه أن يقول شعرا في أي شعر، فهو يقرأ، ويقرأ. وطاب له العيش مع مفيدة ومع آماله العريضة أن يصبح شاعرا، ولكن هاجسا ما يلبث أن يهجس في نفسه؛ ماذا يفعل به الحاج والي، إن هو اتجه إلى الشعر ولم يتجه إلى ما أراده لنفسه من تعليم ديني؟ وماذا يمكن أن يفعل الحاج والي؟ بل ماذا يمكن أن أفعل أنا إذا غضب علي الحاج والي؟ ضائع أنا شرير، ألتمس الرزق من غير أبي، بل من رجل لا تربطني به صلة إلا الفضل منه والفقر مني، ورغبته أن يفتخر أمام الناس أنه يغدق علي عطفه، ورغبتي أنا في أن أتعلم، وإن بذلت في سبيل ذلك كرامتي وماء وجهي.
وليس لي اليوم محيد عن التعليم الذي أخذته لنفسي، وإلا فأين أولي وجهتي من العلم؟ لات حين، لا بد أن أكمل تعليمي حتى أجد ما أقتات به وليفعل بي الحاج والي بعد ذلك ما يشاء، إنما بيني وبينه أن أنال شهادة، أي شهادة. لا، لا حاجة بي أن تكون شهادة العالمية، فماذا يمكن أن تكون إن لم تكن العالمية؟ وتدخل مفيدة وينقطع حسين عن التفكير.
الفصل التاسع عشر
فرغ الحاج والي من صلاة العصر، وتربع على السجادة، وراح يتمتم على مسبحته، وكان ابنه محمد جالسا أمامه، وراح الحاج ينظر إلى ابنه، بينما كان محمد مشغولا بالمذاكرة، وأحس محمد نظرات أبيه فالتفت إليه، والتقت ابتسامتان لا معنى لهما. وأطال الأب النظر إلى ابنه، وظل الابن رانيا إلى أبيه حتى انتبه أخيرا الحاج والي ونكس رأسه إلى السجادة؛ أيحرمني حتى من متعة النظر إليه، ما ضر لو تظاهر بأنه غير منتبه إلي، وأتاح لي فرصة أطول من النظر إليه؟! راحة وهدوء يشيعان في نفسي إذا نظرت إليه لا أدري لهما سببا.
وعاد محمد إلى المذاكرة، إنه في طريقه الآن إلى البكالوريا يتحسس طريقه إلى الشباب في خطى متعثرة، يحدوها شوق عارم لمجهول من الحياة.
وعاد الأب ينظر إلى ابنه وفكر، وما كان بحاجة إلى التفكير؛ كان قد أعد له المستقبل جميعا لم يغفل منه شيئا، لا، هو لا يريد أن يشق ضمير الغيب عن مستقبل ولده، فهو يعلم هذا المستقبل ويعده في أناة وثقة واطمئنان.
وقد ترك الابن لأبيه زمام مستقبله، يخط فيه ما شاء أن يخط ليس له من اعتراض عليه، بل إنه حتى لا يفكر أن يكون ذا رأي في مستقبله. - كبرت يا محمد. - أطال الله عمرك يابا. البركة فيك. - إذا نجحت هذا العام ... - سأنجح يابا. - ستذهب إلى مصر. - إن شاء الله. - لقد اتفقنا على الكلية. - الطب. - ولكن هناك أشياء لم نتفق عليها. - أنا تحت أمرك. - امتحانك بعد أسبوع؟ - نعم. - عندما تنتهي من الامتحان نتكلم.
وقام الحاج والي عن السجادة ودلف إلى حجرة نومه فوجد الحاجة بمبة مستلقية على الفراش غير نائمة: هل أنت نائمة يا حاجة؟ - لا أبدا.
وجلس الحاج والي على الأريكة، وثنى رجلا إلى جسمه، وأخرى إلى الهواء وقال: آن لك أن تفرحي بمحمد. - ماذا؟ - ابنك يا حاجة بمبة، وهل له أم غيرك؟ - وكيف أفرح به؟ - أريد أن أزوجه قبل أن يذهب إلى مصر. - تزوجه وهو تلميذ؟ - تلميذ في الطب. - أليس صغيرا؟ - سيكون وحده في القاهرة. - بل سيكون أخوه معه.
وصمت الشيخ قليلا ثم قال: تقصدين حسين؟ - أليس أخاه؟ - حسين مشغول يا حاجة. - مشغول؟! - مشغول يا حاجة.
وصمت وانتظرت الحاجة أن يتكلم. وأحس الضباب يتصاعد أمام عينيه، وقال: عرف أني مريض فلم يهتم، حتى أن يرسل خطابا، وعرف أنك مريضة ولم يسأل. وأنا أزوره لا أنقطع عن زيارته كلما ذهبت إلى القاهرة. - كيف عرف؟ - من حمدي.
وصمت ثم عاد يقول: لقد رفض حتى أن يأتي في الإجازة، ومع ذلك ... إيه، إنما الأعمال بالنيات. - إنه ابنك يا حاج. - لا يا حاجة. لقد أردت أن يكون ابني، ولكنه هو لا يريد. النهاية ... النهاية ... - هل قطعت عنه ما ترسله إليه كل شهر؟ - وهل تعتقدين أنني أفعل مثل هذا يا حاجة؟ - لا. - المهم، أريد أن أزوج محمدا. ستكون له زوجة تعصمه من الزلل، وتخدمه، فيتفرغ للمذاكرة. - أتريدني أن أختار العروس؟ - لقد اخترتها؛ هنية بنت عبد الحميد الهراس. - كبيرة يا حاج! - وما البأس؟ حتى تعرف كيف تعامله، وأبوها رجل طيب. - أمرك يا حاج. أأكلم أمها؟ - على بركة الله.
الفصل العشرون
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة البنات، وزاط الفصل بأحاديث كثيرة احتبست مدة خمس وأربعين دقيقة، وانفجرت تريد أن تخرج جميعا طفرة واحدة، فهي أخلاط من الكلمات ومزق من الجمل. وفي وسط الفصل وقفت فتاتان في بواكير الأنوثة الصاخبة؛ فأما إحداهما فتلقي على ظهرها سبيكة من شعر أصفر صقيل ينتظم من الخلف، ولكنك إن نظرت إليه من أمام وجدته ثائرا في عربدة حبيبة كموج البحر إن كان البحر من ذهب، يموج حتى ينتهي إلى هذه الضفيرة، فكأنه بحر يصب في نهر، وقد انسدلت منه خصلات على جبهة الفتاة؛ فتذكر ساحل البحر الذي لا تدري إن كان مخضلا بالماء أو هو جاف. خصلات كخيال من الوهم لا تدري أهي منسدلة أم هي تجري في تيار الشعر الآخر متجهة إلى السبيكة. ترى الخصلة حينا، فإن أنعمت النظر لا تراها، ثم تعود فتراها، وهكذا استطاعت هذه الخصلة أن تجعل وجه آمال متجددا دائما لا تمل العين النظر إليه.
وهو مشرق كالصباح الوليد، ذو عينين فيهما جرأة، وفيهما شباب، وفيهما خضرة حلوة، يمازجها لون بني، حتى لا تكاد تدري ما هو لونها الحقيقي. فأما أنفها فأفطس بعض الشيء، يتبعه فم واسع فيه على سعته حزم وإقدام، وهي ذات قوام حلو، وإن كانت تميل إلى النحافة، أوضح ما في قوامها ثديان يشرئبان في عربدة طاغية وفي أنوثة باكرة.
وأما الفتاة الأخرى فهي نحيفة أيضا، وهي أيضا ذات أثداء عربيدة لها رقبة طويلة بعض الشيء، لكنها لا تغض من جمالها، ولها وجه أسمر يميل إلى الطول، وعينان حالمتان تبدوان ضيقتين، فإن أنعمت فيهما النظر أحسست أن صاحبتهما هي التي تضيق منهما، كأنها تحقق النظر في شيء تحبه؛ فنظرتها دائما كأنما تقول لمن تلقى إليه لكم أحبك. وهي ذات شعر أسود غير ثائر ولا هادئ أيضا، وإنما هو شعر قوي صقيل متكاثر تمسك بأطرافه ضفيرتان تأخذان سبيلهما على ظهر ناهد في غيظ أن تقيدهما الأشرطة وإن كانت من حرير.
وأتمت آمال وناهد تجميع الكتب في حقيبتيهما، وخرجتا لا تلتفت واحدة منهما إلى التلميذات الأخريات، فقد كانتا تحسان عند انتهاء اليوم الدراسي أنهما ردتا إلى العالم الخليق بهما بعيدا عن الدراسة والتلميذات والمدرسات. وكان هذا الشعور ينبت في صدر كل منهما دون اتفاق بينهما عليه، أو على الأقل دون أن يتفقا عليه بلغة الكلام، وراحتا تجتازان الردهة الطويلة التي تفصل حجرة الدراسة عن الفناء. ولم تأبه ناهد حتى أن تنظر إلى الفتاة التي اصطدمت بها فأوقعت منها حقيبتها، وإنما مالت في كبر فالتقطت الحقيبة، بينما كانت آمال قد سبقتها بخطوتين. ولم تتعمد ناهد أن تسرع من خطاها، ولا اهتمت آمال أن تتمهل، ولكن سرعان ما سارتا جنبا إلى جنب مرة أخرى. ومرت أمامهما مدرسة فوقفت الخادم الجالسة في الردهة، وفي عظمة رفعت لها آمال يدها، وكأنها ترد تحيتها. وكانت ثلة من الفتيات تسير أمامهما، وجرت قطة خلف آمال وناهد ودلفت من بين رجلي ناهد وقفزت إلى أرجل الفتيات، ونظرت ناهد إلى أسفل، ثم أرادت أن تواصل سيرها، بينما راحت الفتيات يصرخن بين خائفة ومتظاهرة بالخوف. وفي إهمال حالم عبرت ناهد وآمال ثلة الفتيات وواصلتا سيرهما إلى السلم وراحتا تنزلانه درجة درجة. وأخيرا التفتت آمال إلى ناهد: أتظنين أنهم يأتون اليوم؟ - طبعا. - وهل ... - سنرى.
واصلتا سيرهما حتى خرجتا من الباب دون أن تنظر واحدة منهما إلى البواب الكهل الذي حياهما في ابتسامة ساذجة، وسارت الفتاتان في الطريق، حتى إذا بلغتا شارعا جانبيا انحرفتا إليه، ولم يطل بهما المسير، حتى انحرفتا مرة أخرى إلى طريق آخر. وقالت آمال وكأنها فوجئت: جاءوا!
وقالت ناهد في عظمة مطمئنة: طبعا. - وماذا سنعمل؟ - سنرى.
وسارتا وعبرتا السيارة المكشوفة التي كانت واقفة على جانب الطريق وبها شابان؛ فأما السيارة فأنيقة غاية الأناقة ذات خراطيم كبيرة من المعدن تخرج من مقدمتها وتتجه إلى أسفل فتكسبها عظمة وتفردا، وقد كانت مقدمة السيارة طويلة والخراطيم كثيرة. وأما الشابان فقد كان أحدهما أسمر اللون نحيفا، والآخر يميل إلى البياض قدر ميله إلى السمن، وكان هو الذي يمسك بمقود السيارة. وقد دأب الشابان أن ينتظرا آمال وناهد منذ ثلاثة أيام في هذا الموعد كما دأبا أن يسيرا خلفهما بالسيارة حتى تلتفت إليهما ناهد في صوت هامس مثير: بيتنا هنا.
فيعود الشابان أدراجهما لينتظرا في اليوم التالي، ويسيرا ويسمعا النغمة الهامسة المثيرة ويعودا.
وسارت السيارة خلف آمال وناهد، ولكن الشاب السمين سبق الفتاتين وأوقف السيارة ونزل منها، واعترض الطريق. وهمست آمال لناهد: ماذا سنعمل؟
ولم تجب ناهد، وإنما واصلت سيرها، وأرادت أن تعبر الشاب، وأرادت آمال أن تفعل مثلها، ولكن الفتى مد ذراعيه ونظرت إليه ناهد نظرتها الساجية وقد أضافت إليها بعض عتاب وقالت في همستها المثيرة: الناس!
وقال الشاب: نحن وحدنا.
وقالت ناهد: ماذا تريد؟ - ماذا تريدين أنت؟ - أروح. - أما يكفي هذا؟ - ما هو؟ - كفى. - ماذا؟ - أتمانعين في فسحة صغيرة بهذه السيارة؟ - وماذا نقول في البيت؟ - تقولين كان عليكما واجب في المدرسة.
والتفتت ناهد إلى آمال: ما رأيك يا آمال؟
وقاطعهما الشاب: تعيش الأسماء. وحضرتك؟ - ناهد. هيه يا آمال. - كما تشائين.
وقال الشاب: هيا، هيا.
وحين بلغا السيارة نزل الشاب النحيف وهو يقول: أخيرا. أهلا وسهلا.
ودلف إلى المقعد الخلفي، وأمسك بيد آمال، فركبت إلى جانبه وجلست ناهد إلى جانب صاحب السيارة، واندفعت السيارة إلى الطريق.
الفصل الحادي والعشرون
استطاع حسين أن يكتب شعرا، ووافته الشجاعة، فراح يرسل شعره إلى المجلات فيقطع شعره طريقا واحدا ما له من عودة، ويصبح آخر عهده به اليوم الذي يطويه فيه ويغلفه.
ولم يجد من يسمع شعره إلا حمدي صديقه الوفي وترب ملعبه وأخو دراسته. وكان حمدي على صلات بطلاب آخرين في الأزهر سرعان ما اتصلت أسبابهم بحسين، ولكنه كان يخجل أن يلقي عليهم شعره حتى راح حمدي في يوم يلح عليه أمامهم أن يلقي عليهم قصيدة «الطريق الجديد»؛ وألقى حسين القصيدة.
كانت القصيدة تروي عن الحياة التي خاض حسين غمارها على يد مفيدة، وإن كان لم يذكر فيها إلا الهوى العفيف والحب الخالص.
وقال أحدهم: الله الله يا سي الشيخ!
وقال آخر: إنها آمال يا سي الشيخ، مجرد آمال.
وألح حمدي مرة أخرى أن يسمعهم قصيدته «الأمل الضائع»؛ وهي تلك التي نظمها يوم علم بزواج أخيه من هنية، ذلك اليوم البغيض الذي أرسل إليه فيه الحاج والي خطابا يدعوه أن يذهب إلى القرية ليحضر الكتاب فلم يذهب، ومكث يومين في حجرته لا يبرحها لا عمل له إلا نظم هذه القصيدة، واستقبال مفيدة كلما عن لها أن تزوره.
وألقى حسين القصيدة، وكان ذهنه مشغولا في أثناء إلقائها بالتحسر على آماله؛ آمال الإنسان وآمال الشاعر فيه. أتضاءلت الآمال حتى لم تصبح إلا هذه القصيدة؟ أتراها تضاءلت فأصبحت قصيدة أم تعاظمت فأصبحت قصيدة؟ أيهما أعظم، الآمال المنهارة أم القصيدة الرائعة؟ أهي رائعة؟! لقد قلت شيئا على كل حال، وإني أحس ما فيها من ألم - إن لم أقل شعرا - وأنا أرى أخي ينتهب آمالي، فأنا لن أقول من بعد شعرا أبدا. أكان يعرف ما بنفسي؟ ألم أكن أخفي حبي لا يدريه أحد؟ وماذا يهم إن كان يعرف أو لا يعرف، لقد حطم لي هذا كل شيء، ولا يهمني إن كان يعلم أو كان لا يعلم؛ النتيجة واحدة. وكان يلقي القصيدة والدمعة تنحدر من عينيه على خده وهو مشغول أن يزيلها، بل لعله أرادها أن تنسكب في هذه المرة، فلعلها تستطيع أن تكسبه شكل شاعر إن كان لم يستطع أن يقول شعر شاعر.
وكانت القصيدة صادقة، وكان شكل حسين ودمعته والأفكار التي تمور برأسه وهو يلقي القصيدة؛ كل هذا جعل الجو المحيط به يستجلب إعجاب أصدقائه، حتى صفق بعضهم حين انتهى منها. وقال الشيخ فهمي عبد القادر: لا بد أن تنشر هذه القصيدة.
وانتفض حسين من أحلامه، ومسح دمعته وقال: تنشر! وكيف تنشر؟! - إنني أعمل مصححا في جريدة «الورود»، وأستطيع أن أقدم هذه القصيدة لرئيس التحرير. - صحيح؟! - أي والله. - أأنت تعرف رئيس التحرير؟ - نعم. - أتستطيع أن تنشر هذه القصيدة. إنني لا أريد أجرا على نشرها ...
وقاطعه الشيخ فهمي عاجبا: أجرا! إنك ستعشينا على حسابك يوم تنشر القصيدة. يظهر أنك لا تقدر معنى نشرك قصيدة في مجلة «الورود»؛ معناها أنك ستصبح أحد شعرائها، مثلك مثل محمود أدهم وأمين كامل.
وقال حسين في لهفة: محمود أدهم! أتعرفه؟ - أراه كل يوم. - ما أسعدك! أنا معجب بشعره الغنائي كل الإعجاب. - غدا تعرفه. - يا ليت.
وقال حمدي: متى ستنشر القصيدة يا شيخ فهمي؟
وقال الشيخ فهمي في شعور عميق بالأهمية: كل آت قريب يا شيخ حمدي، كل آت قريب.
الفصل الثاني والعشرون
هنية فتاة بيضاء ناصعة البياض ذات شعر، لا هو بالأسود الداكن، ولا هو بالأصفر الفاقع، وإنما هو بين بين، تطلقه بعد أن تزوجت دون أن تلم ثائره بمنديل أو ضفيرة، وهي ليست طويلة، بل لعلها إلى القصر أقرب، سمينة بعض الشيء وإن كانت الآن سمينة غاية السمن، ذات عينين واسعتين وفم أوضح ما فيه شفتان غليظتان. تلقت تعليمها في الكتاب، فتعلمت الجهل من أوثق مصادره. فرحت يوم زواجها بمحمد غاية الفرح؛ فقد كان الزواج في ذاته هو الأمل المنشود الذي تهفو إليه أحلامها إذا أمست، وأفكارها إذا أصبحت، ولو كانت تدري كيف خطبها محمد، أو كيف خطبت لمحمد لترددت كثيرا قبل أن تفرح، وإنما قيل لها عريس، وابن الحاج والي، والقاهرة، وتصبح ستا في بيتها ففرحت، وهي تقيم الآن في بيت بالسيدة زينب هي ومحمد، ومحمد مشغول عنها في البيت بالمذاكرة وخارج البيت بأشياء كثيرة، وهي تستجدي الصداقات من الجارات، وتلتئم بينهن الصلات. ويذهب محمد إلى بيوت أصدقائه فيجد غير ما يجد في بيته؛ فالبيوت هناك نظيفة مرتبة، وبيته قذر مهوش. فيزداد ضيقا بزوجته ويكتم خبر زواجه عن زملائه، فإذا ألحوا عليه أن يزوروه يتنصل من الدعوة بشتى المعاذير، فعنوانه كزواجه سر من الأسرار لا يبيحه لأحد حتى ولا لصديقه الأوفى مجدي عبد العزيز. وكان من الطبيعي أن يعتبره الأصدقاء عزبا غير متزوج فيشركوه فيما يشترك فيه غير المتزوجين؛ فيشترك تدفعه إلى ذلك الرغبات المكبوتة في المغامرة والمبالغة في إخفاء أمر زواجه. وهكذا صحبه مجدي، إلى عزيزة فذهب مترددا أول الأمر، ثم أصبح يذهب إليها بلا صاحب ولا تردد. ويزداد محمد ضيقا بزوجته، ولكن هذا الضيق لم يمنعها أن تقول له بعد عام من زواجهما: لا بد أن أذهب إلى البلد لألد هناك.
وكان محمد يعتبر نفسه طبيبا منذ التحق بكلية الطب. - لا يمكن! كيف أكون طبيبا وتلدين في البلد؟ - وأنا لا يمكن أن أضع بعيدا عن أمي. - نرسل إلى أمك تأتي إلى هنا وتلدين في المستشفى. - لقد نذرت أن أجعل الحاجة زينب أم عوضين هي التي تولدني. - الحاجة زينب؟! هذه المرأة العجوز الراعشة اليدين. - ما لها؟ أليست هي التي جاءت بك إلى الحياة؟ - بل إنها هي التي أودت بأمي إلى الآخرة. - لن يولدني غيرها. - بل سيولدك الطبيب. - لن يكون هذا. - لن يكون إلا هذا. سترين.
وكان محمد يواجه امتحانه، ولكنه لم يجد بدا أن يسافر بامرأته إلى البلد ويعود في اليوم ذاته.
وحين انتهى محمد من الامتحان، سافر فوجد امرأته قد وضعت له ولدا، ووجد أباه قد أسماه أحمد. وحين يبدأ العام الدراسي الجديد يرجو محمد أباه أن يبقي زوجته وابنه عنده، حتى يستطيع أن يفرغ هو للمذاكرة؛ لأن الطفل سيجعل الأمر عسيرا عليه. ويحس أبوه في وخز الحديث، أنه تعجل في أمر زواجه، ويعود الضباب يتصاعد أمام عينيه، ويرحب بكنته وحفيده أن يقيما ما حلا لابنه أن يقيما.
ولا تشعر هنية من ذلك حرجا، بل إنها تحس نفسها أقرب إلى الحياة التي تحبها، فقد ضاقت بالقاهرة هذه الفترة التي أقامتها فيها، وكل هذا لم يمنع إحساسا واهنا في نفسها يلح عليها أن محمدا يريد أن يبتعد عنها، ولا تأبه كثيرا بهذا الإحساس فقد جاء أحمد، ولا مفر لمحمد من أحمد ومن أم أحمد.
الفصل الثالث والعشرون
كان حسين جالسا في حجرته حين جاءت مفيدة، وأغلقت الباب من خلفها. وبعد حين قالت: لم أعد أنا الوحيدة. - لا أفهم. - تعرف غيري.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة عن عينه وقال: أنا؟! من قال هذا؟! - مثلي لا يفوتها هذا. - أبدا والله. - لا تحلف. إنك شيخ محترم. لا تحلف. - أحلف صادقا. - والله إن حلفت على المصحف ما صدقتك. - يا شيخة اعقلي. - اعقل أنت يا شيخ. تريد أن تلف علي أنا، وقد كنت قطة مغمضة، وفتحت أنا لك عينيك. - على فكرة، أين القطة؟ - القطة! وهل تسأل عليها؟ إنها هي الأخرى أحست أنك لم تعد تهتم بها، فتركتك إلى غيرك. - من غيري؟ - لا شأن لك. - وهل هي وحدها التي تركتني إلى غيري؟ - ومن غيرها. - لعلك أنت أيضا تفكرين في تركي. - أنا لا أترك صاحبي حتى وإن كنت أعرف أنه يلعب بذيله. - هل القطة عندك؟ - أتريدني أن أسلم لك عليها؟
وأطلقت ضحكة مجلجلة حتى لم يسمعا الطرقة الأولى على الباب.
وحين خفتت الضحكة سمعا الطرقة الثانية وانحبست أنفاسهما، وأرادت مفيدة أن تقوم عن السرير فأمسك بها حسين وأبقاها حتى لا يخرج السرير حسا. وعاد الطرق إلى الباب صافيا واضحا، وعاد الصمت إلى الحجرة أشد صفاء ووضوحا، وألح الطارق مرة ثالثة، ولم يسمع جوابا، وإن كانت الضحكة الأولى ما زالت أصداؤها ترن في أذنيه، حتى إذا يئس الحاج والي قال في نفسه اترك له فرصة أن يكون منفردا، ونزل السلم والضباب يغطي درجات السلم جميعا. ألهذا كان يربيه؟!
ألهذا يقدم له المال والعون والأبوة؟ إن قطع عنه المال أضاع مستقبله وإن قدمه ... أيقدم له المال ليزني؟ ولكنه يذاكر، إنه يقدم له المال ليصبح صاحب شهادة، لا، لن يرده الزنى عن المذاكرة. أهذا هو الشيخ الذي سيصبح واعظا؟ ويتزايد الضباب أمام عينيه.
حين عاد الشيخ والي إلى حسين، اجتهد ألا يبين أنه فهم شيئا أو سمع، وقبل حسين يده ومسح الدمعة المنحدرة، وعاوده ذلك الشعور بالعجز والاحتقار لنفسه أمام الحاج والي. وقال الحاج: كيف حالك يا حسين؟ - البركة فيك يابا الحاج. الحمد لله. - قال لي عبد الحميد أفندي مسعود ناظر المدرسة الإلزامية أنك تنشر شعرا في مجلة الورود. - نعم يابا الحاج. - أنا أحب الشعر، وأحب الشعراء، وأنا متأكد أن هذا لا يشغلك عن دروسك. - لا أبدا. - أنت في ثانوية الأزهر هذا العام، أليس كذلك؟ - نعم يابا الحاج. إني أمتحن الآن. - طبعا المذاكرة على قدم وساق. - طبعا يابا الحاج. - أتريد شيئا؟ - البركة فيك. - أراك لا تسأل عن الحاجة. أنسيتها يا حسين؟ - لا قدر الله يابا الحاج! كيف هي؟ - تسلم عليك. - أبقاها الله. يابا الحاج أنا كنت سأسافر إليك. - كذا. إنك منذ سنين لم تزر البلد. - لا والله كنت مسافرا إليك؛ لأراك وأرى الحاجة. - ولماذا أيضا؟ - أريد أن أكلمك في موضوع. - خيرا؟ - أريد أن أدخل كلية دار العلوم.
ونظر الحاج والي إليه مليا، وصمت، وخالجته فكرة ألحت عليه حتى قال: وتظل بالجبة والقفطان؟ - والله أريد أن ... - مفهوم. على كل حال يسرني أن تصبح معلما؛ إن هذا أقرب إلى ما كنت أريده لك، فالواعظ في رأيي لا يفيد قدر ما يفيد المعلم. المستمع إلى الواعظ يعلم أن وظيفته هي أن يقول هذا الكلام؛ فالاستجابة له لا تكون عادة كاملة، أما المعلم فإنه مع تعليمه للمادة التي يقدمها، يعلم الأخلاق بطريقة غير مباشرة، والأخلاق هي كل شيء يا أستاذ حسين، أليس كذلك؟
وأحس حسين النغمة التي غافلت الحاج، وتسربت إلى الحديث وقال: طبعا.
وأحس صوته منحبسا فتنحنح وعاد يقول: طبعا. - بلدنا يحتاج إلى الأخلاق أولا ثم إلى العلم، بهما نستطيع أن نخرج العدو، ونكون وطنا عظيما. ولكن الأخلاق أولا يا أستاذ حسين، الأخلاق أولا.
ومسح حسين الدمعة المنحدرة، وعاد يتنحنح وهو يقول: طبعا ... طبعا. - على بركة الله يا بني. وهذا مبلغ يكفي لإحضار حلتين جديدتين ما دمت تريد ذلك. هيه، أتركك أنا. - ولماذا العجلة يابا الحاج؟ - أريد أن أزور محمدا. إنك لا تزور أخاك يا حسين؟ - أخاف أن أشغله؛ فكلية الطب صعبة يابا الحاج. - زره يا حسين، فلن يكون لك إلا هو، ولن يكون له إلا أنت. - أنا آسف يابا الحاج.
وخرج الحاج، وودعه حسين إلى باب السلم، وانتظر حتى غاب عن ناظريه، ثم راح ينظر إلى الجنيهات العشرة التي تركها له، ثم طواها ووضعها في جيبه في عناية بالغة، وانحسر عنه شعور العجز والاحتقار لنفسه.
يوم انتهى الامتحان اتفق حسين مع أمين كامل الشاعر الذي ينشر معه في مجلة الورود أن يقيما حفلا خاصا لهما يدفعان تكاليفه مناصفة، يشتريان فيه زجاجة من الكونياك، ويدعوان فتاة يعرفها أمين لا تتقاضى إلا قدرا ضئيلا من المال. وكان حسين في دخيلة نفسه يريد أن يحتفل أيضا بأول يوم يلبس فيه البدلة، ولم يجد أنسب من زجاجة كونياك وفتاة أمين احتفالا بهذه المناسبة. وقبل أن يحل موعد الحفلة راح حسين يلبس بدلته الجديدة في عناية بالغة، فلبس القميص والبنطلون، فلم يلق مشكلات تعترضه، حتى إذا أراد أن يعقد رباط الرقبة أشكل عليه الأمر، وراح يربط ويفك، أو يربط فتتعقد عليه الأمور، حتى إذا يئس وضع الرباط على السرير، وجلس ينتظر مفيدة لعلها ترى حلا لهذه المشكلة. ولكن طال غيابها، فأراد أن يقوم إلى موعده دون رباط الرقبة، ولكنه تذكر ما سيلاقيه من سخرية أمين فجلس في موضعه، وقد صمم ألا يذهب إن لم ينعقد رباط الرقبة. وفجأة دخلت إليه مفيدة، فعاجلها قبل أن تفكر في موضوع آخر، فراحت تربط له الرباط، كما تفعل لابنها الصغير، وأكمل هو ملبسه، وانفتل من الباب لم يشكرها إلا بقبلة عاجلة.
وحين بلغ شقة أمين وجده جالسا في بهو منزله وحيدا وأمامه الزجاجة لم تفتح. وسأله: وأين الشغل؟ - في الداخل.
ولم يتمهل، بل اندفع إلى الحجرة الوحيدة في الشقة، وكان الوقت في الغروب، والشبابيك مقفلة، ولكنه رأى كتلة آدمية جالسة على الأريكة، فارتمى بجانبها، ومد فمه يقبل، فاستقبله شعر خشن كثيف، وطالعه صوت رجل: من أنت؟
ولم ينزعج حسين وإنما مسح دمعته، وقد أدرك أن الفتاة مع آخر دعاه أمين، فقال دون أن يفكر: أنا حسين شحاتة، ومن أنت؟
وقال الشاب على الناحية الأخرى من الفتاة: أهلا، أنا محمود أدهم.
فقال حسين وهو يحتضن مكانا خاليا من جسم الفتاة: أهلا فرصة سعيدة. من سنين وأنا أريد التعرف بك. - ها نحن أولاء تعارفنا.
وحين خرج الثلاثة من الحجرة، وجد حسين أن الحفل لم يكن مقصورا على أربعتهم، فقد جاء أغلب كتاب المجلة، وأعلن أمين أن الحفل مقام لمناسبة إزاحة الجبة عن جثة حسين شحاته. وكان الشعراء منهم قد أعدوا قصائد بهذه المناسبة، وارتجل حسين قصيدة يفخم فيها من شأن نفسه، ويهون من أقدار الناس جميعا إلا هو. وجرت الكأس والضحكات.
الفصل الرابع والعشرون
لم يعد زين العابدين بك يستطيع أن يسهر كثيرا، فكان كلما جاء إلى القاهرة مدعيا زيارة ابنته المقيمة عند جدها يذهب إلى صديقته الجديدة نعمات هشيكة بعد الظهيرة فيجلس إليها في بيتها، ثم يصحبها بعد ذلك في عربة حنطور تجوب بهما الجزيرة، حتى إذا اقترب المساء سارت بهما العربة إلى الكباريه فيتركها هناك وينصرف هو إلى بيته أو مقهاه.
لم تكن نعمات هشيكة جميلة، لا ولا كانت فتاة في مقتبل العمر، إنما هي بقية من ماض تخلف في الكباريه متروكة لمثل زين العابدين ليقنع بها نفسه أنه ما زال الفتى الذي كانه منذ نيف وعشرين عاما.
وهكذا كانت نعمات قانعة بنصيبها من زين العابدين، وقد كانت امرأة تحسن الحديث وتستطيع أن تعيد إلى زين العابدين ماضيه صورا من الحديث بعد أن عجز أن يستحضره فتوة وشبابا؛ فهي تذكره بغزواته مع العراقية وسنية شخلع وأنيسة ولعة وغيرهن، وتقص - ومن القصص ما هو خيال - كيف كن يتشاجرن ليحظين بصحبته، ويقول زين العابدين في نفسه لعل هذا كان حقا، ويحاول أن يقنع نفسه أن لعلها لا تكذب، فإذا عجزت نفسه أن تقتنع راح يلتذ هذا الكذب، ويحاول أن يقربه من الصدق فيهمس إلى نفسه ليس؛ من الضروري أن يكون كذبا لأنه لم يقع، فإنه كان خليقا أن يحصل على أية حال. ومن أدراني؟ فنعمات أدرى بدخائلهن وما كان يدور بينهن من حروب وقتال.
ولم تكن نعمات تريد من هذا الحديث إلا إدخال السرور إلى نفسه، فهي تعلم أنه يهدي إليها أقصى ما تستطيع ثروته أن تحتمل، وأنه يقدم لها كل ما يطيق أن يقدم، وما كانت تريد أن تشق عليه في شيء حتى لا ينقطع ما بينهما، فقد كانت على ثقة أن صلتها بزين العابدين هي خاتمة المطاف في حياتها الطويلة العريضة في دنيا الكباريه، فكانت تدري أنها تنهي حياتها العملية بزين العابدين، فهي متشبثة به تشبثها بالحياة، فهي منذ نيف وأربعين عاما لا تعرف لنفسها حياة إلا الكباريه والصديق.
وقد أصبحت في الكباريه مشرفة إدارية، فهي لا تحس أنها أنثى إلا مع زين العابدين، وإحساسها أنها أنثى هو كل شيء بالنسبة إليها، كل شيء؛ فهي تكاد تثق أن حياتها تنتهي بانتهاء الصلة بينها وبين زين العابدين.
أما زين العابدين فقد كان يدري أنه لا يملك أن يتعرف بخير من نعمات هشيكة؛ فأما شبابه فقد ولى وهو يدري، وأما ماله فهو لا يكفي إلا ما يستر أمره، وما دام قد أصبح بلا شباب ولا مال، فليس في العالم خير من نعمات ترد إليه الشباب في قصصها، وفيما تمثله من ماضيه وماضيها، وتبقي عليه المال بعدم مبالغتها فيما تطلب، وعدم ضيقها بما يعطى.
كان زين العابدين يصبغ شعره، وكان يحس أنه بصبغته هذه يصبغ عجزه، وهذا التيبس الذي ألم بأطرافه، وهذه الغضون التي تكاثرت حول عينيه وفي وجهه، بل وفي جسمه كله، بل أنه كان يحس أنه يصبغ الأيام الشاحبة من الشيخوخة؛ أياما في بياض الثلج وجموده كان يجري عليها الصبغة وينظر إلى المرآة ويبتسم. وحسبه عند نظره إلى المرآة ابتسامة، لا، لم يعد يطمع في هذا الفرح العربيد الذي كان يتواثب في نفسه كلما نظر إلى المرآة، لا ولم يعد يريد هذا الاطمئنان غير المبالي الذي كان يتميع في نفسه عندما ينظر إلى المرآة، وهو بطبيعة الحال لم يعد يفكر أن يشعر بهذا الزهو الذي كان يثب إلى قلبه من المرآة.
بحسبه من المرآة ابتسامة. وأحيانا كانت الصبغة ينصل لونها؛ فكان زين العابدين يرى الشعرات البيض المتفلتة من الصبغة تلتقي بالشعرات السود، فكان يفرح من هذا اللقاء؛ فحبيب إلى نفسه أن يلتقي الشباب بالشيخوخة، ولو كان هذا اللقاء في ألوان، وإن كان هذا اللقاء مصطبغا تكلف فيه هو الشباب بفرشاة وصبغة، وفرضت فيه الشيخوخة نفسها كسنة من سنن الطبيعة وفترة من فتراتها. ولكنه كان يفرح على أية حال ويداعبه أمل، مجرد أمل أن تهب إليه من شبابه نسمات، أو نسمة من حين إلى حين، مهما يتباعد ما بين هذا الحين وذلك الحين.
كانت القاهرة تودع الشتاء، وكانت النسمات تهب بعيد الظهيرة حانية هينة المسرى، كأنها تصل بين شتاء بارد تودعه القاهرة، وصيف قائظ تستعد لاستقباله، أو كأنها بشائر من الربيع أرسلها كما يسبق الحراس المواكب. واستقل زين العابدين عربة ذات حصانين يبدو بوضوح أن أحدهما ذكر والأخرى أنثى، كما يبدو بوضوح أنهما تزاملا في هذه المهنة فترة طويلة من الزمان، فبينهما هذه الألفة المفروضة بين زميلين قديمين، فلو أطاق كلاهما لعانق كل منهما ذراع الآخر في حنان الآدميين الذين تقدمت بهم السن، ولم يعودوا ينتظرون من المستقبل إلا أن يستعيدوا معا ذكريات من الماضي الطويل. وكان سائق العربة رجلا في فتوة الشباب عريضا ضخما لا يعبأ كثيرا بما بين الحصانين من ألفة وتواد، بل إنه حتى لا يرعى حرمة الذكر أمام أنثاه ولا رقة القلب في معاملة الأنثى؛ فهو يسوط كليهما في حركة يأتيها عفوا، كأنها جزء من واجبه، وبشكل يقطع أنه لا يكن كثير رحمة لزميليه في العمل، ولولاهما ما كان له عمل. من اليسير أن يدرك من يراه أنه اشتراهما منذ قريب، وأنه قد دفع مقابلهما ثمنا لا يستحقانه، وهما على ما هما عليه من تقدم في السن. لم يكن صاحب العربة رحيما على الحيوان الأبكم فيهما، كما لم يكن رحيما على كبر السن الذي يمثلانه، وإنما كان يثأر للعرق الكثير الذي بذله في سبيلهما.
وكأنما كان الحصانان يرجوان أن يجدا في شيخوختهما شيئا من الراحة، أو شيئا من التوقير على الأقل، فحين لم يجداه من صاحبهما الجديد، راحا يفرضانه فرضا بمشية وانية غير عاجلة ولا مبالية بهذه السياط التي تنهمر عليهما، وكأنما يريدان أن يقولا؛ لكم عرفنا أمثال هذه السياط ولكنك في آخر المطاف مضطر أن تقدم إلينا أوفر الطعام وأحسن العناية، وإلا حرمناك رزقك جميعا، فللشيخوخة تجربتها وفائدتها في كثير من الأحايين.
وهكذا سارت العربة في هدوء على الرغم من صخب السائق. وزين العابدين يحاول ما وسعه الجهد أن يملأ فراغ المقعد في العربة بجسمه، ولكن هيهات له أن يستطيع؛ فقد ضمر جسمه مع الأيام، ألم تضمر أيامه أيضا؟ ولكنه لا يريد أن يصدق الضمور في جسمه أو في أيامه، فهو يتوسط المقعد ويضع يدا على يمين، ويدا على يسار، ويفرج ما بين رجليه قدر ما يستطيع، واضعا عصاه على الكرسي الصغير المقابل له، ينظر إلى الذين يمر بهم يكاد يسألهم ماذا ترون؟ ألا ترون شبابا؟ وهذه الوردة الحمراء ألا تصنع لي شبابا؟ وهذا الشعر الفاحم، فما الشباب إن لم يكن كذلك. وتمر به الأعين فتبتسم حينا، أو تعبره كظاهرة تعودت أن تراها، فما تحس فيها جديدا.
ووقفت العربة عند بيت متهرئ القسمات حاول أن ينتحر فعاجله صاحبه بالإسعاف، ونصب له مساند من الخشب تأخذ الطريق على من يريد السير على الطوار، حتى ليخيل لرائيه أنه عجوز مال على ذراعه فنام واستقر به الحال في نومته ، أو لعله يذكر آخرين بواحد من أهل الكهف أصابته نوبة الإغفاء، وهو مستند على ذراع له. ولكنه كان عند زين العابدين بيت نعمات، وكان عند نعمات المأوى الذي تلجأ إليه في زمان يولي وشيخوخة تسارع إليها الخطو.
طلب زين العابدين من السائق أن ينتظر، فأمر السائق الخيل بدوره ألا تتحرك، وألحق أمره بسباب كثير، والتفت إليه الحصان الذكر والغمامة على عينيه، ثم التفت إلى زميلته ومسح شفتيه بلسانه ثم استكان. ونزل زين العابدين من العربة ونفض الشارع بعينيه، كأنه مقدم على مغامرة، حتى إذا اطمأن إلى خلو الطريق؛ دلف إلى الباب المختفي بين الأعمدة التي تسند البيت.
ولم يطل غياب زين العابدين، وعادت معه نعمات، وقد ارتدت فوق ملابسها معطفا جديدا اشتراه لها زين العابدين منذ قريب.
كان وجه نعمات مختفيا وراء كثير، ولكن لم يكن الحجاب من الأشياء التي كان يحتجب وراءها الوجه.
وسارت العربة، وقبل أن ينطق زين العابدين التفت إليه السائق نصف التفاتة وقال: الجزيرة؟
وقال زين العابدين في مرح: تعجبني.
واتجهت العربة إلى الجزيرة. وقال زين العابدين: أنت اليوم قمر.
وقالت نعمات، وقد ابتسمت عن أربع أسنان ذهبية، وعن تجاعيد كثيرة حول فمها: اليوم فقط يا عمر؟ - وكل يوم وشرفك. - أين كان هذا؟ كنت لا تسأل عنا أيام سنية شخلع. الله يرحم أيامها. - أنت التي كنت منصرفة عنا. - وهل كنا نتوصل؟ - أيام. - ألا تعجبك أيامنا هذه؟ - حلوة، والنبي حلوة يا نعنع. - أراك تتحسر على سنية. - أنت أنسيتيني الكل. - يا ترى صحيح؟ - والنبي صحيح ... صحيح والنبي. - كنت أيام سنية ...
وراحت تعيد على مسمعيه أيام مجده، وهو يزداد انتفاخا بجانبها وينظر إلى المارة يكاد يستوقفهم ليسمعوا ما يسمع، وقد تسري في داخله في لحظة عابرة همسة تقول كذب ما تسمع، ولكن سرعان ما يكتم هذه الهمسة، فإن الحقيقة كئيبة عندما يحلو الخيال. وعلى كل حال ما أقرب الواقع من الخيال، وعلى كل حال هو مبتهج يكاد يطير من البهجة؛ نسي الشيخوخة والصبغة، ونسي الحقيقة لم يعد يذكرها، لم تعد الحقيقة عنده إلا هذا الذي ترويه نعمات، ووقائع تشركه هي فيها في جرأة ودربة ومران، وهو لم يفعلها، أو لا يذكر أنه فعلها، بل إنه يكاد يذكر أنه فعلها، بل إنه واثق أنه فعلها وأنها الحقيقة هي الحقيقة. وتسير العربة.
ويصل موكب الذكريات الأساطير إلى الجزيرة، تمر العربة بعربات أخرى، وتمر بسيارات، والذكريات تنهمر وزين العابدين نشوة هيهات أن تبلغها نشوة الخمر مهما تتزايد. وينظر زين العابدين إلى العربات والسيارات، لو استطاع أن يصرخ فيمن بها: أتعرفون أنتم الحب والشباب؟ تعالوا فانظروا كيف كنت، بل فانظروا كيف أنا إلى الآن. ويزداد إنعاما في العربات والسيارات الواقفة يرميها بنظرات محايدة ليس فيها معنى. وتسير العربة.
ولكن العربة تبلغ سيارة مكشوفة، ويقول زين العابدين في نفسه؛ مكشوفة! أليس لها غطاء؟! وينعم النظر ثم ينتفض انتفاضة مجنونة، ويعود ينظر؛ إنها هي. ويقول: بنتي؟!
ويخيل إليه أنه قالها في نفسه لم تنطق بها شفتاه، وما درى أنه صرخ وراح السائق يحث الخيل على العدو، وهي تأبى إلا أن تسير. وأمسكت نعمات بملابسه ذاهلة لا تدري ماذا تفعل أو تقول. ويقول زين العابدين ذاهلا: قف! قف يا أوسطى.
وتقول نعمات: ماذا تريد أن تفعل؟
ويرد السؤال الرجل إلى بعض العقل، وإن كان جسمه قد أصبح مرجلا يغلي، ويلتفت إلى نعمات فتطالعها منه نظرة ذاهلة حائرة كسيرة مخذولة. وتعيد سؤالها: ماذا تريد أن تفعل؟
ويقول في حيرته الذاهلة: خذي.
ويخرج من جيبه جنيها: خذي هذا وامشي أنت، نعم اتركي العربة.
وتنزل نعمات إلى الطريق تبحث عن عربة، وينظر زين العابدين إلى السائق يقول له في استجداء آمر: انتظر أنت.
ويقصد إلى آمال جالسة مع شاب في المقعد الخلفي من سيارة مكشوفة غير عابئ بناهد في السيارة نفسها. وفي ثورة مكبوتة، يضع يده على ذراع بنته التي كانت مسترخية على جانب السيارة. وكأنما وجدت ثورته انفجارتها في تشبثها بذراع ابنته، ولم يقل شيئا إلا: قومي.
وانتفضت آمال. - بابا!
وقال مرة أخرى في نفس الثورة: قومي.
وفي لحظة كان ركاب السيارة منتثرين حولها، وكانت آمال مجرجرة إلى العربة المنتظرة وسارت العربة.
وقال زين العابدين للسائق: إلى محطة مصر.
وانتظر القطار ساعة ونصف الساعة لم يقل كلمة واحدة، بل حتى لم يعد يفكر، إنما كل ما سيطر على ذهنه أنه يريد أن يذهب إلى بيته في قرية الحمدية، ولا شيء آخر.
وحين حل الموعد انتزع ابنته الصامتة بدموعها التي تنثال على وجنتيها وركبا، وسار القطار.
الفصل الخامس والعشرون
لم تكن عزيزة جميلة، وإنما هي؛ شفتان غليظتان، وشعر أرغم على الاستواء إرغاما، فهو مفتول في نهايته بأسطوانة تبقي عليه استواء. وهي ذات عينين ضيقتين، وآمال أشد ضيقا من عينها. لها قصة تكررت حتى لتكاد تصبح من كثرة تكرارها كأعمال الحياة اليومية التي لا تستحق الرواية؛ كانت خادمة، وكان في البيت مراهق، وحين اضطرتها الحقيقة المتخفية في أحشائها أن تعلنها ذهبت إلى المستشفى ودفع أبو المراهق النفقات في كرم، ثم أعطاها أيضا عشرين جنيها ثمن سكوتها وشرفها في بيعة واحدة. وكان لا بد لها أن تقبل؛ فإن البضاعة التي باعتها لا يقبل شراءها إلا هذا الذي اشتراها، فهو محتكر للصنف. وكانت لن تجد الجنيهات العشرين على أية حال؛ فقبلت ما عرض عليها. وقبل أن تخرج من المستشفى كانت إحدى الممرضات قد عرفتها بسيدة أخرى تتاجر، وبضاعتها اللواتي بعن شرفهن كعزيزة، وانضمت عزيزة إلى المعروضات في بيت الحاجة نبوية. وكانت الحاجة نبوية قاسية في معاملتها لبضائعها، ولكنها - والحق يقال - كانت تسافر في كل عام إلى الحجاز تلقي بأحمالها من ذنوب التجارة والقسوة جميعا، ثم تعود إلى القاهرة بقلب متهيئ لكل ما تعودت أن تمارسه من أعمال.
وهكذا لم تصبر عزيزة طويلا على الحاجة، فسرعان ما أقامت تجارة حرة وحدها، وبعد أن همست إلى زبائنها بمكانها الجديد؛ جمعت ملابسها، إلى هذا البيت الذي تستقبل فيه زبائنها القدامى ومن استجد منهم بعد ذلك، غير مغالية في الثمن؛ فقد كانت تدري أنها ليست جميلة.
ولم تكن تجارتها رائجة، فقليل من كان يعرفها، وقليل هذا الذي يدفعه من يعرفونها، فهم في أغلب الأحيان طلبة في الجامعة ممن لا يحبون أن يلتقوا بتلاميذ الثانوي في الأماكن العامة.
وكان محمد في يومه هذا ضيقا أشد الضيق بحياته جميعا؛ فهو متزوج وغير متزوج في وقت واحد، وهو على كرهه لزوجته يحس أنه بحاجة إلى إنسان. لا لم تكن الوحدة، إنما هو يحس أنه ضائع غير وحيد. نعم إنه ضائع، هذا هو التعبير الذي أحس بصدقه حين نبت كالهمس في نفسه.
ضائع لا يدري لماذا. لم يكن وهو بجانب أبيه يحس الضياع، ولم يكن وهو بجانب زوجته يحس الضياع، وإن أحس الضيق لها والكره، ولكنه لم يكن يحس الضياع، أما الآن فأصدقاؤه كثيرون، ولكن ليس بينهم من يستطيع أن يجد فيه أباه أو هنية.
هل أريد أبي حقا؟ ألم أكن أضيق بتسلطه وفرضه رغباته دون أن تكون لي فرصة أن أقول ما أريد؟ فإذا أنا آخر الأمر لا أرى إلا ما يرى، بل ولا مستقبل إلا ما يرسم؛ فها أنا ذا وحدي، أخط مصير نفسي بيدي، أي مصير. لماذا لا أموت؟ ماذا تخسر الدنيا إذا مت أنا؟ أنا في كلية الطب، ولن يستطيع طالب في كلية الطب أن يصبح مهندسا أو محاميا. زوجتي ممن أراد هو، وجاء ابني يؤكد هذا الزواج ويثبته إن كان فيه مجال لشك، فماذا بقي لي من مصيري لأخطه؟
وقادته قدماه إلى عزيزة، واستقبلته استقبال زبون قديم. وقال لها بعد حين: أريد أن أعرض عليك موضوعا. - تفضل. - هل أنت مشغولة كل أيام الأسبوع؟ - على حسب. - طيب، هل أنت مشغولة طول اليوم؟ - على حسب أيضا. - اسمعي ... - هه. - أريد ... - قل ماذا تريد؟ - لا ... لا شيء ... - اسمع يا سي محمد، نحن نسمع الكثير؛ الزبائن لا تجد مكانا أحسن من عندنا لإفراغ كل ما عندهم. قل، أنت مثل أخي، إن لم أستطع أن أريحك، فأنا لا أستحق أن تعرفني. - لا، لا شيء والله إلا أنني لا أدري لماذا أحب أن أجلس إليك. - صحيح؟! - أحب أن أجلس إليك ... - أهلا وسهلا . - أنت الوحيدة التي أستريح إليها. أنا اخترتك أنت من بين كل اللواتي عرفتهن، أنا الذي اخترتك بمزاجي أنا، بكيفي، فأنا أريد ... - قل يا سي محمد، قل ولا تخجل. - أحب أن أجيء إليك كلما أمكنني ذلك، وأجلس إليك مجرد جلوس، ولن أعطلك. - يا أخي تفضل. أهلا وسهلا. - مسألة الفلوس ...؟ - لا، لا تتكلم فيها يا سي محمد، لا تتكلم فيها. يا سلام!
ونظرت إليه نظرة طويلة؛ فتى في ريق الشباب، طويل القامة، أسمر الوجه، ذو عينين كالمرآة يعكسان ما يسقط عليهما من نور، ولكنها لا يشعان من داخلهما نورا، يبدو عليه أنه كجهاز للاستقبال اللا سلكي، ولكنه لا يصلح للإرسال. يضحك إن سمع ما يضحك، ويحزن إن سمع ما يحزن، ولكنه لا يثير الضحك أو الحزن في أحد؛ ولهذا كان أصحابه يحبونه.
وقالت عزيزة: أنا أيضا يا سي محمد لا أجد راحة عند أحد كما أجدها عندك. أحس وأنت تسمعني أنك فعلا مهتم بما أقول، الآخرون لا يسمعون ما أقول ... - لماذا لم تطلبي مني أن أجيء للجلوس إليك؟ - خشيت أن تظنني أريدك أن تأتي لمجرد دفع الفلوس.
أنت متزوج يا سي محمد؟
وقص عليها محمد كل ما كان يكتمه عن الأصدقاء الأقربين.
الفصل السادس والعشرون
كان زين العابدين يجلس في غرفة الاستقبال بمنزله وحوله رهط من أعيان القرية بينهم الحاج والي، وكان القلق يسيطر عليهم جميعا، فقد كان الراديو يذيع أنباء الحرب في ثورة محمومة امتدت من أوروبا فشملت العالم أجمع بلغت قرية الحميدية. وزين العابدين، والحاج والي، وهذا الرهط الطيب الذي لا يتصل له سبب بالحرب إلا أن ينزعج، ويسيطر عليه هذا القلق الآخذ الوبيل؛ النفوس منهم هالعة لا تدري ما المصير في الغد، والأيام المقبلة كلها مغلفة بدخان قاتم من نيران الحرب. كل فرد منهم ينظر إلى غده في ذعر، تختلف بينهم أسباب الذعر ولكنهم جميعا متفقون على الذعر والقلق والترقب للغد الكالح المغبر المستخفي في أطواء الدخان، وأصوات الطلقات، وآهات الصرعى، وضجيج الجنون، وصراخ المطامع، تغشيها الدعاية، ويهتك عنها الدمار أستار الخداع.
الراديو يكاد ينفجر من هول ما يذيع، وزين العابدين والحاج والي والرهط الآخرون صامتون لا يتحرك لسانهم بكلمة، وإن ثارت في نفوسهم؛ لا ليستمعوا فحسب، وإنما لأنهم وجدوا من الصمت ستارا يخفون وراءه القلق الراعد بين جنوبهم. وانتهى المذيع من أخباره، وشمل الصمت الكون أجمعه حولهم لحظات، وظلوا هم في دوامة من صمتهم. وما لبث الراديو أن عاد إلى الحديث مرة أخرى: «تسمعون الآن أغنية الأمل الضائع شعر حسين شحاته غناء نجوى مصطفى». ولم يكن الحاج والي يتوقع أن يسمع اسم ربيبه مذاعا وشعره غناء؛ فأحس كأن الدنيا حوله تهنئه. وسرعان ما تصاعد الضباب أمام عينيه، ثم راح ينجاب طبقة بعد طبقة حتى لم يبق إلا غلالة رقيقة من الضباب. وجاءت الأنغام وواكبت الأبيات اللحن، ونظر الحاج والي إلى زين العابدين والآخرين فوجدهم ناظرين إليه، وعلى فم كل منهم ابتسامة كأنه يهنئه بها. وأنعم النظر إلى الوجوه وقد راحت موجة الذعر تنحسر عنها شيئا فشيئا فهم ينعمون بما يسمعون، بل أن بعضهم يمصمص شفتيه، وآخر منهم يقول «الله، الله»! وزين العابدين يهز رأسه، وأصبحت الغرفة ألحانا، وانحسر عن هذه الحجرة من العالم قلق الحرب المروع؛ فالنفوس ترف مع النغم، والقلوب تتفتح للآمال، وتسترجع الذكريات، والدنيا - هنا في هذه الحجرة - دنيا ودود فيها حب وفيها متعة وفيها سرور. وعلى الأرض، من هذه الحجرة السلام.
وانتهت الأغنية، وراح الحاج والي ينظر إلى زين العابدين ينتظر منه أن يقول كلمة. وقالها زين العابدين آخر الأمر: الشعر هائل يا حاج والي.
وتصاعدت بعد هذه الجملة أحاديث الإعجاب من الجالسين، وأحس الحاج والي نفسه الصدئة تنقع في السعادة، ودار الحديث بعد ذلك عن الأغنية والشعر. وفكر الحاج والي - وهو في دوامة الفرح - كيف أصبح الحديث مشرقا وبهيجا، بعد أن كانت ريح الحرب القاتلة هي التي تسيطر عليهم؟ وأحس الحاج والي أنه يريد أن يصبح وحيدا، فهو يستأذن ويقوم إلى الطريق المنفرد من القرية، إلى الليل، ليل القرية الذي يشيع الوحدة في النفس بصورة يعجز عنها في أي مكان آخر. ومشى الحاج والي لا يسمع إلا أنفاس الليل، حتى لقد نفت مسامعه عنه صرير الصراصير، ونقيق الضفادع، ونباح الكلاب، فليس ثمة من حوله إلا أنفاس الليل في القرية، وتلك الرائحة التي تنتشر في أمسيات الريف؛ رائحة الأعشاب الخضراء وهي تحترق، اختلطت برائحة الندى وقد استقر على أوراق الشجر. وكان الحاج والي وهو سائر يشق سحابات من الضباب لا يدري؛ أهي التي تعود أن تتراكم أمام عينيه؟ أم أنها سحابات آتية من العشب الأخضر المحترق؟
نعم إن حسينا لم يعد يسأل عنه، وهو منذ حصل على مرتب من وظيفته قطع ما بينهما قطيعة توشك أن تكون كاملة. نعم إن حسينا عرف مرات كثيرة بمرض الحاجة بمبة، وبمرض الحاج والي، فلم يكلف نفسه عناء خطاب يرسله! ونعم إنه لا يزور حتى أخاه في القاهرة. ولكن مهما يقطع حسين ما بينه وبين الحاج، بل ما بينه وبين أخيه؛ فإنه لا يستطيع أن ينكر أن الحاج والي هو الذي جعل منه هذا الإنسان الذي يذيع الراديو اسمه وتغني له المطربات. لا مهرب له من هذا، وإن جهد هو أن يهرب من ماضيه.
وماذا كنت أريد منه؟ فليأخذ طريقه في الحياة موفق الخطوات، فلا والله ما تمنيت عنده شيئا، ولا السؤال ... لا ولا السؤال! يكفيني منه أن يسعد الناس مثلما أسعد اليوم زين العابدين بك ومن كان معه، ومثلما أسعدني، نعم لقد أسعدني.
ومضى الحاج والي يشق الضباب ورائحة العشب الأخضر المحترق المختلطة برائحة الندى تلاحقه، غير ملتفت ولا عابئ بصرير الصراصير، ولا بنقيق الضفادع، أو نباح الكلاب.
الفصل السابع والعشرون
أنهى محمد دراسته في كلية الطب وعين في قصر العيني، وانقطعت صلته نهائيا بعزيزة دون أن يكون له أو لها يد في هذه القطيعة؛ فقد تدخل بينهما هتلر من ألمانيا وتشرشل من إنجلترا فقطعا الصلة بينهما. توافد الجنود الإنجليز وأصبحت عزيزة شخصية مرموقة في دنيا الليل، وتفرغت لهؤلاء الزبائن تجيب طلباتهم، وتخلت عن أصدقائها القدامى مرغمة على ذلك إرغاما.
وعاد محمد إلى نفسه وحيدا، رفيقته الجديدة سماعة يعلقها على رقبته فرح بها يوما، وأسبوعا، وشهرا، ثم أحس بها طوقا حول عنقه يحيط به يوشك أن يخنقه، وعاد ضائعا. فرح بنفسه وهو يمر بالمرضى كإله صغير يشخص المرض ويصف الدواء، يوما وأسبوعا وشهرا، ثم اكتملت الصورة في ذهنه؛ إنه بهيم يدور في ساقية، والسماعة حول عنقه هي النير على رقبة البهيم. نعم هو بهيم، بهيم منذ أدرك الحياة؛ سحبه أبوه من أنفه حتى تخرج في كلية الطب، واليوم يسحبه المرض والمرضى ممسكين بسماعته، يوجهونه بها أنى يشاءون.
أريد أن أفعل أنا شيئا، أريد أنا أن أفعل شيئا. وكأنما وجد ضالته في زوجته. تذكر فجأة أنها ما زالت زوجته. لماذا؟
ولم يكلفه الأمر كثيرا؛ ورقة الزواج في يده، فما هي إلا جلسة عند المأذون الذي تكفل بإحضار الشهود حتى كانت زوجته طالقا. ووضع ورقة الطلاق في خطاب إلى أبيه، وبات ليلته غير متزوج. فكر لحظة في ابنه أحمد، وسرعان ما همست له نفسه: «البركة في الحاجة.»
وانقضى الزواج.
وأحس أنه صنع شيئا، ولكنه ما لبث أن عاد إلى السماعة والمرض والمرضى، وما لبث أن عاد ضائعا.
سمع حسين بطلاق أخيه، فقد كانت أنباء البلدة تأتيه بانتظام من صديقه حمدي. وعاود حسين الأمل القديم أن يتزوج هنية.
لماذا؟ لا أدري. كيف هي الآن؟ لا أدري.
أمل قديم طالما كنت أهفو إلى تحقيقه. كان الزواج بها مكانة أتطلع إليها، وكنت أتطلع أيضا إلى أن أصبح شيخا ذا عمامة وقور، وأنا اليوم أحاول أن أنسى العمامة ما وسعني الجهد، وكنت أرجو أن تأتي هنية هذه بالذات فتقبل طرف الجبة، وتسألني في شئون دينها؟ فأجيب. فأين أنا الآن من هذا جميعه؟ ولكني أريد أن أتزوجها.
قد يقبل أبوها، ولكن ماذا يقول الحاج والي؟
وطلب حسين إجازة من المدرسة، وقصد إلى قريته التي فارقها منذ سنوات بعيدة، ونزل إليها، غريبا نزل، لم يعرفه أحد ولم يعرف هو أحدا. الفلاحون وجوههم ليست غريبة عنه وهي غريبة، يعرف السمات ولا يعرف الأسماء، ويعرف الرائحة التي تهب عليه مختلطة بأنفاس القرية، فتعود إلى ذهنه ذكريات يدفعها عن نفسه، باذلا غاية الجهد ألا تعود هذه الذكريات. لا، لا يريد، لا يريد إلا هنية، ثم يعود إلى القاهرة هناك حيث يضيع في الزحام الكبير، ويكتب شعرا ويصادق من يجد عندهم نفعا حتى ينتهي هذا النفع فتنتهي الصداقة.
مشى حسين في القرية يرد عن نفسه الذكريات التي تتواكب عليه من أشجارها، من تلالها، من طرقها، من بيوتها، بل من سمائها، ومن أنفاسها، ومن رائحة أعشابها وزرعها.
لم يقصد إلى بيت الحاج والي، لا ولا إلى بيت جده، وإنما قصد إلى بيت أبي هنية؛ فما كان يريد إلا هنية.
قال لأبيها: أتذكرني يا عم عبد الحميد؟
وتفرس فيه عبد الحميد لحظات قليلة ثم قال: الشيخ حسين؟ كيف أنت يا شيخ حسين؟ - الله يطيل عمرك. عرفتني بعد هذه السنين الطويلة، وبعد أن غيرت بالعمامة الطربوش. - كيف أنساك يا شيخ حسين، وأنت من بلدي. كيف حالك؟ - الحمد لله. - نسمع أغانيك في الراديو، كلامك حلو والله يا شيخ حسين. - الله يكرمك يا عم عبد الحميد ...
وصاح عبد الحميد من مكانه: القهوة يا هنية.
وقال حسين في تظاهر باللعثمة: أسفت والله لما حصل من أخي! - كل شيء قسمة ونصيب يا سي الشيخ. - يا ترى يا عم عبد الحميد لو أردت أن أصلح؟ - حد الله بيننا وبين محمد يا شيخ حسين. هو الآن دكتور ونفسه كبرت علينا. يا ابني أرأيت عمرك زوجا لا يقيم مع زوجته؟ ثم لا يكتفي بهذا، بل يطلقها أيضا ولا يفكر في ابنه الصغير. لا ... لا يا شيخ حسين، حد الله بيننا وبين محمد ... - أنت لم تفهم قصدي يا عم عبد الحميد. - خيرا؟ - أنا أريد أن أخطب هنية لنفسي. أنا مدرس ومرتبي ... - انتظر يا ابني ... أنت تريد أن تتزوج طليقة أخيك؟ - ما أحله الله لا يحرمه العبد يا عم عبد الحميد.
وسكت عبد الحميد مطرقا، وأمعن التفكير ثم قال: هل سألت الحاج والي يا شيخ حسين؟
وارتج على حسين؛ فما كان ينتظر هذا السؤال. ثم قال متلعثما: أردت أن أسألك أولا ... - لا يا ابني؛ فهنية لا تزال أم ابنهم. والحاج والي تأثر بما فعله ابنه تأثرا كبيرا، وهو يبر البنية حتى اليوم ويأتي لزيارتها دائما ويسأل عنها. وأنت على كل حال يا شيخ حسين ابنه، لا ينكر المعروف إلا ابن الحرام، وانت ابنه يا شيخ حسين ...
وقال حسين مسرعا: طبعا، طبعا يا عم عبد الحميد ... وهل أستطيع الإنكار؟! - اسأله أولا يا ابني ... اسأله أولا ...
ودخلت هنية حاملة القهوة، ونظر إليها حسين؛ إنها ليست هي ... لا، ولا هي التي تصور أنه سيراها. ولكنه مع ذلك مصمم على الزواج بها. لماذا؟
لا يدري لماذا؟
حين دخل حسين إلى البيت الذي ربي فيه؛ استقبله البيت برائحة الفرن التي لم تتغير، وبرائحة الذكريات التي ما زالت تطالعه منذ نزل إلى القرية. إلا أن رائحتها هنا في هذا البيت كانت أشد عنفا، كأنما هذا البيت هو المصدر الذي توزعت عنه الذكريات إلى القرية جميعا.
أحس حسين الخوف يسيطر على قلبه لا يدري لماذا، ومد يده إلى عينه اليسرى يمسح الدمعة المنحدرة، وتوقف في صحن الدار يقلب النظر يحاول أن يستعيد بعض شجاعته، ولكن الخوف كان يهاجمه في قسوة. خوف لا يدري مأتاه ولا أسبابه، وإنما هو رعشة في القلب، وبرودة تتمشى في أوصاله. وتنحنح وتردد صدى نحنحته في البيت جميعا ثم عاد يمسح دمعة لم تكن موجودة وراح يدير عينيه مرة أخرى حواليه، ثم خطا خطواته الأولى، وصعد السلالم، ثقيل الخطوات حتى إذا بلغ منتهاها وجد الحاج والي جالسا على أريكته، لم يغيرها، ولم يغير جلسته عليها، كأنه كان جالسا ينتظره عائدا من الكتاب، أو كأنه ظل جالسا هذه السنوات الطوال لم يتحرك من مكانه. وغير بعيد منه على الأرض جلست الحاجة بمبة تلاعب طفلا أدرك من فوره أنه أحمد بن محمد، وإن خيل إليه للحظة عابرة أنه محمد نفسه. ونظر الحاج والي ونظرت الحاجة بمبة؛ ودون أن يشعرا ارتسمت ابتسامة مرحبة على شفاههما وهمهما بألفاظ لم يكن حسين يحتاج إلى كثير ذكاء ليدرك أنه ترحيب يجمع إلى الدهشة الصدق والحب، وقبل حسين يد الحاج والي، ثم ركع على الأرض يقبل يد الحاجة وسحبت يدها لتربت ظهره في حنان. وراح الكلام يسيل من شفتيها: أوحشتني يا حسين. أسمع كلامك في الراديو، وأقول لنفسي والله ربيت ونفعت. وأشتاق إليك.
وأسعفت الدمعة من العين اليسرى حسينا فلم يمسحها، وأحس أنه يحتاج إليها؛ فقد كانت عيناه عاصيتين عن دمعة تأثر.
ولم يزد الحاج والي عن قوله: كيف أنت يا حسين؟ - الحمد لله يابا الحاج.
ثم التفت الحاج إلى زوجته: جهزي العشاء لحسين يا حاجة. - من عيني.
وقامت وأمسكت أحمد من يده وخرجا. ولم يكن يخفى على الحاج أن حسينا يريد أمرا، ولكنه آثر ألا يسأله، وإنما راح يسأله عن عامة شأنه، فينقطع الحديث بإجابات تقليدية: كيف حال المدرسة؟ - الحمد لله.
ويهوم الصمت. - أما تزال في بيتك؟ - لا، نقلت إلى شقة.
ويهوم الصمت. - أغانيك حلوة يا حسين. - الله يبقيك يابا الحاج. - اشتريت راديو خصيصا لأسمع أغانيك. - الله يبقيك يابا الحاج.
ويهوم الصمت.
ويفكر الحاج فيما يمكن أن يكون سبب مجيء حسين، ويفكر حسين فيما يمكن أن يكون فاتحة الحديث الذي يريد أن يسوقه، ويرتفع صراخ أحمد لحظة، ثم يظللهما الصمت مرة أخرى، فتعلو أصوات الضفادع والصراصير والكلاب، ويتنحنح حسين ثم يقول في صوت متسلخ: أبا الحاج ... - نعم يا ابني.
ويرفع حسين يده إلى عينه الدامعة: أريد أن أعرض عليك أمرا. - قل يا حسين. - أريد أن أتزوج. - على بركة الله يا ابني. ومن العروس؟
وفي سرعة يقول حسين: هنية!
ويعتدل الحاج في جلسته، ويلقي إلى حسين نظرة داهشة: من؟! - هنية. - امرأة أخيك؟! - طليقته. - لماذا؟! - أريد أن أصلح ما فعله أخي؟! - هل تحبها؟
وصمت حسين لحظة وتنحنح وقال: ماذا؟ - هل تحبها؟ - نعم. - هل تحبها حقيقة يا حسين؟ - نعم. - هل تحب أحدا يا حسين؟! هل تحب أحدا على الإطلاق؟! ودهش حسين من السؤال. فاستغلق عليه الحديث هنيهة، ثم قال وكأنه لم يسمع: نعم. - أقول، هل تحب أحدا على الإطلاق؟ هل تعرف الحب؟ نعم أنت شاعر، تقول الشعر في الحب والغرام والهيام، ولكن هل تعرف الحب يا حسين؟ - يابا الحاج أنا مقصر، ولكن معروفك ومعروف الحاجة لا ينسى ... - أنا يا ابني لا أسأل عن المعروف، إنما أسأل عن الحب. هل تعرف الحب يا حسين؟
وتنبه حسين إلى نفسه، وكأنما جعله السؤال يحس أنه إنسان ناقص، ينقصه الحب. وأطرق ثم قال: إذا أمرت ألا أتزوج هنية؛ فأنا طوع أمرك.
وصمت الحاج وواصل حسين حديثه: إنها شابة، وستتزوج، وأنا أولى من الغريب.
وأطرق الحاج بعض الوقت ثم قال في لهجة من يريد أن ينهي موضوعا: اعمل ما تريد يا بني، اعمل ما تريد. - كثر خيرك يابا الحاج.
ثم أطرق دون أن يحس فرحا ولا حزنا، ومسح الدمعة عن عينه ولاذ بالصمت. وارتفع صوت الضفادع والصراصير والكلاب.
الفصل الثامن والعشرون
أنهى محمد فترة التمرين بقصر العيني، وعين طبيبا بالمستشفى الأميري بالزقازيق.
واستقبل أمر تعيينه في غير رضا ولا فرح؛ فما كان يريد أن يكون قريبا إلى يد أبيه التي خطت له مستقبله، وما كان يريد أن يكون في البلدة التي شهدته طفلا وفتى. إنه يريد أن يبتعد، يبتعد ليشق لنفسه ما بقي من طريق، يريد أن يختار أصدقاءه، ويختار حياته كما يشتهي. أي موظف أحمق في وزارة الصحة اختار له هذا المكان؟ لا شك أنه موظف يبحث عن أيسر الأمور. سأل من أين محمد فقيل من الشرقية؟ فقال يذهب إلى الزقازيق. وماذا يستطيع محمد أن يقول بعد هذا، فليرم به إلى الزقازيق، وليصارع الضياع مرة أخرى، فإن استطاع أن يتخلص منه فليرتم في شبكة أبيه، والطريق الذي يريد أن يخطه له دائما.
زاره أبوه، واستقبله بكل ترحاب. إنه يحبه، لكنه يريد أن يخط لنفسه طريق نفسه. لعله كان يختار الطب لو ترك له أن يختار، ولكنه هو لم يختر، فهو يحس أنه مسوق في طريق لا يملك فيه لنفسه مصيرا. أما كان يكفي أباه أن ينجبه، ويختار له اسما، ويختار له التعليم منهجا، كان لا بد أيضا لأبيه أن يختار له الطب؟ ويختار له الزوجة؟ ويختار له البيت الذي يعيش فيه؟ نعم إنه طلق زوجته، ولكنه مع ذلك يحس أن الخيوط التي تربط حياته خيوط غريبة عليه ليس بينه وبينها آصرة من تعرف، هي غريبة عن نفسه لا جذور لها في أنحاء كيانه، خيوط تمتد إليه من خارجه لم تنبت من داخله ولا هي نمت معه، لا ولا واكبت حياته، لا يستطيع أن يتذكر متى فكر في كلية الطب، ولا لماذا اختارها، ولم يختر غيرها، لا ولا يستطيع أن يقول في نفسه أنه قارن بين كلية الطب وغيرها من الكليات. لقد وجد نفسه فيها كما وجد اسمه محمدا، وكما وجد زوجته هنية، طريق دفعته إليه يد أبيه، فما استطاع عنه حولا ولا منصرفا. واليوم يحل موظف الصحة الأحمق محل أبيه فيختار له الزقازيق لا يستشيره ولا يحاول أن يتعرف ميله. القلق يساوره منذ جاء إلى الزقازيق، الخوف. لماذا؟ إنه لا يدري! أهو يخشى أن تتلقفه يد أبيه مرة أخرى؟ أم هو يخشى أن يغلبه الضياع على أمره؟! أم يخشى نفسه، فقد طالما ساورته الخشية من نفسه، قلق لا يفارق نفسه. فإن خلا لنفسه بعد ساعات العمل فتكت به نيران القلق، فهو يلجأ إلى الأصدقاء من الزملاء وهم لا يقيمون في بيت أحد منهم وإنما يقصدون إلى النادي، وهم هناك لا يقصرون تسليتهم على الحديث، وإنما يلجئون من ملالتهم إلى لعب البوكر؛ لعبة سهلة التعليم، سريعة الكسب، سريعة الخسارة، ولم يستغرق محمد كثير وقت ليصبح من اللاعبين المداومين. وقد كان أجرأ لاعب على المائدة، فما كان يخاف شيئا إلا الخوف الذي يحس به وهو بعيد عن اللعب. كان عندما يلعب ينسى كل شيء ولا يعاوده القلق إلا وهو بعيد عن اللعب. وبعد، فماذا كان يمكن أن يخيفه غير ذلك؟ إن قصر المرتب استطاع أن يطلب من أبيه عونا، ولن يرد أبوه له طلبا؛ فهو من الناحية المالية آمن على نفسه، ويستغرق في اللعب. ويعرف أبوه أنه إذا أراده يجده في النادي، ويعرف أيضا أنه يقامر. وتعود سحب الضباب تتكاثف أمام عينيه؛ لا حول ولا قوة إلا بالله! أربي اثنين فيصبح الأول زانيا لا يحفل بالمعروف الذي قدمته له حتى ليتزوج طليقة ابني وأخيه، ويصبح الثاني مقامرا؟! ويحتسب الله في أولاده، ويعاوده السؤال القديم: لماذا نصر على أن نأتي بالأولاد؟! وتتجمد السحابة من الضباب أمام عينيه والسؤال في ذهنه. ويسعى إليه وهو على المصطبة أمام بيته جاره الحاج مهدي: يا حاج أتستطيع أن تطلب لنا الدكتور محمد؟ - نعم يا حاج مهدي. فيم تريده؟ - زوجة ابني عثمان متعسرة في الولادة. - أطلبه من تليفون زين العابدين بك.
ويقوم الحاج والي إلى التليفون ويطلب ابنه وتخف كثافة الضباب أمام عينيه ويهتز السؤال في ذهنه بعض الشيء.
الفصل التاسع والعشرون
منذ قدمت آمال إلى قرية الحمدية وهي ملقاة في البيت تطالعها من أبيها نظرات حانقة حائرة عاتية! ومن أمها صوت دائم التقريع تتلون نغمته أبدا. وهي بين نظرات أبيها وصوت أمها في أتون من العذاب، لا تجد ما تفعله إلا أن تجلس وحيدة حتى تأتي إلى أمها زائرات وتأمن أن أمها لن تستطيع أن تسيء إليها في حضرتهن، فهي تأخذ مكانها معهن، وتستمع إلى الحديث، وتشارك فيه. ولم يمض كثير وقت حتى أصبح لها هي زائرات في مثل سنها، وأصبحت حياتها هي أولئك الزائرات وأحاديثهن. ولم تكن أحاديثهن إلا عن أزواجهن، والخوافي الخفية من أسرارهن يسعدن بأن يلقينها على مسمعي آمال؛ فما تجدي الأسرار والأحاديث أن تبدد وحدتها، أو تؤنس وحشتها.
وكانت زائرات آمال ينقلن إليها فيما ينقلن أحاديث القرية وأحداثها، وهي هذه الأيام أكثر ترديدا لاسم الدكتور محمد؛ فالقرية تتحدث عن مهارته في الطب والولادة، والقرية تسوق الأمثلة على مهارته، حقيقة حينا، مختلقة أحيانا. والأحاديث تتواكب وتبلغ مسمعي آمال فيما يبلغها من أحاديث، وتزمع في نفسها أمرا.
فهي تصحو ذات صباح، وتجد أنها مريضة، وتريد أن يراها الدكتور محمد الذي تلهج القرية بمهارته، ويدفع حب الاستطلاع أمها أن تستدعي محمدا الذي حملته طفلا رضيعا لترى كيف أصبح بعد أن صار طبيبا، ولا يرى الأب مانعا؛ ويأتي الدكتور محمد.
ويدخل محمد إلى الحجرة، وتلتقي عيون افترقت منذ سنوات طويلة؛ عيون كانت طفلة لاهية، وأصبحت اليوم شابة مرنت على النظر والنقد. كان محمد مشوقا إلى هذا اللقاء هو أيضا، كان يريد أن يرى هذه القطعة من طفولته كيف أصبحت حين مسها الشباب.
واستمرت النظرة لحظات، وبدا أن كلا من الاثنين رضي عن صاحبه.
وابتسمت الأم، وصحا محمد فجأة يبدأ الكشف، وحين أتمه التفت إلى الأم في أدب: أتسمحين حضرتك بملعقة لأرى اللوز؟ - حاضر.
وخرجت الأم، وقالت آمال في صوت لا يخلو من السخرية: ما للوز وللمغص يا دكتور؟! - أنا لا أرى بك شيئا. - إذن؟ - لا أدري. لعلك كنت تريدين أن تكشفي أنت علي!
وضحكت وقالت: وأنت؟ ألم تكن تريد ذلك؟ - نريد أن نرى طفولتنا. - وكيف وجدت طفولتك؟ - هي بخير عندك، ولكني لا أظنها بخير عندي ... - لماذا؟ أنت دكتور قد الدنيا ...
وضحك ساخرا وهو يقول: يتهيألك. أتصدقين كلام الفلاحين؟ - لقد عرفت مرضي. - لأنه نفس مرضي.
وتدخل الأم بالملعقة، ويلقي الدكتور نظرة أخيرة على الحنجرة، ولا يلبث أن يقول في لهجة جادة: برد بسيط سأكتب لها دواء. وأمر غدا إن شاء الله.
وتعرف آمال أنها وقعت من نفسه حيث تريد أن تقع، ويخرج محمد. ولا يمر كثير وقت حتى يذهب محمد إلى أبيه: يابا أنا أريد أن أخطب ... - من؟ - آمال بنت زين العابدين بك. - من؟! - ماذا يابا؟ هل في هذا بأس؟! - يا ابني طلعت في العالي؟! - أنا يابا طبيب ولي اسمي، ولي مركزي ... - أخاف أن يرفض. إنك تزوجت مرة ولك ولد، وهم غيرنا يا محمد! - لا تخف.
ويعود الضباب إلى الحاج والي. أكان لا بد لي أن ألاقي الرفض والهزء أيضا؟ ما لنا نحن ولزين العابدين بك!
ولا يسوف الحاج والي كثيرا، بل ينتهز فرصة يخلو فيها إلى زين العابدين بك ويتقدم بمطلبه. ويدهش الحاج والي؛ لقد رحب به الرجل، رحب به ترحيبا أخافه أكثر مما أفرحه. ولا يمضي كثير وقت حتى يتم الزواج، ولكن الضباب لا يبارح الحاج والي كلما فكر في شأن هذا الزواج.
الفصل الثلاثون
أتلك هي الحياة التي كنت أصبو إليها؟ أهذا هو الفن الذي عشت عمري أهفو أن أكون واحدا من أهله؟ أعيش في رحابه، وأقضي عمري في ظل منه؟ أهذا هو الشعر الذي كنت أريد أن أنظمه؟ ماذا أصبحت؟ وكيف جنحت من الحياة إلى هذا الجانب المظلم فيها؟ هذا الجانب القاتم الداكن. من أنا؟ خباز! يجهز ما يطلب منه، بلا فن، ولا روح، ولا نوازع. أين هذه التهويمات التي كانت تتراقص في داخلي تريد أن تصبح كلاما وتلح، فإذا هي متفجرة كالينبوع الأصيل دون حفر أو بحث، أو تنقيب! ماذا أصبحت؟ يا حسين نريد أغنية يكون معناها كذا وكيت! يا حسين نريد قصيدة، تقول فيها كذا وكيت! هم الذين يقولون وأنا أتلقف أوامرهم لأجعل منها نظما لا أجد فيه شيئا من نفسي، وإنما هي نفوسهم وما يطلبون. وهل أستطيع أن أقول لا؟! وكيف أعيش؟ منذ تزوجت هنية وهي لا تترك عاما دون أن تقدم إلي فما جديدا يريد أن يعيش. ويعيش، من أعصابي يعيش، يقتات من دمي، ومن كرامة فني المهدرة. لم يكن هذا ما أريد؛ كنت أحب الشعر أقوله وأجد فيه نفسي ومشاعري أنا، لا مطالب المطربين والمطربات. فأين مني هذا الشعر الآن؟ أصبحت كآلة الكتابة أكتب ما يراد لي أن يكتب، بفارق واحد؛ أني أخرجه نظما أمقته ... أمقته. أين هذا من الفن؟ ولكن هل يدري هؤلاء الأطفال في صرختهم الجائعة بماذا يقتاتون؟ بأشلاء فني الذي ودعته بلا أمل في اللقاء. ومن أين لي اللقاء؟ ماذا أصبحت؟ مدرس وموظف أغاني لدى المطربين والمطربات. وتتسامع مصر بما أقول، ولكن ما أبغض ما أقول إلى نفسي؛ هذا ليس أنا. كلما امتدح أحد بعض مقطوعاتي أحسست كأنه يمتدح غريما لي أكرهه وأعيش، من جثة آمالي، أعيش من دماء أحلامي أعيش. وهنية وأولادها يأكلون، لا يدرون ماذا يأكلون.
وانهمرت دمعة على خد حسين وتحسسها بيده، ثم نظر إلى مائها على يده، وأنعم النظر وكأنما يريد أن يعرف من أي منبع انهمرت هذه الدمعة؛ أهي الدمعة التي ألفها تنهمر دون أن يدعو إليها داع؟ أم هي صادرة عن نفسه هذه التي يمزقها الألم وتأكلها النيران؟!
ودق جرس التليفون في البيت؛ فقد أرغمه عمله أن يكون في بيته تليفون وأمسك السماعة: نعم.
وجاءه الصوت آمرا أكثر منه راجيا؛ ولم يجد ما يقول إلا: حاضر.
وسأله الصوت فأجاب: بعد أسبوع.
وجاء الصوت مرة أخرى فأجابه: حاضر ... أقل من أسبوع ... نعمت فهمت ما تريد ...
نعم سيكون كما تريد ... نعم ... حاضر ... نعم ... حاضر.
ووضع السماعة وظل يردد؛ نعم، حاضر، نعم، حاضر.
الفصل الحادي والثلاثون
أقام محمد وعروسه بالزقازيق واستطاع أن يخلو لها في أول حياتهما الزوجية بضع أسابيع، ولكن نداء القمار كان عاليا يطن في أذنيه طنينا متصل الجرس، حتى لم يستطع أن يغفله؛ فعاد طريقه إلى النادي ومائدة القمار، وعادت آمال إلى الوحدة.
إلا أنها في هذه المرة كانت في مدينة، فما أسرع ما ارتبطت أواصر الصداقة بينها وبين جاراتها الساكنات بالطابق الأعلى، والأخريات المقيمات بالبيوت المقابلة أو الملاصقة. ولكن ما أقل ما تغني هذه الصداقات؛ فللزيارات أوقات تنتهي عندها، وهي أشد ما تكون حاجة إلى الصديقة في الأوقات التي لا تصلح للزيارة؛ هناك في أعماق الليل حين لا تسمع إلا الصمت، ولا ترى إلا الظلام، في هذه الأوقات التي تمتد بغير نهاية تريد هي الصديقة، تريد من ينسيها أنها تزوجت لمجرد الزواج، تريد من يجعلها لا تذكر أنها تزوجت لأنها برمت بالسجن في القرية، تريد زوجها الذي تزوجته عن غير حب ليقول لها إنه يحبها، أو ليقول لها أي شيء، ولينتشلها من هذه الوحدة التي عانت منها الكثير. هناك في القرية لا يحيط بها إلا غضب أبيها، وتزمت أمها.
لم تكن الجارات إذن يعنين شيئا بالنسبة إليها ، فقد كانت الفلاحات بالقرية يجئنها في نفس المواعيد التي تتبادل فيها الزيارات مع جاراتها، لم يزد عليها في بيت زوجها إلا أنها أصبحت تزور معه القاهرة من حين إلى حين، وكانت تستطيع هناك أن تزور صديقتها ناهد التي تزوجت هي الأخرى، وإن كانت ما زالت تسير حياتها كما كانت تسيرها وهي بعد فتاة في المدرسة. كانت هذه الزيارات إلى القاهرة هي المتعة الوحيدة التي أحست آمال بها. ولم تكن قد أعدت نفسها لهذا الذي تلاقيه، فحين لقيته امتلأت نفسها تمردا وحنقا، حتى محمد ابن الحاج والي ... يتركها ليلعب القمار! وينفرد بها الليل! لماذا تزوجته إذن؟! نعم إنها تدري أنها تزوجته لأنها لم تتوقع أن تجد غيره، ولكن أيكون هذا مصيرها معه؟! وتنظر إلى المرآة وتزداد سخطا على محمد وعلى أبيها، بل إنها تسخط أيضا على هذا اليوم الذي عثر فيه أبوها عليها بالسيارة الواقفة بالجزيرة.
كانت آمال حاملا في طفلها الأول، وكان موعد وضعها قد اقترب، ولكن محمدا لم يعبأ بهذا؛ فإن يكن هذا القادم هو الطفل الأول لآمال فما كان الأول لمحمد. فهو لا يزيد حين يترك البيت عن أن يسألها في سرعة: أتحسين ألما؟
وتقول: لا.
فيأخذ سمته إلى السلم. طريقه إلى المائدة التي أصبح لا يطيق العيش دونها.
وقد كانت في هذا اليوم، تحس الآلام ولكنها وجدت نفسها تقول لا، في غير مبالاة، وكأنما خيل إليها بهذا تعاقبه على إهماله لها. ونزل محمد وازدادت آلام الوضع، وحاولت أن تتصل بزوجها بالتليفون ولكنها وجدته معطلا، فأرسلت خادمتها إلى عدلية هانم التي تقطن بالطابق الأعلى، وسرعان ما نزلت عدلية ثم نادت زوجها أن يحاول الاتصال بمحمد في النادي، وأن يحضر سيارة أجرة لنقلهم إلى المستشفى. وكانت السيارة الأجرة أسرع من محمد. وركبت عدلية وآمال ووقف زوج عدلية المهندس عزت زكي على باب السيارة حائرا ماذا يفعل إلى أن صاحت به زوجته: اركب يا عزت! فلا يمكن أن نذهب إلى المستشفى بلا رجل معنا.
وركب عزت في حيرة لا يدري ماذا يفعل وتحركت السيارة، وحين جاء محمد أخبرته الخادمة أن سيدتها سبقتهم إلى المستشفى مع عدلية هانم وزوجها.
وحين وصل محمد إلى المستشفى كانت آمال ما تزال تضع بينما كان عزت جالسا في بهو المستشفى حائرا ما يزال. وشكر محمد عزت على اهتمامه، ولم يجد عزت مناصا أن ينتظر. ولبس محمد ملابس الأطباء، وأراد أن يدخل إلى زوجته، ولكنه قبل أن يدلف إلى الباب كانت الولادة قد تمت، وجاءت ابنته الأولى إلى الحياة دون أن يكون له نصيب في معاونة أمها. ولم تنس آمال هذه الوحدة التي عانتها وهي تواجه الأمومة لأول مرة في حياتها. فابتدرت زوجها وهي تراه بعد الولادة مباشرة: ألم تنته البرتيتة إلا الآن؟! كثر خيرك يا محمد، كثر خيرك يا دكتور محمد.
وأطرق محمد ولم يحاول أن يجيب، بل ذهب إلى السرير الصغير الذي يحمل وليدته وظل يرنو إليها بنظرات فارغة فيها خزي وفيها خجل، وإن كان يحاول أن يجعل فيها شيئا من الأبوة.
حين عادت آمال إلى البيت وجدت في ابنتها بعض العزاء عن الوحدة، ولكن ما زال الليل يفترسها منتهزا فرصة وحدتها. وتجلس إلى جوار ابنتها سوسن، ولكن الوحدة لا تزول مع سوسن.
وفي يوم كانت جالسة في الشرفة، ورأت عزت زكي قادما. ولم تدر لماذا سارعت إلى باب بيتها ففتحته، وانتظرت حتى صعد عزت فوجدها واقفة بالباب، وفكر أن يحييها ويأخذ طريقه إلى بيته، ولكنها سارعت تقول: لم أشكرك يا عزت بك على اهتمامك بي. - يا ستي العفو. أنا لم أفعل إلا الواجب. - لا أنت فعلت أكثر من الواجب. كثر خيرك. تفضل. - شكرا. - تفضل اشرب شيئا. - شكرا. ولكني لمحت عدلية في الشرفة، ولعلها تنتظرني. - أهكذا؟ - مرة أخرى إن شاء الله. - أهلا وسهلا. - عن إذنك. - تفضل.
الفصل الثاني والثلاثون
صلى الحاج والي الفجر حاضرا وقصد إلى الأريكة في بهو بيته، وجلس إلى جانب الحاجة بمبة التي كانت تعد له القهوة، وصمت قليلا ثم قال: ما رأيك يا حاجة بمبة؟
وصمتت الحاجة بمبة وراحت تحرك القهوة على النار، ثم سكبت بعضا منها في فنجان وأعادتها إلى النار مرة أخرى، ولم تقل شيئا، وأدرك الحاج والي أنها لا تريد أن تجيب فقال لها: أليس أبو الولد أولى به؟
وسكتت الحاجة بمبة مرة أخرى، واستطرد الحاج والي: وهو أيضا صغير لا يتحمل الذهاب إلى البندر كل يوم في البرد الشديد، وأنت عارفة برد الصباح المبكر.
وقالت الحاجة بمبة: ألم يكن أبوه يذهب في البرد؟! ماذا جرى له؟!
وأطرق الحاج والي قليلا ثم قال: لم يكن لمحمد أحد في البندر، أستطيع أن أتركه عنده. - وهل تعتقد أن أحمد له أحد الآن؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله! أليس أبوه هذا؟
وقالت الحاجة في صوت غاضب: لا ... لا يا حاج ليس أباه. أنت أبوه وأنا أمه. هل رأيته يسأل عنه؟ إنه حتى الآن لا يعلم إن كان الموعد قد جاء ليذهب إلى مدرسة البندر أم لا. لا ... إنه ليس أباه؟ - على مهلك يا حاجة، إنه يعتمد علي وعليك. - أنا لا أقول يشتري له شيئا، أنا أقول يسأل. اسمع يا حاج، أنا لا أطمئن أن يذهب أحمد ليسكن مع محمد. - إنه أبوه. - أعلم ولكن محمدا ليس عطوفا، وأخشى أيضا على الولد من امرأة أبيه. - وأنت حين ربيت محمدا ألم تكوني امرأة أبيه؟! - أنا يا حاج والي أحببت ابنك بل وأحببت ابن ضرتي، أنا ... - نعم أنت خطأ في الطبيعة، أنت استثناء، أنت لا مثيل لك يا حاجة. - أخشى على أحمد من امرأة أبيه. - اسمعي يا حاجة، سأوفق بين رأيك ورأيي؛ أنا سأذهب الآن إلى بيت محمد، وأكلم آمال دون علم زوجها، وأرى إن كانت ترحب بأحمد أم لا؟ وسأفهم من طريقة إجابتها حقيقة شعورها، ونتصرف بناء على هذا. - قد ترحب ثم تسيء إلى الولد حين يقيم عندها. - يا ستي لماذا نقدر البلاء قبل وقوعه؟ وعلى كل حال إننا نستطيع دائما أن نسترد أحمد، أليس كذلك؟
وسكتت الحاجة، وسكت الحاج، وأخذ يشرب قهوته في هدوء وقالت: هل ستأخذ أحمد معك؟ - لماذا؟ - لا لزوم. - أبدا. إنني سأسألها فقط.
وعاد الصمت إلى الزوجين لا يقطعه إلا رشفات الحاج والي للقهوة.
كان الوقت ضحى حين بلغ الحاج والي منزل ابنه، هكذا كان واثقا أنه لن يجد محمدا بالمنزل، وصعد الحاج والي درجات السلم في هدوء بطيء حتى بلغ الشقة التي يسكن فيها محمد، ومد يده يريد أن يدق الجرس ولكنه فوجئ بزجاج الباب المصنفر يكشف له عن منظر أخذ له ...
رأى الحاج والي شبحين يتعانقان أحدهما لرجل وآخر لامرأة شعرها مرسل على كتفيها، وطالت القبلة. والحاج واقف ذاهلا عن نفسه ويده نصف ممتدة إلى الجرس، وعيناه شاخصتان إلى ما يرى، وفمه مفتوح من الدهشة! لماذا لم يذهب محمد إلى المستشفى حتى الآن؟ وانتهت القبلة وفتح الباب، ولم يكن محمد في بيته! كان عزت زكي، ولم يكن الحاج والي يعرفه، ولم يكن هو يعرف الحاج والي! وقالت آمال في لعثمة: أهلا عم الحاج ...
وظل الحاج صامتا، وأدرك عزت الموقف الذي يواجهه فنظر قليلا إلى الحاج، ثم وثب يعدو السلم في سرعة مجنونة.
وقالت آمال: تفضل ...
ودون أن يجيب الحاج والي أخذ سمته إلى درجات السلم، والضباب يغشى طريقه، والذهول يأخذ عليه مسالك تفكيره.
ظل الحاج والي سائرا بجانب بحر مويس يغمض عينيه ويفتحهما وكأنما يريد أن يمحو ما رأى، فتزداد الصورة التصاقا بعينيه وذهنه وكيانه كله. ماذا يفعل؟ أيخبر ابنه؟ إنه إذا فعل فكأنه قتله! فإن الزوج يظل محتفظا برجولته حتى يعرف أن زوجته تعبث بشرفه؛ المعرفة هي الحد الفاصل بين الشرف وعدم الشرف، فكيف يقول لولده وحيده إنه بلا شرف؟! أيقول لأبيها؟ وماذا يستطيع أبوها أن يفعل؟ ووثب إلى ذهنه في هذه اللحظة موافقة أبيها السريعة على زواجها من محمد وهو من كان لأخرى قبلها وله منها ولد!
لا بد أن زين العابدين يعرف عن أخلاق ابنته عوجا. ماذا يفعل؟ أيقول له؟ لا. وجد نفسه يحنو على ابنه أن يعرف أحد حتى ولو كان أبوها أن شرف ابنه مهين مضاع. ماذا يفعل إذن؟ عاد أدراجه إلى بيت ابنه ودق الجرس وفتحت له آمال الباب ودخل إلى حجرة الجلوس ودخلت من خلفه وأغلقت الباب وظل ناظرا إليها فترة طويلة ثم قال: لماذا؟
وصمتت وصمت حينا ثم قال: ماذا أفعل الآن؟ أقول لأبيك؟!
وعاد إلى ذهنها ذلك السجن الذي فرض عليها في القرية، فقالت في سرعة: لا. - إذن ماذا أفعل؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ لو قلت لمحمد قتلته!
وأطرقت آمال صامتة لا تدري ماذا تقول، وعادت إلى نفسها تلك الوساوس من وحدتها بالقرية، فهي تقول دون وعي: لا تقل لأبي. - وأسكت؟! أسكت كأني لم أر شرف ابني يلطخ على يديك؟
أسكت يا ست آمال؟
وصمتت آمال لحظات ثم قالت: إنها أول مرة. - أتظنين أن هذا يهمني كثيرا؟! إن مجرد عزمك على هذا يكفي.
وساد الصمت. وعاد الحاج يقول: من هو؟ - المهندس الذي يسكن بالطابق الأعلى.
وعاد يقول وكأنه لم يسمع الإجابة: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟!
وقام عن كرسيه وتركها واقفة، وقصد إلى الباب الخارجي وأخذ سبيله إلى الطريق يمشي بجانب بحر مويس والضباب يغطي طريقه.
ألهذا كنت حريصا على أن يكون لي أولاد؟ ألهذا نجيء بهم؟! ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟!
لم يدر لماذا أراد أن يذهب إلى محمد ويراه، أحس كأنه يريد أن يستوثق أنه لا يعرف عن زوجته شيئا! أو أحس أن ابنه جريح وأنه لا بد أن يكون بجانبه، لا يدري أي دافع خالجه، وإنما أحس أنه يريد أن يرى ابنه. ووجد قدميه تقودانه إلى المستشفى الأميري الذي يقع على بحر مويس، ذلك النهر الذي صاحبه منذ دخل في غمار نكبته ولم يفارقه. ظل سائرا بجانب النهر حتى وجد نفسه أمام باب المستشفى، ومع ظهور الباب طالعه سؤال لم يفكر فيه؛ ماذا هو قائل لابنه؟ أي سبب سيخلقه ليبرر هذه الزيارة؟ ولم تطل حيرته؛ فسرعان ما قفز أحمد إلى ذهنه. ودخل إلى المستشفى وسرعان ما استدعي له محمد الذي قبل يد أبيه في محاولة جادة أن يخفي دهشة من الزيارة. ونظر الأب إلى ابنه وهو يقبل يده، وأحس نحوه حبا كبيرا ووجد يده تربت ظهره في حنان، وتشبثت يده لحظة بجاكتة محمد، فقد خالجت نفسه رغبة ملحة أن يعانق ولده، ثم استيقظ من خوالجه، فما تعود أن يعانق ابنه كلما لقيه. وانفرجت أصابعه عن الجاكتة، وأمسك بيد ولده وقاده إلى الكرسي وجلسا: كنت في البندر، وخطر لي أن أراك.
ولم يكف هذا السبب عند محمد، وأحس أن أباه ما زال يخفي سببا آخر. فنظر إليه وحب الاستطلاع لا يريد أن يبارح عينيه وقال: أهلا وسهلا، شرفت ... - وهناك موضوع قلت أكلمك فيه. - أنا تحت أمرك يا با. - أحمد ...
وسكت الأب، وسكت محمد، وفكر الحاج والي أن أحمد ربما يكون رقيبا على آمال يمنعها، وقبل أن يسترسل في تفكيره، نظر إلى محمد وكأنما خشي أن يكون قد أبصر ما يفكر فيه؛ فقال دون ريث تفكير: أنت تعلم أن موعد دخوله المدرسة الابتدائية قد حل. - نعم. - أخاف عليه من الصباح الباكر وبرده، فأنا لا أنسى يوما مرضت أنت فيه بالالتهاب الرئوي، وتعلقت أنفاسنا بأبواب السماء حتى شفاك الله. - أنا تحت أمرك. - يخيل إلي أنه لو أقام معك، لكان هذا أنسب له. - أنا طبعا ...
وقاطعه أبوه: وطبعا أنا سأقدر زيادة التكاليف عليك. - أنت لا تؤخر عني طلبا. - وهل لي إلا أنت يا ابني؟
وأحس سكينا حادة وهو يقول هذا، وعاوده الضباب؛ أتراي ظلمتك حين جئت بك إلى الدنيا؟ ولم ير محمد ما يعانيه أبوه، وكان يفكر فيما يريد أن يقول، وهوم الصمت على الاثنين لحظات، ثم تنحنح محمد وقال: الحقيقة أنني أطمئن على أحمد مع أمي الحاجة أكثر مما لو كان عندي في البيت.
ونظر الأب مليا إلى ولده، وأدرك ما يريد ابنه أن يقول، ثم قال: لعلك على حق. طيب أقوم أنا. - لم تشرب القهوة. - وراءك شغلك. سلام عليكم. - مع السلامة يابا.
وقبل يده وهو يسلم عليه، ويخرج الحاج والي مرة أخرى إلى الطريق وبحر مويس. لم يعد موضوع أحمد يهمه في ذاته، وإنما كان يريد أن يرى محمدا وقد رآه، وسار في الطريق، وعاد الضباب يغشى سبيله، ولكنه نوع آخر من الضباب. رفع الحاج والي يده إلى عينه ومسح الدموع التي تراكمت على أهدابه.
الفصل الثالث والثلاثون
دأب الحاج والي منذ ذلك اليوم أن يزور بيت ابنه في كل وقت من أوقات النهار، ودهش محمد لهذه الزيارات المتكاثرة، ولكن آمال عرفت ما يريد الحاج والي أن يفرضه عليها من رقابة.
وكان الحاج والي يعتبر نفسه المسئول وحده عما يجري في بيت محمد؛ فقد حمل السر وحده، لم يبح به ولا حتى لزوجته. حمل السر وحده، شر حمل عرفه في حياته الطويلة، كان يحس به سرا أشد وطأة من الحياة نفسها، وكان كلما ضاق بسره قصد إلى الزقازيق وداهم بيت محمد، وقليلا ما كان يجد محمدا. وما كان هذا يعنيه في شيء، بل كان حين لا يجده يدخل إلى البيت، ويظل صامتا لا يتحدث، وتحضر له آمال القهوة ويشربها ويظل ناظرا إليها طوال جلسته لا ينطق، بل يترك عينيه تقولان، وقد كانتا تقولان كثيرا، وكانت آمال تستمع إلى هذا الحديث الصامت فينصب على قلبها كأنه المدى القاطعة، وتحاول ألا تنظر إلى الحاج، ولكن عينيه الهادرتين بالحديث ما تلبثان أن تفرضا عليها أن تنظر إليهما لترى وتسمع الحديث الصامت، وتواصل المدى عملها في قلبها، بل في كيانها جميعا.
ويشرب الحاج والي قهوته ويطلق تنهيدة ينتزعها من أعماق آلامه ويقوم إلى الباب لا يسلم، فإذا أقفلت آمال الباب من خلفه تهاوت في بكاء صاخب ثائر ثورة لا تدري كيف تنفس عنها.
وفي يوم بينما الحاج والي جالس معها، عيناه مثبتتان عليها قالت له فجأة: عم الحاج.
ولم يجب فواصلت الحديث: أتستطيع أن تقتلني؟
ولم يجب، فواصلت الحديث: كنت قد هددتني أن تقول لأبي، ورجوتك ألا تفعل. أتراك إذا قلت له تكف عن هذه النظرات؟ قل له ... قل له ... فقط كف عن هذه النظرات.
وانخرطت في البكاء، ولم يقل الحاج والي شيئا، وإنما قام وانصرف شأنه دائما.
وفي يوم عرض عليها محمد أن يسافرا إلى القاهرة، وكأنما أنبتت كلمة القاهرة فكرة في نفسها لم تكن تخطر لها.
وفي القطار قالت لمحمد: أنت الآن دكتور معروف في الزقازيق يا محمد.
وأحس محمد الزهو وهو يقول: الحمد لله. - صاحبتي ناهد قالت لي إنها تعرف زبائن من مصر جاءوا إليك في الزقازيق لتعالجهم. - صحيح؟ - ألم تكن تعرف؟ - أنا لا أسأل الزبائن من أين جاءوا. - ناهد قالت لي هذا، وقد ذكرت لي أسماءهم، ولكني نسيتها. - إذن فزوجك رجل مهم. - أنت طيب. محمد ليس فيك إلا عيب واحد. - أعرفه. إنه يسليني يا آمال، يجعلني أنسى كل ما ألاقيه أثناء النهار. - يا ترى يا محمد لو انتقلنا إلى مصر. - ماذا؟ - إن اسمك كبير الآن؛ ستجد زبائن أكثر من زبائن الزقازيق، وقد تجد تسلية أخرى. - أما الزبائن فلا أعلم. مصر واسعة وأخشى أن أضيع فيها وسط الزحام. أما التسلية الأخرى فأشك كثيرا أن أجد شيئا يسليني عن الورق يا آمال. - نجرب. - ألا تخشين أن تكلفنا التجربة زبائن الزقازيق، ولا تعوضنا بزبائن مصر؟ - نحن والحمد لله لا نحتاج للمال؛ أنت وحيد أبيك، وأنا وحيدة أبي، ومرتبك يكفينا. فما الضرر في أن نجرب؟ - على شرط. - قل شروطك كلها. - أن تفقدي الأمل في أن أترك لعب الورق. - لا بأس. يكفي أن أكون في القاهرة وأتنفس.
وأطلقت تنهيدة عميقة، وأحست أنها أخيرا تستطيع فعلا أن تتنفس.
الفصل الرابع والثلاثون
حين أبلغ محمد أباه أنه نقل إلى القاهرة، صمت الأب طويلا حتى اضطر محمد آخر الأمر أن يقول: ماذا يابا؟ أيغضبك هذا؟
وظل الحاج والي صامتا فترة أخرى، ثم قال فجأة وقد عاوده شعور بالخوف أن يرى ابنه الأفكار التي تدور برأسه: وما الداعي لهذا النقل؟ - المجال هناك أوسع. - هنا يعرفك الناس. - وسيعرفني الناس هناك.
ولم يكن الحاج والي يحتاج إلى كثير تفكير ليدرك أن آمال هي التي ألحت لإتمام هذا النقل، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئا إلا: مصر واسعة يا محمد. - والناس فيها كثيرون. - أخشى أن تضيع هناك بين الأطباء بعد أن أصبحت هنا معروفا. - لا تثق بي يابا؟!
وصمت الحاج والي قليلا ثم قال: بل إني أثق بك كل الثقة.
وعاد إلى الصمت، وهوم السكون عليهما لحظات، ثم قال: يا محمد خذ بالك من ...
ولم يكمل، وقال محمد: ممن يا أبي؟
وتنهد الأب ثم قال: من صحتك يا ابني.
وفهم محمد ما يقصد أبوه، أو خيل إليه أنه فهم، فأطرق في استخذاء، فقال الأب: إنك تسهر كثيرا ولا تراعي ...
وصمت وصمت محمد، وأكمل الأب بعد تنهدة عميقة: صحتك.
وعاد الصمت مرة أخرى يحلق على الأب وابنه، ثم قال الحاج والي: إنك تحتاج لفلوس للنقل ولإنشاء عيادة.
وسكت محمد. وقال الأب: خذ، معي الآن مائة جنيه، وإن احتجت لزيادة أرسل لي. - أطال الله عمرك يابا.
وانصرف محمد، وظل الأب وحيدا، وعندما قدمت إليه الحاجة بمبة وجدته ساهما مفكرا، ولم تحاول أن تسأله عما به، بل تركت الغرفة. وعاد هو إلى وحدته، وإن كان لم يفارقها؛ لماذا تفعلين هذا بنا يا آمال؟ لماذا تفعلين هذا بنا؟
سرعان ما استعاد محمد صلاته بأصدقاء الكلية، فقد كان يتصل بهم كلما جاء إلى القاهرة. فحين نقل إليها كان على علم بمكان أصدقائه جميعا؛ وفي مقدمتهم مجدي عبد العزيز الذي أصبح طبيبا بمستشفى الملك حيث نقل محمد. وهكذا التأم الصديقان مرة أخرى، تجمع بينهما الذكريات القديمة والزمالة في المستشفى.
وما إن استقر المقام بمحمد وآمال وسوسن في القاهرة، حتى أخذ محمد يبحث عن طلبتين؛ الطلبة الأولى رفقة يشاركونه في اللعب، والطلبة الثانية شقة تصلح عيادة له. وقد حقق له مجدي الطلبتين كلتيهما. فإن يكن مجدي غير هاو للعب القمار، إلا أنه يجلس مع اللاعبين كل ليلة في نادي القاهرة، قانعا بالمشاهدة عن الاشتراك في اللعب، وسرعان ما انضم محمد إلى هؤلاء اللاعبين، واثقا أن ليس بينهم نصاب يغش في اللعب.
كما استطاع مجدي بما له من صلات ممتدة في القاهرة أن يعثر لمحمد على شقة مناسبة في ميدان الأزهار لتكون عيادة له.
أما آمال فإنها قبل أن يستقر بها المقام في القاهرة، كلمت صديقتها ناهد، وما أسرع ما تم بينهما اللقاء. - أخيرا يا آمال. أخيرا عدت إلى مصر. - أنت لا تعرفين كم كنت أشتاق إلى مصر وإليك. - حدثيني عن أيامك في الزقازيق. - أيام سوداء. لا أراك الله مثلها. - سأعوضك عنها أياما بيضاء مشرقة. - أحتاج إلى سنين طويلة؛ لأعوض ما شفته من عذاب. - هل كان لك أصدقاء في الزقازيق؟ - زوجات الموظفين. - أنا أقصد أصدقاء لا صديقات. - اسكتي. - وراء اسكتي حكاية.
وقصت آمال قصتها مع صديقها الوحيد عزت، وما فعله معها الحاج والي، وحين انتهت قالت ناهد: عبيطة. - وماذا كنت أفعل؟ - لماذا يكون هذا في بيتك؟ - وأين يمكن أن يكون؟ - أنت عبيطة. - هل لك أصدقاء؟ - عدد شعر رأسي. - وزوجك؟ - يسهر في الخارج، وأسهر في الخارج. ألا يسهر زوجك؟ - يسهر. - سأعوضك عن أيام الزقازيق. - سنرى.
الفصل الخامس والثلاثون
ذهب محمد إلى نادي القاهرة في الساعة التاسعة، وكان مجدي هناك، وتناولا العشاء معا، وقاما ينتظران اللاعبين في حجرة اللعب، وجاء أحد اللاعبين وقال لمحمد: يظهر أنه لا يمكن عمل برتيتة الليلة. - لماذا؟ - يسري وحمدي سافرا يعزيان زميلا لهما في المنصورة.
قال مجدي لمحمد: تأخذ إجازة ليلة.
وقال محمد في ضيق: وماذا نفعل؟
وقال مجدي فجأة: عندي فكرة، ألا تحب أن ترى بعض الذكريات؟ - الحقيقة يا مجدي أن لا شيء عندي يسليني مثل اللعب. - بل عندي أنا ما يسليك أكثر من اللعب. - يا شيخ! - اسمع كلامي. - ماذا؟ - أتعرف عزيزة؟ - الله يرحم أيامها. - إنها الآن في عزها. - ماذا؟! - لها بيت تجتمع فيه السيدات من الطبقة الراقية ليلتقين بآخرين، الليلة هناك ليلة من ألف ليلة؛ مرح وضحك وسرور، لو ذهبت مرة نسيت القمار إلى الأبد. - يا عم أنا متزوج، وليس لي في النسوان. - وأنا أيضا متزوج. إننا سنجلس فقط نضحك ونلهو ثم نروح. - وماذا تستفيد منا إذا كنا لن ندفع شيئا؟ - ليس من الضروري أن يدفع جميع من يذهب إليها؛ فإن القلة التي تدفع تعوضها عن جميع الآخرين. هيه ماذا قلت؟ - ما ترى .
وفي غير حماسة رافق محمد صديقه مجدي إلى بيت عزيزة، وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة بقليل حين دق مجدي جرس البيت، وفتح الباب عن ضجيج صاخب، ودخل مجدي وهو يجر محمد جرا.
وحين بلغا أول الردهة رأيا مصادر الضجيج نساء عاريات الصدر يطلقن الضحكات المعربدة، وقد التفت حول صدورهن أيدي رجال تراوحت أعمارهم بين الشباب والكهولة والشيخوخة. وقال مجدي لصديقه: انتظر لحظة حتى أنادي عزيزة.
وتركه وحيدا، ودلف داخل الشقة، ولم يجد محمد ما يفعله إلا أن يطالع الوجوه فراح يمر بها، وفجأة تسمرت عيناه على زوجته آمال بين يدي رجل من هؤلاء. لم يصدق، وتفرس؛ إنها هي، وقد رأته وانتفضت من بين ذراع رفيقها، وأرادت أن تفعل شيئا، لم تكن تدري ما تريد أن تفعل، ولا يدري هو، وإنما في لحظة حزم أمره على شيء واندفع نحو باب الخروج لاهثا، وخرج إلى الطريق. أيقتلها؟ زوجة داعرة وزوج قاتل، وتحل الجناية على سوسن وأحمد. حبيبي أحمد، ماذا يفعل؟ وجد نفسه يركب سيارة أجرة، ويأمر السائق أن ينطلق إلى المنيرة. ماذا يفعل في البيت؟ نزل من السيارة، وطرق باب البواب، وخرج إليه البواب نصف نائم، وسأله محمد: أتعرف مكان المأذون هنا؟
وقال البواب: نعم.
وقال محمد في حزم: تعال معي.
وطرق باب المأذون طرقا ملحا حتى فتح، ودخل محمد والبواب وسائق السيارة الأجرة. وبعد دقائق كانت آمال طالقا.
وعاد محمد إلى البيت، وفتح الباب ووجد آمال بالبهو، وقامت تجري إليه: محمد. - أنت طالق، وهذه ورقتك.
ورمى الورقة على الأرض، وأمسكت آمال يده: أرجوك ... أبوس يدك.
ونتر محمد يدها، وجرى إلى السلم، ووجد سائق السيارة الأجرة ما زال واقفا فسأله: أتذهب إلى الزقازيق؟ - الآن؟! - نعم. - أذهب.
وفي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي كان محمد يطرق باب أبيه، وفتحت الحاجة بمبة الباب، وارتاعت حين رأت محمدا زائغ النظرات حائرا ملتاعا ودخل محمد: أين أبي؟
وقال الحاج والي وهو يقف على باب حجرته: أهلا محمد. خير يا ابني. - أبا ... أبا.
واقترب الحاج والي من ابنه واحتضنه بذراعه اليمين، وسار به إلى الأريكة وجلسا. - ما لك يا محمد؟
وانفجر محمد: طلقتها يابا ... طلقتها ... طلقتها.
وأطرق الحاج والي قليلا، وراح الضباب يتصاعد أمام عينيه ولم يجد شيئا يقوله إلا: خير إن شاء الله ... خير إن شاء الله.
لم ينم محمد ليلته، وإنما راح يتقلب في فراشه، حتى آذن الفجر بشروق، فقام إلى البهو، وجلس به وحيدا، فلم تطل وحدته، فقد قام أبوه إلى صلاة الفجر. وانتظر محمد حتى ختم أبوه الصلاة فقال له: أبا ... أريد أحمد معي. - أنت تسهر في الخارج وأحمد سيكون وحده، ولن تراقبه. - أريد أحمد معي يابا ولن أسهر. سأعيش له يابا. - ما شئت يا بني، ما شئت.
وصحب الحاج والي ابنه وحفيده إلى القطار فركباه، وحين عاد وحيدا إلى طريق القرية لم يتصاعد الضباب أمام عينيه؛ أحس كأن الضباب قد ركب القطار مع ولده وحفيده. لقد آن لمحمد أن يحمل العبء الذي حملت. وتدور الحياة.
Shafi da ba'a sani ba