وكان يجلس إلى جانبها طفل في الخامسة من عمره دقيق القسمات، دقيق الجسم أسمر البشرة، رغم المجهود الكبير الذي بذلته يد رحيمة لتزيل عنه قذر أيام، إن لم يكن قذر شهور طويلة. وكان يرتدي جلبابا من القماش الرخيص، وإن كان يبدو هو الآخر أنه انفلت من النظافة منذ لحظات.
وكان الطفل جالسا ذاهل النظرات، في عينه اليسرى دمعة منسابة لا يدري لانسيابها سببا، وإنما هي تلازم عينه، كلما أزالها عادت تنسكب في إلحاح وإصرار، ولكن عينه تزجي مع الدمعة إشعاعا من الذكاء لا يخفى، وقد حاول الطفل في عزم ألا يبدو منه إلا الهدوء والطاعة؛ فقد كان جديدا على هذا المنزل، جديدا على هذه النظافة التي تواكبت عليه فجأة، فكان مجالها جسمه وملبسه في آن معا. فهو واجف صامت، في نظرته انتظار لمجهول ودهشة بادية على محياه جميعا، وقد حاولت الحاجة بمبة أن تطمئن وحشته وتؤنس غربته؛ فيلجأ الطفل فيها إلى هذه الطيبة لجوء اللاهف الغريب، يستشف الحنان ويتلمس اليد الرحيمة أو الكلمة العطوف، لا يبحث عن مصادرها، ولا يهتم ببواعثها. وينشغل الطفل حينا من الزمن ببعوضة تلح على يده فينظر إليها طويلا، وهي مستقرة لا تبارح مكانها. ويحرص الطفل ألا يحرك يده، وكأنما يحاذر أن يقلق البعوضة فتلدغه، ولكن البعوضة لا تقابل عطفه بغير عضة في يده؛ فتختلج يده خلجة مذعورة داهشة تطيح بالحشرة بعيدا، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى يده الأخرى، فيتكرر ما حدث من الطفل والبعوضة، وتجلو البعوضة عنه فيبحث عن شيء آخر يشغله، فلا يجد إلا نور المصباح المتراقص لا يقر له قرار.
وما تلبث صالحة أن تدخل إلى البهو قادمة من حجرتها، يتقدمها جنينها ولسانها وهو لا يكف عن الدعاء للحاجة بطول العمر والهناء والسعادة، والحاجة تتقبل هذا الدعاء في تواضع وتهوين من شأن المعروف الذي تلهج بذكره صالحة. وتحاول صالحة في إخلاص أن تتلمس أوامر الحاجة، فهي تسألها إن كانت تريد شيئا أي شيء، وتجيب الحاجة أنها تريدها أن تستريح وتريح هذا الجنين الذي ترهقه معها في الذهاب والمجيء ذارعة به غرفات البيت، لا تهدأ ولا تجعله يهدأ. والطفل يسمع ما بينهما من نقاش لا يدري من أسبابه شيئا، ويهم أن يسأل علام الشكر، ثم تمسك بلسانه وحشة الغريب فيبتلع استفساره مع أحاديث كثيرة تتوارد على ذهنه، ما إن تبدو على صفحة عقله حتى يقمعها فتعود مختفية متراجعة إلى واد من النسيان، حيث لا يعلم الطفل، ولا يعلم أحد، أين تذهب.
ويأتي الحاج من الخارج ويرى الطفل فيدهش لحظة، ثم يقول في ترحيب طيب: أهلا حسين. مساء الخير يا حاجة. كيف حالك يا صالحة؟ وتجيب الزوجتان التحية، ويتقدم حسين إلى الحاج والي فيقبل يده، ويقعد الحاج على الأريكة بجانب بمبة، وتقوم صالحة وهي تقول: تعال يا حسين.
ويتبع حسين أمه إلى حجرتها. وتقول الحاجة: لي طلب عندك. - طلبك أمر يا حاجة. - أريد أن يقيم حسين معنا. - ماذا؟! وأنت التي تطلبين؟! - ومن يطلب هذا إذا لم أطلب أنا؟ إن زوجتك صالحة على وشك الوضع، ولا شك أنك ستربي ابنك أحسن تربية، وحسين أخوه على كل حال، وأنا لا أحب أن يكون أحد الأخوين متعلما، والآخر جاهلا. - ربنا يعطيك بقدر طيبتك يا حاجة. - لو أقام حسين عند جده؛ لما استطاع أن يعلمه، وليس بكثير عليك أن تربي ابن زوجتك كأنه ابنك؛ فهو يتيم، ويستحق العطف. - يا حاجة أنت طيبة وصالحة. - ماذا قلت؟ - البيت يا حاجة بيتك، لك أن تقبلي فيه من تشائين وتخرجي منه من تشائين. وقد كان الأجدر بي أن أطلب أنا هذا الطلب؛ إكراما لصالحة، إنما أنت دائما تسبقين إلى الخير.
الفصل السادس
كانت الريح عاصفة يشتد عصفها كل حين، بدأت أول ما بدأت بذرات الرماد تحملها، ثم قويت فأصبحت تحمل الأوراق الجافة المتساقطة على الأرض، ثم راحت تخلع عن أشجار الكافور أوراقها، ثم اشتد ساعدها فإذا هي تحطم أعراف الشجر لا تفرق بين الكافور أو غيره من الأشجار، وراحت تحمل الأعراف في سرعة مجنونة تندفع إلى حيث لا تدري مقصدا.
رياح عمياء مجنونة معربدة ليس فيها من الثبات إلا أنها تندفع إلى هدف واحد، وإن كانت لا تدركه، ولا تدري لماذا اختارت هدفها هذا، وهي مع ذلك تتردد أحيانا في الاندفاع إلى متجهها؛ فهي تدور حول نفسها بما تحمله في دوامة عنيفة من الهواء والرماد وأعراف الشجر، ولكن قليلا ما يدوم ترددها، ثم هي تمضي في سبيلها لا تلوي على شيء، ريح قل أن تعرفها مصر. وسارع المطر ينهمر، فهو السيل الجارف ينسكب أنهارا من السماء، فهو أنهار في الأرض فياضة تحتفر المجرى في إصرار وإلحاح. وكأنما أرادت السماء أن تنير الطريق للأنهار الناشئة الصغيرة؛ فالبرق يخطف الأبصار إن وجدت في العراء أبصار، فالناس في بيوتهم يعتصمون من اليوم الراعد والسيول والأعاصير بالجدران الصماء والضلف المغلقة من النوافذ، ويستعينون في القرية بالمواقد والأفران على البرد الزمهرير القارس.
أما الحاج والي وأهل بيته فهم في شأن غير شأن الناس، فقد كانت صالحة تعاني آلام الوضع، تقف إلى جانبها قابلة القرية الحاجة زينب أم عوضين، والحاجة بمبة تعين بكل خبراتها التي تلقتها من المواقف المماثلة مع الصديقات أو قريباتها. بينما انتبذ حسين مكانا قصيا يحاذر أن يعرقل الأرجل المتسارعة غدوا ورواحا بين جنبات البيت، تنسكب من عينه تلك الدمعة التي لا تفارقها، والتي تعود إلى الانسكاب كلما أزالها حسين بيده. أما الحاج والي فقد جلس إلى الأريكة ممسكا بمسبحته يتمتم عليها بذكر الله، محاولا ما وسعه الجهد أن يبدو في هدوء الرجل، وإن كانت طبيعة الإنسان تأبى عليه الهدوء أو القرار.
وخرجت القابلة فطلبت تبنا، وذهل الحاج والي، ولكنه لم يسأل عما يدعوها إلى طلب التبن، وإنما قام وصحب حسينا إلى المتبن فملأ قفة وعاد هو وحسين يحملانها، ويحملان على ملابسهما كميات كبيرة من ماء المطر، وفي أقدامهما ألواح كاملة من الطين؛ فقد كان لا بد لهما أن يخرجا إلى العراء ليصلا إلى المتبن.
Shafi da ba'a sani ba