ومنها نص الفرمان الصادر بتولية توفيق باشا؛ فإنه صريح في أن مصر بحدودها الطبيعية وملحقاتها تعد من الأملاك العثمانية وإنه لا يسمح للخديو أن يتنازل عن قطعة أرض منها - صغرت أو كبرت - لأجنبي، كائنا من كان لأي سبب ولا بأي وجه، ولا يسوغ له أن يتخلى عن شيء من الامتيازات الممنوحة لمصر مهما كنت الأسباب والحوادث، ولا يجوز له عقد شرط أو عهد إلا بعد عرضه على الدولة ورضاها، ويحظر عليه تجديد قرض مالي إلا فيما يتعلق بتسوية المسائل المالية التي كانت لذاك العهد.
ومنها أن قنال السويس لم يفتح إلا بعد استئذان الباب العالي، فكيف ساغ لإنجلترا الآن أن تتولى فصل السودان عن مصر، وأن تتداول في فتح قنال آخر، وأن تتدبر في قرض جديد تحمله على عواتق الحكومة المصرية، وأن تتناول حماية الثغور بعساكرها بدون الاتفاق مع الباب العالي ولا مشاورة الدول العظيمة؟!
وأنا في حيرة مما أراد هذا العظيم في إقامة الحجج! هل أراد إظهار ما كان خافيا على دول أوروبا وهم يعلمونه حق العلم، أو بيان أن إنجلترا أخطأت في فهم هذه الفرمانات وتلك المعاهدات، أو حاول إقناعها بالدليل والبرهان؟! ولكنا نعلم أن حكومة بريطانيا لا تفزع من الاحتجاج ولا ترهب الجدال؛ فإنها تمرنت على ذلك من أزمان طويلة مع الملوك والأمراء الشرقيين، وأمكنها - في أحوال كثيرة - أن تجيب عما يرد عليها من الاعتراضات، وإن بلغت مقدماتها من الظهور حد البداهة.
ولولا هذا لما احتدت جريدة التايمس عندما بلغها نبأ مؤداه أن جرانفيل طلب من السلطان أن يرسل حامية تركية إلى سواكن، وبالغت في إنكار ذلك بقولها: إنه مما لا يخطر بالبال، ثم تعللت بما لا يذهب على فطنة أحد حيث قالت: إن إنجلترا لا تريد أن تحامي عن حقوق السلطان بعدما صارت بضعفه نسيا منسيا.
الفصل الثالث عشر
أيرلندا
في كل يوم يقيم الإنجليزي برهانا منطقيا ودليلا جدليا على أنه ما ذهب إلى مصر إلا بقصد إقرار الراحة ووضع قواعد العدالة، ولكنه كلما رتب مقدماته لإقناع السذج بقضاياه المشهورة عارضه الأيرلنديون ببراهين عملية تنقض ترتيبه وتبطل نتيجته، فإنه لا يمضي وقت من الأوقات إلا ولهم فيه عمل لكسر شوكة الحكومة الإنجليزية في أيرلندا، يضعون الديناميت لتدمير الأبنية وهدم الجسور وتعطيل السكك الحديدية، ويفتكون برجال الحكومة ويتضجرون من ظلمها ويطلبون كل وسيلة للتملص من سلطتها، وهم في سيرهم لا يهنون ولا يفترون.
هيئت وليمة للمستر بارنل رئيس حزب الأيرلنديين، حضرها جم غفير منهم؛ احتفالا بعيد سان بتريس، وفيهم كثير من أعضاء البرلمان، فألقى عليهم خطابا أظهر فيه مسرته من تقدم الحركة الجنسية في أيرلندا وأوصى الأيرلنديين أن لا يعتمدوا على حزب من الأحزاب الإنجليزية وإنما يكون اعتمادهم على نشاطهم واجتهادهم، ثم قال: إن له في المستقبل أملا حسنا، وختم كلامه بقوله: إن اليوم الذي يجتمع فيه الأيرلنديون على اختلاف أحزابهم في بسيطة أرضهم هو قريب وسيكونون عما قليل تحت حكم برلمان أيرلندي، وفي ذلك الوقت لا قبله ترسل أيرلندا إلى إنجلترا رسالة سلمية، وعند رفع كئوس الشراب أبى الحاضرون ذكر الملكة وإنما رفع بارنل أول كأس ونادى باسم الأمة الأيرلندية، وطلب من الحاضرين ذلك.
هكذا يطلب الإنجليز ضم أراض إلى أملاكهم فتنفصل عنهم أراض أخرى، وإلى الله علم العاقبة.
الفصل الرابع عشر
Shafi da ba'a sani ba