وكانت السيدة بطرس تحفظ أغنية «جزائرية» ذات نبرات رقاصة كخبب جواد عربي فأنشدتها لهم بصوتها العذب، ثم طلبت من السيد نجيب الذي وهبته الطبيعة ذاكرة غريبة أن ينشدهم بعض أبيات من الشاعر ناصيف اليازجي. فقال أديب: أجل، أجل، أنشدنا قصيدة لهذا الشاعر فأصغي إليك طيلة الليل، إن هذا الرجل ليتكلم كباقي الناس بالرغم من أن في لغته موسيقى جميلة. فابتسم نجيب ونهض من جلسته بعد أن شحذ ذاكرته وأخذ ينشد قصيدة «لهذا الشاعر»، وعندما وصل إلى نهايتها هبط الليل وانفتحت كوى النجوم في أجواز الفضاء، في حين كانت نسمة معطرة بأشذاء الطلح المزهرة تتلاعب بشعور النساء المصغيات إلى حديث نجيب. أما الأحداث فقد رقدوا على ركب أمهاتهم، وأما الأبكار فقد كانوا يصغون بدهشة وسكون إلى القصيدة الجميلة، وكانت نبرات الأشعار العذبة تحرك موضع العاطفة من الأرواح الساذجة ومن القلوب الممنوة بأشجان الحياة؛ إذ إن نفثات الشعر ومؤالفة الفن أيقظت فجأة جذوة الخيال الضئيلة التي كانت تهجع في مراقد النفوس وصيرتها شعلة مضطرمة.
في تلك الساعة كان رجل قادما من المحطة فسمع صوت نجيب فلبث واقفا في ظلال الكرمة على مقربة من شجرة الطلح؛ فظن الجميع أنه موظف من موظفي السكة فلم يأبهوا له. وكان صوت نجيب يتصاعد في مذاهب الليل بكل ما في رنينه من العذوبة والموسيقى، ويتصل إلى مسام الرجل محكم النبرات واضح الأجزاء. ولما سكت الصوت ارتفع التصفيق وعلا الهتاف، فقال أحد الحاضرين: آه يا سيد نجيب، لقد سكبت في أرواحنا عذوبة لا عذوبة بعدها. قال آخر: لقد أوشكت أن تفجر من أعيننا ينابيع الدموع ! وقال بعضهم: لا أظنك تضن علينا بقصيدة أخرى من نظم الشيخ ناصيف اليازجي، أليس كذلك؟ إنني لا أجد شاعرا مثله يستطيع أن يفهمنا حقيقة القلب البشري ...
عند هذا أبدى الغريب المنتصب وراء جفنات الكرمة حركة تعجب واستغراب، وقال في نفسه: ما كنت لأتوقع أن أسمع أشعار اليازجي أو أن أزعج جلسة شعرية عندما هممت بالمجيء إلى منزل عملة السكة. آه! إن النفوس مهما حقرت واتضعت تظل ظمأى إلى الجمال وخليقة بفهمه! ويخيل لي أن شعبنا اللبناني الذي كثيرا ما سعوا إلى جعله شعبا ماديا لن يندفع إلى إطفاء الكواكب النيرة ...
كان هذا الرجل الأب يوحنا كاهن جونية.
تقدم الكاهن إلى المنزل بعض خطوات، فعلا الهمس من شفاه الحضور وخفوا إلى تحيته، أما النساء فقد انزعجن قليلا لدى قدومه الفجائي ونهضن من أماكنهن لاستقباله؛ فقال الكاهن: لا تزعجوا نفوسكم يا أحبائي، واعذروني على حضوري في هذه الساعة المتأخرة، لقد جئت لأقدم خدمة للسيد سالم.
فنهض السكير من جلسته وفي يديه قبعة يلاعبها، وقال: أنا موقوف لخدمتك يا سيدي الكاهن فماذا تريد؟ فأجابه الكاهن: إنني لشديد الغبطة بولدك الصغير يا عزيزي، فهو مثال الاجتهاد والذكاء، ولقد حفظ التعليم المسيحي حفظا تاما دفعني إلى أن أطلب منك أن تسمح لي به لأضمه إلى عداد ملائكة الرسل، وكن على ثقة بأنني لا أتأخر عن إعطائه جعالة ترضيه ... فدندن سالم قائلا: لا أرفض يا سيدي الكاهن، لا أرفض! فهتفت النساء دفعة واحدة: مرحى يا فريد، مرحى! فقال نجيب: إنه لولد طيب السريرة حسن الأخلاق، ولكنه يميل إلى أن يكون عاملا في السكة الحديدية يا سيدي الكاهن.
فأجاب هذا: ليس عمال السكة رجالا كسائر الرجال، إنهم يعرفون شعراءهم وينشدون قصائدهم بنبرات ملؤها الجمال والفن. لقد سمعت إنشادك يا سيد نجيب فأهنئك! إنك تحس بعذوبة الشعر وتعرف أن تعطيه حقه من الإلقاء ...
عند هذا جلس الكاهن وأصبحت المباحثة عمومية.
أما الفتاة الصغيرة فقد انحدرت إلى جانب وقالت لفريد الطافح وجهه سرورا وغبطة: أصحيح يا فريد أنك ستلبس الثوب الأحمر والقميص المفوف بالزركشة الجميلة؟ وأنك ستشعل الشموع وتهز المبخرة؟ فأجابها فريد: بدون ريب لأنني سأصبح من ملائكة الخورس! فكثيرا ما حلمت بهذه الأمنية السعيدة ... فحدقت إليه الفتاة في أشعة الغسق وقالت له بصوت عذب تراوده حسرة عميقة: إن من الحزن ألا يكون لك وجه جميل كوجه لبيب راغب!
6
Shafi da ba'a sani ba