الفصل الأول
الفصل الثاني
خاتمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
خاتمة
العمال الصالحون
العمال الصالحون
تأليف
إلياس أبو شبكة
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الأول
1
كان لبيب راغب ولدا في العاشرة من سنيه، جميل الطلعة، عذب النظرات، يميل عن الوحدة إلى الزهو واللعب، وكان لهذا الفتى صديق من أترابه يدعى فريدا، كريه المنظر، مجعد الوجه، تمت ملامحه إلى ملامح القردة أكثر مما تمت إلى ملامح الإنسان. ففي يوم من أواخر أيام نيسان كان الفتى لبيب يلعب في الحديقة، فنادى إليه صديقه فريدا أولا وثانيا بدون أن يسمع جوابا لندائه.
كانت أشعة الشمس تلهب بحرارتها المحطة الصغيرة ذات الجدران البيضاء القائمة في وسط ريف يبعد نحوا من ألفي متر عن بلدة جونية.
في تلك الآونة كان المدير راقدا نصف رقدة على الدكة، وقد نهكه التعب وحمله القيظ ما لا يطيق؛ إلا أن الحديقة - حيث كان لبيب ابن المدير ينادي رفيقه بصوت مرتفع - كانت لا تزال مرطبة بأنداء الفجر، وكانت رطوبة معتدلة تتساقط من الأغصان المورقة، وتتصاعد من الأعشاب الكثيفة أو من الأزهار العطرة تحت عناقيد الأزدرخت والقصاص المضطربة لدى خطرات النسيم. - فريد! فريد! ألا تأتي؟ لقد عزفت أمثولتي على الأرغن وتلقيت أمثولة غيرها وأصبحت حرا طليقا، فتعال نلعب!
في تلك الدقيقة خرج فريد من منزله القائم على مقربة من الحديقة، وأسرع راكضا إلى لبيب وقال له بصوت تتخلله رعشة الخوف: يجب علي أن أجيء بأعشاب لغداء الأرانب قبل أن تطلق حريتي. - إنك لأبله! فلا أغرب عندي من أن أراك مهتما جد الاهتمام بتلك الأرانب المضحكة. - ولكن ما العمل؟ إذا عرفت الأم أني لهوت باللعب عن الأرانب فلا تتردد عن صفعي وتوبيخي. - إن الأم سالم غير أمك فهي امرأة أبيك! ثم إنها لن تدرك أنك لهوت، وإذا أردت ففي الحديقة أعشاب لا تجد مثلها في مكان آخر.
فأطاع الولد كلام رفيقه، وزحف على قدميه ورجليه إلى أن بلغ الحائط فتسلقه إلى الحديقة، فقال لبيب: أي نوع من الألعاب تختار؟ ألا تفضل لعبة الفوارس؟ إذن فألق يديك على الأعشاب محنيا ظهرك وكن فرسي.
كان فريد دائما يشغل وظيفة الفرس، ولماذا؟ ذلك لأن النظام يوجب على أبناء العمال أن ينزلوا في كل حين عند إرادة أبناء الرؤساء.
كان العشب في تلك الحديقة كثير النضج طافحا بمياه النبات، إلا أن العوسج وفروع الشجيرات كان يحتبك بعضها ببعض، وتتجاوز الأدغال إلى بعض الجهات الجثيلة، كأنما هي غابة عذراء لم تمر عليها شفرات المناجل. وكانت الآبار تنتصب فوقها الأشعة البيضاء كسطوح صغيرة من التوتيا المعدنية، وأشجار الورد تمزج غصونها المشعثة بفروع الراتينج المظلمة، وأريج الأزدرخت الزكي والزعرور الممتلئ بعسل أزهاره يجذب إليه أسرابا من النحل كثير العدد.
نهك التعب ذينك الولدين فجلسا يستريحان على أحد الحجارة، في حين كان قطار الساعة الثالثة والنصف يصفر في الأبعاد معلنا قدومه، وبعد هنيهة شخص لبيب إلى جهة القطار وقال: هو ذا الكاهن! لقد عرفت منذ نهار السبت أنه سيذهب لزيارة أسقفه الساكن في مدينة بيروت، ويقولون: إن كاهنا آخر سيخلفه، وترى والدي شديد الأسف كثير الشجون، فمن يا ترى يحل محله في إعطائي الدروس العربية؟ لا شك في أن والدي سيرسلني إلى المدرسة بعد ذلك، أليس من الحزن أن أسجن في المدرسة يا فريد؟
Shafi da ba'a sani ba
فأجاب الولد بعد أن أطلق زفرة من صدره: إنك لشديد الغرور يا صديقي، ولو تبصرت قليلا لرأيت أن المدرسة أم تسقي ولدها لبان العلوم التي لا غنى له عنها.
آه! لو يتسع لي أن أتعلم! ولكن المدارس لم تشيد لمثل فريد! لأنه بائس يا صديقي!
فأجاب لبيب: إني أعرف ذلك؛ فأنت فقير لا مال لديك، ولو لم يكن والدي شديد العطف على أبيك لكنت أكثر فقرا مما أنت عليه ... أبلغك ما حدث الأحد الماضي؟ - لا!
فاستطرد لبيب قائلا: لقد أبصر والدي والدك سكران حتى الموت، منطرحا على السلك الحديدي بالقرب من مفتاح القطار، وكان من واجب والدي أن يطرده من الشركة، إلا أنه لم يفعل! ... أتفهم؟ إن التصرف السيئ الذي يتصرفه والدك لمما يدعو إلى خطر عظيم، ومن الجهل أن تستبقي الشركة عاملا سكيرا في عداد عمالها.
فخفض فريد رأسه إلى الأرض، فأكمل لبيب حديثه فقال: غير أن والدي عفيف الضمير شفيق، ففكر فيما تئول إليه عائلة سالم لو طرد سالم من العمل، وما لبث أن غفر له زلته، ولكن إذا عاد والدك إلى مثلها! ...
فقاطعه فريد قائلا: سوف يعود إلى ما كان عليه ولا أرى مندوحة من طرده، وسوف نشقى طويلا يا صديقي.
فأثر هذا الكلام في نفس لبيب تأثيرا عظيما، حتى إنه لم يملك نفسه من ذرف دمعة على خده، فقال: هل ذقت طعاما في هذا النهار يا فريد؟ سمعت والدي يقول مرارا: إن امرأة أبيك ستميتك جوعا. قال هذا وأخرج من جيبه قطعا من «الشوكولاتة»، فقال فريد بلهجة تتخللها عزة النفس: أجل، لقد أكلت؛ فالأم سالم لا تمنع الطعام عني ولكنها تقدم لأولادها ما لا تقدمه لي، أتجد غرابة في ذلك؟
في تلك الساعة دخل القطار إلى المحطة، فأسرع الولدان إلى الرصيف ليتفرجا على القادمين.
كان سالم ورفاقه يشحنون البضاعة وينزلونها، في حين كانت عجلات النقل قادمة لتقل الأحمال إلى أماكنها، أما بطرس موزع البريد فقد كان يذهب ويجيء مستشيرا بنظره الأوراق التي بيده، وأما المدير فقد كان يلح على العمال في الإسراع بما عهد إليهم، مسترئيا من وقت إلى آخر ساعته الذهبية، عند هذا تقدم منه أحد المسافرين حاسرا وقال له بصوت تراوده اللكنة: أنا رهين إشارتك يا سيدي المدير! - من أنت؟ - أنا عزيز الذي عينت موزعا للبريد مكان داود. فقطب المدير حاجبيه وقال: ولكن داود لا يود أن يستعفي؛ لأن له مصالح تضطره إلى البقاء في الشركة، فقد اشترى أرضا وبعض كروم في هذه الجهة استوطن فيها مع امرأة له هي أبرع خياطة في جونية. كان الأحرى بك ألا تعجل في قدومك قبل الاطلاع على هذا الأمر.
فأجاب عزيز بعظمة: إن من كان مثلي موظفا قديما في الشركة لا يجد بدا من النزول عند إشارة مديره، فعندما قال لي المدير: يجب أن تذهب لم أجد مندوحة من الإطاعة، فهيأت أمتعة منزلي بأسرع ما يمكن وامتثلت للأمر. ففتل المدير شاربيه متذمرا ودمدم قائلا: إن هذا لأمر مضجر فرأيي هو ألا يستقر أمرك قبل أن تنتظر النتيجة التي يئول إليها أمر داود، فأبق أمتعتك في عجلة السكة وانزل موقتا في فندق المحطة عند يوسف ...
Shafi da ba'a sani ba
فقاطعه عزيز قائلا: واحسرتاه، إنني لم أجئ وحدي يا حضرة المدير ... قال هذا وبسط ذراعيه نحو غرفة الانتظار؛ حيث كان ثلاثة أشخاص ينتظرون بفروغ صبر، ثم استطرد قائلا: هو ذا ولدي آدم وابنتي حواء وامرأتي ... وأمتعتي ...
فحول المدير نظره إلى غرفة الانتظار، فرأى قرني معز بارزين بين أخشاب صناديق أربعة، وآذان أرانب عديدة تنصب فوق أعراف جماعة من الديوك والدجج، وأبصر فوق ذلك خرطوم خنزير ينشق بين طرفي قطعتين من الخشب الصلب كتب على إحديهما بحروف سوداء: خنزير محزم.
فقال في نفسه: هذا حوش للحيوانات، لا بل حديقة للوحوش! ثم بدر منه التفاتة فرأى ابن عزيز عاكفا بعناية على خمس شجيرات من الورد غرست في خمسة براميل من الخزف، فقال عزيز: إن البهائم عون للإنسان في حياته، والأزهار هي زينة البؤساء، أليس كذلك؟
عندما دخل الرجلان إلى غرفة الانتظار كانت ابنة عزيز، وهي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، قد ركضت إلى النافذة المشرفة على فسحة المحطة وصرخت بصوت مذعور: أين هي بلدة جونية؟ أراني هنا في سهل مقفر لا مأوى فيه ولا منزل.
فأجابها المدير: إن المآوي لكثيرة عند «أديب» ثم إن الذي يجر وراءه أمتعة كثيرة العدد كهذه لا يجب عليه أن يبطئ في إيجاد مسكن يأوي إليه، إني أبصر وراء هذه الألواح الزجاجية سحنة معتر لا أشك في أنه يقودكم جميعا إلى حيث تجدون مأوى لكم. ونادى فريدا فامتثل أمامه خجلا ينظر خلسة إلى قدميه العاريتين، فقال المدير: اذهب يا فريد ودل السيد عزيزا إلى منزل أديب. فتقدم الولد قبيلة عزيز واجتاز بها الفسحة، فالطريق. وفيما هم سائرون سأل الموظف الجديد فريدا عمن هو أديب، فأجاب الولد أنه زراع في البلدة بنى منزلا كبيرا أجر معظم غرفه لعمال السكة الحديدية حتى أطلق عليه اسم «منزل عملة السكة».
كانت جماعة من النساء تشتغل أمام المنزل في ظلال شجرة كبيرة من أشجار الطلح، ولم يكد عزيز وجماعته يصلون إلى مقربة من مأوى أديب حتى وقف النساء ينظرن بدهشة إلى ذلك الموكب، عندئذ انتصبت سيدة المنزل على عتبة الباب وسألت فريدا قائلة: من هؤلاء القوم يا فريد؟ فأجاب الولد: إنهم من المستأجرين يا سيدتي، وقد خلفوا السيد داود حامل البريد الأحمر.
2
حاول داود أن يقنع مديره بإبقائه في وظيفته، فذهبت مساعيه أدراج الرياح، فاضطر أن ينزل عند الأوامر، عند هذا انتصر عزيز فوطد إقامته في جونية.
لم يحتج الموظف الجديد إلى أكثر من غرفتين لإيواء عائلته، أما زوجة أديب فقد سمحت له بأن يضع حيواناته في زاوية من الحديقة؛ حيث بنى لها أقفاصا كبيرة وأكواخا من الخشب، وأما حواء ونبيه فقد كانا يذهبان كل يوم في قطار الصباح لينهيا دروسهما في بيروت.
كانت امرأة أديب كثيرة اللطف كريمة الأخلاق قلما تفارق الابتسامة العذبة ثغرها الجميل، وكانت تعطف على الصبية الصغار وتتعهدهم بما فطرت عليه من العذوبة والرقة، إلا أنها لم تكن تستطيع العيش في معزل عن الناس، فأقل سكينة كانت تؤلمها وتدب في صدرها عوامل السأم والضجر، أما أديب فقد كان يشتغل في حقله من مطلع الصبح إلى منتهى النهار، ولا يعود إلى منزله إلا عندما يعود ولداه من المدرسة.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت الأم سالم قليلة العقل عنيدة سامة حسودة تحب الخصومة، لا سيما مع زوجها السكير، وغالبا ما كانت تسبب لنفسها الضرب والشتيمة، حتى انتهى بها الأمر إلى تعاطي المسكرات لتتناسى الفقر المدقع الذي كان يحيط بها وبأولادها الثلاثة الذين نشئوا على تربية فاسدة، فتمكنت منهم عادة النهب، فجعلوا يسرقون البيض من مراقد الدجاج ليأكلوه نيئا، وينزعون حواجز البساتين ليبيعوها حطبا، ولا يترددون عن سلب الثمار من رياضها، والخضرة من منابتها. أما فريد فقد بقي شريفا بالرغم من المحيط الفاسد الذي يحف به؛ لأن ذكريات أمه كانت تردعه عن ارتكاب المنكر كلما خطر له.
كان فريد في عامه السابع عندما توفى الله أمه منهوكة الجسد من جراء الأعمال المرهقة التي قامت بها طيلة أعوام زواجها، ومن الحسرات والآلام التي كابدتها من زوجها سالم السكير، ولم يمر بعض أشهر على موتها حتى تزوج والد فريد من امرأة أيم لها ولدان، فاستحال المأوى إلى جحيم هائل، وما عتم أن شعر اليتيم البائس بحزن عميق وأدرك أن لا مصيبة أعظم عند الولد من فقد أمه.
كان سالم ينظر بحقارة إلى ولده المتألم ذي المقلتين العذبتين اللتين تحملان في عذوبتهما معاني الحزن والأسى! وكان شديد البغض له والنقمة عليه إلى حد أنه كان مرارا يمسك عنه الطعام ويحظر عليه المبيت في مضجعه.
ذات مساء طرد اليتيم من المنزل فاضطر أن يضطجع على أدراج السلم الخارجية؛ عند هذا فتح باب غرفة محاذية للسلم وخرجت منه فتاة صغيرة في نحو الخامسة من عمرها وتقدمت من فريد قائلة له بصوتها الجميل: لماذا أنت تبكي يا فريد؟ تعال معي فأمي أرسلتني لأجيء بك إليها، ثم أخذت يده وأدخلته إلى أمها وهو يبكي ويضطرب.
تقدمت أم الفتاة من فريد ونظرت إلى عينيه المغرورقتين بالدموع، بتلك الابتسامة الحلوة التي تنطوي على أرق ما في صدور الأمهات، وقالت له: لماذا أنت تبكي يا ولدي؟ فهل أساءوا التصرف معك ومنعوا عنك طعامك؟ ألا، فاجلس على هذا المقعد، وانتظرني ريثما أجيئك بصحيفة من الحساء.
فجلس الولد على حافة كرسي عريض ناظرا بحياء إلى ثيابه الرثة وقدميه العاريتين. وبعد هنيهة جاءته السيدة فارس بكوب حساء سخن وعادت إلى آلة الخياطة تنجز عملها بهدوء وسكينة.
في تلك الساعة كان التوءمان الصغيران يلعبان معا في زاوية من زوايا الغرفة، فاقتربت الفتاة من فريد وقالت له: «كيف وجدت الحساء؟ لماذا أنت تبكي؟ ألا تعرف أن البكاء يؤلمني جد الألم؟»
عند هذا أخذت تسرد على مسمعه قصة مضحكة، فضحك حتى استلقى على ظهره، فسرت الفتاة سرورا لا سرور بعده، والتفتت إلى أمها قائلة : انظري يا أمي، إنه يضحك؛ فقد نسي آلامه، كم أني مسرورة الآن! وأنت يا أمي ألست مسرورة؟ فالتفتت الأم إلى ابنتها مستغربة وسألتها بصوت خافت عما يدفعها إلى معاملة فريد تلك المعاملة الحسنة، فأجابت الفتاة: ذلك لأنه بائس رضي الأخلاق، ولكن إذا حدثته نفسه يوما بأن ينزع عما هو عليه، فلا أتردد عن مقته والابتعاد عنه. فسمع الولد ما دار بين الأم وابنتها، فقال بسذاجة: ماذا يجب علي أن أعمل يا سيدتي لكي أحافظ دائما على سيرتي الحسنة؟ فأجابته: يجب أن تضرع إلى الله وتتذكر أمك. فقال: ليس من الصعب علي أن أضرع إلى الله؛ ولكن كيف يتسع لي ذلك في البيت والجميع يهزءون بي وينتهرونني ولا يدعون لي سبيلا للصلاة؟
3
كانت السيدة فارس من تلك النساء الصالحات اللواتي نشأن في وسط مسيحي، وتخلقن بأخلاق شريفة ساذجة؛ فلم تعرف في صغرها إلا كنيسة القرية ومدرسة الراهبات وحنان أمها العذبة التي تعهدتها بتربية طاهرة، وعلمتها محبة القريب، والعطف على البؤساء من أبناء الشعب.
Shafi da ba'a sani ba
لم تكن تلك السيدة ملمة بعلم الفلسفة والمنطق، بل كانت قد تلقنت كثيرا من الفضائل السامية في التعليم المسيحي، وانقطعت عن المدرسة بعد أن درست أصول ديانتها درسا مدققا.
لم تقرأ في حياتها رواية من تلك الروايات الخلاعية، إلا أن مخيلتها الطافحة بذكريات القديسين وأعمالهم الصالحة كانت نقية لألاءة عذبة تطفو عليها سلامة الطوية وجمال القلب.
يا للحداثة من ينبوع شعري إذا صرفت بين عذوبة التقى وفضيلة العمل!
تزوجت السيدة فارس في الثلاثين من عمرها؛ لأنها كانت تود أن تبقى بتولا وتنذر نفسها للعبادة ومؤاساة الفقراء والمرضى؛ ولكن عندما تقدم فارس لطلب يدها من أهلها نزلت عند رغبته لما رأت فيه من الخصال الطيبة التي تؤهله لأن يكون شريكا لها في نياتها الحميدة ومزاياها الشريفة، أما فارس فقد دفعه إلى الاقتران بها ما عرفه فيها من الرغبة في العمل ومحبة البؤساء، فلم يسألها مهرا غير إبرتها وإقدامها.
ترددت السيدة فارس في بادئ الأمر عن أن تضع يدها في يد ذلك العامل النشيط الذي لم يكن راسخا في معتقده الديني كما يجب أن يكون، ولكن حبه لها اضطره إلى النزول عند كل مزية من مزاياها، فصار يقوم بواجباته الدينية بدون إخلال حتى انتهى به الأمر إلى مشاطرتها تربية بنيه تربية مسيحية صرفة.
كان راتب فارس الشهري غير كاف وحده للقيام بأود عائلته، إلا أن آلة الخياطة واجتهاد امرأته واقتصادها، كل ذلك كان يمهد له حياة هادئة عذبة بعيدة عن مطامع الإنسان، فينسى الغنى الذي يسعى المرء وراءه في مطارح حياته، أوليس غنيا ذلك الذي تتوفر لديه ضروريات الحياة؟
كانت السيدة فارس تنهض في الصباح وتبدأ بعملها بكل نشاط؛ فلا نبالغ إذا قلنا عنها ما تقول الكتب المقدسة عن المرأة القوية؛ فهي لم تكن تأكل خبزها بالبطالة والكسل.
لماذا لا تنشد الشعراء فضيلة النساء العاملات في إدارة منازلهن؟ إنني أفضلك على أنامل الشريفات أيتها الأيدي العاملة؛ إنني أؤثرك على الأيدي المتراخية البيضاء يا أنامل نساء الشعب المتواضعات، أيتها الأيدي الحمراء المشوهة بالأعمال، أيتها الأيدي المستعيرة سواد الفحم من أفواه المطابخ، المخدشة بشعفات الحطب، التي لا تترك المكنسة إلا لتعود إلى إبرتها! إن جهودك الشاقة لتعرف كيف تلد الراحة بعد العناء. أجل فالفضل راجع لك في إلباس تلك الغرف القذرة لباس النظافة والترتيب، وتحويلها من مآو هادئة عذبة تسمى: المنزل المرتب، الفضل راجع لك في غرس تلك الأزهار النيرة، تلك الأزهار البهيجة: الشعلة! الفضل راجع لك في إعداد الطعام الشهي الذي يزيل الغضون عن جبهة الأب، ويضع السرور في عيون الأبناء، إن في كل خدة من خدودك وفي كل ندبة من ندوبك أثرا واضحا يخبر عن تاريخ فضيلتك.
لم يكن للسيدة فارس وقت يتسع لها فيه أن تصرف بعض دقائق في الثرثرة مع جاراتها، فأحيانا كانت السيدة أديب تقف على عتبة مطبخها وتناديها قائلة: ألا تسمحين لنفسك ببعض دقائق تصرفينها مع صديقاتك يا سيدة فارس؟ فتجيبها هذه: يصعب علي ذلك يا سيدة أديب قبل أن أنهي طي الأثواب المغسلة ورتقها؛ فاعذريني ! فكيف يتسع لمن تكون مثلي أما لثلاثة أولاد صغار أن تغنم دقيقة واحدة للاستراحة من عناء الأشغال؟ فتجيبها السيدة بطرس: إن وقتي لثمين كوقتك ولدي من الأشغال ما لا يقل عما لديك، ولكن الإنسان يحتاج دائما إلى ساعة يستريح فيها، ثم إن النساء لم يخلقن في هذه الحياة لكي يرتبن المنزل ويهيئن الغذاء فقط، فهن كغيرهن من البشر يحق لهن أن يستغرقن حينا من الزمن في الأحلام اللذيذة وينصرفن عن الحياة المادية إلى الحياة الخيالية الهادئة ...
كانت السيدة بطرس ذات روح خيالية وطبيعة متراخية، تسعى جهدها في أن تتلهى عن الحقائق العالمية المبهمة، ولقد تزوجت بلا مهر من موزع بريد جونية، وهو شاب كثير الذكاء ذو آمال واسعة يدعى بطرس، فما عتم أن ارتقى إلى وظيفة مدير في المحطة. كانت أفكار السيدة بطرس تقطن في نواح مرتفعة عن مطارح الأرض، وهذا ما دفعها إلى تبذير الأموال وإنفاقها بدون داع حتى بلغت نفقاتها ثلاثة آلاف ليرة في السنة، ومع ذلك فقد كانت عديمة الاعتناء بأمور بيتها، لا تكترث إلا لقراءة الروايات والقصص الغرامية، أما زوجها فقد كان يعود إلى منزله في الساعة الحادية عشرة والنصف، فلا يجد الطعام مهيئا ولا الأسرة مرتبة ولا الأواني معدة في أماكنها، فيسخط ويجدف ويحطم ما يراه أمامه، ويقول لها بصوت غضوب: إن هذا المأوى لجحيم لا أستطيع السكن فيه! فتضطرب امرأته وترفع إلى السماء عينيها المغلفتين بأهداب مستطيلة، وترجع بالذكرى إلى بواسل رواياتها الكئيبات فتستعير أصواتهن المحزنة المتهززة وتصرخ قائلة: بماذا جنيت على السماء؟ فيجيبها بطرس: جنيت عليها بأنك قرأت روايات وقصصا عوض أن تهتمي بإدارة منزلك. فما الذي شغلك هذا الصباح عن ترتيب الأسرة وإعداد الطعام؟ - لا تدع الحدة تأخذ منك مأخذها يا صديقي. أنا لا أنكر أنني لم أحسن اختيار الوقت المناسب للقراءة، غير أني كنت قد انتهيت إلى فقرة مؤلمة: لقد نصبوا فخا لفتى جميل من أسرة كريمة وأرادوا الإيقاع به، فهل أقدر أن أقف عن القراءة قبل أن أراه مفلتا من أيدي أعدائه؟ لا يا عزيزي بطرس، فهذا ما يفوق قدرتي، أما الآن فأيقن بأنني سأجتهد في أن أتمم ما يجب علي بوقت قصير. أنت لا تجهل أنني كثيرة الحذاقة ساعة أرغب فسترى كل ما تريده متمما قبل الساعة الثانية.
Shafi da ba'a sani ba
بعض النساء يتفوقن على سواهن بترتيب الأشياء وإتقان العمل والنظافة، أما السيدة بطرس فقد امتازت عن غيرها بالسرعة المدهشة.
لم تحتج إلى أكثر من دورتين أو ثلاث في غرفتها حتى أعادت كل شيء إلى مكانه، فاطمأن بالها عندئذ فأخذت تحت ذراعها قماشتها المطرزة وخفت إلى مجلس الثرثرة المنعقد تحت ظلال شجرة الطلح.
كانت السيدة بطرس تنظر إلى القرويات اللواتي كن يجالسنها نظرة ملكة إلى ما دونها؛ لأنها كانت تفتخر بانتسابها إلى أسرة عاشت في المدن، وبأنها المرأة الوحيدة التي أطلق عليها لقب «سيدة» في منزل عملة السكة، إلا أنها استاءت من مجيء عزيز وحلوله في ذلك المنزل، لا سيما عندما وقع نظرها على ابنته حواء وولده آدم، وخطر لها أنها ستنخسف أمام جمال تلك وذكاء هذا؛ ولكنها ما لبثت أن اطمأنت وعادت إلى سكينتها.
كانت السيدة عزيز وهي قروية لا تعبأ بسوى العمل والإنتاج، تهتم جد الاهتمام بمعزها وخنازيرها؛ تارة تمثل دور الرجل فتقلب بمحفرها حديقتها الصغيرة، وطورا تأخذ على عهدتها غسل ثياب الغير لقاء أجرة، وخلاصة القول كانت لا تخجل بعمل مهما كان حقيرا. وكانت ابنتها حواء فتاة صلبة عديمة الأناقة، قطوبة الوجه، تكثر من المطالعة والدرس، يتراوح عمرها بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، تبدو على محياها أمارات العجب والكبرياء! وعلى الجملة فهي من تلك الفتيات اللواتي لم تحدثهن نفوسهن يوما بأن يخلعن عن عرش الجمال امرأة حسناء كالسيدة بطرس.
بقيت السيدة بطرس في وسط ذلك المجتمع المؤلف من الأنفس الساذجة المستغرقة في المادة، تلك الأرواح الخيالية المشبعة بالجمال والفن، ذات الأصابع الناعمة التي لم تبدع إلا لتطوي أوراق كتاب أو لترسم أزهارا على نسيجة من الكتان الثمين.
4
جاء يوم الأحد فلم تأبه له السيدة بطرس؛ لأن إيمانها الديني الذي لم يؤسس على دعائم متينة كان قد فتر من يوم إلى يوم تحت نفوذ قراءتها الروايات المفسدة، ففي ذلك الصباح الجميل عادت السيدة أديب من القداس الأول وخلعت عنها وشاحها الأبيض بتؤدة واحترام، فتقدمت إليها السيدة بطرس وطلبت منها أن تعيرها ثلاث مغارف من الطحين ومغرفة من الزيت قائلة: لقد تراخيت في تجديد المئونة يا سيدة أديب، ويجب علي أن أعد الغداء قبل الساعة الحادية عشرة؛ لأن زوجي يود أن يذهب إلى جونية عند ظهيرة النهار، فيظهر لي أن هنالك فندقا يؤمه غواة القمار، وزوجي أصبح منهم؛ لأنه ينقاد إلى أصدقائه الذين عودوه الاختلاف إلى الحانات كلما سنحت له الفرص.
قالت ذلك ونظرت بحزن إلى ردائها المخرق في مواضع عديدة، وبينا هي عائدة إلى غرفتها وفي يدها مغارف الزيت والطحين أبصرت السيدة فارس خارجة من المنزل بأبهى ما لديها من الزينة، يتبعها أولادها الثلاثة ذوو الوجوه الرخصة الطريئة والشعور المصقولة النظيفة مرتدين أردية بيضاء، أحدهم يحمل مظلة أمه، والآخر كتاب صلواتها ويتجهون جميعهم إلى الكنيسة الكبرى في جونية، فصرخت قائلة: آه! إن هؤلاء المائتين السعداء لا يزال يتسع لهم الذهاب إلى الكنيسة! أما أنا فلم يبق لي آحاد أسر بها! فجاوبتها السيدة فارس برقتها المعهودة: إنك تأخذين علي دائما استغراقي في الحياة المادية، فأنا لا أكتمك أنني أصرف ستة أيام في العمل والكد، ولكن الأحد هو يوم الراحة من التعب، لا بل عيد جميل، لقد طالما ذقت في حياتي لذة الآحاد السعيدة حتى أصبحت اليوم أرغب في إذاقة حلاوتها لأولادي الصغار.
ثم التفتت نحو المنزل وقالت: من يتبعني إلى الكنيسة؟ فأسرعت فتاة جميلة في نحو العاشرة من عمرها، هي ابنة أديب ذات المقلتين الحلوتين والبشرة الناعمة التقية التي لا تكاد تقع عليها أعين عملة السكة حتى يقولوا في نفوسهم: اصبروا حتى تبلغ السادسة عشرة من عمرها فتبصروا الهائمين يخفون إليها كما تخف الشحارير إلى المرايا. •••
وعندما انتهت الذبيحة عادت السيدة فارس إلى المنزل يحيط بها أولادها الأحداث كفراش تحوم حول زهرة؛ وفيما هم في الطريق أخذت تقص على المسامع حكايات يوسف الصديق، وضحية إسحق وانتصار داود على جليات وحداثة المسيح ونبيذ قانا وضريح لعازر والذبائح في الدياميس ورمي المسيحيين فريسة للأسود، حتى انتهت إلى قصة «تارسيسيوس» الولد القديس، فسألتها الفتاة الصغيرة عما إذا كان هذا الولد جميلا، وسألها فريد عما إذا كان رث الثياب، وشفع ذلك بقوله: إن من التعزية أن نشاهد أجساما هزيلة وثيابا رثة تنطوي على قلوب نبيلة حساسة.
Shafi da ba'a sani ba
وبعد برهة قصيرة وصلت الجماعة إلى المنزل فخف أبناء فارس يحيون والدهم الجالس تحت شجرة الطلح يدخن لفافته بهدوء وسكينة، وكان طائر يغني في الأبعاد ألحانه المملة، فسألت الفتاة الصغيرة أمها قائلة: ما الذي يغني في الأبعاد؟ فأجابتها الأم: هذه تباشير الصيف يا بنيتي! فقالت الفتاة: وأين هو؟ فقالت: لا أدري، ولا أحد يدري، إنه يعلن قدومه بألحان طائر، ولكن هذا الطائر منيع عن أن يدركه أحد. فقالت الفتاة: آه! لو كان فريد هنا لما تعذر عليه أن يجيئني به؛ لأنه يدرك أماكن العشاش كلها! عند هذا تراءى فريد والفتاة الصغيرة ولبيب راغب الذين سئموا المنزل فأسرعوا إلى ملاقاة عائلة فارس، وبعد ساعات طويلة سمعت الأجراس تدق في جونية معلنة صلاة العصر، فقالت السيدة فارس بصوت عذب: «لقد أزفت ساعة التبريك أيها الصغار، فلنسجد بخشوع وتؤدة ولنطلب منه أن يمنحنا بركته الإلهية! فالتوت الركب في الأعشاب المزهرة وانحنت الجباه تحت ظلال الأغصان، فشخصت السيدة فارس إلى الجباه الخاشعة جامعة كلتا يديها وقالت: باركنا يا الله، واحرسنا بعنايتك، شكرا لك على ما أسبغت علينا من النعم، وعلى هذا الأحد العذب والشمس الجميلة، ولكن لماذا أوليتنا كل هذه الحسنات دون سوانا من البؤساء المساكين؟ فنحن نعطف على إخوتنا الفقراء ونسألك أن تهبهم بعضا من السعادة التي وهبتنا إياها.»
ولما سكتت السيدة فارس بقي الأولاد يفكرون بعض ثوان حتى تخلل الصمت صوت الفتاة الصغيرة: من هم إخوتنا الفقراء يا سيدة فارس؟ فأراد فريد أن يقول لها: إنهم أولاد بؤساء نظيره لا ملجأ لهم ولا من يتعهدهم بعناية وشفقة، يصرفون الحياة تحت سلطة والد ظالم سكير وإخوة أردياء أشرار، إلا أنهم يفتقرون إلى عطف السيدة فارس ومحبتها ولا يتسع لهم كما يتسع له أن يقضوا أيام الآحاد بقربها يتمتعون بحنانها وعذوبتها.
عند هذا تأبط فارس ذراع امرأته واتجه إلى منزله تتبعه نظرات فريد وابنة أديب الصغيرة.
5
كان الجمهور مزدحما تحت شجرة الطلح في ذلك المساء، وكان السيد أديب يهيئ غذاءه المؤلف من البطاطا والباقلاء المالح والسلطة، في حين كان بطرس وعزيز ونجيب يتحدثون عن مسئولية صدام حدث في الصباح بالقرب من محطة «عينطورا»، أما النساء فقد كن يتساءلن عن السبب الذي أدى إلى ذلك الصدام، وعن إهمال المحقق وفتور المفتش، إلى أن قالت إحداهن: إن من الصعب أن يتفق إيجاد قوم صالحين يقومون بما عهد إليهم حق القيام. فقال نجيب: لا يجب علينا أن نتأسف إلى هذا الحد، فلقد سافرت إلى مدن عديدة واختبرت كثيرا من الرجال فلم أجد فيما رأيت ومن اختبرت رؤساء أعدل وأنبه من رؤسائنا، ألا فلننظر مثلا إلى السيد راغب، فهو مثال الجد والنشاط، ويندر أن نراه مهملا أمر محطته في أية حالة من الحالات. فأجاب سالم السكير بعد أن نزع غليونه من بين شفتيه: أجل، إن الرئيس لرجل مجتهد، ولكنه يتطلب من عملته أكثر مما يتسع لهم، فهو ظالم إلى حد الكفر. فنهض أديب عن المنضدة وقال: أراك تتظلم يا سالم، ولكن ثق بأنني لو رأيت بين عمالي من يعاقر الخمر مثلك لما ترددت عن طرده، إلا أن الرئيس أصر على إبقائك رحمة بعائلتك، فلا تظن أنه يجهل ما وراء سلوكك من المخاطر العظيمة، وكن على ثقة بأنه يضطر إلى مضاعفة الحراسة باحتفاظه عليك. فصرح بطرس قائلا: إنني من رأي سالم، فالرئيس شديد التعنت كثير المطاليب، فهو لا يسأل عماله أن يقوموا فقط بما يترتب عليهم، بل يريد أن يكونوا غيورين أولي حمية وهمة! ... ولم الحمية والغيرة؟ ألأجل الشركة؟ إنني أسمعه يقول دائما: «كونوا لطفاء مع المسافرين لإعلاء اسم الشركة، لا تتأخروا عن تسليم البريد لكي تمتاز الشركة عن سواها بتسهيل المواصلات، لا يجب أن توقفوا البضائع فترة واحدة. تحرك يا بطرس، فالشركة تنظر إليك بالمرصاد، فهي تحب العمال الغيورين أولي الحمية والهمة ... متى تتوصل إلى أن تفهم كيف يجب أن يكون عامل الشركة النشيط.» إن رئيسنا لسليم الطوية طيب القلب، ولكن طيبة قلبه تؤدي إلى الإزعاج والكدر. من يجهل أن الشركة هي جماعة من المساهمين لهم أغراضهم ومطامعهم لا هم لهم إلا قبض مقاسيمهم الجسيمة؟ فعارضه نجيب بقوله: إن الشركة هي غير ما ظننت يا بطرس. - وما هي إذن؟ - هي جماعة من المساهمين إذا شئت، ولكنها فوق ذلك تلك الكتيبة من العملة الصالحين الذين يشتركون في جهاد واحد هو من العظمة بمكان، والذين يوطدون دعائم تجارتنا وصناعتنا وحياتنا الاجتماعية. آه يا بطرس! إنك من تلك المدرسة الحديثة التي تنتقد وتهزأ وتتأسف! فهذه المدرسة يا صديقي تدفع إلى التمرد، والتمرد يدفع إلى الثورة، غير أنا - نحن العملة الأقدمين - لا نماثلكم في شيء من هذا؛ إذ إننا نحب مهنتنا حبا شديدا ...
فقاطعه بطرس قائلا: يا لها مهنة شريفة! أتعتقد أنه من المستحب أن يصرف العامل شبابه في وزن الأحمال وفحص السندات المقبوضة؟ فأجابه نجيب: ذلك لأنك لا تنظر إلى أبعد من ميزانك أو من ورقتك الخضراء! إن من لا يجمع إلى مهنته بعضا من التصور لا يمكنه أن يتعشقها! - وما معنى التصور في السكة الحديدية؟ - التصور؟ ... أنا عندما أكون مهتما بتدوين بعض الأرقام في مكتبي أفكر فيما يئول إليه اعتنائي ودقتي، وما وراء كدي واجتهادي من المنفعة التي تعلي شأن تجارنا وترفع معاملنا إلى مستوى المعامل الراقية في العالم، وعندما أبصر قطارا من قطرنا يتجه نحو باريس مقلا الأغلال في عجلته أفكر في جهاد المزارعين الذي أكسب أرض الوطن ثراء وحياة ... - هذا بعض الشيء الحسن! ... - أتظن أن ذلك أمر لا قيمة له؟ أترى أن ذلك سرور مهمل لمن هو مثلنا حقير؟ أتعتقد أن من يشعر بجهاد لبنان يمر بين يديه ويندفع إلى حيث تكثر الأغلال والذهب وجهود آلاف من الأذرع المجهولة لا ذكر له في هذا العالم ولا فضل؟ أجل، نحن عمال بؤساء، ولكننا ندير دولاب العمل والثراء في أرض الوطن. وإذا دهم هذا الخصب ولحق به النهب يوما، إذا هجم العدو على حدودنا ونادت الأبواق والأجراس الشعب إلى الحرب، فمن يهب للذود عن الحياض قبل العمال والبؤساء؟ وإلى من يعهد الوطن بالقيام بالواجب المقدس قبل أن يعهد به إلينا؟ إنني لن أتمنى الحرب يا بطرس، إلا أنني لا أضمن تجنبها وتحاشيها. سيجيء يوم نضطر فيه أن ننهض لدفع العدو وإنجاء البلاد من شره! سيجيء يوم يتم فيه للعدو سن سيوفه الطماعة، فيثب وثبة النمر الجائع ليستثمر استعداده الحربي، عند هذا تدرك الشعوب كلها أي دور عظيم تمثله السكك الحديدية في ملعب الدفاع عن الوطن! سيعهد إلينا بإخراج الجرحى إلى المستشفيات البعيدة، بإقلال الرسائل - رسائل الأهل والمحبين - إلى الجنود الأعزاء والأسرى المساكين! ألا تظن يا بطرس أن عمال السكك الحديدية سيتاح لهم يوما أن يكتبوا صفحة المجد والبطولة والتضحية في مطاوي التاريخ؟
فصرخ أديب قائلا: مرحى يا نجيب مرحى! إن من الفخر أن نسمعك تتغنى بهذا الكلام الطيب، فأيد عزيز كلام أديب بإشارة من رأسه، أما بطرس فقد هان عليه أن يتظاهر بالاندحار فأخذ يسخر قائلا: إنكم لنعاج صغيرة أوجدتكم الحياة لتجز صوفكم. فأجاب عزيز: فلنعد إلى العمل يا بطرس حتى يحين وقت الجز؛ لأننا لم ننجز بعد القيام بخدمتنا، وهذا قطار بيروت يعلن قدومه!
قال هذا ونزلوا إلى المحطة. أما فريد فأخذ يد نجيب وقال له بصوت خافت: عندما أكبر أنخرط في سلك عمال السكة! وسمع صوت الفتاة ابنة أديب تقول بتوسل: حدثنا عن أيام جنديتك يا سيد نجيب! فأظهر النساء ارتياحهن إلى هذا الطلب فقلن: أجل! أجل! يا سيد نجيب!
كان نجيب رجلا أعزب صلب الإرادة، لا يلذ له شيء كإيقاظ ذكرياته المضجعة في زوايا مخيلته؛ فطالما صرف ساعات الفراغ في استحضار مشاهد العرب الرحل في مطارح الصحراء، وإحياء ماضيه الطافح بتذكارات الجزائر والجوامع البيضاء وكثبان الرمال ونخيل الرياض وقوافل الجمال والحياة في الخيام أو في رحابة الصحاري ...
ترك الأولاد ألعابهم وتحفلوا حول نجيب ليسمعوا حديثه، فشرع هذا يقص على مسمعهم رحلاته في أفريقيا مصورا لهم جمال الفجر الزاحف على التلال وفي منخفضات الأودية، والليالي العذبة المضمخة بأريج النسمات، وأيام الشتاء السوداء، والراقصات في الأشعة الذهبية المتلألئة على السهول الجديبة.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت السيدة بطرس تحفظ أغنية «جزائرية» ذات نبرات رقاصة كخبب جواد عربي فأنشدتها لهم بصوتها العذب، ثم طلبت من السيد نجيب الذي وهبته الطبيعة ذاكرة غريبة أن ينشدهم بعض أبيات من الشاعر ناصيف اليازجي. فقال أديب: أجل، أجل، أنشدنا قصيدة لهذا الشاعر فأصغي إليك طيلة الليل، إن هذا الرجل ليتكلم كباقي الناس بالرغم من أن في لغته موسيقى جميلة. فابتسم نجيب ونهض من جلسته بعد أن شحذ ذاكرته وأخذ ينشد قصيدة «لهذا الشاعر»، وعندما وصل إلى نهايتها هبط الليل وانفتحت كوى النجوم في أجواز الفضاء، في حين كانت نسمة معطرة بأشذاء الطلح المزهرة تتلاعب بشعور النساء المصغيات إلى حديث نجيب. أما الأحداث فقد رقدوا على ركب أمهاتهم، وأما الأبكار فقد كانوا يصغون بدهشة وسكون إلى القصيدة الجميلة، وكانت نبرات الأشعار العذبة تحرك موضع العاطفة من الأرواح الساذجة ومن القلوب الممنوة بأشجان الحياة؛ إذ إن نفثات الشعر ومؤالفة الفن أيقظت فجأة جذوة الخيال الضئيلة التي كانت تهجع في مراقد النفوس وصيرتها شعلة مضطرمة.
في تلك الساعة كان رجل قادما من المحطة فسمع صوت نجيب فلبث واقفا في ظلال الكرمة على مقربة من شجرة الطلح؛ فظن الجميع أنه موظف من موظفي السكة فلم يأبهوا له. وكان صوت نجيب يتصاعد في مذاهب الليل بكل ما في رنينه من العذوبة والموسيقى، ويتصل إلى مسام الرجل محكم النبرات واضح الأجزاء. ولما سكت الصوت ارتفع التصفيق وعلا الهتاف، فقال أحد الحاضرين: آه يا سيد نجيب، لقد سكبت في أرواحنا عذوبة لا عذوبة بعدها. قال آخر: لقد أوشكت أن تفجر من أعيننا ينابيع الدموع ! وقال بعضهم: لا أظنك تضن علينا بقصيدة أخرى من نظم الشيخ ناصيف اليازجي، أليس كذلك؟ إنني لا أجد شاعرا مثله يستطيع أن يفهمنا حقيقة القلب البشري ...
عند هذا أبدى الغريب المنتصب وراء جفنات الكرمة حركة تعجب واستغراب، وقال في نفسه: ما كنت لأتوقع أن أسمع أشعار اليازجي أو أن أزعج جلسة شعرية عندما هممت بالمجيء إلى منزل عملة السكة. آه! إن النفوس مهما حقرت واتضعت تظل ظمأى إلى الجمال وخليقة بفهمه! ويخيل لي أن شعبنا اللبناني الذي كثيرا ما سعوا إلى جعله شعبا ماديا لن يندفع إلى إطفاء الكواكب النيرة ...
كان هذا الرجل الأب يوحنا كاهن جونية.
تقدم الكاهن إلى المنزل بعض خطوات، فعلا الهمس من شفاه الحضور وخفوا إلى تحيته، أما النساء فقد انزعجن قليلا لدى قدومه الفجائي ونهضن من أماكنهن لاستقباله؛ فقال الكاهن: لا تزعجوا نفوسكم يا أحبائي، واعذروني على حضوري في هذه الساعة المتأخرة، لقد جئت لأقدم خدمة للسيد سالم.
فنهض السكير من جلسته وفي يديه قبعة يلاعبها، وقال: أنا موقوف لخدمتك يا سيدي الكاهن فماذا تريد؟ فأجابه الكاهن: إنني لشديد الغبطة بولدك الصغير يا عزيزي، فهو مثال الاجتهاد والذكاء، ولقد حفظ التعليم المسيحي حفظا تاما دفعني إلى أن أطلب منك أن تسمح لي به لأضمه إلى عداد ملائكة الرسل، وكن على ثقة بأنني لا أتأخر عن إعطائه جعالة ترضيه ... فدندن سالم قائلا: لا أرفض يا سيدي الكاهن، لا أرفض! فهتفت النساء دفعة واحدة: مرحى يا فريد، مرحى! فقال نجيب: إنه لولد طيب السريرة حسن الأخلاق، ولكنه يميل إلى أن يكون عاملا في السكة الحديدية يا سيدي الكاهن.
فأجاب هذا: ليس عمال السكة رجالا كسائر الرجال، إنهم يعرفون شعراءهم وينشدون قصائدهم بنبرات ملؤها الجمال والفن. لقد سمعت إنشادك يا سيد نجيب فأهنئك! إنك تحس بعذوبة الشعر وتعرف أن تعطيه حقه من الإلقاء ...
عند هذا جلس الكاهن وأصبحت المباحثة عمومية.
أما الفتاة الصغيرة فقد انحدرت إلى جانب وقالت لفريد الطافح وجهه سرورا وغبطة: أصحيح يا فريد أنك ستلبس الثوب الأحمر والقميص المفوف بالزركشة الجميلة؟ وأنك ستشعل الشموع وتهز المبخرة؟ فأجابها فريد: بدون ريب لأنني سأصبح من ملائكة الخورس! فكثيرا ما حلمت بهذه الأمنية السعيدة ... فحدقت إليه الفتاة في أشعة الغسق وقالت له بصوت عذب تراوده حسرة عميقة: إن من الحزن ألا يكون لك وجه جميل كوجه لبيب راغب!
6
Shafi da ba'a sani ba
لم تسمع الأم ذلك الثناء الذي وجهه الكاهن إلى فريد بدون أن تغتاظ بعض الغيظ، لا سيما وقد انتبهت إلى تأييد العمال كلام كاهن جونية.
كان الجميع يحبون فريدا ويمقتون أبناء امرأة أبيه؛ لأنهم تشربوا عادات أمهم ونشئوا على النهب والفساد.
منذ ذلك اليوم الذي اختار فيه الكاهن فريدا ليضمه إلى عداد ملائكة الخورس تغيرت طباع الأم سالم واتشحت بوشاح من الحقد كثيف، وأصبحت لا تنثني فترة عن إرهاقه تارة بالأتعاب وطورا بالضرب، حتى إنها منعت عنه اللعب والحرية ونهته إلا عما يثقل عليه ويشقيه؛ وفوق ذلك فقد حجبت عنه الأكل إلا قليلا منه وحرمته بعضا من ثيابه وأمتعة فراشه الحقير، وأعدت له غرفة لا نافذة لها ملأى بالجراذين والفأر وضعت فيها رقعا بالية على قليل من القش وأمرته بأن يصرف فيها ليالي رقاده.
ذات يوم سرق أولاد الأم سالم بيضا من قن السيدة عزيز فجاءت هذه تشكو أمرها إلى أمهم فوقعت الجريرة على فريد المسكين!
وذات يوم غضب أديب؛ لأنه ذهب إلى الحديقة فوجد شجرة الكرز عارية من ثمارها، ولم ير مما زرعه من الخضرة إلا جزءا طفيفا فتهدد أبناء سالم برفع شكواه إلى التحري، فكان أن تهم فريد بكل هذا فنال قسمته من التوبيخ والضرب! وذات يوم وجدت السيدة بطرس ضفدعا لزجا بين صفحتين من رواية «الكونت ده مونتو كريستو» فأصابها هزة عصبية أدت إلى طلب الطبيب الذي خشي عليها من حمى دماغية، وبعد البحث والتدقيق وقع الذنب على فريد فجوزي شر جزاء.
كان فريد البائس يهزل من يوم إلى يوم، وقد توارت عن وجهه ابتسامة الصبا، وأصبح أقرب إلى سكان القبور منه إلى أبناء الحياة!
ففي أحد الأيام سأله الأب يوحنا وقد أبصر أمارات الألم مرتسمة على محياه: بماذا أنت تفكر يا فريد؟ فأجاب الولد: إنني أفكر بالأموات يا سيدي الكاهن، فهؤلاء يستريحون في قبورهم ولا من يسيء إليهم ... آه! إنني أتمنى الموت لأستريح مثلهم!
كانت نبرات صوته ملأى بالألم الساذج والحقيقة الموجعة حتى إن الكاهن لم يملك نفسه من الشفقة، فقال لفريد: ولم هذا اليأس يا بني؟ فلم يقدر الحزن أن يفجر العبرات من مقلتي فريد؛ لأنه تمرن منذ زمن طويل على التجلد وإمساك الدموع، فقال: لا أدري! إلا أنني سئمت الحياة! سئمت الحياة السوداء! •••
كانت ساعات المدرسة وأوقات الخدمة في الكنيسة هي الفرص الوحيدة التي يتذوق فيها لذة الحياة، وكان يعذب عنده أن يحمل المبخرة ويدق جرس التبشير، أما سلوكه في المدرسة فقد كان مثالا يحتذى به، وأما اجتهاده فقد كان موضوع الإعجاب والتكريم.
ذات مساء عاد تلامذة المدرسة إلى منازلهم وكان بينهم ولد في نحو الثانية عشرة من عمره هو ابن يوسف صاحب نزل مجاور للمحطة. كان هذا التلميذ كثير الكسل محبا للشر لا يلذ له إلا الخصام وإزعاج رفاقه الأحداث تارة بنصب أشراك للإيقاع بهم، وطورا بالهزء المتأتي عن الحسد؛ ففيما هم في الطريق أخذ الولد الشرير شعابا محددة الأطراف وشرع يخز بها أقدام الفتاة الصغيرة، فغضب فريد لهذا التصرف السيئ وما تردد أن رماه بضربة قوية فسقط على الأرض، وصادف جبينه حجرا ناتئا فانشق وتدفق الدم غزيرا من الجرح، ففرحت الفتاة وقالت لفريد: لقد أحسنت فعلا، فلنهرب لئلا يتشبث بنا هذا الشقي ويرهقنا ألما، إلا أن إلياس الشرير غسل جبهته بماء إحدى السواقي وأخذ يرشق الهاربين بالحجارة، ولما أصبحا في مأمن منه وقفت الفتاة وقالت لفريد: فلنسترح قليلا يا رفيقي ولا تخش ضررا من إلياس فهو أضعف من أن يتمكن منا، أولا تراه يبكي كفتاة صغيرة ولا يجرؤ أن يتقدم إليك، بالرغم من قوته التي تفوق قوتك عشر مرات؟ فسمع إلياس هذا الكلام فثارت في رأسه سورة الغضب وهجم على الولدين كالنمر الشرس، ولم تمض بعض ثوان حتى تمكن من فريد فطرحه على الحضيض، وأخذ يضربه ضربا موجعا حتى نبع الدم من شفتيه، عند هذا صرخ الأولاد بصوت مرتفع: النجدة! النجدة!
Shafi da ba'a sani ba
في تلك الآونة كانت عجلة مارة في الطريق المجاور، فلما سمع صاحبها الصراخ خف إلى مكان الحادثة، فهرب إلياس إلى غاب كثيف واختفى عن الأعين.
رفع سائق العجلة فريدا عن الأرض وقد أوشك أن يغمى عليه وحمله إلى المحطة حيث مددوه على أكياس الحنطة؛ فلما وقع عليه نظر الأم سالم أخذت تلعن وتسب يوسف بما أوتيت من فطرة التجديف والغضب، إلا أن امرأة أديب لم تتردد أن أبعدت عنه الأم الشرسة وذهبت به إلى غرفتها، حيث ضمدت جرحه ووضعته على سرير ناعم، ولما كان من غد شعر فريد بأنه تقدم خطوة إلى الشفاء، فجاءته السيدة أديب بغذاء خفيف وقادته إلى ظلال شجرة الطلح حيث أجلسته على كرسي من قش تحف به الوسائد من كل الجهات.
فلما أبصرته الأم سالم على هذه الحالة قالت بصوت تراوده نبرات الغضب: هل اعتقدت السيدة أديب أننا نعجز عن إيجاد طرق للعناية بفريد في منزلنا؟ أما السيدة بطرس فقد كانت تنظر إلى اليتيم المسكين بشفقة وحنو، شاخصة إلى شحوبه واصفراره بعين ملؤها الحزن.
لا تحتاج النفس الحساسة المشبعة بالخيال إلى أكثر من هذا المشهد لتتحرك فيها عاطفة الرحمة والحنو.
فما ملكت نفسها أن قالت: مرحى يا فريد! إنك لطيب القلب شريف الطباع. ويندر في سواك من يقدم وهو في الحادية عشرة من عمره على المخاطرة بنفسه في سبيل الدفاع عن فتاة.
7
كانت شمس آب المحرقة تلهب محطة جونية في حين كان شاب جميل الطلعة رقيق الشاربين جالسا في مكتب المدير يطالع جريدة في يده وبين شفتيه لفافة من التبغ. كان هذا الفتى خلفا وقتيا للسيد راغب الذي منح إجازة بعض أيام يصرفها مستريحا من عناء الأشغال، إلا أنه كان يشعر بالسأم يستولي عليه في جونية، وقد استاء من طعام النزل الذي بناه يوسف قريبا من المحطة .
هناك على مقربة من المحطة تنساب ساقية صغيرة حامت حواليها غيوم كثيفة من البعوض حرمت ذلك الشاب أن ينام طيلة ليال ثلاث؛ فانزعج مزاجه العصبي وتكدر حتى لم يبق له تجلد على الصبر، ولكنه لم يفتر عن القيام بواجبه تاركا لمأموريه الحرية في كل ما يجرون؛ فاغتنم بطرس وعزيز وسالم هذه الفرصة السانحة ليذهب كل منهم إلى حيث يرغب.
أما سالم فكان يجلس بين أقداح خمرته، فيلهو عن الحر الشديد بما في قنانيه من المرطبات المسكرة قائلا في نفسه: إن راغب غائب، فإذا جلست إلى خمرتي لا أقترف ذنبا يستحق العقوبة؛ ثم إن الخلف الوقتي لا ينتبه لي فهو راغب عني في برد أظافيره وتعكيف شاربيه. إنني لأؤثر هذا الرئيس على سواه، فهو لا يضن على مأموريه بساعات حرة في أوقات محرقة كهذه.
ففي أحد الأيام استفاق عزيز من رقدته وأسرع إليه بقميص النوم وقال له: إنك تعاقر الخمر يا سالم وتنسى أن القطار على أهبة الوصول.
Shafi da ba'a sani ba
فأجابه سالم بصوت يتردد بين الصحو والسكر: ها أنا ذا يا سيد عزيز! ها أنا ذا! قال هذا وتبعه متمايلا من السكر؛ فعندما بلغا الرصيف كان الحر شديدا والسماء تلتهب على الرءوس والشمس تذيب الحمر تذويبا. وكان الريف كالحا عبوسا لا يسمع منه إلا أصوات الصراصير المملة تملأ بأزيزها مطارح الحقول؛ فقال سالم: إن في السماء لنارا تتساقط على الأرض، ثم انحنى ليلتقط طرف لفافة عن الرصيف.
تعود سالم أن يجمع فضلات لفائف يرميها المسافرون على الأرض ويعمل منها كتلة لغليونه.
فقال عزيز: ما لك تتردد يا سالم؟ إنك لكثير الضجر هذا النهار. أما سالم فلم يلتقط اللفافة وبقي منحنيا، وفجأة كبا كبوة وانطرح على الرصيف دفعة واحدة. فأسرع المدير الوقتي لدى صراخ عزيز وخف وراءه الأتباع الذين كانوا يدفعون إحدى العجلات إلى الخط الرابع. عند هذا كان الضجيج قد انتشر في الحانة فانتصب يوسف على عتبة الباب مع بعض العملة ينتظرون مرور المحمل.
في تلك الآونة كانت النساء مجتمعات تحت شجرة الطلح يتحدثن في شئون شتى فسمعن الضوضاء فهجن هياجهن ورفعن أذرعهن إلى السماء مستغيثات، وخف الأولاد الأحداث إلى مكان الحادثة ولبثوا مدهوشين أمام المحمل حيث كان عزيز وغيره ينقلون جثة سالم.
أما السيد أديب فقد امتطى جواده وأسرع إلى الإتيان بالطبيب من قصبة جونية، في حين كانت الأم سالم تنطرح على جثة زوجها وتحاول أن توقظه ببكائها؛ وأما السيدة فارس فقد كانت تهتم بالأولاد، والسيدة بطرس تتعهد المريض بعنايتها، والسيدة أديب تأتيه بلفائف الكتان والقطن فضلا عن السيدة عزيز التي كانت تضن بتقديم بعض ما يتسع لها من الخيرات، فتقدم له عنايتها وأتعابها وتقف نفسها لتصرف الليل أمام وسادته.
إن من الواجب المقدس عند القرويين أن يسرعوا إلى حيث تقع المصائب ليغيثوا مظلوما أو ينجدوا محزونا: إنهم يذهبون إلى الجهة التي تقودهم إليها عاطفة قلوبهم، فطرة عذبة تدفع الإنسان إلى معاضدة أخيه الإنسان، ميل شريف إلى الحب المجرد والمؤاساة المقدسة.
يجد الأغنياء خدما أجراء يقومون بواجبهم لقاء أثمان، ويجد الفقراء عضدا وجيرانا يندفعون بعطف وشفقة في سبيل المحبة التي تربطهم؛ فالمأوى الوضيع الذي تزوره الأوجاع والنكبات يعرف كما تعرف القصور معاني الإخاء وسلوى العطف والحنان.
جاء الطبيب بعد هنيهة فقطع الرجاء من شفاء المريض؛ لأن الفالج الذي تسلط على شطر كبير من الجسد كان قد امتد إلى الدماغ.
بقي المسكين ثمانية أيام يتردد بين الموت والحياة حتى فاجأته المنية قبل أن تمنحه ساعة يستفيق فيها فيرى أبناءه وامرأته.
وقفت الأم سالم أمام جثة زوجها وأخذت تقص على مسامع جاراتها المقاصد التي تنويها في المستقبل. كان لهذه الأم أخ بكر يحترف الحراثة في زحلة، وكان مضطرا إلى خادمة؛ لأنه أرمل، فعرض على شقيقته أن تحل محل تلك الخادمة، وقال لها إنه يهيئ عملا لأولادها ويؤجر فريدا لأحد المستكرين في الضواحي لكي يحرس مواشيه ومزروعاته. فسألت السيدة أديب فريدا يوما عما إذا كان يرضى بذلك، فأجابها بإشارة لم تفهمها السيدة، وأخذ يفكر قائلا في نفسه: أمن الممكن أن أذهب مع تلك المرأة وهؤلاء الأولاد، وأترك الذين يعطفون علي ويتعهدونني بعنايتهم كعائلة فارس وأديب وبطرس ونجيب ولبيب وراغب؟
Shafi da ba'a sani ba
لم يكن سالم سوى بهيمة إلا أنه كان والد فريد! ففي مدة حياته لم تجرؤ الأم الشرسة أن تحرم الولد من الخبز وتسيء إليه إساءة عظيمة؛ ولكن اليوم وقد أصبح المسكين ملكا لها تتصرف به تصرفا مطلقا، فأي عذاب يتوقع له؟
أجل، سيرى محروما من المدارس والكتب والمعلمين، سيرى نفسه نازلا عند رغائب غرباء لا يفهم لغاتهم ولا يدرك منطوياتهم! سيضطر إلى حراسة المواشي على المرتفعات الملأى بالصخور مع كلاب تخيفه بأنيابها المكشرة! سيرى جميع أيامه متساوية حاملة إليه مشاهد الآلام والبؤس ولا أمل فيها ولا رجاء! ستحتجب عنه الآحاد السعيدة التي تذوق طعمها طيلة سنين! سيصبح فريد راعيا حيل بينه وبين محبيه وبين محطة جونية التي هي وطنه الحقيقي!
صرف الولد الأيام التي تلت موت والده حزينا حتى الموت، لا ينبس ببنت شفة كأنه أخرس قضت عليه الحياة ألا يفوه بكلمة، فما غيب سالم في التراب ولبست الأم الشرسة ثوبها الحدادي حتى بدأت تهيئ أمتعة منزلها في صناديق قديمة قائلة لأولادها: ليس الآن وقت البكاء فقوموا للعمل! سنبيع أمتعتنا الثمينة لندفع ديون الخباز والعطارين، ويجب أن نعد ما يبقى ونضعه في مركبة القطار قبل مرور يومين من هذا التاريخ، فأخي ينتظر قدومنا في أواخر هذا الأسبوع.
في أثناء ذلك كانت تنتهر فريدا وتصفعه بقساوة؛ لأنه لم يسرع لقضاء حاجاتها كما ترغب، ثم تقول له: إنك لبهيمة لا فهم لها، فسأعلمك كيف يجب أن تقاسي من الضرب أنواعا.
أما أولادها فكانوا يسخرون منه، وهم جلوس في الغرفة ويقولون له: آه يا فريد ستحرس المواشي إلى جنب الذئب، فتتعلم هناك كيف يجب أن تكون السيادة!
وفي الغد بينما كانت الأم سالم تبيع الأمتعة من الراغبين في شرائها فتشوا عن فريد فلم يجدوه، ولم يأت لأخذ فطوره كالعادة؛ فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان بدون أن يعثروا عليه، فقلق المستأجرون قلقا شديدا، إلا أن الأم سالم طمأنتهم قائلة : إن هذا السيد الجميل قد غضب؛ لأنه رآني أبيع أثاث والده فهو بالرغم من صغارته كثير الكبرياء، ولكن سأعرف كيف أنزع منه ذلك الداء.
فسألتها السيدة أديب قائلة: إلى أين ترينه هرب؟ فأجابتها: إنه - ولا ريب - يتباكى في إحدى الزوايا، فقري عينا! وسترينه في المساء مسرعا إلى طلب الحساء لسد جوعه، قالت ذلك وعادت إلى عملها بهدوء وسكينة.
بعد هنيهة اتجهت السيدة فارس والسيدة أديب إلى المنزل، وما أوشكتا تبتعدان حتى قالت الأولى: يا له ولدا بائسا! إن أوجاعه لتؤلمني أشد الألم! فما يكون أمره مع تلك الأم الشرسة التي تمقته وتتعمد ضرره؟ أراني قلقة البال عليه، فأين هو يا ترى؟
فقالت الأخرى: لا أظن أن الأولاد يدركون طرائق الهرب، ثم إن فريدا صفر اليدين ولا يعرف أحدا يلجأ إليه ...
فأجابتها السيدة فارس: أصبت، ولكن لا أدري لماذا أنا خائفة!
Shafi da ba'a sani ba
في تلك الدقيقة كانت الفتاة الصغيرة تصغي إلى حديث أمها وعلى محياها أمارات الوجل والريبة.
أية فكرة أم أي مقصد خفي كان ينبت في ذلك الرأس الجميل الذي لم يبلغ بعد عامه السادس؟
عندما صعدت السيدة فارس إلى غرفتها وجلست إلى آلة الخياطة لتنجز عملها احتالت الفتاة الصغيرة على رفيقاتها اللواتي كن يلعبن تحت شجرة الطلح، وابتعدت خفية حتى توارت عن الأنظار فانسلت وراء الأشجار واحتجبت خلف أغراس الكرمة.
وبعد مضي ثوان قلائل كانت الفتاة تجتاز الطريق بالرغم من نباح الكلاب، وتنحدر إلى حديقة المحطة من ثغرة السياج خائفة من أن تشعر بيدها تلامس حشرة أليمة أو حية سامة.
بعد ذلك اتجهت بخطى عجلة إلى زاوية من الحديقة ظليلة هي غيضة ملأى بشجر الغار تتخللها أغراس ذات أغصان لماعة وأفنان محددة الأطراف تمتد من شجرات الند إلى مطارح النبات والعوسج؛ وكانت تعرف كل المعرفة تلك الجزيرة الصغيرة الطافحة بالخضرة التي عمدها لبيب راغب بهذا الاسم: «مدينة الأزهار».
كان ابن الرئيس قد احتفظ في تلك الأجمة بغرسة من زهر «الياسمين» الأبيض تنحدر إلى الجهات الأربع بأغصانها المثقلة بالأزهار، وتبعث رائحة زكية إلى أطراف الأجمة. على قمة هذه الشجرة سمر لبيب خشبة في مذاري الأغصان، كان يتسلق إليها في ساعات الوحدة ويصرف وقتا طويلا في قراءة مؤلفات أدباء وطنه.
أما فريد فكان يختلف إلى هذه الأجمة كلما أراد الهرب من وجه الأم سالم ويجثم في مخبإ أخضر بنت جدرانه أوراق الغار الكثيفة وانفرجت عن أغصان ترتعش فيها أوراقها الخضراء، وكان رفاقه الأحداث يعرفون سر عزلته هذه، إلا أن الفتاة ابنة أديب كانت في المدرسة يوم ذاك وكان أديب يتلقى أمثولته العربية في منزل كاهن جونية، فما بقي في البيت إلا الفتاة فارس الملقبة بالفتاة الزرقاء.
عندما أبصرت هذه أمها مضطربة البال قالت في نفسها: إذا لم يكن قد هرب فهو بدون شك مختبئ في الأجمة التي تعود الفرار إليها، ولكن إذا كشفت أمره لا تتردد الأم سالم أن تذهب إليه وتشبعه ضربا، فالأحرى بي أن أسرع إليه وأخبره عما جد.
أزاحت الأغصان بتأن وانسلت إلى داخل المخبأ فرأت فريدا مضجعا على الحضيض يبكي، وقد ألقى رأسه على كتفه المنحنية إلى الأمام.
كان يبكي كل من يحب! كان يبكي الأيام السعيدة التي صرفها، والتي كانت شعاع أفراحه الضئيل! كان يبكي عطف السيدة أديب وقبلات السيدة فارس التي أفهمته معاني قبلات الأم! كان يبكي لما سيلاقيه من شراسة الأم سالم ومن الأوجاع التي تنتظره في المستقبل القريب!
Shafi da ba'a sani ba
كان يودع بدموعه منزل عملة السكة والكنيسة الصغيرة، حيث صرف أياما عديدة يهز المبخرة! كان يودع محطة جونية، حيث استيقظت روحه أمام القطارات الكبيرة التي تمر مقلة في عجلاتها أغلال البقاع: أطواد عظيمة لا تصد تنفخ في مخيلة ولد صغير محبة المجهول وعطش الحوادث، كان يقول بصوت خافت: أمن المحتمل أن أهجر جونية؟ آه! إنني لأؤثر الموت على ذلك! ...
عند هذا شعر بيد تلامس كتفه فانتصب فجأة على قدميه فرأى الفتاة الزرقاء تنظر إليه وعلى حافة أهدابها دمعتان كبيرتان!
فقالت الفتاة: أنا لا أود أن تموت يا صديقي فريدا. فامتقع جبين الولد باصفرار وبرقت في عينيه أشعة من الجزع غريبة؛ ثم دفع الفتاة بخشونة وقال لها: ماذا جئت تفعلين هنا؟ أنا لست بحاجة إليك فاذهبي! اذهبي حالا! فقالت له: إنهم يبحثون عنك يا فريد، والأم سالم تناديك! - دعيها تناديني ولا تقولي لأحد أين أنا! - ولماذا؟ إن والدتي شديدة القلق عليك، فهي تعتقد أنك هربت. - إلى أين أهرب؟ لا، لم أهرب! ولكنني عرفت كيف أضع حدا لآلامي! - وكيف ذلك؟ - إنك لا تفهمين؛ لأنك صغيرة. - أبودك أن تلبث طويلا في هذا المخبأ؟ - لا، سأخرج بعد هنيهة. - وإلى أين تتجه؟ - هذا سر لا أقوله. - لا أريد أن تموت يا فريد! - أما أنا فأريد. إن من يكون مثلي شقيا أحرى به أن يموت!
عند هذا لم تملك الصغيرة نفسها فأخذت تجهش بالبكاء، فقطب الولد حاجبيه وقال لها بصوت جهوري: اذهبي من هنا، فلقد قلت لك كل شيء! ولكن لم تمتثل الفتاة لإرادته فقادها بيدها إلى خارج المخبأ الأخضر واجتاز بها الحديقة حتى أول الطريق، وهناك قال لها: عودي إلى منزلك حالا، فأنا واقف في هذا المكان أترقبك حتى تبتعدي، فلا يجب أن تتلصصي علي!
تسلقت الفتاة الزرقاء منحدر الطريق الضيق وتوغلت في الكرمة المحيطة بمنزل عملة السكة، فلما وثق فريد من ذهابها أخذ يركض في الحديقة فمر أمام المستودع وتبع الخط مدة قصيرة حتى وقف في منعرج بالقرب من السلك الحديدي، فأبصر منحدرين يبلغ علو كل منهما ستة أو سبعة أمتار يرتفعان من اليمن إلى الشمال كحاجزين عاشبين، وينتهيان عند سياج ذي مسلك صعب تخللته الأشواك من كل جهاته.
وقف فريد في وسط الطريق وشخص أمامه إلى فوهة الجبل المشئومة حيث سيمر القطار بعد بضع ثوان قاذفا الدخان والشعلة من داخونه المستطيل؛ ثم حول نظره إلى أعشاب المنحدر المرتفع وإلى سماء الصيف الهادئة وتمتم قائلا: رباه! قيل لي: إن من الكفر أن يقتل الإنسان نفسه! فلو كنت رجلا لما أقدمت على الانتحار، بل جاهدت في الحياة جهاد الأبطال، ولكنني ولد، وما على الولد أن يقاوم ويجاهد.
آه! إن من الصعب أن أتجلد على الأوجاع! فاغفر لي يا إلهي إساءتي هذه، تلك الإساءة التي لا ترضيك!
ثم انطرح على السلك الحديدي ووضع رأسه الأشقر على ذراعيه المكتفتين، عند هذا استيقظت في نفسه ذكرى عذبة، فأخذ يفكر في غرفة ملأى بصور القديسين وطافحة بالأزهار المتباينة الشكل والرائحة، وقال: آه! أين غرفة السيدة فارس! ... لقد تذوقت قليلا عذوبة الحياة في هذه الأرض! فهل تهبني السيدة العذراء زاوية صغيرة في سمائها الجميلة؟
8
عندما عادت الفتاة الصغيرة إلى منزلها وامتثلت أمام أمها قالت لها: لقد رأيت فريدا يبكي متحسرا في مخبإ من زهر في طرف الحديقة، ولقد قال لي إن بوده أن يموت! فتركت السيدة فارس آلة الخياطة وقالت لابنتها: كيف يموت؟ عند هذا مرت في مخيلتها فكرة رهيبة إذ إنها خشيت أن يلقي بنفسه تحت عجلات القطار، فقالت في نفسها: يجب أن أسرع قبل مجيء القطار. ثم خرجت من مخدعها وأطلعت امرأة أديب على جلية الأمر. - سأتبعك عن قرب فلا بد لواحدة منا أن تعرف مكانه، سيري أنت في الجهة اليسرى فأسير في اليمنى، تحدثني نفسي أنه مختبئ وراء محرس الخفير. - أما أنا فأظنه منطرحا على مرفق السلك الحديدي. - فلنذهب بحراسة الله!
Shafi da ba'a sani ba
فتوسلت الفتاة الزرقاء إلى أمها أن تسمح لها بالذهاب معهما؛ فأجابتها هذه: إنك لا تقدرين أن تسرعي في مشيك يا عزيزتي. - لا بل أسرع كما تسرع ابنة أديب.
إذا ذاك اجتازت الأم وابنتها طريق الحديقة حتى بلغتا إلى المكان المقصود، فأزاحت السيدة فارس أغصان الدغلة الملأى بالشوك وانحنت لترى، فأبصرت فريدا مضجعا على السلك الحديدي وشعره الأشقر يلمع في شعاع الشمس بين أزهار شقائق النعمان، فصرخت مذعورة: «فريد! فريد! انهض!» أما الولد فبقي دون حراك. - لقد قرب وقت القطار أيها التعس، فانهض.
ولكن فريد بقي بدون حراك. - أنا السيدة فارس التي تحبك؛ فإذا كنت تحبني كما كنت تقول فانهض وتعال إلي!
في تلك الدقيقة تحرك رأس فريد الأشقر، ورفع عينيه المغرورقتين بالدموع، فأبصرت أم الفتاة شحوب وجهه الغريب، وقد ارتسمت عليه أمارات اليأس فقالت: فريد ما بدا لك؟ فرفع الولد ذراعيه وتمتم قائلا: أجل، هذا أنت! لقد كنت شديدة العطف علي، ولكن دعيني أموت! وعاد إلى ما كان عليه.
فتوسلت إليه أن ينهض وقالت له بصوت ملؤه الذعر: لقد قرب وقت القطار يا فريد! فاتبعني قبل حلول الخطر! إن من الجبانة أن يقتل الإنسان نفسه، ومن الكفر أن ينتحر حتى أشقى الناس! فانهض ولا تكابر! انهض يا عزيزي فريد، انهض! ثم حاولت بدون جدوى أن تكتشف ممرا يؤدي إلى خارج السياج العظيم في حين كان القطار يعلن قدومه بضجة هائلة، وفجأة صرخت السيدة فارس صوتا ملؤه الخوف والرهبة لتوجس الفتى اليائس وقد أبصرت ممرا ضيقا في السياج المذكور، أما الفتاة الزرقاء فقالت لفريد بصوت خافت: إذا بقيت معاندا ولم تمتثل لإرادة أمي لا أتحول شبرا عن السلك فيقضي علي وعليك وتثكل والدتي ابنتها الزرقاء! ...
عند هذا تدفقت العجلات قاذفة تحت دواليبها شررا من نار، فصرخت السيدة فارس بصوت ملؤه الذعر: أنقذوا وحيدتي! أنقذها يا فريد! فوثب الولد من على السلك الحديدي الذي كان يرتج لدى قدوم القطار الهائل وأخذ الفتاة الزرقاء بين ذراعيه وقفز إلى المنحدر، ومنه إلى السياج بخفة تقرب منها خفة القردة! عند ذا مرق القطار كالسهم أو كوميضة البرق مصعدا من فوهته غيوم الدخان الكثيف ومنشرا بصفيره الرهيب أوراق الشقيق الخفيفة.
طفرت الدموع من مقلتي السيدة فارس فضمت إليها وحيدتها الصغيرة والتفتت إلى فريد قائلة: لقد سببت لي شقاوتك ألما لا ألم بعده يا فريد! فعدني بأنك لن ترجع إلى مثلها بعد اليوم! فتمتم الولد بيأس وحزن: آه يا سيدتي! لو لم تحولي بيني وبين الموت لكنت أنقذتني من العذاب الدائم! لا، لا توبخيني! لو عرفت أي أمل هو الموت عند البائسين التعساء لما ترددت عن عذري! ... أنا بائس تعس يا سيدتي! ... أتودين أن أذهب غدا مع الأم سالم؟
فلم تملك السيدة نفسها من الشفقة لدى سماعها تلك الكلمات الطافحة بالحزن والألم، فصرخت بدون أن تقدر عواقب العهد الذي أخذته على نفسها وقالت له: لا يا عزيزي فريد، لن تذهب غدا مع الأم سالم، بل تبقى عندي. - لا يمكن ذلك يا سيدتي. - قلت لك: إنك لن تذهب، فالأم سالم لا يهمها كثيرا ذهابك وبقاؤك، فهي لا تتألم من هجرك وتركك لمن يرغب في حفظك عنده. - ولكنني لا أزال صغيرا يا سيدتي، فما النتيجة من إبقائي عندك. أنا لا أحسن إجراء شيء؟ - لا أود أن أتخذك خادما يا فريد، بل ابنا وشقيقا أكبر لوحيدتي.
فاهتز الولد وجعل يبكي ويضحك ثم أخذ يد منقذته وملأها بالدموع والقبلات، وقال: أحقيقة أنك تتخذينني ولدا لك؟ أتنقذينني من الإهانة والضرب؟ أأقدر بعد اليوم أن أذهب إلى المدرسة وأعود إلى الخورس؟ أأبقى في جونية بين عملة السكة؟ آه يا سيدتي! إذا فعلت ذلك أقف حياتي لأجلك وأضع بين يديك كل ما يهبني المستقبل من مال وقوى ...!
كان المغيب يذهب السهول بأشعته المتضائلة ويطفو على الجداول الرقراقة، وعلى جفنات الكروم ذات الأوراق الخضراء التي كانت لا تزال مستبقية نقاطا بيضاء من الأملاح المركبة من روح الزاج؛ فجذبت السيدة فارس رأس فريد إلى كتفها وقالت: فريد، يجب أن تتعود الأفراح يا بني؛ فلقد ذقت من الشقاء ما كفاك. إن الله لرحيم ويعطف على البائسين! - آه! لا أصدق ما قلت لي! أحقيقة أنك ترغبين في إبقائي عندك يا سيدتي؟ - لا أود أن تدعوني بسيدتك من الآن فصاعدا، بل أرغب إليك أن تناديني بيا أمي. لقد سمح الله أن أنقذك من الموت، وسأنقذك من البؤس أيضا، فاسأله معي يا عزيزي أن يعضدني لأجعلك رجلا صالحا للمستقبل. فاستولت على الولد هزة الفرح فقال: أجل، أجل، إني أعدك بذلك، فسأكون رجلا صالحا. ليس من الصعب علي أن أكون رجلا صالحا ... إن من يكون سعيدا لا بد له أن يكون حسن السيرة طيب الأخلاق ...
Shafi da ba'a sani ba
في تلك الساعة سطع وجه فريد المجعد وبدت عليه أمارات الغبطة والزهو كأن شبح السعادة أعاره ذلك التبديل الفجائي، أما قلبه فكان ينبض بشدة تحت قميصه الممزق فقال: آه ! سأصبح سعيدا بعد العذاب الأليم! فهل في العالم من هو أكثر سعادة مني؟
9
كانت ليلة آب صافية الأديم تسبح في أمواج عذبة من أشعة القمر، وكان سكان المنزل راقدين في مضاجعهم إلا السيدة فارس، فإنها بقيت تفكر أمام نافذة غرفتها مصغية إلى الأجراس الكهربائية تعلن قدوم القطار الأخير!
في تلك الساعة كانت السيدة بطرس تنتظر زوجها مستلقية بسكون على مقعد من خيزران، وقد استسلمت لأحلام روائية؛ وكانت السيدة فارس ترقب أيضا قدوم زوجها في القطار الأخير، وهي قلقة وجلة تتنازعها عوامل الخوف خلافا لعاداتها، وتنهض من حين إلى حين فتدور دورتين في الغرفة وتقف أمام صورة العذراء قائلة بحرارة وتقوى: أيتها القديسة أزيلي الخوف من قلبي وتكلمي عني وساعديني!
ما الذي سبب هذا الخوف للسيدة فارس؟ أي أمر يريبها في عودة زوج لم يتعمد لها أقل ضرر في حياته؟
ذلك لأنها تبنت فريدا لتنقذه من شر الأم الشرسة قبل أن تعرف رأي زوجها في ذلك. لقد دفعها قلبها الطيب إلى سماع صوت الرحمة فوثبت بها عاطفة الشفقة إلى نجدة المظلوم، فكانت له أما!
عندما أبصرت السيدة أديب فريدا الصغير عائدا بكل هدوء إلى جنب السيدة فارس وابنتها الفتاة الزرقاء ظنت أنه لم يحدث هناك فاجعة أليمة، وببضع كلمات أخبرتها أم الفتاة عما جرى وعطفت قائلة: إنك لا تجهلين يا سيدة أديب أي تأثير موجع تسببه رؤية البائسين للقلوب الحساسة. سأحتفظ بفريد في منزلي وأكون له أما تتعهده بعناية وعطف.
فلم تتردد السيدة أديب أن قالت: إنه لعمل شريف يا سيدة فارس، فقري عينا وثقي بأنني لا أتأخر عن معاونتك في صنيعك الجميل ... ولكن ما يكون من أمر زوجك؟ إن الرجال كما لا يخفى عليك لا يشعرون بالواجب المقدس كما تشعر النساء ... أفتظنين أن ذلك لا يزعجه؟ فأجابتها: كثيرا ما وافقني على كل ما رغبت فيه. - إنك لكثيرة الحظ يا سيدة فارس! أما عندنا فغير ذلك؛ أنت تعرفين أنه زبدة الرجال الكرماء ... ولكن إذا رغبت إليه أن يتبنى فريدا فلا يوافقني إلا على الخصام والنزاع! مع أنا نملك بقعا عديدة من الأرض فضلا عن المنازل التي نؤجرها وعن الفتاة الوحيدة ذات المقلتين السوداوين اللتين تستلزمان مهرا صالحا. - أما نحن فلا نملك ما يوازي ثمنا باهظا في هذه الحياة إلا أننا نكد فوق ما يتسع لنا والله يأخذ الباقي على عهدته!
قالت ذلك وأخذت تفكر في ما قالته لها السيدة أديب فاضطربت اضطرابا شديدا وجعلت تحدث نفسها فيما يلي: ترى ما يجد بيننا إذا استقبح زوجي ما صنعت ولامني على فعلي هذا؟ ففارس لا يذهب في مذهب إيماني، ولا يدرك أن قدحا من الماء يعطى للفقير في سبيل الله لا يبقى بلا أجر! إنه لا يشعر بيد الحكمة الإلهية، تلك اليد العذبة تمتد بحنو وعطف فوق الذين يركنون إليها!
كل هذه الأفكار كانت تتناوب السيدة فارس؛ أما زوجها فكان ينوء تحت أثقال مرهقة فيتجلد ويقاوم.
Shafi da ba'a sani ba
ليس من الهينات أن يتحمل الرجل دفع الأجور والقيام بأود ثلاثة أجساد تتطلب عناية وقوتا!
ليس من المشاكل البسيطة أن يقوم الإنسان بتثقيف أبنائه الصغار! ففارس كسائر عملة السكة يحلم أحلاما شتى بمستقبل أولاده، والفتاة الزرقاء التي وهبها الله ذكاء ناضجا قبل أوانه سيقدر لها يوما أن تدخل في عداد الموظفات، وبطرس ذو الروح المفطورة على النشاط سينخرط في سلك عملة السكة، وبما أنه أكثر علما من أبيه سيتفوق عليه ولا يعتم أن يتوصل بسهولة إلى مركز سام؛ وأما بولس الصغير ذو الطباع السليمة والعريكة اللينة فسينال معاش تلميذ في الجامعة.
كل هذه الأحلام كانت تتناوب السيدة فارس، فقالت في نفسها: إذا أفلح الأولاد وتيسر لهم كل هذا فأكون قد سعدت بعض السعد، ولكني لا أطلب إلا أن أراهم كرماء الأخلاق نبلاء النفوس يتمتعون بصحة قوية وبمهنة حسنة كمهنة والدهم.
أما فارس فكان أكثر طماعية من امرأته؛ إذ إنه كان يدرك أية صعوبة يكابدها الإنسان في الحصول على قوته الضروري، لذلك كان يتمنى لأولاده حياة أقل عناء من حياته.
إن سائق القطار لنوع من الرجال الأشقياء، فهو يصرف وقته في إضرام النار وحراسة الأساطين؛ ويلعب بالخطر المحدق به، وينشق مسحوق الفحم، ويشرق الدخان المتصاعد في الهواء، إنه يقضي ساعات عمله منتصبا على قدميه لا يملك مقعدا يستريح عليه أو منضدة يجلس إليها في ساعة فطوره.
إلا أن فارس كان ذا قوة هائلة ولولا ذلك لذهب ضحية جهاده كما ذهب غيره من ضعفاء البنية.
كان عليه أن يقاسي ما استطاع في سبيل أولاده ومستقبلهم، في سبيل كيانهم وراحتهم؛ والذي شجعه على احتمال تلك المصاعب هو يقينه أن وراء الجهاد حدا تكلله عذوبة العزلة.
أي رجل لم يسمع هذه العبارة صادرة من أفواه العملة: عندما أحظى بعزلتي! ومن لا يدرك أية آمال عذبة تلامس أرواح العملة الأشداء الذين يرون مساء العمر من خلال أحلامهم مذهبا بأشعة الراحة والطمأنينة؟
كان فارس قد أوقف في مخيلته مقاصد عزلته ككثير من رفاقه، وكان يملك في نواحي البقاع قطعة أرض ورثها عن عم قديم كان يحترف الحراثة، ففكر أن يبني بيتا صغيرا في وسط الحديقة يقيم به مع امرأته وأولاده ويصرف شيخوخته بقلب الحقل والعناية بثماره تاركا امرأته تتولى زرع البنفسج، وهو زهر يباع أكثر من غيره في أسواق بيروت.
كان يرى الحقل اللامع من تلك الحديقة، ومياه البردوني الزرقاء، ومدينة زحلة الضاحكة تحت قباب أجراسها المرتفعة تطفو أخيلة جدرانها الوردية على تموجات النهر الجميل.
Shafi da ba'a sani ba
ففي أحد الأيام سأله رفاقه قائلين: ما الذي ستراه من طرف حجرتك يا فارس؟ - أشياء كثيرة يا رفاقي، أشياء جميلة عذبة؛ فعلى مقربة من حجرتي ينبسط طريق حديدي لا يحرمني رؤية القطارات! - إنك لنشيط سعيد يا فارس! فستأكل من ثمار شجراتك وتشرب من عصير كرمتك. إنا لنرغب في مثل هذه الحياة عندما تدق ساعة العزلة. •••
في تلك الآونة كانت السيدة فارس متكئة على حافة نافذتها تتسمع إلى دوي القطار الأخير الذي وصل إلى المحطة يملأ سكينة الليل، وتنظر إلى المسافرين يذهبون ويجيئون في ساحة المحطة؛ وكانت تفكر قائلة في نفسها: سيحضر زوجي بعد دقائق قليلة! يا الله كم أنا خائفة! لقد طالما وافقني على أفكاري الدينية، ولكن من يعلم! ... ربما تضجره شفقتي وإحساسي! ربما يستفيد من تغافلي الذي حدث هذا النهار ليلقي علي تبعة تقواي المتطرفة ويتهم الدين بكلمات تحفر هوة مشئومة بين روحين!
أي ذنب جنيت يا إلهي؟ ألأجل غريب مسكين أعرض سلام العائلة للخصام وأضحي بالغبطة التي تجمعنا؟
عند هذا خفتت الأصوات في المحطة وعاد العملة إلى مآويهم، فسمعت السيدة فارس تمتمة أصوات تلامس هدأة الليل العذب! وما لبثت أن تبينت نطق عزيز وصوت بطرس الحاد وإنشاد نجيب الجميل.
كان هؤلاء الثلاثة يتقدمون إلى المنزل فنهضت السيدة بطرس عن مقعدها ونظرت إلى القمر نظرة طويلة، ثم قالت لزوجها بصوت تراوده نبرات الضجر: إن الليلة لشديدة الحر يا بطرس، فهل من كأس خمر أشربها؟ فتمتم بطرس قائلا: ليس لدي خمر أقدمها لك. فقال عزيز: ليس عليك إلا أن تنزلي إلى خمارة يوسف، أفلا تسمعين سدادات القناني تقفز من أفواهها في ذلك الفندق؟ فتوسلت السيدة بطرس أن يأتيها بكأس من المرطبات؛ لأنها شديدة الظمأ.
فأجابها بخشونة: اشربي من الماء الصافية فهي شراب صحي، فتنهدت المرأة الجميلة وقالت: آه! أيتها الحقائق البشعة! أين الأمراء الجذابون الذين لا يضنون على جميلاتهم بخمور قبرس والشراب المنعش مع الخبز المعسل ومربيات الورد؟ ...
فقال الزوج: أين هم؟ إنهم يرقدون في مطاوي رواياتك المكردسة في السلال بين جواربي المخرقة وطرازك الأبدي، فهؤلاء الأمراء كانوا أغنياء، ونساؤهم اللواتي كن يعتنين بما يئول إلى راحتهم لم يكن يضعن أوقاتهن بقراءة الروايات نظيرك، بل كن ينصرفن عن ذلك إلى القيام بأمور البيت حق القيام!
فلم يصب هذا الكلام مكان التأثير من قلب السيدة بطرس فقالت لزوجها: إن بك روحا غير شاعرة يا عزيزي بطرس! فلا أسمع منك إلا هذه الكلمات المملة؛ «النظام في البيت! القيام بتدبير البيت!» كأنك لا ترى غير ذلك أمام عينيك! ولا تظن أن في الحياة أشياء غير هذه!
فضجر بطرس من حديث امرأته فقال لها: تعالي ننام! فأنت امرأة قليلة التبصر، ولا نتيجة للجدال معك.
فأطلقت السيدة بطرس زفرة حرى وقالت: يا لها طباعا غريبة! متى تتمثل بهدوء السيد عزيز وعذوبة السيد فارس ولين عريكته؟
Shafi da ba'a sani ba
كانت جثة فارس ذات الأكتاف العريضة ترتسم كتلة حالكة على الليلة القمراء بالقرب من خيال بطرس الضئيل، فعندما سمع السيدة بطرس تتلفظ بهذه الكلمات أفاق من جمدته فقال ضاحكا: اسمحوا لي أن أجتمع بامرأتي الآن لئلا تستبطئ غيابي فتؤنبني عليه. قال هذا وصعد الدرج ببعض وثبات، ولما بلغ الباب فتحه بخفة فأبصر امرأته واقفة أمام النافذة فاستغرب من سهرها في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فقال لها: ما بك لا تزالين يقظى حتى الآن؟ فهل طرأ على الصغار طارئ؟ - لا يا فارس، ليس من طارئ هناك!
وشخصت إلى زوجها بعيون ملؤها دموع! - ليس من طارئ وتبكين؟ ماذا جرى؟ تكلمي حالا! - آه! إن عواطفي تنفطر هذا المساء!
ثم أسندت ظهرها إلى النافذة وأخذت تقص على زوجها بصوت خافت كل ما حدث في النهار، فقال فارس: إن صغيرتنا الزرقاء لنشيطة! ولكن أي داع دفع ذلك الغلام إلى الانتحار؟ - قال إنه يؤثر الموت ألف مرة على الذهاب غدا مع الأم سالم.
فصمت فارس هنيهة، وسرح طرفه في السهل الهاجع والأوراق الخرساء والسماء الرحبة حيث يضيء القمر الكامل، ثم قال: لقد خطر لي فكرة يا عزيزتي، ففريد يدب في عوامل الرأفة والشفقة، إنه لولد طيب السيرة وأمانته تبشره بمستقبل حسن. ولكن إذا بقي تحت سلطة الأم سالم لا يلبث أن يصبح شريدا ... - هذا ما أخشاه! - أتعرفين يا عزيزتي أن هذا الولد يذكرني بعهد حداثتي، أيام كنت أنشأ في مذاهب الصدف، لا أم لي تتعهدني ولا أبا؟ كنت أسير إلى الشقاوة يوم ذاك، إلا أنني صادفت في طريقي ذلك العم البستاني الذي تعهدني بنصائحه وتربيته النبيلة وأخرج مني الرجل الذي أمثله في هذه الحياة! - إنك لمثال الرجال يا فارس وأنا أفتخر بك! - ولكن أجيبيني، إذا صنعنا مع ذلك الطريد ما صنع معي ذلك العم ... إذا احتفظنا بفريد عندنا ...
فانطرحت السيدة فارس على صدر زوجها وأجهشت بالبكاء، فقال لها: لقد سببت لك كآبة يا عزيزتي، أتخشين أن يكون هذا الولد عبئا ثقيلا على عاتقنا؟ أما هي فتكاد يغمى عليها من الفرح فأجابت بصوت خافت: لا، لا أخشى ذلك ... فهذه الفكرة مرت بي قبل أن تمر بك، ولقد وعدت فريدا بإبقائه عندنا ... إلا أنني لم أجسر أن أكاشفك بذلك مخافة أن توبخني وتغضب علي ...
فأخذها بين ذراعيه القويتين وضمها إلى قلبه الباسل وقال: أي يوم ترددنا عن عمل الخير يا حبيبتي؟ أي يوم تخوفنا العمل والجهاد؟ أليس الجميل الذي نصنعه مع البائسين هو الذي يهبط نعما وبركات علينا جميعا؟
فتمتمت المرأة وقد غصت بدموعها: إنني ما أحببتك يوما كما أحببتك الآن! فضغط بها على صدره وطبع على جبهتها بشفتيه المضطربتين قبلة حرى، لم يعرف هو نفسه ما كان يختلج فيها أشد من الآخر هل العاطفة أم الاحترام؟
في تلك الآونة كانت الشمعة قد احترقت إلى طرفها فتمايلت وانطفأت، وحلت مكانها عذوبة الشعاع المنحدر من القمر غاسلة بنورها الأزرق تلك الغرفة الصغيرة ذات الأردية البيضاء.
ظل فارس مبقيا امرأته بين ذراعيه يمد قبلته النقية على جبينها التقي، وكان قلباهما الأمينان يخفقان بشدة في هدأة الليل، أمام البدر الجميل والسماء الزرقاء.
10
Shafi da ba'a sani ba