وثانيهما البيت الذي مرّ ذكره، وهما لمجاهد الخيّاط، وله في أبي الحسين المذكور عدّة مقاطيع يهجوه بها، وقد عبث الناس بأبي الحسين وهجاه من أهل عصره خلق كثير بالشعر والأرجاز، وما كان في طبقته ممّن هجاه من يقاربه في النظم.
ولأبي الحسين الجزّار أيضًا وهو في غاية الحسن:
إنّي لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل بهم إن شئت تصديقي
تضيء بالدم أشراقًا عراصهم ... وكلّ أيّاهم أيّام تشريق
ومن هذا الباب ما قال بعضهم فيمن كان أبوه حجّامًا وهو في غاية الظرافة:
أبوك أوهى النجاة عاتقه ... وكم كمي أردى وكم بطل
له رقاب الملوك خاضعة ... من بين حاف وبين منتعل
يأخذ من مالها ومن دمها ... لم يمس من ثاره على وجل
ومن الحكايات اللطيفة في هذا الباب ما رواه الصلاح الصفدي عن بعضهم قال: كنت جالسًا عند بعض ولات الطوف ليلة، فجاء بعض غلمانه إليه برجلين فقال لأحدهما: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يومًا فسوف تعود
ترى الناس أفواجًا على باب داره ... فمنهم قيام حولها وقعود
فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ كريمًا، ثمّ قال للآخر: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن من دانت الرقاب له ... مابين مخزومها وهاشمها
خاضعةً أذعنت لطاعنه ... يأخذ من مالها ومن دمها
فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ شجاعًا وأطلقهما، فلمّا انصرفا قلت للوالي: أمّا الأوّل فكان أبوه يبيع الباقلاء المصلوقة، وأمّا الثاني فكان أبوه حجّامًا، فقال الوالي:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
وفي معنى هذين البيتين ما روي أنّ الخصيب صاحب مصر سأل أبا نؤاس عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي.
وممّا يناسب هذا المعنى قول المتنبي:
لا بقومي شرّفت بل شرّفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كلّ من نطق الضاد ... وعوذ الجاني وغوث الطريد
ويقال لمن يفخر بنفسه هو "عصامي" إشارة إلى قول النابغة في عصام حاجب النعمان:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكًا هماما ويقال لمن يفخر بآبائه "عظامي" إشارة إلى فخره بالأموات من آبائه ورهطه، قال الشاعر:
إذا ما الحي عاش لعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت
ودخل عبيد الله بن زياد التميمي على أبيه وهو يجود بنفسه، فقال: ألا اُوصي بك الأمير؟ فقال: إذا لم يكن للحي إلاّ وصيّة الميّت فالميّت هو الحي.
ويقال: إنّ عطاء بن سفيان قال ليزيد بن معاوية: أغنني عن غيرك، قال: حسبك ما أغناك به معاوية، قال: فهو إذًا الحي وأنت الميّت.
قال علي ﵇: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
وقال ﵇: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه.
قال الشاعر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسب ... لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا
وكان يقال: أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية، وتبجح بالقرون الماضية، واتّكل على الأيّام الخالية.
وكان يقال: من طريف الاُمور حيّ يتّكل على ميّت.
وكان يقال: ضعة الدني في نفسه الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه وأصله، لأنّ هذا تشبه بآبائه وسلفه وذاك قصر عن أصله وسلفه، فهو إلى الملامة أقرب وعن العذر أبعد.
وافتخر شريف بآبائه فقيل له: لو وفّقت لما ذكرت أباك لأنّه حجّة عليك تنادي بنقصك وتقرّ بتخلّفك.
وكان جعفر بن يحيى يقول: ليس من الكرام من افتخر بالعظام.
وقال الفضل بن الربيع: كفى بالمرء عارًا أن يفتخر بغيره.
وقال: من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز، وأقرّ على نفسه بالدنائة.
وقيل لرجل يدلّ بشرف أبيه: لعمري لك أوّل ولكن ليس لأوّلك آخر.
ومثله: إنّ شريفًا بآبائه فاخر شريفًا بنفسه، فقال الشريف بنفسه: إنتهى إليك شرف أهلك ومنّي ابتدء شرف أهلي، وشتّان بين الإبتداء والإنتهاء.
وقيل لشريف ناقص الأدب: إنّ شرفك بأبيك لغيرك، وشرفك بنفسك لك، فافرق بين ما لك وما لغيرك، ولا تفرح بشرف النسب فإنّه دون شرف الأدب.
قال ابن الرومي:
1 / 7