لا يعدم الجود الغريب ومنكم ... أطناب أخبية لقوم بأعمد
وقال مهيار:
لا يعدم الجود الغريب ومنهم ... شخص على وجه الثرى موجود
وقال الشيخ:
جللٌ عرا فطفقت فيه مؤرخًا ... أعني المصاب بموت بنت محمّد
ما زلّ تهتان الرضى يهمي على ... جدث ثوت فيه وتربة مرقد
أقول: لولا أنّه ألزمني برسم هذه القصيدة التي أخلق بها محاسن قصيدة مهيار لما سوّدتُ وجه قرطاس من هذا الكتاب برسم أغلاطها الفاحشة.
السرقات الشعريّة وحيث انتهى جريان القلم إلى هذا المقام فلا بأس بالكلام على السرقات الشعريّة، وقبل الخوض فيها لابدّ من تقرير شيء يكون تمهيدًا للمطالب، فنحن نذكر كما ذكروه ونزيده إيضاحًا.
قالوا: إن كان الإتّفاق بين الشاعرين المتّفقين في غرض من الأغراض العامّة المتقرّرة في العقول والعادات كالوصف بالشجاعة والجود ونحو ذلك فهذا ما لا كلام في أنّه لا يعدّ سرقةً ولا أخذًا ولا استعانةً لاشتراك كلّ أحد في معرفته من حيث أنّه مغروس في جميع النفوس لم ينفرد واحد من النّاس بمعرفته دون الآخر، وإن كان الإتّفاق في وجه الدلالة على الغرض، مثلًا إذا كان الغرض إثبات وصف من أوصاف الشجاعة أو السخاء لإنسان لأنّهما يشتملان على أوصاف كثيرة كالإقدام وعدم المبالات وكثرة القتلى وكثرة القرى والعطاء وغير ذلك، فقول القائل فلان يقري الوحوش في الجلاد، وفلان كثير الرماد ليس المراد بهما مطلق الشجاعة والسخاء، بل كثرة القتلى وكثرة القرى، فوجه الإستدلال على إثبات هذين الوصفين هو كون قرى الوحوش لازم من لوازم كثرة القتلى، وكثرة الرماد لازم من لوازم كثرة إيقاد النار للقرى، فهذا أي وجه الدلالة الذي يقع الإتّفاق فيه لا يخلو إمّا أن يكون من المبتذلات التي تشترك الناس في معرفتها لابتذالها فلا يعدَّ سرقة بل هو الإتّفاق في الغرض العام، وإمّا أن يكون ممّا لا تشترك النّاس في معرفته لكونه لا ينال إلاّ بفكر ولا يصل إليه كلّ أحد فهذا هو الذي يحكم فيه بالتفاضل بين الشاعرين المتوافقين فيه ككون إحداهما أكمل من الآخر أو أنّ في الثاني زيادة على الأوّل أو نقصًا عنه، ثمّ إنّ وجه الدلالة على الغرض بهذا المعنى ضربان: أحدهما: ما هو قاض بنفسه أنّه غريب لا ينال إلاّ بفكر.
وثانيهما: ما هو عامي لكنّه تصرّف فيه بما أخرجه عن الإبتذال إلى الغرابة.
إذا تمهّد هذا فنقول: الأخذ والسرقة نوعان: ظاهر وغير ظاهر؛ أمّا الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا مع اللفظ كلّه أو بعضه، أو يؤخذ وحده، فهذا قسمان: والأوّل منهما إمّا مع عدم تغيير النظم؛ وهو الترتيب والتأليف الواقع بين المفردات، أو مع تغيير النظم، فهذه عدّة أقسام، ولا بأس بذكر ما يُسمّى به كلّ قسم منها وذكر أمثلته.
أقول: ما أُخذ اللفظ كلّه من غير تغيير لنظمه فمذموم، وهو سرقة محضة، ويُسمّى نسخًا وانتحالًا، كما حُكي عن عبد الله بن الزبير أنّه فعل ذلك بقول معن بن أوس المزني حين دخل على معاوية بن أبي سفيان فأنشده لنفسه:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدَّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
فقال له معاوية: لقد شعرتَ بعدنا يا أبابكر، ولم يفارق عبد الله المجلس حتّى دخل معن بن أوس المزني وأنشد قصيدته التي أوّلها:
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... عَلَى أيّنا تغدو المنيّة أوّل
حتّى أتمّها، وفيها البيتان المتقدّمان، فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير فقال: ألم تخبرني أنّهما لك؟! قال: أنا سوآيت المعاني وهو ألّف الألفاظ، وبعد فهو ظئري فما قال من شيء فهو لي - وكان ابن الزبير مسترضعًا في زمينه - فقال معاوية: وكذبًا يا أبابكر، فقام عبد الله وخرج.
وأمّا إبدال الألفاظ كلّها بما يرادفها فذلك أيضًا مذموم وهو سرقة محضة، كما في قول الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فأنت الطاعم الكاسي
فإنّة يُقال فيه:
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنّك أنت الآكل اللابس
وأمّا إبدال بعض الكلمات بما يرافها فهو كذلك مذموم وسرقة محضة، قال امرؤ القيس في لاميته:
وقوفًا بها صحبي عَلَيّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسىً وتحمل
1 / 39