قال: ومعه سمّ ساعه يقلّبه في كفّه. قال خالد: ما هذا في كفّك؟ قال: السمّ، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن كانت الاُخرى لم أكن أوّل من ساق إليهم ذلًاّ وبلاءً، أشربه فأستريح من الحياة الدّنيا، فإنّما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته، فأخذه ثمّ قال: بسم الله وبالله ربّ الأرض والسماء الذي لا يضرّ مع اسمه شيء، ثمّ أكله فتجللته غشية ثمّ ضرب بذقنه في صدره طويلًا ثمّ عرق فأفاق كأنّما نشط من عقال، فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سمّ ساعه فلم يضرّه، صانعوهم وأخرجوهم عنكم فإنّ هذا مصنوع لهم، فصانعوهم على مائة ألف درهم.
وهذه وإن كانت ليس هذا محلّها لأنّا في ذكر بلاغة الصبيان، فقد ذكرتها لمناسبة القضيّة التي قبلها.
ويقال: دخل صبي على المنصور فجعل يسأله عن أبيه، وكلّما سأله عن أمر من أُموره قال: فعل ﵀ كذا، وصنع ﵁ كذا، فزجره الربيع صاحب المنصور وقال: إلى متى تترحّم على أبيك في مجلس أميرالمؤمنين؟ فالتفت الصبيّ إليه وقال: إنّك لم تعرف حلاوة الآباء، وكان الربيع لقيطًا.
وعن عكرمة قال: دخل المعتصم على خاقان يعوده فرأى ابنه الفتح في صحن الدار، فمازحه وقال: يا فتح أيّما أحسن: داري أم داركم؟ فقال: يا أميرالمؤمنين أيّ الدّارين كنت فيها هي أحسن من الاُخرى، فجلس المعتصم مكانه وقال: لا أبرح حتّى ينثر عليه مائة ألف درهم، فنثرت عليه. قال عكرمة: هذا قول الفتح ولم يبلغ العشر.
وعن الأصمعي قال: دخلت البادية فرأيت أعرابيّة من أحسن الناس وجهًا متزوّجة بأقبح الناس وجهًا، فقلت: يا هذه أترغبين أن تكوني تحت هذا؟ فقالت: بئسما قلتَ، لقد أحسن فيما بينه وبين ربّه فجعلني ثوابه، وأسأت فيما بيني وبين ربّي فجعله عقابي.
ودعت أعرابيّة على زوجها فقالت له: ضربك الله بداء لا يكون له دواءً إلاّ أبوال القطا.
ويقال: إنّ امرأة أبي الأسود الدئلي خاصمته إلى زياد في ولدها، فقالت له: أيّها الأمير إنّ هذا يريد أن يغلبني على ولدي وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له وطاء. فقال أبوالأسود: أفبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولا سواء؛ إنّك حملته خَفًّا وحملته ثقلًا، ووضعته شهوةً ووضعته كرهًا. فقال له زياد: يا أباالأسود إنّها امرأة عاقلة فادفع إليها ابنها فأخلق أن تحسن أدبه.
وفي شرح نهج البلاغة: روى ابن قتيبة في عيون الأخبار قال: دخل الحجّاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداء، وقوس عربيّة وكنانة، وذلك في أوّل قدمة قدمها عليه من العراق، فبعثت أُمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان وكانت تحت الوليد إليه تسأله من هذا الأعرابي المستلئم بالسلاح عندك وأنت في غلاله، فأرسل إليها: هذا الحجّاج، فأعادت إليه الرسول: لئن يخلو بك ملك الموت أحيانًا في اليوم أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجّاج يومًا، فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه، فقال: يا أميرالمؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعها على سرّك ومكايدة عدوّك. فلمّا دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقالة الحجّاج، فقالت: يا أميرالمؤمنين حاجتي أن تأمره غدًا أن يأتيني مسلّمًا، ففعل ذلك، فأتاها الحجّاج فحجبته، فلم يزل قائمًا ثمّ أذنت له، فقالت: أنت الممتنَّ على أميرالمؤمنين بقتلك ابن الزبير وابن الأشعث، أما والله لولا أنّ الله علم أنّك شرّ خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام، ولا بقتل ابن ذات النطاقين، أوّل مولود ولد في دار هجرة الإسلام، وأمّا نهيك أميرالمؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذّاته وأوطاره فإن كنّ ينفرجن عن مثلك فما أحقّه بالأخذ منك، وإن كنّ ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، أما والله لقد نفض نساء أميرالمؤمنين الطيب من غدائرهنّ فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن قد أظلّتك رماحهم وأثخنك كفاحهم، وحين كان أميرالمؤمنين أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم فأنجاك الله من عدوّ أميرالمؤمنين بحبّهم إيّاه، قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزاله بين كتفيك:
أسد عَلَيَّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
1 / 26