50

لقد كثر الترف كثرة حمل معها الاندفاع مع الغزل وما يجره الغزل، وخلق أنواعا صريحة من المناحي الشعرية في الحب والتشبيب بالنساء رغبة في الحب من حيث هو، وفي التشبيب من حيث هو، بمعنى أنا كنا في العصر الجاهلي قلما نجد شاعرا وقف حياته الشعرية على معالجة فن الغزل فحسب، لا يتكلف غيره ولا يعنى بسواه، فإذ بنا في العصر الأموي نجد من الشعراء من يتخذ من الغزل صناعة وفنا.

وظاهرة أخرى نلاحظها في الغزل الأموي تظهر بجلاء مقدار اختلافه عما كان عليه في العصر الجاهلي، تلك أنواعه المتباينة التي يصح لنا أن نقسمها إلى أربعة أبواب: غزل إباحي، ويصح لنا أن نتخذ من عمر بن أبي ربيعة زعيما لهذا النوع الذي يجمع إلى وصف المرأة والتشبيب بها معاني العبث بها، والاستمتاع باللذة المادية، مما ينفر منه الأدب الجاهلي ومما حظره عليه الكثيرون من خلفاء الإسلام وأئمته.

ولقد صدق ابن جريح إذ يقول: «ما دخل على العواتق في خدورهن شيء أضر عليهن من شعر ابن أبي ربيعة»، ونحيل القارئ إلى حديث الزبير بن بكار عن عمه مصعب في صفة هذا الشاعر الكبير، على أن كتاب الأغاني وغيره من أمهات كتب الأدب العربي مترعة بشعره وتشبيبه، مما لا يدع مجالا للشك في أنه كان تبع نساء وحلس غانيات، وصافا لأحاديثهن، واقفا على دخائلهن، مطلعا على هوى نفوسهن، ولا حاجة بنا إلى التطويل هنا فيما هو مشهور متعارف، خصوصا أنك ستجد طرفا من شعره في باب المنظوم من الكتاب الأول في المجلد الثاني، فراجعه ثمة.

على أنه مع ذلك يذوب رقة وحنانا في بعض مقطعاته، ولا سيما مع الثريا بنت علي، فإنه يلوح لنا أنه لم يفتح قلبه لأحد سواها.

كتب ابن أبي ربيعة إلى الثريا وهي باليمن يقول:

كتبت إليك من بلدي

كتاب موله كمد

ولقد كانت مكة والمدينة مسرحا لهذا النوع في العصر الأموي، وسبب ذلك ميسور فهمه، معقول تعليله؛ ذلك أن الخلفاء تعمد جلهم الإغداق على أهل الحجاز وأبناء المهاجرين والأنصار بالأموال والهدايا فوق ما ورثهم آباؤهم، ليحولوا بينهم وبين ما يطمح إليه أمثالهم من منافسة في الملك، أو مشاكسة للسلطان، وليشغلوهم عن أمور الدولة بإرخاء العنان لهم في لذاتهم ومناعمهم.

وهناك الغزل العذري البريء، غزل الحب الصادق، والعواطف المتأججة، والنفس المتألمة المعناة، تلك النفس التي تجد لذتها في الكلف بمن تحب والتعلق به والشعور بالسعادة في الغناء بحبه، حبا يملك عليه لبه ويعذب روحه ويفني جسمه كغزل جميل؛ وليس أدل على صدق حبه مما أثبته صاحب الأغاني في الجزء السابع؛ إذ حاول أبوه أن يصرفه عن حبه وحاجه في ذلك أجمل محاجة، فكان من جميل ما كان مما نجده مفصلا في موضعه.

وغزل صناعي بين هذا وذاك، همه الإجادة في الشعر من حيث هو شعر، لا في الحب من حيث هو حب، ولنا في كثير عزة زعيم لهذا النوع الثالث.

Shafi da ba'a sani ba