وقد استخدم ماركس نفسه، وربما دون أن يدري بالضبط ما فعل، هذا الجانب المعياري في أساسه للديالكتيك الهيجلي في أغراضه الأيديولوجية الخاصة التي كانت مختلفة كل الاختلاف. غير أن هذا الازدواج في معنى كلمة «المعقول» هو الذي أتاح له الاحتفاظ بسمة النزاهة العلمية الرفيعة، دون أن يحرم نفسه مزايا لغة المديح اللاشخصي. وبفضله استطاع أن يترك الديالكتيك يشير إلى وجهه الأخلاقي الخاص دون أن يقحم عليه أي حكم ذاتي ، يفترض أنه دخيل، متعلق بالخير أو الشر.
وهكذا كانت فكرة التقدم منسوجة ببراعة في ثنايا الديالكتيك ذاته، وعلى هذا النحو كان تفسير ماركس المادي للتاريخ ينطوي، دون أي تأكيد خاص من ناحيته، على النتيجة الضمنية التي لم يعبر عنها، رغم كونها أساسية، وهي أن التطور الثوري للمجتمع هو دائما حركة خاضعة للقانون، تتجه إلى الأحسن. غير أن الديالكتيك كان يتسم بصفة أخرى أعجب بها ماركس، ألا وهي صفة «الضرورة»، فلعله كان يكفي، في نظر ماركس العالم، أن يقتصر المرء على إيضاح شروط التغير الاجتماعي. أما من حيث هو مفكر أيديولوجي، فقد كان من الضروري جدا لتحقيق أغراضه أن يتمكن من وصف رقصة التاريخ الكبرى الثلاثية الإيقاع بأنها «ضرورية» أو «حتمية». ولا جدال في أن من واجب كل من توافرت لهم النية الطيبة أن يقبلوا عن طيب خاطر أي تطور معقول، ولكن إذا كان هذا التطور حتميا أيضا كما وصف ماركس النصر النهائي للبروليتاريا، فعندئذ تصبح مقاومته منعدمة الجدوى. والمسألة العملية الوحيدة، في نظر أنصار ماركس، هي مسألة التوقيت. فلن يستطيع أي شيء أن يؤجل تغيرا تاريخيا ضروريا إلى الأبد. غير أن الديالكتيك لا يشير إلا إلى اتجاه للتغير، لا إلى جدول تقويمي للحوادث المقبلة؛ ولذلك ينبغي أن تفعل المنظمات الثورية كالحزب الشيوعي شيئا للتعجيل بالغاية المحتومة المنشودة؛ أي المجتمع اللاطبقي.
وكثيرا ما أكد نقاد ماركس أن منطق نظريته ليس بمنأى عن النقد.
فقيل إن مناداته بالحتمية جعلته لا يترك مجالا للحرية، وبذلك تصبح الدعوة الأيديولوجية ذاتها عديمة الجدوى. ويبدو لي أن نقاد ماركس لم يدركوا، في هذه المسألة، أن لفظ «المحتوم»، كما استخدمه ماركس، هو في المحل الأول للفظ يقصد منه تشجيع البعض وبث اليأس في نفوس البعض الآخر؛ فهو لا ينتمي إلى لغة الأوصاف العلمية، وإنما إلى لغة الصراع الأيديولوجي. ووظيفته التنبؤية هي أن يوقظ في عمال العالم الشعور برسالتهم التاريخية بوصفهم محرري البشر، أو هذا على الأقل هو الرد الذي كان ماركس خليقا بأن يدلي به عندما يتحدث من وجهة نظر أكثر واقعية.
وما زال أمامنا أن نلاحظ نتيجة أخرى لتفسير ماركس للتاريخ؛ فالتطورات في الفكر الديني أو الفلسفي أو السياسي هي في نظر ماركس نواتج عرضية، في الأساس، للتغيرات في أساليب الإنتاج والتنظيم المادي. وهنا كان هدفه الفعلي هو أن يقلب تفسير هيجل المثالي للتاريخ، بحيث يتسنى للمرة الأولى فهم «التركيب الظاهر
superstructure » الفكري المثالي على حقيقته، من حيث هو نتيجته للتغيرات الأساسية في النظام الاجتماعي، لا سبب متحكم فيها. وكان من نتيجة هذا القلب أن ماركس نظر إلى التقدم، لا من خلال النمو الذاتي الروحي أو «الحرية»، وإنما من خلال تحسين الأوضاع الاقتصادية الكامنة للحياة الاجتماعية. وهكذا رأى ماركس أن تحسين أحوال الإنسان يبدأ بحل لمشكلة الفقر حتى لو لم يكن ينتهي بها. وهو يرى أن خلاص الإنسان، وشفاءه من عزلته ومن بؤسه أيضا، إنما يكمن أساسا في التصدي الجماعي لهذه المشكلة، ومن هنا قال: «إن تشريح المجتمع المدني ينبغي أن يلتمس في الاقتصاد السياسي.» ولعله كان خليقا بأن يضيف أن الحال كذلك أيضا في تشريح التقدم البشري.
ولقد كانت نزعة ماركس الجماعية ناتجة، إلى حد بعيد، عن تتلمذه الأول في المدرسة الهيجلية؛ فهو منذ البداية قد نظر إلى خلاص البشر، مثلما نظر إلى السلوك البشري ذاته، من خلال المجتمع. على أن الإنسان ليس حيوانا اجتماعيا لأن لديه غريزة الإخاء، وإنما لأنه قد كيف على التفكير والسلوك بوصفه عضوا في طبقة اجتماعية؛ فتلك الدوافع التي يملكها الفرد والتي تتعلق بالذات أو بالغير، تعبر عن نفسها دائما من خلال مسالك تحكمت فيها البيئة الاجتماعية التي يخضع لها. ولقد نسب كارل بوبر
Karl Popper
في كتابه القيم «المجتمع المفتوح وأعداؤه» إلى ماركس فضلا هو كونه أول من قرر ما يسميه ب «الاستقلال الذاتي لعلم الاجتماع». وهذا في رأيي غير صحيح؛ فرغم أن فلسفة هيجل في التاريخ كانت ذات نزعة روحية، فإنها قد صيغت أيضا في عبارات كانت في أساسها منتمية إلى مجال علم الاجتماع أكثر مما هي منتمية إلى مجال علم النفس. ومنه تعلم ماركس التفكير في السلوك البشري من خلال أدوار تفرضها النظم الاجتماعية ذاتها. كذلك تخطئ قضية بوبر في ناحية أخرى؛ إذ إن أوجست كونت، كما رأينا، قد أكد قبل ذلك بأوضح العبارات أن قوانين علم الاجتماع لا ترد إلى القوانين النفسية للطبيعة البشرية. ومع ذلك ففي وسعنا أن نتفق مع بوبر إلى حد معين، فنقول إن ماركس قد ساهم بأكثر مما ساهم به أي فيلسوف آخر في القرن التاسع عشر في إشاعة فكرة الاستقلال الذاتي لعلم الاجتماع، وأن تأثيره، لا تأثير كونت أو هيجل، هو الذي كان له أكبر الأثر في محاربة النزعة النفسية الكامنة في معظم النظريات الاجتماعية السابقة. ولنضف إلى ذلك أن نظرية كنظرية ماركس، لا تتعارض مع نوع من الفردية الأخلاقية. وينبغي أن نقرر، إحقاقا للحق، أن تصور ماركس للمجتمع الفاضل كان، على خلاف هيجل أو كونت، تصورا فوضويا؛ فالمجتمع الفاضل أو اللاطبقي لا يمكن في نظره أن ينشأ دون تدابير جماعية، غير أن الغاية القصوى لهذه التدابير ولكل النظم ليست حفظ كائن عضوي اجتماعي هائل، وإنما سعادة أفراد الناس. وهنا لا يمكن أن يعد ماركس، كما هي الحال بالنسبة إلى هيجل، من الممهدين للفاشية.
كذلك ينبغي أن نلاحظ أن فلسفة ماركس المادية لا يمكن أن تعد، بالفعل، منطوية على نظرية أنانية في الطبيعة البشرية، فماركس من أنصار فكرة تأثير البيئة، وهو يرى، من وجهة نظره الخاصة، أنه إذا كان معظم الناس قد عاشوا حتى الآن بحد السيف، فذلك ليس راجعا إلى نزعة عدوانية غريزية فيهم، وإنما هو راجع إلى أن ظروف البيئة الاجتماعية تحتم عليهم السلوك بطريقة عدوانية. والرأسمالية، لا شهوة القوة، هي التي تولد النزعة الاستعمارية والحرب في نظر ماركس. وبالمثل ليس الفساد الفطري في الإنسان هو سبب جشع الرأسماليين، بل إن السبب هو روح السلب والنهب التي يثيرها نظام الربح. ولقد قال فولتير إن الناس لم يكونوا دائما ذئابا، وإنما أصبحوا ذئابا. أما ماركس فرأى أن مهمته هي إيضاح سبب ذلك، ولكنه رأى أيضا أن مهمته هي أن ينبئ الناس بالوسائل التي قد تؤدي بهم إلى الكف عن سلوك مسلك الذئاب.
Shafi da ba'a sani ba