تقديم المترجم
مقدمة
1 - الفلسفة والأيديولوجية
2 - التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
3 - مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
4 - الديالكتيك والتاريخ
5 - العالم إرادة وتمثلا
6 - مؤسس الوضعية
7 - قديس المذهب الحر
8 - نبي التطور
9 - الديالكتيك والمادية
10 - الخلاص بلا مخلص
11 - ظهور الوجودية
12 - العودة إلى التنوير
13 - حاشية ختامية غير علمية
تقديم المترجم
مقدمة
1 - الفلسفة والأيديولوجية
2 - التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
3 - مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
4 - الديالكتيك والتاريخ
5 - العالم إرادة وتمثلا
6 - مؤسس الوضعية
7 - قديس المذهب الحر
8 - نبي التطور
9 - الديالكتيك والمادية
10 - الخلاص بلا مخلص
11 - ظهور الوجودية
12 - العودة إلى التنوير
13 - حاشية ختامية غير علمية
عصر الأيديولوجية
عصر الأيديولوجية
تأليف
هنري د. أيكن
ترجمة
فؤاد زكريا
مراجعة
عبد الرحمن بدوي
تقديم المترجم
لم يخف مؤلف الكتاب، أو ناشره، «هنري ديفد أيكن»، على القارئ في مقدمة كتابه تعقد التيارات الفلسفية وتعددها في القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي يجعل من العسير، أولا، اختيار الفلاسفة الذين ينبغي أن يمثلوا في كتاب من النصوص المقتطفة مثل كتابه هذا، وثانيا، اختيار النصوص التي تعرض في الكتاب لهؤلاء الفلاسفة أنفسهم؛ فعملية الاختيار هنا مزدوجة، وفي كل مرحلة منها صعوبة وحيرة؛ إذ يضطر المرء دائما - كما أشار أيكن في المقدمة - إلى التضحية بفلاسفة لهم مكانتهم المؤكدة في عالم التفكير الفلسفي، ثم يضطر بعد ذلك إلى اختيار نص ضئيل جدا، لا يتجاوز خمس عشرة صفحة في الأصل الإنجليزي، من بين ألوف الصفحات التي يكتبها كل مفكر من هؤلاء.
ولقد تحدث أيكن في مقدمته عن عملية الاختيار الأولى؛ أعني اختيار الفلاسفة. وأود هنا أن أعرض بضع ملاحظات على عملية الاختيار الثانية؛ أعني اختيار النصوص؛ فمن الضروري، في كتاب كهذا، أن تتوافر في النصوص المختارة صفتان؛ الأولى: أن تكون ممثلة لتفكير الفيلسوف بإيجاز. والثانية: أن تكون دالة على اتجاهه الأيديولوجي. وأستطيع أن أقول إن المؤلف كان في معظم الأحيان موفقا فيما اختاره من النصوص، ولكني أعتقد أن التوفيق لم يحالفه في حالات قليلة، وهو أمر ينبغي، في رأيي، أن ينبه القارئ إليه حتى لا يحكم على كل الفلاسفة الذين يقرأ لهم من خلال النصوص التي تمثلهم في هذا الكتاب.
فالنص المختار من «كانت» ليس دالا على فلسفته بأسرها، بل إنه يتناول جانبا محدودا منها فحسب، ولا يكشف بوضوح عن طابعها «الأيديولوجي»، بالمعاني التي حددها المؤلف في الفصل الأول لهذا اللفظ. وكم كنت أتمنى أن يختار المؤلف نصا دقيقا، واضحا، جامعا، مثل مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»، حيث يجد القارئ تلخيصا كاملا لاتجاه «كانت» الفكري، وللدلالة الأيديولوجية لفلسفته، معروضا بلغة واضحة في صفحات قليلة نسبيا.
أما النص المختار من «فشته»، فهو في رأيي غير موفق على الإطلاق، ويبدو أن المؤلف ذاته أحس بذلك لأنه اهتم في مقدمته كثيرا بهذا النص ودافع بقوة عن اختياره له. وبغض النظر عن تبرير المؤلف لهذا الاختيار، فإن هناك ناحية أخرى كان ينبغي أن يحسب لها حسابا، وهي: إذا قدمت لقارئ «فشته» في عشر صفحات، فهل تقدمه له في صورة هذه المبادئ التي تتحدث كلها عن «الأنا» «واللاأنا» بطريقة تمثل قمة التعقيد في المثالية الألمانية؟ وهل هذا يتفق مع نفسية قارئ «النصوص الموجزة المختارة»، ويقدم إليه صورة صحيحة عن «فشته»، أم إنه ينفره منه نفورا قد يصبح فيما بعد أبديا؟
وبعد ذلك، فإن النص المختار من «جون ستيوارت مل»، وإن يكن موفقا من حيث دلالته على تفكير «مل» الهادئ المتسلسل في دقة وإحكام، فإنه لا ينطوي - في رأيي - على أية دلالة أيديولوجية، ولا يعدو أن يكون اختبارا منطقيا للمعاني المختلفة للفظ «الطبيعة».
أما النص المختار من «هربرت اسبنسر»، فهو خاتمة لأحد كتبه، تفترض مقدما إلمام القارئ بهذا الكتاب، وليست خاتمة من النوع الذي يلخص المناقشات الماضية تلخيصا يمكن أن يفهم بذاته.
وبعد هذه الانتقادات التي أرى لزاما علي أن أوجه إليها أنظار القارئ، أود أن أمتدح في المؤلف شيئين:
أولهما:
أن البعض الآخر من نصوصه كان موفقا دون شك، ولا سيما النصوص المختارة من كونت ونيتشه وكيركجورد.
وثانيهما:
أن الشروح التي سبقت كل نص، والتي تكاد تعادل النصوص ذاتها في عدد صفحاتها، هي بالفعل شروح واضحة مفيدة، تقدم إلى القارئ لمحة سريعة قيمة عن تفكير الفيلسوف موضوع البحث وعلاقته بغيره من فلاسفة الفترة نفسها، وربما غيرها من الفترات. (هذا إذا استثنينا بعض المقارنات التي لا تجدي فتيلا، مثل مقارنة فكرتي المراحل الثلاث عند كونت وعند كيركجورد!) وهكذا، فعلى حين قد يجد القارئ في نص معين غموضا أو قصورا عن شرح وجهة نظر الفيلسوف الكاملة، فإن الشرح السابق للنص - وهو دائما شرح وإيضاح لفلسفة المفكر كلها، لا النص الوارد بعدها فحسب - يفيد إلى حد بعيد في سد ثغرات الاختيار.
وينبغي في هذا المقام أن أشير بإيجاز إلى بعض مشكلات الترجمة التي يثيرها هذا الكتاب، وإلى طريقتي في معالجة هذه المشكلات. وأهم ما ينبغي أن يشار إليه في هذا الصدد، هو اضطراري إلى ترك بعض الكلمات الأصلية بأصلها الإنجليزي، ونقلها إلى العربية كما هي.
فلفظ «الأيديولوجية» الذي يتصدر عنوان هذا الكتاب، يترجم عادة ب «العقائدية»، وهي ترجمة قد يتسنى قبولها في مقال سياسي أو ثقافي عام، أما في سياق كتاب متخصص كهذا، فمن المحال أن يكون له مجال. ويكفي أن يتصفح القارئ الفصل الأول من هذا الكتاب، ليدرك اتساع معاني هذا اللفظ وتشعبها إلى الحد الذي يستحيل معه التعبير عنه بلفظ واحد كهذا، لا يتناول إلا معنى واحدا من المعاني المقصودة، هو معنى «الاعتقاد»، وهو معنى ليس هو وحده المميز للفظ. ولعل أفضل شرح للفظ الأيديولوجية هو ذلك الذي أتى به «مانهيم
Karl Mannheim » في كتابه «الأيديولوجية والمدينة الفاضلة
Ideology and Utopia »، والذي يلخص في أن اللفظ يطلق بمعنيين؛ أحدهما مذموم والآخر مقبول. فالمعنى المذموم تكون الأيديولوجية فيه هي آراء الخصم الظاهرية، التي تخفي الطبيعة الحقيقية لموقفه، والتي ليس من صالح ذلك الخصم الكشف عنها. وبالمعنى المقبول يقال إن أيديولوجية عصر أو طبقة ما هي إلا خصائص الذهن وتركيبه في ذلك العصر أو تلك الطبقة.
1
ويظهر هذان المعنيان معا في الفلسفة الماركسية، التي يرجع إليها إذاعة شهرة لفظ الأيديولوجية؛ فترى ماركس يتحدث عن الأيديولوجية على أنها تمثل مواقف الناس كما لو كانت في صورة مقلوبة، ويضع الأيديولوجية مقابل التفكير العلمي الأصيل، وينظر إلى مذهبه ذاته على أنه تجاوز للأيديولوجية وكشف لخداعها، وبهذا المعنى يتحدث عن «الأيديولوجية الألمانية» بوصفها مذهبا فكريا لفلاسفة خضعوا لمؤثرات لم يشعروا بها، على حين أن فلسفته هو لم تكن في نظره «أيديولوجية» على الإطلاق. ومع ذلك فقد تطور اللفظ إلى حد أن أي تفكير أصبح يمكن أن يعد أيديولوجيا، بمعنى أنه لا بد أن يعكس ظروف طبقة معينة. وهكذا اختفى التقابل القديم بين الأيديولوجية وبين التفكير العلمي، وأصبحنا نجد مفكرا ماركسيا مثل «جورج بوليتزر» يصف الأيديولوجية بأنها «مجموعة من الأفكار تكون كلا أو نظرية أو مذهبا أو حالة ذهنية فقط في بعض الأحيان»، ويعترف بأن المذهب الماركسي ذاته له أيديولوجيته التي تعكس تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في الطبقة العاملة.
2
وإذن، فلفظ الأيديولوجية ينطوي على معان معقدة لا يمكن أن يعبر عنها لفظ «العقائدية» بأية حال. وإذا كان هذا الأخير يمكن - تجاوزا - أن يعد تعبيرا عن الناحية التي يعد فيها اللفظ دالا على مجموعة من الأفكار والمواقف الأساسية للإنسان، فإنه لا يمكن أن يعد معبرا عن الوجه الآخر الذي يعد فيه اللفظ دالا على «انعكاس» لأوضاع وظروف تؤثر في الفكر الظاهري وتكون أهم وأسبق منه. وهكذا يستحق اللفظ في رأينا أن يدخل على اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير.
ومثل هذا يقال عن لفظ «الترنسندنتالي» الذي أذاعته ونشرته في الأوساط الفلسفية كتابات «كانت». وأنا أول من يدرك أن اللفظ بصورته الأجنبية المعربة هذه ثقيل على اللسان والأذن، ولكن مثل هذا الحل يبدو أمرا لا مفر منه؛ فليس للفظ علاقة بالعلو أو «التعالي»، التي يدل عليها اشتقاقه في اللغات الأجنبية، بل هو، كما يردد «كانت» في كتاباته دائما، ولا سيما في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة»، على عكس العلو والتعالي تماما؛ لأنه تعبير عن الشروط «الكامنة» في المعرفة بحيث تجعلها ممكنة. وقد كنت أوثر ترجمة مثل «الممكن» أو «التمكيني»، ولكن هذه الألفاظ ما زالت عاجزة عن التعبير عن كل المعاني المعقدة التي استخدم بها «كانت» هذا اللفظ. وهكذا فأنا أعترف بأن استخدام لفظ «الترنسندنتالي» هنا هو، إلى حد بعيد، حل مبعثه العجز عن الإتيان بما هو أحسن.
أما عن الترجمة نفسها، فقد يجد القارئ اختلافا طفيفا بين بعض الترجمات وبين النص الإنجليزي الأصلي، ولا سيما في النصوص التي يكون أصلها غير إنجليزي؛ وسبب هذا الاختلاف هو إيثاري الرجوع إلى الأصل في هذه الحالات.
بقيت أخيرا كلمة عن مؤلف الكتاب أو ناشره، هنري ديفد أيكن. وقد ولد أيكن عام 1912م، وتلقى دراساته بالجامعات الأمريكية، ولا سيما جامعة هارفارد، ثم تولى التدريس فيها أيضا. ومؤلفاته المنشورة في صورة كتب قليلة العدد، منها، إلى جانب هذا الكتاب، نشرة لكتاب «الفلسفة الأخلاقية والسياسية» لديفيد هيوم
Moral and Political
، كما أصدرت له دار «نوبف
A. Knopf » للنشر بنيويورك منذ أشهر قليلة كتاب «العقل والسلوك
Reason and Conduct ».
أما الكتاب الذي نترجمه ها هنا فقد أصدرته أولا دار
Houghton Mifflin
بأمريكا سنة 1956م، ثم دار
Braziller
في سنة 1957م، وبعد نفاد هاتين الطبعتين، صدرت له طبعتان شعبيتان، في دار
Mentor
للطباعة الشعبية. والكتاب هو المجلد الخامس في سلسلة من ست مجلدات بعنوان «العصور الكبرى للفلسفة الغربية
Great Ages of Western
».
نيويورك في يناير 1962م
فؤاد زكريا
مقدمة
إن التفكير الفلسفي في أي عصر هو دائما أشد تنوعا وتعقيدا مما يبدو لأول وهلة. ومع ذلك فإن القرن التاسع عشر يفوق بمراحل عديدة القرنين السابع عشر والثامن عشر - مع احترامنا الكامل لسلفيه العظيمين هذين - وذلك على الأقل من حيث تعدد أفكاره الفلسفية وتنوعها وتعقيدها. ولذا كان من الصعب إلى حد بعيد أن يهتدي المرء إلى قضية أو مسألة أساسية تدور حولها آراء معظم كبار مفكري تلك الفترة، بل إن مجرد الجمع بين أسماء ضخمة مثل هيجل ونيتشه، وماركس ومل، وكونت وكيركجورد، ليبعث في الذهن على التو فروقا لا نظير لها، لا في المزاج والأسلوب الفلسفي فحسب، بل في المؤثرات السابقة والمنهج أيضا. ففي القرن التاسع عشر تزدهر مملكات فلسفية كاملة، ثم تدول، خلال بضع سنوات قصيرة، وسرعان ما يتحول المصطلح الفني لدى إحدى المدارس إلى هراء في نظر المدرسة التالية. وباقتراب نهاية ذلك القرن، يتزايد تداخل الحدود الفاصلة واختلاطها، حتى لتكاد التصنيفات المفيدة الصادقة للفلاسفة تغدو مستحيلة. ومع ذلك فقد تبين لي، رغم هذا كله، أنه توجد من وراء معظم المشاهد المحيرة التي تعرض لمن يؤرخ فلسفة القرن التاسع عشر ويقتطف منها نصوصا مختارة، مجموعة رئيسية من المشاكل يرجع إليها القدر الأكبر من غرابة هذه الفلسفة وصعوبتها؛ فمنذ «كانت» طرأ تعديل أساسي عميق على نفس مفهوم التفلسف كما كان يسود منذ وقت أرسطو، مما استتبع تغييرا هائلا حتى في معاني ألفاظ أساسية في مصطلح الفلسفة التقليدية مثل «الميتافيزيقا» و«المنطق». وتبين حينئذ أن هناك مشاكل لم يشك أحد في قيمتها أو دلالتها طوال ألفي عام، قد أصبحت تعد خلوا من المعنى، واستعيض عنها بمسائل أخرى لم تخطر من قبل على بال أحد. وإلى هذه الحقيقة يرتد مباشرة كثير من الغموض الذي يكتنف الكتابات الفلسفية في القرن التاسع عشر.
ولا جدال في أن هذا قد زاد من عمق فلاسفة القرن التاسع عشر وأصالتهم، غير أنه لم يزدهم وضوحا، ولم يجعل كتاباتهم أسهل قراءة.
ولقد كان ضيق المكان عاملا آخر على تعقيد عملية اختيار فلاسفة معينين لتقديمهم في هذا الكتاب؛ فقد تبين لي منذ البداية أن من المستحيل أن أدرج هنا كل فيلسوف ذي أهمية رئيسية خلال هذه الفترة، إذا شئت ألا يغدو هذا الكتاب مجرد ثبت لا معنى له بالأسماء والاتجاهات الاقتباسات. وكان اختياري النهائي مبنيا على عوامل ثلاثة؛ هي الأصالة والتأثير التاريخي، والأهمية المعاصرة. وحتى مع تقيدي بهذه العوامل، فقد تعين علي أن أحذف فلاسفة عديدين تكاد تنطبق عليهم كل هذه الشروط التي وضعتها لإدراج الفيلسوف في الكتاب، مثل شلنج،
1
وبنتام
2
وف. ه. برادلي.
3
ومع ذلك، فلو كنت قد أدرجتهم، لاضطررت إلى حذف فيلسوف آخر كان حذفه في نظري، لسبب ما، أمرا لا يعقل. ومع ذلك فإني أسارع إلى تنبيه القارئ إلى أن القرن التاسع عشر فترة في تاريخ الفلسفة بلغت من الخصوبة حدا يجعل ما قدم منها في هذه الصفحات مجرد لمحات سريعة فحسب.
ولقد كتب «عصر الأيديولوجية» هذا للقارئ المفكر الذي قد لا يهتم بمناقشات الشراح العلمية المعقدة، وإنما يلتمس شيئا قد يكون ذا صلة بمشاكله العقلية والروحية الخاصة، أو يلقي بعض الضوء على الخلافات الأيديولوجية التي ورثها عصرنا من القرن السابق عليه. وهكذا حاولت أن أضع هاتين الحاجتين المشروعتين نصب عيني دائما، دون أن أشوه آراء الفلاسفة الذين عرضت لهم ها هنا. وبالاختصار، فقد هدفت إلى أن أكتب لأولئك الذين يعتقدون أن التفكير الفلسفي ليس ترفا محفوفا بالخطر، وإنما هو عنصر لا غنى عنه يعيننا على السلوك في الحياة. ويؤمنون مثلي، في الوقت ذاته، بأن من المستحيل التمسك بقول سقراط «اعرف نفسك!» إن لم يكن المرء يعرف شيئا على الإطلاق. ولو أتاح هذا الكتاب لقارئ أن يهتدي في تفكير فيلسوف مثل كانت أو مل أو نيتشه إلى مفتاح معين لحل مشاكل عميقة خاصة به، أو شجعه على الاستزادة من قراءة هؤلاء المفكرين الكبار، لكنت بذلك قد حققت كل ما أرمي إليه من هذا الكتاب.
وقد يتساءل القارئ عن السبب الذي دعاني إلى ألا أختار في كتاب له مثل هذا الاتجاه نصوصا ذات طابع أيديولوجي أوضح وأصرح. فلماذا مثلا، اخترت بحث مل في «الطبيعة»، بدلا من كتابه عن «الحرية
Liberty »، أو «مذهب المنفعة
Utilitarianism »؟ ولماذا اخترت بحث ماركس «قضايا عن فويرباخ» بدلا من «البيان الشيوعي
The Communist Manifesto »؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ترتد إلى أساس نظرتي إلى القرن التاسع عشر من حيث هو عصر للأيديولوجية، فليس ثمة شك في المدلول الأيديولوجي المؤكد لكتابات مثل «الحرية»، أو «البيان الشيوعي»؛ فهي كتابات ترمز إلى صراع أيديولوجي ضخم بلغ قمته في عصرنا هذا. ولكن الأمر الذي قد لا تدركه الأذهان بنفس هذا القدر من الوضوح، هو أن المذاهب الأعمق أسسا لدى فلاسفة القرن التاسع عشر تحمل بدورها طابعا أيديولوجيا بالمعنى العام؛ فمن المفارقات العجيبة أن إيمانويل كانت، الذي ظن أنه سدد إلى الميتافيزيقا النظرية ضربة الموت، قد استهل حركة إحياء ميتافيزيقي ضخم في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل. ومع ذلك فقد كانت الميتافيزيقا لديهما، كما سنرى فيما بعد، من نوع لم يكن يحلم به الفلاسفة السابقون. على أن الفارق بين ميتافيزيقا فيلسوف مثل فشته وميتافيزيقا فيلسوف مثل ديكارت أو ليبنتس، ليس فارقا نظريا، وإنما هو فارق يتعلق بدلالة المواقف الميتافيزيقية ومعناها ذاته. وهو أساسا فارق بين نوع من البحث يلتمس معرفة نظرية لأشمل سمات الوجود، ونوع آخر يسعى إلى إثبات الالتزامات الأساسية التي ينطوي عليها كون المرء إنسانا أو كونه شخصا، أو عاقلا، أو متمدينا. فقد نظر ديكارت، وأرسطو من قبله، إلى الميتافيزيقيا على أنها استمرار للأبحاث في العلوم الخاصة، ولا تختلف عن هذه الأبحاث إلا في النطاق والأولوية. أما عند فشته، فإن هدفها ومنهجها عمليان، لا نظريان، في المحل الأول؛ فهي لا تأتي بأوصاف للأمور الواقعة، وإنما ب «أوضاع أو تأكيدات
» أو التزامات أساسية للسلوك في الحياة.
وعلى ذلك فالرأي الذي أدافع عنه لا يقتصر على القول بأن أبرز سمات مذاهب فلاسفة القرن التاسع عشر وأقواها أثرا كانت ذات طابع أيديولوجي في الأساس، بل إني لأذهب في رأيي هذا أيضا إلى القول بأن الفلاسفة قد ازدادوا منذ عهد «كانت» إدراكا لطبيعة الهدف الأساسي للنقد الفلسفي، من حيث هو لا ينتمي إلى «العلم»، بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما إلى شيء لا تنطبق عليه إلا كلمة «الأيديولوجية».
أما من حيث ما قدمته من شروح على كل فيلسوف بعينه، فإن ديني عظيم لعشرات من الباحثين، وهو في الحق أكبر من أن أعترف هنا بتفاصيله، فلهم جميعا الشكر على ما اقتبست منهم عن وعي ومن غير وعي. ومع ذلك فبودي أن أعبر عن امتنان خاص لعدة أشخاص؛ أولهم زوجتي «ليليان ودورث أيكن»، التي أبدت حكمة ومساعدة جمة في قراءة كل المسودات المتعاقبة لهذا الكتاب. كما أن صديقي وزميلي «بول زيف» قد قرأ أجزاء كبيرة وناقشني بالتفصيل في عدة فلاسفة ممن كتبت عنهم، فله مني ثناء حار على تشجيعه لي. ويسرني أن أعرب لزميلين آخرين هما «مورتون وايت» و«و. ف. كواين» عن شكري للصحبة العقلية والولاء اللذين أعاناني طوال سنوات عديدة كنت خلالها أتحسس طريقي نحو آفاق فلسفية لا أظن أنها تختلف كثيرا عن آفاقهما. ولقد اعتمدت على «الوعي التاريخي» لدى الأول - وهو أعمق كثيرا مما لدي من هذا الوعي - اعتمادا أعظم مما يعلم. على أن ديني الأعظم إنما هو إلى «رالف بارتون بيري»، الذي أهدي إليه هذا الكتاب بمودة واحترام، والذي استمددت منه أهم ما لدي من معايير التفوق خلال السنوات التي انقضت منذ أول أيام دراساتي العليا بجامعة هارفارد.
لكسنتن
ماساتشوستس. هنري ديفد أيكن
الفصل الأول
الفلسفة والأيديولوجية
في القرن التاسع عشر
تتميز فترة الفلسفة الحديثة الواقعة بين إمانويل كانت وبين إرنست ماخ بأنها فترة مرت فيها الميتافيزيقا - التي كان ديفيد هيوم قد أجهز عليها منذ عهد قريب، وكانت قد أعلن موتها رسميا - بعهد إحياء معجز عادت فيه إلى الظهور في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل، وعاشت حياة جديدة قوية في المذهب الطبيعي التطوري عند هربرت سبنسر، ووجدت، كما يرى البعض، دارها الباقية في المادية الديالكتية عند كارل ماركس. كذلك كان عصر الأيديولوجية فترة بلغت فيها فلسفة التاريخ - وهي أشد المباحث الميتافيزيقية بريقا - أقصى مراحل الازدهار، وأتت معها بمجموعة كاملة من النظريات الطامحة المتعلقة بطبيعة المسار التاريخي ومصير الإنسان. وهكذا يبدو لأول وهلة أن القرن التاسع عشر، على خلاف القرن السابق عليه، كان عصر تأملات غير ناقدة، بل جامحة، في الطبيعة النهائية للعالم الحقيقي، أكثر مما كان عصر نزعة نقدية اجتماعية وسياسية، سلمت بالمبدأ القائل إن الموضوع الصحيح لدراسة الفلسفة، إن لم يكن لدراسة الجنس البشري ذاته، هو الإنسان.
ومع ذلك، فحتى لو قبل هذا الوصف على علاته، فما زال من الممكن الدفاع عن الرأي القائل بأن القرن التاسع عشر كان عصرا أيديولوجيا؛ فلفظ الأيديولوجية، يعني، في أحد معانيه المتعددة، «التأمل النظري أو الفكري المجرد». غير أن مثل هذا الوصف لفلسفة القرن التاسع عشر بأسرها وصف غير كامل؛ فهو يغفل ذلك الاتجاه والاندفاع الأساسي للتفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر، حتى في إطاره الميتافيزيقي ذاته. ولو رجعنا إلى قاموس «وبستر
Webster »، لوجدنا معاني أخرى للفظ «الأيديولوجية» لها ارتباط أوثق بتلك المعاني التي أقصدها حين أطلق على هذه الفترة اسم «عصر الأيديولوجية»؛ ففي أحد هذه المعاني يشير اللفظ إلى «نسق من الأفكار بشأن الظواهر، ولا سيما ظواهر الحياة الاجتماعية؛ طريقة التفكير المميزة لطبقة أو فرد.» غير أن هذا التعريف يغدو أكثر غموضا كلما أمعن المرء التفكير فيه؛ ذلك لأن الجزء الأول فيه يوحي بنظرية عن الظواهر، ولا سيما الاجتماعية منها، في حين أن الجزء الثاني لا يوحي بنظرية، وإنما بطريقة في التفكير أو نسق من المواقف. فالأول يبعث في الذهن قضايا موضوعية تصف شيئا موجودا في العالم، والثاني لا يوحي بقضايا يجوز فيها الصواب أو الخطأ، وإنما بشيء أكثر ذاتية، يعبر عن الطريقة التي ينظر بها فرد أو جماعة إلى عالم الواقع. هذا الغموض أو ازدواج المعنى، هو في رأيي كامن في الاستخدام المألوف لكلمة «الأيديولوجية»، وهو أيضا ازدواج يكمن في صميم التفلسف المميز للفترة التي نتناولها ها هنا بالبحث؛ ذلك لأن نظرة معظم فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أية قضية ذات صورة فكرية على أنها شيء يتصور، ويوضع (أو يؤكد)، ويرغب فيه، ويتاق إليه، هي ذاتها التي تجعل من العسير علينا أن نعرف متى يتحدثون عن طريقة التفكير ومتى يتحدثون عن موضوعه. وهم كثيرا ما يتحدثون عن الأمرين معا، أو على الأصح، عن علاقة بينهما يعدونها أساسية لهما معا. أما السبب في تحدثهم على هذا النحو، فإنه يؤلف جزءا كبيرا من مشكلتنا في هذا الكتاب. وعلى أية حال فسواء أكانت هذه الفكرة صحيحة أم باطلة، فإنها تمثل خروجا على طبيعة التفلسف النظري السابق، وهي تؤدي آخر الأمر إلى نظرة جديدة تماما إلى عملية التفلسف ذاتها.
ولقد كان الفلاسفة في الفترة السابقة على القرن التاسع عشر يهتمون كثيرا بمشكلة المنهج، ولكنهم في عمومهم لم يشكوا كثيرا في وجود حقيقة مستقلة موضوعية يمكن فهمها على نحو ما .
1
كما أنهم لم يرتابوا في وجود طريقة موضوعية للتفكير في الواقع، مشتركة بين كل الحيوانات العاقلة، ولا تؤدي إلى تغيير أو تشويه أساسي للشيء المعروف. فهم في واقع الأمر لم يتعمقوا كثيرا مفهوم الموضوعية ذاته، بل اقتصروا على استخدامه للتعبير عن إيمان شبه شعوري بقدرة الملكة العاقلة على بلوغ موضوعها، وعن التطابق بين الشيء في ذاته والشيء كما يعرف. وقد نظروا إلى ما أسموه ب «العقل
reason »، على أنه الملكة العاقلة التي تدرك بها قوانين الطبيعة، وعلى أنه في الآن نفسه مبدأ النظام أو القانونية اللذين تدركهما الملكة العاقلة في الطبيعة. وهكذا نظر إلى العلاقة بين تفكير الإنسان في الواقع وبين الواقع ذاته على أنها علاقة «تطابق»، شفاف، وعدت أيضا علاقة خارجية صرفا، لا تؤثر بحال في الخصائص الكامنة في الشيء المعروف.
2
أما الانسجام المقدر بين الذهن العارف والموضوع الحقيقي للمعرفة فهو، تبعا لهذا الرأي، معجزة إلهية لا يملك الإنسان إلا أن يعرب عن امتنانه لها.
أما منذ وقت كانت، فقد أصبح افتراض وجود تطابق مقدر بين الذهن وموضوعه، يعد افتراضا دجماطيقيا (توكيديا) غير ناقد.
فإذا كان العقل الكامن في الأشياء هو ذاته العقل الذي نعترف بأنه معيار التفكير السليم في أي موضوع، فما ذلك إلا لأنا نحن أنفسنا قد حددنا مقدما الشروط التي ينبغي أن تتوافر في أي موضوع حتى نعده «حقيقيا
real ». وبالاختصار، فالذات المفكرة هي ذاتها التي تضع معايير الموضوعية. وإذا لم يكن العالم هو «فكرتي»، على حد تعبير شوبنهور المضلل، فإنه على أية حال لا يكون حقيقيا في نظرنا إلا بقدر ما يتمشى مع فهمنا الخاص للشروط الواجب توافرها في أي شيء حقيقي.
وهكذا فإن أية صورة فلسفية للواقع تفترض مقدما طريقة للتفكير فيه، وقاعدة أو مبدأ لتنظيم التصورات، ينبغي أن يسلم بها صانعها تسليما. وبهذا يكون من المحال حذف عنصر الذاتية، مهما دق تخفيه، حذفا تاما من أي مذهب فلسفي؛ فكل مذهب فلسفي يفترض، بطريقة شعورية أو بغيرها، بعض الالتزامات أو «المواقف» النهائية الأخرى. وهذه الالتزامات أو المواقف من صنع الحيوان العاقل ذاته، يضعها حتى يعيش ويؤدي عمله، دون أن يكون ثمة جهة يحتكم إليها في حالة الاعتراض على صحتها من بعد تصميمه هو على الالتزام بها.
3
ومع ذلك فقد عدلت هذه الذاتية العميقة تدريجيا بفعل عامل آخر كان أقوى سيطرة على تفكير معظم الفلاسفة في العصر الأيديولوجي؛ ذلك هو ما يسمى ب «الوعي التاريخي». ولقد كان هيجل هو الفيلسوف الذي ساهم بأكبر نصيب في دعم هذه الطريقة في التفكير. ومنذ وقت هيجل، أصبح الاتجاه المفضل هو النظر إلى الطبيعة البشرية في عمومها، بل إلى العقل ذاته، على أنهما متطوران خلال التاريخ، وبالتالي على أنهما يتأثران على الدوام بتغير ظروف الفرد والحياة الاجتماعية. وهذا ينطوي، أو يبدو منطويا، على القول بأن العقل ليس مبدأ شاملا ثابتا للفهم البشري والطبيعي، وإنما صورة للفكر متطورة تاريخيا، تخضع معايير الصحة فيها للتغير وفقا لتغير مقتضيات الحياة البشرية وظروفها.
ويتضمن قاموس «وبستر» معنى ثالثا للفظ «الأيديولوجية» هو بدوره مرتبط بموضوعنا؛ ففي هذا المعنى - وهو المعنى الأصلي - يشير اللفظ إلى «علم الأفكار؛ أي دراسة أصل الأفكار وطبيعتها، ولا سيما في مذهب كوندياك
Condillac ، الذي استمد جميع الأفكار من الإحساس وحده».
غير أن دلالة هذه الإشارة التاريخية ليست واضحة، ولزام علينا أن نأتي بتفسير لها، نظرا إلى أهميتها الأساسية بالنسبة إلى المشكلة التي يتعرض لها هذا الكتاب. فقد كان أول من صاغ لفظ «الأيديولوجية» فيلسوف فرنسي أصبح الآن منسيا، اسمه «ديتوت دي تراسي
Destutt de Tracy » (1754-1836م).
4
وقد استخدمها دي تراسي للإشارة إلى التحليل التجريبي المجدد للذهن البشري، وهو التحليل الذي صاغه في أكثر صوره اتساقا الفيلسوف «كوندياك» في القرن الثامن عشر، والذي يرجع آخر الأمر إلى «طريق الأفكار الجديد
The new way of ideas »، الذي وضعه لأول مرة جون لوك في كتابه «بحث في الفهم البشري
Essay Concerning the Human Understanding ». وقد تبنى زعماء الثورة الفرنسية هذا التحليل، الذي جعل من الإحساس مصدرا لكل الأفكار، على أساس أنه سلاح لا غنى عنه في محاربة العقائد السياسية والدينية المتسلطة التي استغلها النظام القديم في الاحتفاظ بقبضته. بل إن حكومة الثورة قد اعترفت بهذا التحليل بوصفه الفلسفة الوحيدة، وكان الفلاسفة الوحيدون المعترف بهم أثناء عهدها هم «الأيديولوجيون
les idéologues » كما أصبحوا يسمون فيما بعد.
ومنذ ذلك الحين فقدت كلمة «الأيديولوجية» هذا المعنى المحدود، ولكن ارتباطها بالمذاهب المستمدة من اعتبارات سياسية، والمؤيدة رسميا، ظلت باقية. ومع ذلك فقد طرأ تحول آخر على هذا المعنى للفظ خلال عهد نابليون، عندما أصبحت «الأيديولوجية» تكاد تعني أي رأي ذي طابع جمهوري أو ثوري؛ أعني أي رأي مضاد لنابليون ذاته. على أن هذه الارتباطات شبه المجازية لم تختف تماما قط من استعمالات هذا اللفظ، بل لقد ظلت طوال القرن التاسع عشر تكتسب قوة جديدة، ويتسع نطاقها، ولا سيما في كتابات كارل ماركس وزميله فريدرش إنجلز؛ ففي كتابهما المشترك «الأيديولوجية الألمانية»، ظل معنى اللفظ مرتبطا ارتباطا وثيقا بالفلسفة، ولا سيما تلك الفلسفات التي كانت في نظرهما معادية لفلسفتهما الثورية الخاصة في التاريخ. وهكذا استخدما اللفظ، ليس فقط للدلالة على التراث «البرجوازي» للمثالية الألمانية التي يمثلها هيجل وأتباعه، بل أيضا للإشارة إلى الصور «الآلية» السابقة للمذهب المادي، وهي الصور التي تعجز في رأيهما عن تفسير طبيعة التطور التاريخي.
وهناك عدة سمات في مفهوم الأيديولوجية عند ماركس وإنجلز، تقتضي هنا بعض البحث؛ فمن الملاحظ أولا أن ما أطلقا عليه اسم «الأيديولوجية» لا يشمل نظرية المعرفة والسياسة فحسب، بل يشمل أيضا الميتافيزيقا والأخلاق والدين، وأية «صورة للوعي» تعبر عن المواقف أو الالتزامات الأساسية لطبقة اجتماعية. كذلك يتضمن كتاب «الأيديولوجية الألمانية» عددا من الفقرات الطريفة التي يبدو فيها أن ماركس وإنجلز يحاولان إيجاد نوع من التمييز بين المكونات «الأيديولوجية» للوعي وبين ما يطلقان عليه تارة اسم «المعرفة الحقيقية»، وتارة اسم «العلم الوضعي الحقيقي». وهما لا يقدمان أبدا إيضاحا تاما لمعنى هذا التمييز، ولكنه يوحي على أية حال بأن الأيديولوجيات، أو «الأسباب» التي تدعو إلى قبولها، غير عقلية. كذلك يثير هذا التمييز مسألة صعبة تتعلق بمركز المادية الديالكتيكية ذاتها، التي تصورها ماركس على أنها ليست أيديولوجية الطبقات العاملة الثورية فحسب، بل على أنها أيضا فلسفة «علمية» يمكن وصفها، دون تردد، بأنها «صحيحة».
ولم يقم ماركس وإنجلز أو أحد من أتباعهما مطلقا بتحديد دقيق للصلات بين الأيديولوجية وبين العلم والمعرفة. ومع ذلك فإن القول بوجود ارتباطات لا معقولة تتعلق بالمصالح الاجتماعية أو السياسية البعيدة، وهي الارتباطات التي ما زالت تلحق المذاهب «الأيديولوجية» في كثير من الأحيان، يرجع الكثير من جذوره إلى النظرية الماركسية القائلة إن العناصر الأيديولوجية وبالتالي الفلسفية، في الوعي، تنتمي إلى «التركيب الظاهر»
superstructure
5
للحضارة.
وتبعا لهذا الرأي تكون هذه المذاهب، رغم مظاهرها الخارجية، مفتقرة إلى المضمون العقلي أو «المعرفي» المستقل، وليس لها مسار تاريخي قائم بذاته.
ولقد كان كلام ماركس وإنجلز عن وجود معنى مضلل ودلالة «حقيقية» باطنة للمذاهب الأيديولوجية أقوى أثرا أو أعمق تغلغلا في تفكير القرن العشرين مما يعترف به عادة؛ ففي رأيهما أن علاقات الناس وأفكارهم عندما تصاغ في قوالب أيديولوجية، تظهر الصورة المقلوبة؛ أي إن الأيديولوجية والفلسفة تتجهان إلى عرض الأفكار ذاتها كأنها قوى متحكمة قادرة على توجيه وتحديد العلاقات السياسية والاقتصادية بين الناس. وإلى هذا الميل إلى أن نصبغ بصبغة موضوعية ونشخص ما هو في حقيقته مجرد ناتج ثانوي ذاتي للصراع الاقتصادي الطبقي، ترجع سيطرة الأفكار الخالصة على من يؤمنون بها، ويعتقدون أن في إمكانها إحداث فارق ملحوظ في حياتهم. وهذا كله باطل؛ فالصورة التي تعرض بها القضايا الأيديولوجية تخفي مضمونها الحقيقي، وهي في واقع الأمر لا تعدو أن تكون مظهرا للتضليل اللغوي اللازم للدعوة إلى أية «نظرية» أيديولوجية. والواقع أن الأيديولوجيات في نظر ماركس إنما هي «انعكاسات» أو «أصداء» لقوى أخرى متحكمة تقوم هي ذاتها بالمهمة الأساسية في إحداث أي تغيير اجتماعي حقيقي. ويطلق ماركس على هذه العلل التنفيذية أو الفاعلة للتغير الاجتماعي اسم العلل «المادية»، وذلك إيضاحا للتقابل بينها وبين نواتجها العرضية الأيديولوجية.
وليس هذا موضع القيام بتحليل أو تقدير شامل لأقوال ماركس وإنجلز التي لم تكن متسقة دائما، بشأن الصلات بين «التركيب الظاهر» الأيديولوجي وأساسه الاقتصادي المادي. غير أن هذه النظرية توحي ضمنا على الدوام بأن المذاهب الأيديولوجية أساطير اجتماعية أو «مخدرات» للشعوب، وبأن «أسباب» قبولها لا صلة لها، في أساسها، باعتبارات البداهة أو الواقع. وما زالت هذه الفكرة المتضمنة في النظرية مرتبطة بمفهوم الأيديولوجية حتى يومنا هذا.
وأود في هذا الكتاب أن أستخدم بعض، لا كل، المعاني والارتباطات التاريخية المعقدة للفظ «الأيديولوجية». والرأي الذي أود أن أقدمه ها هنا هو أن الفلسفة لم تعد تتصور، خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، على أنها امتداد للعلم ذاته أو جزء منه. وهذا، كما سنرى، يصدق حتى على أشد الفلاسفة تعلقا بالعلم، مثل أوجيست كونت. غير أني لا أستخدم لفظ الأيديولوجية بمعنى مجازي لكي أوحي بأن هيجل أو كونت أو حتى ماركس ذاته قد استخدموا فلسفاتهم - بشيء من المخادعة - ذريعة لتحقيق أهدافهم السياسية أو الاجتماعية الخفية؛ فلا المثالية، ولا الوضعية، ولا المادية، يمكن أن تفهم أو تقدر بما فيه الكفاية إذا ما عدت مجرد أساطير أو مخدرات اجتماعية. كذلك لا أود أن أوحي بأن جميع المذاهب الفلسفية لدى الفلاسفة الذين سنعرض لهم هي مذاهب «لا عقلية»، بل إن استخدامي للفظ «الأيديولوجية» محايد تماما في هذه النواحي. ولا جدال في أن الالتزامات الأيديولوجية لفلاسفة القرن التاسع عشر يمكن أن توضع مقابل المعتقدات الواقعية المنتمية إلى النوع الذي يؤمن به الناس العاديون أو رجال العلم من حيث هم علماء، غير أن هذا لا ينطوي على أقل اعتقاد بأن هذه الالتزامات لا عقلية، أو بأنها تقترح أو تقبل بلا سبب. ومن الأمثلة الواضحة لذلك هيجل؛ فهو لم يفترض لحظة واحدة أن فلسفة التاريخ لديه تنتمي إلى مجال العلم الوضعي، ولكنه صاغ هذه الفلسفة على نحو نقدي واع بذاته إلى حد بعيد، وهو يقدم ما يطلق عليه «مل» اسم «خواطر للتأثير في الذهن»، وهي في رأيه كفيلة بأن تجعل هذه الفلسفة معقولة، وربما مقبولة لدى أي شخص نزيه. وفضلا عن ذلك، فحتى لو كان صحيحا أن صفة «الأيديولوجية» تنسب إلى معظم القضايا الفلسفية لفلاسفة القرن التاسع عشر، بحيث تضعها مقابل نظريات العلم التجريبي، فهذا لا يعني بأية حال أنه لا توجد بين هذه الفلسفات وبين العلم التجريبي أية علاقات سوى علاقة التضاد أو التقابل.
وهذا يفضي بنا إلى بحث لا بد منه في أي تقدير سليم لفلاسفة القرن التاسع عشر؛ فكتاباتهم عادة معقدة، وكثيرا ما تكون غامضة، وذلك على عكس أسلافهم في القرن الثامن عشر. غير أن من الأسباب الرئيسية لذلك أنهم اضطلعوا بمهمة لم يكن لدى هؤلاء الأخيرين أبسط فكرة عنها. ومن المسلم به أن السهولة والسلاسة أمر يسير، طالما أن المرء يقنع بأن يستخدم، دون تساؤل، تلك التصورات والمناهج المتوارثة التي فرضت عليه «معقوليتها»، «وصحتها»، مقدما. ولكن إذا ما بدأ المرء في الشك في ضرورتها الأزلية الشاملة، وبالتالي في الشك في وجود معايير ومبادئ موضوعية في «طبيعة الأشياء»، فإن عمل التحليل والنقد الفلسفي يبدأ عندئذ في الظهور في ضوء مخالف. ففي «عصر العقل»،
6
ظلت الإهابة بالعقل أو بالطبيعة لا تلقى انتقادا، لا لشيء إلا لأن معظم الفلاسفة كانوا يشاركون في نفس الإيمان بالعقل، وقبلوا معظم ما تتضمنه نفس مجموعة المبادئ «العقلية». ولكن مثل هذه الإهابة لم تعد ممكنة بالنسبة إلى كانت وخلفائه. ولهذا السبب اضطروا إلى الاضطلاع بتلك المهمة التي هي أعجب وأغرب المهام الفلسفية، ألا وهي نقد العقل ذاته وتبريره؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا شكاكا بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما كان شكهم محدودا، وموجها في المحل الأول إلى المفاهيم السائدة للعقل، وإلى الادعاءات الفلسفية التي كانت تساق بلا حساب باسم العقل.
كما أنه ليس من الإنصاف أن يستخف المرء بهم بحجة أنهم ليسوا إلا رومانتيكيين لا عقليين؛ فهم لم يثوروا إلا على عصر العقل وعلى ما يمكن أن يسمى بالحساسية الزائدة للعقل في الفلسفات العقلية السابقة. والذي حدث هو أن مفهوم العقل لم يعد تلك الفكرة الواضحة المتميزة التي بدت لديكارت أو اسبينوزا، ولم تعد قوانينه المزعومة تتسم بما ادعي لها من وضوح ذاتي. ومع ذلك فإن هذه الشكوك لم تكن إلا إحدى مراحل اتجاه عام متزايد القوة إلى النقد الذاتي، كانت تمر به الحضارة الغربية بأسرها. ففي ذلك العصر، امتدت إلى قلب الفلسفة ذاتها تلك الثورات السياسية والاجتماعية والعلمية التي كانت مستمرة منذ عصر النهضة، مما أدى آخر الأمر إلى التشكك في أداة التفكير الفلسفي ذاتها؛ أي العقل. وهكذا تساءل المفكرون: أفلا يجوز أن يكون العقل، ذلك المحرر المزعوم للفكر البشري، مجرد مستودع للأوهام البالية والعادات الذهنية العتيقة التي لا تتسم بأي قدر من الصحة الشاملة؟ فإذا صح ذلك، فماذا إذن تكون «الصحة
Validity » ذاتها؟ وكيف تحدد معاييرها، أو تعدل إذا اقتضى الأمر؟ بل كيف يكون نقد العقل ذاته ممكنا؟ أليس هناك نوع أساسي من الامتناع في نفس محاولة نقد وشروط وحدود كل قول معقول، تقويم مهمة العقل العملي ذاتها؟
ولم تكن الإجابات التي أدلى بها كانت وخلفاؤه على هذه الأسئلة تتسم بما يوده المرء من الوضوح. غير أن من أسباب إخفاقهم في هذه المهمة، بالقياس إلى غيرهم، أنهم اضطروا إلى إثارة مسائل لم تثر من قبل، بل لقد خلقوا، من العدم تقريبا، إطارا من التصورات ومنهجا لمناقشتها. وترتب على ذلك أنهم ارتكبوا أخطاء، وكثيرا ما ضللوا قراءهم، بل أنفسهم، باللغة الجديدة الغريبة التي استخدموها في محاولة حل مشاكلهم. وبدا أحيانا أنهم يمارسون نشاطا فلسفيا يشبه ما أطلق عليه الفلاسفة السابقون اسم «الميتافيزيقا» أو «علم المعرفة». ولكن الواقع أن المرء عندما يتأمل ما وراء شكل الألفاظ، يجد أن هدفهم كان في حقيقة الأمر القيام بنقد أساسي، لا للعقل فحسب، بل لكل نظام المعايير والمبادئ في الفلسفة الغربية. وهذه المهمة لم تتحقق، ولم يكن من الممكن أن تتحقق، من طريق مجرد استخدام مناهج «عقلية» كانت هي المستخدمة تقليديا في النظر الفلسفي؛ إذ إن هذه المناهج ذاتها كانت تؤلف جزءا أساسيا من الحضارة التي أصبحت معاييرها موضوعا للشك والتساؤل.
ومع ذلك فمن الخطأ أن نتصور أن فلاسفة القرن التاسع عشر كانوا «مجرد أيديولوجيين»، أو أن مذاهب أسلافهم لم تكن لها أوجه أيديولوجية ، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما.
فالموضوعات التي كانت تندرج تحت اسم «الفلسفة»، كانت في عمومها تشتمل دائما على أمور تزيد على ما ينطوي عليه معنى «الأيديولوجية» مهما توسعنا فيه؛ ف «الفلسفة» توحي بحب المعرفة فضلا عن الحكمة العملية، حتى لو توسعنا في العبارة الأخيرة بحيث تشمل «حكمة العالم». وكثير من الفلاسفة، قبل كانت وبعده، كانوا يعتقدون أنهم يساهمون بنصيب، لا في زيادة الحكمة اللازمة للسلوك في الحياة فحسب، بل في مقدار المعرفة أو المعلومات النظرية المتعلقة بالعالم أيضا؛ فالفلسفة كانت، ولا تزال، أم العلوم ذاتها، أو على الأقل كانت هي مربية هذه العلوم وراعيتها. ولقد كانت العلوم، شأنها شأن كل الأبناء، تميل دائما إلى إنكار آبائها عندما تبلغ سن الرشد، غير أن الفلاسفة كثيرا ما كانوا يثيرون بطريقتهم النظرية أسئلة أجاب عليها العلماء فيما بعد بطريقتهم التجريبية. وقد ظلت الفلسفة في القرن التاسع عشر مستودعا لمشاكل لم تحل قبل ذلك، حول طبيعة الأشياء. وساهم فلاسفة القرن التاسع عشر بدور أصيل مفيد في ميداني النظريات الاجتماعية وعلم النفس بوجه خاص. فهيجل مثلا كان له تأثير عميق في النظريات القانونية التالية، كما أن شوبنهور ونيتشه قد ساهما بدور كبير فيها يسمى الآن ب «علم النفس المتعمق». وكذلك لم يكتف أوجيست كونت بنحت ذلك الاسم الأجنبي غير الموفق
7
لعلم الاجتماع، بل ربما كان أول مفكر وضع علما عاما للمجتمع. تلك كلها مساهمات هامة، حتى لو كانت مهمة إيضاحها وتأكيدها قد تركت للآخرين.
ومن الصحيح مع ذلك أن الجهود الرئيسية لفلاسفة القرن التاسع عشر كانت متجهة إلى غاية أخرى؛ فهناك هوة شاسعة بين كتابين مثل كتاب «الأخلاق» لاسبينوزا، وكتاب فشته «نظرية العلم
Wissenschaftslehre
أو علم المعرفة
Science of knowledge
كما تشيع ترجمته خطأ في الإنجليزية. ومن مظاهر التباين بينهما، ذلك التحول الأساسي في المفهوم الفعلي أو الممكن للمباحث الفلسفية الرئيسية، كنظرية المعرفة والميتافيزيقا والأخلاق؛ فاسبينوزا، الذي كانت كتاباته تمثل مركزا تتلاقى فيه المفاهيم السابقة لهذه المباحث الفلسفية، وبالتالي لمهمة التفلسف ذاته، لم يكن يهدف إلى أقل من البرهنة، من خلال بديهيات وتعريفات واضحة بذاتها، على الحقائق الأساسية الضرورية المتعلقة بالله، والإنسان، وسعادة الإنسان. وقد استخدم نفس المنهج الهندسي الذي استخدمه إقليدس، لا لشيء إلا لأنه كان يعتقد أنه المنهج «الوحيد» الذي يمكن به الوصول إلى معرفة علمية لأي موضوع. وقد حاول اسبينوزا في كتاب «الأخلاق» أن يحول الحكمة الشعبية القديمة لدى الأنبياء إلى علم للأخلاق، وأنظار القدماء في الطبيعة إلى حقيقة ميتافيزيقية ضرورية. ففلسفة الإيمان والوحي اليهودية والمسيحية القديمة قد استعيض عنها، من وجهة نظره، بعقيدة للعقل، هدفها الوحيد هو معرفة ما هو كائن. وهكذا عمد اسبينوزا - وكأنه يحاول في ذلك إقناع القارئ نهائيا بأن الدين والفلسفة والعلم لها كلها نهج واحد - إلى وضع عبارة «وهو المطلوب إثباته
quod erat demonstrandum » عند نهاية البرهان على كل نظرية في «الأخلاق»، سواء أكانت هذه النظرية تقول بوحدة الله، أم بعدم وجود إرادة حرة على الإطلاق، أم بأن غاية الحياة البشرية هي الحب العقلي لله.
كل هذا بعيد تماما عن نظرة فشته إلى موضوعه؛ فالميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق تبدو بالنسبة إليه مباحث معيارية في أساسها، مهمتها تحليل وتقدير وإعادة تكوين المبادئ الأساسية التي ينبغي علينا أن نفكر ونحيا بها. وإذا كان هو ومعاصروه قد أطالوا الحديث عن «عالم الواقع
reality »، فلم يكن ما يتحدثون عنه هو الوجود اليومي الفعلي، وإنما الواقع «الفكري»، فحسب. ولا يحاول فشته أن يبرهن على قضاياه الميتافيزيقية الأساسية، وإنما هو يكتفي «بوضعها أو تأكيدها»، بوصفها مقتضيات لا مفر منها لأناه الخاص. ولا شك أن القليلين من فلاسفة القرن التاسع عشر هم الذين يقبلون تلك الذاتية المتطرفة في مذهب المعرفة عند فشته، بل إن فلاسفة قليلين في أي عصر هم الذين يتجرءون على قبولها. ومع ذلك فإن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر يعترفون، بطريقة ما، بأن مهمتهم الأساسية، لا من حيث هم باحثون أخلاقيون فحسب، بل بوصفهم ميتافيزيقيين ولاهوتيين وباحثين في نظرية المعرفة أيضا، ترتبط بالمسائل المتعلقة بالمبدأ أكثر مما ترتبط بالمسائل المتعلقة بالواقع، وتتعلق بمعايير الصحة والمعقولية في أي مجال أكثر مما تتعلق بالأشياء الخاصة التي تتفق مع هذه المعايير أو لا تتفق، بل إن البعض منهم على الأقل يصل إلى حد الاعتراف بأن الموضوعية ليست حقيقة عن الكون بقدر ما هي مسألة معايير مشتركة في الحكم والنقد. وبالاختصار، فهنا تعد الموضوعية اشتراكا بين الذوات في أحكام واحدة. والمعايير المشتركة بين الذوات لا يتفق عليها أفراد المجتمع لأنها موضوعية، بل إنها في الواقع تغدو موضوعية لأن الأفراد قد اشتركوا في قبولها.
ولقد كان اعتراف فلاسفة القرن التاسع عشر بوجود فارق في النوع بين المسائل المعيارية والمسائل الواقعية (مهما كان غموض ذلك الاعتراف)، وكذلك نظرتهم إلى مسائلهم الفلسفية الصرفة على أنها معيارية، كان ذلك هو الذي حدا بمعظمهم إلى الاعتراف تدريجيا بأن عملهم، بوصفهم فلاسفة، لم يكن، بما هو كذلك، جزءا من العلم، وبأنهم لا يستطيعون استخدام مناهج العلم. وليس معنى ذلك أنهم كانوا في عمومهم معادين للعلم؛ فبعضهم كان كذلك، وبعضهم الآخر لم يكن. ولكن حتى أولئك الذين كانوا مناصرين للعلم كانوا شاعرين، على نحو ما، بأن الدفاع عن العلم ليس في ذاته جزءا من النظرية العلمية المعترف بها رسميا؛ فالمفكرون من أمثال كونت ومل كانوا، من حيث هم فلاسفة، شهود إثبات في المحكمة أكثر مما كانوا قضاة أو أعضاء في هيئة المحلفين. ولقد كان كانت، الذي تبدأ به قصتنا، عالما، وصديقا للعلم طوال حياته، غير أن كتابه «نقد العقل الخالص»، الذي يستهدف أمورا منها؛ كيف، وبأي الشروط، تكون المعرفة العلمية ممكنة، لا ينتمي هو ذاته إلى العلم. ومثل هذا يصدق على الفلسفة الوضعية عند أوجيست كونت.
ونحن لا ننكر مع ذلك أن بعض فلاسفة القرن التاسع عشر، مثل هربرت سبنسر، قد اعتقدوا أن جزءا من أقوالهم، على الأقل، كان قابلا للتبرير علميا. ولكن الاهتمام الفلسفي لدى هؤلاء الفلاسفة أنفسهم لم يتجه إلى الوقائع بما هي كذلك، وإنما إلى المواقف الأساسية التي تؤيدها الوقائع كما وصفوها؛ فهم لم يكونوا باحثين علميين في المحل الأول، كما كان تشارلس دارون ، وإنما أصحاب مواقف، يسعون إلى استخلاص النتائج الصحيحة من الكشوف التي توصل إليها فرض التطور. وقد أنكروا، بوصفهم باحثين طبيعيين، وجود أية كيانات عالية على التجربة. ولكن اهتمامهم باستخدام هذا الإنكار في إثارة شكوك عملية حول المواقف الدينية والأخلاقية التقليدية، كان أعظم كثيرا من اهتمامهم بمجرد وصف السمات الشاملة للوجود بما هو كذلك.
وإنا لنجد في نيتشه مثلا رائعا على ما نقول؛ فمن صفات كتابه «أصل نشأة الأخلاق
The Genealogy of Morals »، أنه استبق بوقت طويل الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية الحالية في تطور الأفكار والعادات الأخلاقية. وهناك خط واضح يصل مباشرة بين نيتشه وبين هبهوس
Hobhouse
ووسترمارك
Westermark
ومالينوفسكي
Malinowski
مثلا.
8
ولكن رغم أن نظرة نيتشه إلى هذه الدراسة كانت ذات نزعة تجريبية وطبيعية واضحة، فإن اهتمامه الكامن من ورائها لم يكن علميا، وإنما أيديولوجي؛ أي إنه يستخدم آراءه في أصل نشأة الأفكار الأخلاقية، بل فكرة وجود أصل ونشأة الأخلاق ذاتها، وسيلة لتخليص قرائه من التزاماتهم القديمة الساذجة تجاه أسلوب في الحياة يراه مناقضا لذاته؛ فالنظرة التاريخية إلى دراسة الأخلاق ذاتها هي في رأي نيتشه أداة أساسية في «انقلاب كل القيم» عنده. وبالاختصار، فقد كان التاريخ والعلم بالنسبة إليه، كما كان بالنسبة إلى كونت وماركس، أدوات للتغير الحضاري، تستخدم قصدا لإعادة تشكيل مواقف الإنسان الغربي تجاه تراثه، وبالتالي تجاه ذاته.
ولكن هناك مع ذلك معنى أوسع كان فيه التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر ذا طابع «أيديولوجي». فمن الممكن، من وجهة نظر معينة، النظر إلى تاريخ الأفكار في العصر الحديث بأسره على أنه تاريخ الانهيار التدريجي للمذهب المسيحي الوسيط الذي عبر عنه توما الأكويني في «الجامع
Summum »
9
على أدق نحو ممكن، وعبر عنه دانتي في «الكوميديا الإلهية» أقوى تعبير مؤثر مقنع. فمنذ عصر النهضة، كانت أولى «المشاكل الوجودية» للإنسان وأهمها هي تكييف المواقف والأفكار الجديدة مع القيم المتوارثة والنظرة التقليدية إلى مصير الإنسان كما تتمثل في المذهب الوسيط. ولكن، منذ أواسط القرن الثامن عشر، أخذ الشك في إمكان هذا التكيف ذاته يتزايد على مستويات حضارية متزايدة الأهمية. وفي القرن التاسع عشر، أصبح فلاسفة كثيرون ينكرون إمكان هذا التكيف. وهكذا قرروا أن يعيدوا بناء المثل العليا للحضارة الغربية على أساس دنيوي وإنساني خالص؛ أي على أساس غير مسيحي. وربما كان ذلك من الأسباب التي جعلت فلاسفة القرن التاسع عشر أشد اهتماما بمسألة معنى الرموز الدينية منهم بوجود الله، وهو من الأسباب التي جعلتهم، على خلاف شكاك القرن الثامن عشر، الذين شكوا في وجود علة أولى للأشياء، يبدءون في التساؤل عما إذا كان «الإله قد مات»؛ فبعضهم قد اعتقد فعلا بأن «الإله»؛ أي الرمز التقليدي للألوهية، قد مات.
وهم يقصدون بذلك أن هذا الرمز لم يعد له أي فائدة للناس في عصر النظم السياسية والاجتماعية الدنيوية. وغيرهم، ممن لم يكونوا أقل من هؤلاء شكا في جدوى السؤال اللاهوتي التقليدي عن وجود الله بالنسبة إلى الإنسان الحديث، قد سعوا إلى إعادة تفسير الرموز الأساسية للعقيدة الغربية على نحو يجعلها معبرة عن محن الإنسان الحديث ومواقفه. غير أن النتيجة في كل حالة هي نقد انقلابي عنيف للعقيدة، لم يعد يقنع بآراء الدين «الطبيعي» العقلية، ولا بالعقيدة الإنجيلية أو المنزلة كما تفسر تقليديا. وكثيرا ما يبدو هذا النقد «لا عقليا»، على الأقل من وجهة نظر المعايير الأسبق عهدا للمعقولية الفلسفية، ولكنه ليس في الحق إلا واحدا من أوجه النقد المستمر للعقل ذاته.
مثل هذه الآراء قد تساعد على إيضاح السبب الذي دعا فلاسفة القرن التاسع عشر إلى أن يأخذوا على عاتقهم تلك المهمة الهائلة، مهمة إعادة البناء الأيديولوجية والثقافية، التي كان يستحيل معها التفلسف بالطرق «العقلية» و«الموضوعية» التقليدية التي سادت الفلسفة الغربية منذ عهد أفلاطون، وأرسطو؛ فهؤلاء الفلاسفة لم يكونوا يستطيعون الاكتفاء بالتأمل أو النظر أو ممارسة الاستدلال على طبيعة الأشياء؛ إذ إن نفس الإطار الذي دار فيه التأمل والنظر والاستدلال الفلسفي التقليدي قد تزعزع حتى أعمق جذوره. وبالاختصار، فقد كان عصرهم عصر أزمة طويلة الأمد للعقل، كانت أعمق من أية أزمة مرت بها الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأصلي بين الوثنية وبين المسيحية الأولى.
الفصل الثاني
التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
إمانويل كانت (1724-1804م)
لن يستطيع المرء حين يتصفح للمرة الأولى كتاب كانت «نقد العقل الخالص» أن يهتدي على التو إلى أسباب التأثير الضخم الذي أحدثه ذلك الكتاب؛ فهو يحفل بغوامض ومعميات عظيمة التجريد، تبدو لأول وهلة بعيدة عن المشاكل التي تحير الأذهان البشرية المعتادة. وأسلوبه شديد التعقيد، يصدم دون شك من ينتقل إليه مباشرة بعد قراءة كتاب مثل فولتير أو هيوم. وفضلا عن ذلك، فإن افتقار كتابة كانت إلى ذلك الوضوح واللمعان الكلاسيكي الذي يرتبط عادة بعصر التنوير، لا تعوضه أية نفحة من الحماسة والبلاغة الجديدة التي كان روسو، أمير الرومانتيكيين، قد أدخلها على النثر الفلسفي منذ عهد قريب. ومع ذلك كله فقد كان ذهن كانت من أكثر الأذهان في تاريخ الفكر البشري جرأة وأصالة. وقد انطوى نقداه المعقدان للعقل الخالص والعملي، كما أدرك بعض معاصريه، على انقلاب فلسفي عميق.
ولقد قدم إلينا الشاعر «هينه» وصفا موجزا لكانت يغني، في تعبيره عن أهم خصاله، عن مائة صفحة مكتوبة عن تاريخ حياته؛ فهو يقول: «من العسير كتابة تاريخ حياة إمانويل كانت؛ إذ لم تكن له حياة ولا تاريخ، وإنما كانت حياته حياة أعزب عجوز، مجردة آلية التنظيم، في شارع هادئ منعزل في كونجزبرج، تلك البلدة القديمة الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا. ولست أعتقد أن الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحو أكثر دأبا وانتظاما مما كان يؤديه مواطنها إمانويل كانت؛ فقد كان يلتزم وقتا محددا في استيقاظه، وشربه القهوة، وفي كتابته وقراءته محاضرات الجامعة، وأكله ومشيه، وكان جيرانه يدركون أن الساعة قد بلغت الثالثة والنصف بالضبط، عندما يبارح إمانويل كانت باب داره بمعطفه الرمادي، وفي يده عصاه الخيزرانية، ويسير في شارع «شجرة الليمون» الذي لا يزال يسمى ب «طريق الفيلسوف»، تخليدا لذكراه. فما أشد التعارض بين الحياة الخارجية لذلك الرجل، وبين تفكيره الهادم المحطم للعالم! والحق أن مواطني كونجزبرج لو كانوا قد أدركوا من بعيد المعنى الحقيقي لتفكيره ، لأحسوا عند مرآه بهلع يفوق هلعهم من رؤية جلاد متخصص في قتل البشر. إن هؤلاء السذج لم يروا فيه سوى أستاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم في الوقت المحدد، كانوا يحيونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه. ولكن إذا كان إمانويل كانت، الهادم الأكبر في عالم الفكر، قد فاق ماكسميليان روبسبير بكثير في الإرهاب، فقد كان بينه وبين هذا الأخير أوجه شبه عديدة تغري على المقارنة بينهما؛ فكل منهما يتسم، أولا، بنفس الشعور الصارم، القاطع، الجاف، الجاد، بالشرف والنزاهة. وكل منهما يتميز بالقدرة الفائقة على الارتياب، وهي قدرة مارسها أحدهما على الأفكار وأسماها بالمذهب النقدي، وطبقها الآخر على الناس وأسماها بالفضيلة الجمهورية. ومع ذلك فقد كان كل منهما يمثل «برجوازية» المواطن العادي أصدق تمثيل؛ فقد شاءت لهما الطبيعة أن يقوما بوزن القهوة والسكر، ولكن القدر أصر على أن يقوما بوزن أشياء أخرى، وهكذا وضع أحدهما ملكا، والآخر إلها في الميزان، وتعادلت كفتا الميزان تماما.»
1
ولقد كان تطور كانت الفكري بطيئا إلى حد غير مألوف؛ فقد تشبع وهو طالب بمذهب عقلي كان يحظى باحترام كبير في ذلك الحين، وهو مذهب «كريستيان فون فلف
Christian von Wolff »، وهو تلميذ غير لامع لليبنتس العظيم. ولم يبدأ كانت في التغلب على هذا التأثير إلا في أواسط حياته. وكان أول ما أعانه في هذا الصدد كتابات روسو وهيوم. وهذان، بالإضافة إلى ليبنتس، يمكن أن يعدوا المؤثرات الرئيسية الثلاثة التي شكلت فكره الناضج. ومن المحال أن يفهم المرء فلسفة كانت ذاتها إلا إذا ألم بعض الإلمام بطبيعة هذه المؤثرات.
فقد كانت مشكلة المعرفة تشغل جانبا كبيرا من اهتمام مدرستين فلسفيتين رئيسيتين، ابتداء من عصر ديكارت، هما العقلية والتجريبية. بل إن من الشائع وصف هذا الاهتمام بأنه هو المميز للفترة «الحديثة» في تاريخ الفلسفة من الفترتين القديمة والوسطى السابقتين عليها. ومع ذلك فإن أحدا من السابقين على كانت لم يتصور لحظة أن مسائل المنهج هي نقطة النهاية في الفلسفة، بل لقد كان معظمهم يعدون نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، كما تسمى، مجرد نقطة بداية ضرورية للتفلسف الحقيقي، الذي هو تحديد الطبيعة الحقيقية للأشياء، وشروط سعادة الإنسان؛ فغاية ديكارت من كتابة مقاله المشهور في المنهج لم تقتصر على إيضاح ما عده منهج العلم، الذي كان يتفق في رأيه مع طريقة المعرفة بوجه عام، وإنما كانت أيضا تطبيق نتائجه في حل المسائل الميتافيزيقية الكبرى المتعلقة بطبيعة الذهن والمادة وعلاقاتهما، وعلتهما، التي أسماها بالله. ولقد كان ديكارت وخلفاؤه في المدرسة العقلية؛ أي اسبينوزا وليبنتس، يعدون أنفسهم علماء ذوي وعي ذاتي عميق، مهمتهم إيضاح نفس المناهج التي أحرزت أخيرا ذلك النجاح الباهر في ميادين الرياضيات والفيزياء، ثم تطبيقها على المشاكل الأعم المتعلقة بالوجود، والتي عالجها الفلاسفة منذ عصر ما قبل أفلاطون. وقد تصوروا أنفسهم علماء هندسة أو علماء فيزياء من مرتبة أعلى - إن جاز هذا التعبير - ولم يداخلهم شك في أن أبحاثهم الميتافيزيقية ذاتها كانت في أساسها امتدادا لأبحاث العلوم «الخاصة»، وكانت الميتافيزيقا؛ أي علم الوجود، لا تعدو في نظرهم أن تكون «ملكة العلوم»، أما الأخلاق فليست سوى نسق من «القوانين الطبيعية» التي تحدد شروط تحقيق الإنسان لطبيعته. ولم يدر بخلدهم وجود أي نوع من التمييز القاطع بين قوانين الطبيعة والمبادئ المعيارية، على حين أن هذا التمييز كانت له أهميته الكبرى في فلسفة كانت.
ولقد استبق كبار خصوم المذهب العقلي، وهم لوك وباركلي وهيوم، كثيرا من أفكار كانت. ولكن إذا كان لوك، في كتابه المشهور «بحث في الذهن البشري»، قد سار مترددا في الطريق المؤدي إلى مشكلة النقد العقلي عند كانت، فإن فهمه للمشكلة قد ظل غير واضح؛ فتحليله للذهن البشري لم يتضمن خروجا صريحا على مسلمات ديكارت المنهجية الأساسية. كما أنه لم ينظر إلى هدفه الخاص بتحديد «يقينية المعرفة البشرية ومداها» على أنه هدف يختلف اختلافا شديدا عما نطلق عليه نحن اسم علم النفس التجريبي (
empirical ). وكان اهتمامه بالمسائل الخاصة بأصول أفكارنا، واتباعه لما أسماه ب «المنهج التاريخي الصريح»، دليلا قويا على أنه لم يشعر بوجود فارق أساسي بين الأبحاث النفسية للعلل المتحكمة في أفكارنا ومعتقداتنا ، وبين التحليلات الفلسفية لمعنى أفكارنا وصحة معتقداتنا.
أما فلسفة كانت فهي تفترض في أساسها تمييزا قاطعا بين المسائل المنتمية إلى مجال ما هو كائن، وتلك المنتمية إلى مجال ما يجب أن يكون. ومثل هذا التمييز في رأيه ضروري، لا في الأخلاق فحسب، حيث ينبغي التفرقة بين المرغوب فيه وبين الجدير بأن يكون مرغوبا فيه، وإنما هو ضروري أيضا في المنطق ونظرية المعرفة، حيث ينبغي التفرقة، على نحو مماثل، بين ما نعتقده وما ينبغي أن نعتقده، وبين ما نستدل عليه وما يكون من الصحيح الاستدلال عليه. ومما له دلالته أن كانت، من حيث هو فيلسوف، لم يكتب «بحثا في الطبيعة البشرية» كما أسمى هيوم كتابه الرئيسي، وإنما كتب «نقدا للعقل الخالص» و«نقدا للعقل العملي». ولا جدال في أن «المنهج التاريخي الصريح» عند لوك لم يكن يفي بأغراض كانت على الإطلاق، ومن ثم فقد كان عليه أن يضع «منهجا ترنسندنتاليا» جديدا، هو وحده الكفيل بتحديد أسس الاعتقاد والفعل المبنيين على العقل.
وطالما أساء الناس فهم المعنى الذي استخدم به كانت لفظ «الترنسندنتالي». فقد يظن القارئ غير المدقق، حين يلاحظ تكرار ورود هذا اللفظ في صفحات مؤلفات كانت، أن فيلسوفنا كان يعني به طريقة للوصول إلى أشياء «تعلو على هذا العالم». ومثل هذا الاعتقاد باطل؛ إذ إن آراء كانت حول إمكان معرفتنا لأية حقيقة علوية كانت آراء حذرة لا تطلق جزافا على الإطلاق. ولم تكن لديه أية رغبة في أن يفعل ما فعلته إحدى شخصيات أوبرا جلبرت وسليفان «بيشنس
»،
2
فيأخذ جميع بذور الألفاظ الترنسندنتالية ويزرعها في كل مكان، بل إنه بذل قدرا كبيرا من طاقته العقلية في سبيل انتقاد التطبيق الميتافيزيقي للألفاظ الترنسندنتالية على ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة.
ولقد كان كانت يعتقد أن نقده للعقل قد أحدث ما يمكن تسميته ب «الانقلاب الكبرنيكي» في الفلسفة. غير أن التشبيه الذي قصده من هذه التسمية غامض، وكثيرا ما أسيء فهمه، شأنه في ذلك شأن لفظ «الترنسندنتالي». وعلينا، لكي نفهم على نحو أكمل المعنى الذي قصده كانت، أن نعود إلى الموقف التاريخي الذي واجهه عندما قرأ لأول مرة، في وقت كان فيه من أتباع ليبنتس، تحليل هيوم للعلية، الذي بدا ذا طابع شكاك.
فقد سلم كانت في شبابه، حين كان من أتباع المذهب العقلي، بأن مبدأ العلية؛ أي المبدأ القائل بأن لكل حادث علة، هو مبدأ ضروري للطبيعة، متأصل في طبيعة الأشياء، ولا يحتاج المرء لإدراك حقيقته إلا إلى عقله الخالص، دون التجاء إلى التجربة. كما سلم دون مناقشة بوجود ارتباطات ضرورية في الطبيعة، كامنة في النظام الموضوعي للواقع. ومن خلال وجهة النظر هذه، لا يمكن أن تكون قوة العقل سوى القدرة على إدراك مثل هذه «العلاقات الواقعية» بالحدس، فيكون بذلك قد رسم نوعا من الخريطة أو الأشعة السينية للتركيب الداخلي للوجود ذاته؛ فالذهن البشري يفكر من خلال العلية؛ لأن ذلك الذهن ذاته هو في واقع الأمر مرآة تعكس بدقة ذلك التركيب الباطن للعالم الخارجي. والعقل يدرك هذه المبادئ على أنها ذات صحة واضحة بذاتها؛ إذ إنه «يرى»، عن طريق عملية حدس عقلي، أنها تصح بالضرورة على طبيعة الأشياء. وهكذا لا يكون العقل من وجهة النظر هذه مجرد ملكة للتجريد والاستدلال، وإنما ملكة للكشف أيضا، تتيح لنا إدراك أعم صفات الأشياء كما هي في ذاتها.
ولقد رد هيوم على هذا كله ردا غاية في البساطة.
فقد تساءل: كيف يتسنى لنا أن نعرف، على نحو مستقل عن التجربة، أن كل حادث له، وينبغي أن تكون له، علة؟ لقد كان هيوم على استعداد للاعتراف بأن لبعض القضايا صحة ضرورية، ومن هذه القضايا الحقائق الرياضية والمنطقية، والقضايا «اللفظية» مثل «كل كلب كلب» و«كل شيء ملون ممتد». غير أن مثل هذه الحقائق تعبر عن «علاقات بين الأفكار»، ولا تنبئنا بشيء عن الأمور الواقعة أو الوجود الفعلي. والمعيار الوحيد للحقيقة الضرورية عند هيوم هو قانون عدم التناقض.
فإذا كان من المحال نفي قضية دون تناقض، فإن القضية تكون صحيحة بالضرورة. ولكنها، لهذا السبب عينه، لا تنبئنا بشيء يتجاوز ما تتضمنه التصورات التي تنطوي عليها . أما القضية التي يمكن نفيها دون تناقض، فليست لها صحة مطلقة. وفي هذه الحالة لا يمكن استخلاص الشواهد على صحتها - إن كان لها أي معنى - إلا من التجربة.
فماذا نقول إذن عن قانون العلية؟ أهناك أي تناقض في إنكار إمكان وجود شيء دون علة؟ يرى هيوم أن الجواب ينبغي أن يكون بالنفي دون قيد ولا شرط؛ فمبدأ العلية الشاملة، من حيث هو قانون للطبيعة، لا يمكن إدراك صحته بطريقة أولية سابقة على التجربة.
وللمسألة موضوع الخلاف هنا أهمية قصوى؛ إذ لو كان مبدأ العلية غير يقيني، لبدا أن العلم بأسره لا يرتكز على أساس أمتن من ذلك الذي ترتكز عليه العقيدة المنزلة. وإذن فهلا يوجد مبرر لاعتقاد العالم باطراد الطبيعة؟ أهذا الاعتقاد مجرد رأي إيماني ليس له من الأسس العقلية أكثر مما لالتزامات الكاهن أو النبي أو الطبيب؟
مثل هذه الأسئلة الفائقة الأهمية هي التي تصدى لها كانت في كتابة «نقد العقل الخالص»، وكانت إجابته عليها تؤلف الجزء الأكبر من ثورته الكبرنيكية في الفلسفة؛ فقد أخذ كانت بالوجه السلبي لتحليل هيوم، ووافق على أن أصحاب المذهب العقلي كانوا يفتقرون إلى الروح النقدية عندما اعتقدوا أن قانون العلية الشاملة حقيقة مطلقة يدرك العقل بحدسه انطباقها على جميع الأشياء كما هي في ذاتها. وكان من رأيه أن ذلك القانون ليس، على حد تعبيره، «تحليليا»؛ فهيوم كان مصيبا تماما حين أنكر أن معنى لفظ «الشيء» يستتبع أن تكون له علة. وإذن ينبغي أن يكون المبدأ «تركيبيا». غير أن كانت يأبى أن ينظر إلى هذا المبدأ على أنه مجرد تعبير عرضي عن أمر واقع، مثل «كل البجع أبيض»، أو «كل الفلاسفة مصابون بالعصاب». وإذن، فإلى أي نوع من القضايا ينتمي قانون العلية؟
يجيب كانت عن هذا السؤال بأن القانون ليس تعبيرا عن أمر واقع، ذا صحة بعدية
aposteriori ، وليس إيضاحا «تحليليا» لمعان موجودة بالفعل في تصور ما. وإنما هو مبدأ تنظيمي يعبر عن قاعدة شاملة لكل بحث عقلي؛ فجميع المبادئ التي تنتمي إلى هذا النوع أولية، ولكنها تركيبية أيضا؛ أي إنها ذات شمول وضرورة مطلقة، ومن ثم فإن صحتها لا تتوقف على تأييد من التجربة، بل إن صحتها، على العكس من ذلك، تفترض ضمنا في جميع الأحكام التي تنقل إلينا معرفة بالظواهر. ومع ذلك فهل هذه المبادئ تنطبق على تصورنا للأشياء من حيث هي موجودة، لا على ما أسماه هيوم بالعلاقات بين الأفكار فحسب.
وإذن فالسؤال الأساسي في نقد العقل لا يعدو، في رأي كانت، أن يكون: «كيف تكون الأحكام التركيبية الأولية ممكنة؟» وليس في وسعنا في هذا الحيز المحدود، إلا أن نشير إشارة عامة إلى إجابة كانت على هذا السؤال؛ فالمقدمة التي يرتكز عليها هي أن الذهن البشري لا يمكن تصوره مرآة سلبية تعكس، بطريقة حدسية، الأنماط الكامنة في الأشياء كما هي ذاتها، أو العنصر المعقول فيها، وإنما ينبغي أن ننظر إلى ما نسميه بالذهن على أنه قوة فعالة تقوم هي ذاتها بتشكيل المادة الخام التي تقدمها التجربة الحسية في نظام شامل من الظواهر المصوغة في تصورات. ومع ذلك فإن كانت ليس «مثاليا»؛ أي إنه لا يقول إن الذهن ذاته هو الحقيقة الوحيدة، أو أن الذهن يخلق عالمه؛ فعناصر التجربة الحسية «معطاة» سواء شئنا أم لم نشأ، ونحن، بكل بساطة، نجدها هناك كلما فتحنا أعيننا وآذاننا. كذلك لا يشك كانت في أن ثمة «أشياء في ذاتها» بمعنى معين؛ أشياء خارجة عن الذهن، ذات حقيقة مستقلة عنه. بل إن هذا الافتراض في الواقع من القضايا الرئيسية في فلسفته بأسرها. غير أن الأشياء في ذاتها ليست، في رأيه، موضوعات للمعرفة، وليس لدى الذهن أي شيء يقوله عنها بالمعنى الصحيح. بل إن مهمة الذهن هي تشريع قوانين البحث، التي تتيح للوقائع الحسية الخام أن تتعايش سويا في مجتمع مدني يضم موضوعات خاضعة للقانون.
ومع ذلك، فمن واجبنا ألا نمضي في هذا التشبيه أبعد مما ينبغي؛ فكانت لا يعتقد أن الذهن المشرع يستطيع إذا شاء أن يضع قواعد غير تلك التي تستخدم بالفعل في تفكيرنا العادي وتفكيرنا العلمي في الظواهر. وفي هذا الصدد ظل كانت ملتزما التراث العقلي الذي تأثر به؛ فما يسميه كانت ب «صورتي الحدس»، وهما المكان والزمان، هما، رغم ذاتيتهما، كامنتان في كل إدراك بشري. وفي رأيه أن من المحال تصور شيء لا يشغل مكانا ولا يمر بزمان. وفضلا عن ذلك فقد اعتقد كانت أن الهندسة الإقليدية، التي كانت في عصره الهندسة الوحيدة التي وضعها الرياضيون، تعبر عن العلاقات الضرورية الشاملة بين جميع الموضوعات التي يمكن أن تظهر لنا في المكان، ولم يدر بخلده قط أن من الممكن وضع هندسات أخرى قد تكون أكبر فائدة من هندسة إقليدس في ميادين علمية معينة. كذلك اعتقد أن مقولات مثل العلة والجوهر أساسية في كل تفكير عقلي حول الظواهر. ولم يطف بذهنه مجرد إمكان قيام علم يستغني عن هذه المقولات.
ومع ذلك، فالأمر الذي أدركه بوضوح هو أن جميع المقولات، من أمثال «العلة» و«الجوهر»، لا تمثل علاقات أو كيانات حقيقية.
ولقد كان هو أول من قال بذلك الرأي الذي عبر عنه مفكرون تالون على أنحاء شتى، والقائل إن التصورات والمبادئ المنهجية للبحث ليست تعبيرا عن عنصر عقلي كامن في طبيعة الأشياء، وإنما هي أفكار وقواعد إجرائية، تتخذ لأغراض عملية هدفها السيطرة على العالم الذي نعيش فيه.
ونستطيع أن نقول، على الإجمال، إن الوجه السلبي لمذهب كانت كان له أثر أعظم من الوجهة التاريخية؛ فموقفه، كما رأينا، يحتم ألا تكون صورتا الحدس، وهما المكان والزمان، ومقولات الذهن، كالجوهر والعلة، قابلة للانطباق على ما يتجاوز المعطى في التجربة الحسية. والثمن الذي ينبغي علينا أن ندفعه لكي نضمن إمكان المبادئ التركيبية الأولية، كقانون العلية، هو أن نقصر تطبيقها على عالم الظواهر الداخلة في نطاق التجربة. ومن حقنا أن نظل نميز، داخل هذا العالم، بين ما هو «حقيقي»، وما هو «خداع»، غير أن مثل هذا التمييز لا ينطبق على الأشياء في ذاتها؛ فعندما نحاول أن نتوسع في تطبيق أفكار كالعلة والجوهر بحيث تسري على الأشياء في ذاتها، أو أن نفكر «بطريقة واقعية» حول «علة» عالم الظواهر في مجموعه، فإن المطاف ينتهي بنا حتما إلى نقائض لا ضابط لها، ولا قبل للذهن البشري بحلها على الإطلاق. مثل هذا الاستخدام النظري
3 (
speculative ) الجامح للعقل، هو الصفة المميزة لتلك الأحكام التوكيدية التسليمية التي كان يدلي بها العقليون السابقون حول الطبيعة النهائية والعلة القصوى للأشياء. ويرى كانت أن هذا الاستخدام النظري
4
البحت يؤدي في جميع الحالات إلى قضايا ميتافيزيقية يحق لنا أن نشك حتى في كونها قضايا ذات معنى. فلكل قضية مثل؛ للعالم في مجموعه علة، قضية مضادة تعادلها إمكانا، ويمكن البرهنة عليها بنفس القدر من الإحكام، ومن ثم فإن معناها يعادل الأولى في افتقاره إلى الوضوح. فلو أثبت بطريقة عقلية خالصة أن العالم لا بد أن تكون له بداية في الزمان، ففي وسعي أن أثبت، ببرهان تبدو له نفس ضرورة برهانك، أن العالم لا يمكن أن تكون له هذه البداية. ولو قدمت حججا تبدو مقنعة تماما، على أن المادة تتألف من ذرات بسيطة لا تتجزأ، ففي وسعي أن أثبت، بطريقة لا تقل عن ذلك إقناعا، أن المادة تقبل الانقسام إلى ما لا نهاية. ولو أثبت أنه إذا كان ثمة شيء موجود، مثلك أنت، فلا بد أن يكون هناك موجود
5
ضروري يعد علة، ففي وسعي أن «أبرهن» بنفس القوة على القضية المضادة، القائلة إن مثل هذا الموجود الضروري غير موجود ولا يمكن أن يكون موجودا.
والذي يحدث في كل هذه الحالات هي أننا نمد تطبيق مقولات الذهن دون تمحيص، إلى كيانات افتراضية تخرج تماما عن نطاق التجربة الممكنة، فتكون النتيجة أن نفقد ضوابطنا المنطقية، ولا يتبقى لنا سوى ادعاءات متضادة تتعرض صحتها لنفس القدر من الشك. حقا إن السؤال عما إذا كان للكون في مجموعه علة أو بداية في الزمان يبدو في ظاهره سؤالا معقولا، غير أن البحث الدقيق يثبت أننا لا نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة قط، لا لأننا نفتقر إلى الأدلة الكافية، بل لأن وجهة الأسئلة ذاتها باطلة . ولو نظرنا إلى الكون بأسره على أنه نتيجة لعلة هائلة الحجم، لكان علينا أن ننظر إلى الكون على أنه شيء مادي ضخم تربطه بتلك «العلة» نفس العلاقة التي تربط بين ظاهرتين مألوفتين. غير أن الكون في مجموعه ليس ظاهرة، ولا يمكن تصوره على أنه ظاهرة؛ ففي كل تفكير ميتافيزيقي من هذا النمط نضطر إلى تطبيق تصورات على مجال يتجاوز النطاق المعتاد الذي تنطبق عليه إلى حد لا نعود معه نعرف ما الذي يبدو أننا نقوله، فتكون النتيجة تأرجحا لا ينقطع بين قضايا وقضايا مضادة لا تقل كل منهما عن الأخرى إحكاما، وهذا الإحكام المتكافئ بين قضايا متضادة هو الذي يجعلها مفتقرة، بنفس القدر، إلى المعقولية. والأجدر بنا، في رأي كانت، أن نكف تماما عن ألعوبة الميتافيزيقا النظرية العقيمة، وإلا فقد الذهن ثقته بالمقولات ذاتها، ووقع دون خلاص في قبضة الشك.
وعلى مثل هذه الأسس يقوم تفنيد كانت للبراهين التقليدية على وجود الله، وهي البراهين التي احتلت مكانة هامة في ميتافيزيقا العقليين ولاهوتهم. وحسبنا هنا أن نقول إن هذه البراهين ترتكز كلها، في رأي كانت، على ما يسمى ب «البرهان الأنتولوجي»، وهو البرهان الذي يقال فيه إن إنكار وجود الله يستتبع التناقض حتما، فتصور الله هو، حسب تعريفه، تصور كائن مطلق الكمال، ولكن لا بد أن يكون الوجود من صفات الكائن المطلق الكمال، وإلا لما كان كاملا، وإذن فلا بد أن يكون الله، من حيث هو الكائن المطلق الكمال، موجودا. وموضع بطلان هذه الحجة هو أنها ترى «الوجود» محمولا يدل على صفة معادلة لجميع الصفات الأخرى التي تعزى إلى الله، كالعلم المحيط بكل شيء. غير أن الوجود، ليس محمولا، ولا يدل على صفة أو سمة للأشياء التي يعزى إليها. ويضرب كانت لإيضاح فكرته مثلا بالفارق بين مائة قرش حقيقي ومائة قرش خيالي؛ فالفارق الوحيد بينهما ينحصر في أن الأولى موجودة والثانية غير موجودة، أما تصور المائة قرش فواحد في الحالتين.
والمسألة التي يريد كانت إثباتها في هذا الصدد هي أن لفظ «الوجود» يفقد وظيفته المنطقية إذا ما عومل، كما تتطلب البراهين التقليدية على وجود الله، على أنه محمول يدل على صفة. والنتيجة الوحيدة التي تستخلص من هذا، كما سبق أن قال هيوم، هي أن فكرة الله ذاتها، بمعنى «الموجود الضروري»، فكرة مستحيلة. ويضيف كانت إلى ذلك نقطة هامة، هي أنه حتى لو صحت براهين وجود الله هذه، لما استتبعت، مع هذا، أن يكون هذا الموجود الضروري، هو ذاته، تلك العناية الإلهية التي يرى الكثيرون أنها هي الموضوع الحقيقي لتقديس البشر وتقواهم.
وقد يستنتج المرء من هذا كله أن نقد كانت المدمر للميتافيزيقا النظرية كان استباقا للنظرية الوضعية التالية القائلة إن جميع القضايا الميتافيزيقية واللاهوتية لا معنى لها على الإطلاق. غير أن هذا استنتاج باطل؛ إذ إنه، مع معارضته الشديدة لكل الادعاءات المتعلقة بالمعرفة الميتافيزيقية للواقع، كان يؤمن بأن لبعض الاعتقادات الميتافيزيقية أو اللاهوتية أهمية من حيث هي «مصادرات» للعقل «العملي». وإذن فلا بد، لتكوين صورة أدق عن تعاليم كانت في هذا الصدد، من أن نلم بعض الإلمام بفلسفته الأخلاقية.
يعتقد كانت أنه ليس من مهمة الأخلاق أو العقل العملي على الإطلاق وصف الأمور الواقعية أو التنبؤ بها، وإنما تنحصر هذه المهمة في إرشادنا إلى الطريقة التي ينبغي أن نحيا بها، وإلى ما ينبغي علينا فعله. وهكذا فإن أحكام العقل العملي لا تمدنا بمعرفة بالمعنى النظري، وإنما هي أوامر عملية وظيفتها إرشادنا في اتخاذ قراراتنا. وليست وظيفة الاستدلال العملي أو الأخلاقي تبديد الشكوك العقلية المتعلقة بالموجودات، وإنما هي القضاء على تردد الإرادة. ويعتقد كانت أن لهذا التردد نوعين رئيسيين؛ (أ) تردد ناشئ عن التعارض المعتاد بين الرغبات أو الميول. (ب) وتردد ناشئ عن التعارض بين الرغبات أو الميول الطبيعية وبين شعورنا بالواجب. وللتغلب على هذين النوعين تماما من التردد العملي، يوجد نوعان رئيسيان من الأوامر؛ (أ) أوامر مشروطة
hypothetical imperatives ، تنبئنا بما ينبغي علينا عمله لإرضاء رغباتنا. (ب) وأوامر مطلقة
categorical imperatives ، تنبئنا بما ينبغي علينا عمله بوصفنا كائنات أخلاقية. فإذا شئت حفظ صحتي، فينبغي علي ألا أستسلم للقلق. ولكن الأساس الوحيد الذي يرتكز عليه «الواجب» في هذه الحالة هو رغبتي الطبيعية في حفظ صحتي. وإذن فالأمر في هذه الحالة أمر مشروط تستمد ضرورته العملية الوحيدة من رغبتنا في تحقيق الغاية التي يعبر ذلك الأمر عن وسيلتها الضرورية. أما الأوامر المطلقة فتقتضي منا أداء الأفعال التي تدعو إليها، بغض النظر عن ميولنا الشخصية. وهي لا تتساءل عن تفضيلاتنا أو أذواقنا، وإنما توجه إلينا دون قيد أو شرط، وعلى نحو لا شخصي، بوصفنا موجودات أخلاقية عاقلة. •••
ويرى كانت أن مفتاح الفهم الصحيح للأوامر الأخلاقية أو المطلقة هو تصور القانون؛ أي المبدأ الذي يصح دون استثناء. غير أن القوانين الأخلاقية تختلف عن قوانين الطبيعة التي يصنعها العلم في أنها لا تنبئنا بما هو كائن بالفعل، وإنما تنبئنا بما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يفعله أي كائن عاقل في ظرف معين. وعلى ذلك فالأمر المطلق، الذي طالما أشير إلى وجه الشبه بينه وبين «القاعدة الذهبية»،
6
هو أنه ينبغي علينا ألا نتخذ لأنفسنا من قواعد السلوك في أي موقف عملي سوى تلك القواعد العامة التي نريد لها أن تكون على الدوام قوانين شاملة للطبيعة. ولنقل مرة أخرى إن هذه القواعد ليست قوانين الطبيعة، وأن النظر إليها على هذا النحو ينطوي على سوء فهم لوظيفتها، ولكنها لا تصبح قواعد أخلاقية إلا إذا اتجهت إرادتنا - بقدر استطاعتنا - إلى أن نجعلها كذلك.
ولقد وجهت إلى نظرية كانت انتقادات كثيرة. والذي يهمنا هنا هو النتيجة الهامة لتمييزه القاطع بين العقل الخاص أو النظري والعقل العملي؛ أي بين العلم والأخلاق. ذلك لأن قبول المرء لفكرة كانت المسماة بفكرة «العقلين»، وقوله مع كانت إن أساس كل عقل عملي يكمن في الإرادة لا في العقل وحده، كفيل بأن يؤدي على التو إلى تخليص مجال رئيسي كامل للتفكير الفلسفي من الخضوع للسلطان المطلق للمنهج العلمي. حقا إن علم الأخلاق، وكل مبحث آخر قد يماثله في هذا الصدد، قد يظل «عقليا» بمعنى هام، ولكن ليس لنا أن نظل ننظر إلى العقل في هذه الحالة على أنه ملكة نظرية خالصة. وفضلا عن ذلك، فإذا كانت الاعتقادات اللاهوتية أو الميتافيزيقية الوحيدة المشروعة، كما يرى كانت، هي تلك التي تبنى، آخر الأمر، على مطالب الإرادة الأخلاقية، فإن هذا يؤدي إلى استبعاد فرعين آخرين في البحث الفلسفي لهما أهمية عظمى من ذلك المجال الذي يجوز تسميته ب «العلم»، مهما كانت مرونة فهمنا لهذا اللفظ. وبالاختصار ففي وسعنا أن نرى، في هذا الجزء ذي الأهمية التاريخية من فلسفة كانت، أن الفلسفة ذاتها تنتقل تدريجيا من مركز علم العلوم
super science ، إلى مركز الأيديولوجية. ومع ذلك فالأمر ذو الدلالة الحاسمة هو أن كانت ذاته يستطيع أن يعترف بهذا الانتقال في حالة الأخلاق، ويؤكد في نفس الآن مع ذلك أنها نوع من النشاط العقلي.
وعلينا، لكي نتم رسم الصورة، أن نتابع تحليل كانت لشروط الحياة الأخلاقية خطوة أخرى؛ فالأوامر الأخلاقية كما رأينا مطلقة، ومع ذلك فهي في نظر كانت لا معنى لها إلا إذا بنيت على افتراضات أو مسلمات معينة. مثال ذلك أنه ما لم تكن الإرادة الأخلاقية حرة في فعل ما يأمر به القانون الأخلاقي أو عدم فعله، فإن الأخلاق ذاتها تعد وهما خادعا. غير أن شيئا، في رأي كانت، لا يفرض علينا حقيقته بنفس القوة التي تفرضها علينا أحكام الضمير. ومع ذلك فلا سبيل لنا إلى تصور أنفسنا أحرارا، طالما أننا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا كائنات عضوية مادية؛ ففي هذه الحالة يخضع سلوكنا، شأنه شأن سلوك أي كائن عضوي، لتحكم العلل الطبيعية. وبالاختصار، فإن أجسامنا، بقدر ما يمكننا «معرفتها» بالوسائل العلمية، هي ظواهر في الزمان والمكان، وبالتالي فهي خاضعة تماما لقوانين الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء. غير أن مذهب كانت في الأشياء في ذاتها يتيح له مهربا من هذه النتيجة؛ فليس من الضروري افتراض أن مقولة العلة والمعلول تنطبق على ما يتجاوز نطاق الظواهر المكانية - الزمانية. وعلى ذلك، فلما كان الاعتقاد بأن الإرادة حرة ضروريا لضمان حقيقة الحياة الأخلاقية، فإنا نستطيع أن نؤمن، دون تناقض، بأننا ننتمي إلى علم أخلاقي «خارج» عن عالم الظواهر المكانية والزمانية. وبهذا تكون الافتراضات «الميتافيزيقية» الأولية للأخلاقية متمشية تماما مع قواعد البحث العلمي.
وعلى هذا النحو يحاول كانت، بسلسلة من الحجج التي لا يتعين علينا ذكرها في هذا المقام، أن يثبت، على أسس أخلاقية، أن من واجبنا الاعتقاد بأننا أفراد أحرار في عالم روحي عاقل، وأننا بهذا الوصف، خالدون أيضا. كذلك يأتي كانت بحجج لإثبات أن الضرورة العملية تحتم علينا الإيمان بكائن أو إله هو وحده الذي يضمن لنا الخلود، ويجعل بذلك للحياة الأخلاقية أساسا. غير أن هذه المعتقدات أو الموضوعات الإيمانية ليست سوى مصادرات للعقل العملي؛ فمن المحال معرفة ما إذا كانت صحيحة، وأية محاولة نظرية لإثبات صحتها تؤدي بنا حتما إلى نقائض العقل الخالص وقضاياه الممتنعة. وبالاختصار فإن كانت ينظر إلى الدين (وكذلك الميتافيزيقا في الواقع) على أنه من لواحق الحياة الأخلاقية؛ فقبولنا ل «حقائقه» لا يرجع، في نهاية الأمر، إلى وجود أي دليل عليها، وإنما لأن هذا أمر يحتمه كوننا فاعلين أخلاقيين.
ورغم أن الكثيرين من خلفاء كانت لم يقتنعوا بتفاصيل حجته، فإن القضية الرئيسية في هذه الحجة كانت، ولا تزال، ذات أهمية باقية؛ إذ إن ما يقوله كانت هو في واقع الأمر أن مهمة اللاهوت التقليدي بأسرها قد أسيء فهمها؛ فماهية الدين، كماهية الأخلاق، لا تنحصر في فروض فوق العلمية تتعلق بطبيعة العالم «المخلوق»، وأصله، وإنما في إيجاده أساسا للتجربة الأخلاقية والسلوك الأخلاقي. وربما كان هذا هو السبب الذي تطلق من أجله اللغة الإنجليزية على موضوعات أية عقيدة دينية اسم موضوعات الإيمان
faith ، لا موضوعات الاعتقاد
believe ، معترفة في ذلك برأي كانت القائل إن معنى أية عقيدة دينية لا يكمن في أدلة الذهن البشري.
إن فلسفة كانت معبر يصل بين عصر التنوير، الذي آمن بالعلم بوصفه معرفة شاملة ودواء شافيا لكل ما يحير ذهننا من الأسئلة، وبين العصر الرومانتيكي، الذي بحث فيه المفكرون عن أساس متباين تماما للأخلاق والدين والفلسفة ذاتها. ولقد فند كانت ذاته بعض النتائج الفلسفية اللاحقة التي استخلصها فشته، معاصره الأصغر سنا ، من مذهبه في العقلين النظري والعملي. ومع ذلك فقد كان هذا المذهب، ومعه نظرته إلى الفلسفة على أنها في أساسها «نقد»، هو السبب الأكبر لأهم التطورات الفلسفية التي حدثت في الفترة التالية.
والنص التالي مقتطف من الأقسام 50-54 من كتاب كانت: المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة.
7
وعنوان هذه الأقسام «الأفكار الكونية
The Cosmological Ideas ».
النص (القسم 50) : إن هذا الناتج للعقل الخالص في استخدامه العالي (على التجربة)
transcendent
هو أجدر ظواهره بالملاحظة، وهو أقدر هذه الظواهر على إيقاظ الفلسفة من سباتها التوكيدي، ودفعها إلى أداء تلك المهمة الشاقة، مهمة نقد العقل.
وأنا أطلق على هذه الفكرة اسم الفكرة الكونية (الكسمولوجية)؛ لأنها لا تستمد موضوعها إلا من العالم المحسوس، كما أنها لا تحتاج إلى أي عالم سوى ذلك الذي يكون موضوعه شيئا محسوسا، وبالتالي فإنها، بقدر ما تكون كامنة
8
وليست عالية، لا تكون حتى ذلك الحين قد أصبحت فكرة بعد، أما أن نتصور النفس على أنها جوهر بسيط فهذا يعني، على العكس من ذلك، تصور هذا الموضوع (وهو البسيط) من حيث هو لا يمكن أن يتمثل للحواس. ومع ذلك فإن الفكرة الكسمولوجية تمضي في الربط بين المشروط وشرطه (سواء أكان رياضيا أم ديناميا) إلى حد تعجز التجربة تماما عن مجاراته، وبذا تظل دائما، من هذه الناحية، فكرة لا يمكن أن يعطى موضوعها بطريقة مطابقة في أية تجربة. (القسم 51) : وتظهر هنا، أولا، فائدة نسق (قائمة) المقولات على نحو واضح لا ينكر، حتى إنه لو لم تكن توجد أدلة أخرى عديدة عليها، لكان في هذا وحده الكفاية لإثبات ضرورتها الأساسية في نظام العقل الخالص. ولا يوجد من هذه الأفكار العالية (
transcendent ) سوى أربع؛ أي بقدر ما يوجد من فئات المقولات. ومع ذلك فهي تشير في كل منها إلى المجموع
9
المطلق لسلسلة الشروط الخاصة بمشروط معين فحسب. ويناظر هذه الأفكار الكسمولوجية الأربع أربعة تأكيدات ديالكتيكية فحسب للعقل الخالص، وهي تأكيدات يدل كونها ديالكتيكية على أن لكل منها تأكيدا مناقضا يقابله، ويبني على مبادئ للعقل الخالص تعادل المبادئ التي يبني عليها الأول تهافتا. وليس في وسع أي فن ميتافيزيقي للتمييز الدقيق أن يمنع هذا التعارض، سوى ذلك الذي يدفع الفيلسوف إلى الرجوع إلى المصادر الأولى للعقل الخالص. هذه النقيضة، التي لم تبتدع ابتداعا إراديا، وإنما تتأصل في طبيعة العقل البشري، والتي هي بالتالي لا مفر منها ولا تتوقف عند حد أبدا، تنطوي على القضايا الأربع الآتية ومعها قضاياها المضادة: (1)
القضية: العالم، من حيث الزمان والمكان، بداية (حد).
القضية المضادة: العالم، من حيث الزمان والمكان، لا متناه. (2)
القضية: كل ما في العالم يتألف من البسيط.
القضية المضادة: ليس ثمة ما هو بسيط، بل إن كل شيء مركب. (3)
القضية: في العالم علل عن طريق الحرية.
القضية المضادة: ليست ثمة حرية، بل كل شيء طبيعة. (4)
القضية: يوجد في سلسلة علل العالم موجود ضروري.
القضية المضادة: ليس في هذه السلسلة شيء ضروري، بل كل ما فيها عرضي. (القسم 52) : تلك هي أغرب ظواهر العقل البشري، وهي ظاهرة لا نظير لها في أي استخدام آخر لهذا العقل. فإذا ما تصورنا ظواهر العالم المحسوس كما يحدث عادة، على أنها أشياء في ذاتها، وإذا ما نظرنا إلى المبادئ الرابطة بينها على أنها مبادئ تصح على نحو مطلق على الأشياء في ذاتها لا على التجربة فحسب، وهو ما يحدث عادة - بل هو ما يكون، لولا «نقدنا» أمرا لا مفر منه - فهنا ينشأ تعارض لا يمكن إزالته بالمنهج التوكيدي المعتاد؛ إذ إن من الممكن الإتيان ببراهين متساوية الوضوح والبداهة والإقناع على القضية والقضية المضادة معا - وأنا كفيل بصحة هذه البراهين جميعا - وهكذا يدرك العقل أنه منقسم على نفسه، وهي حالة يضطرب لها الشكاك، ولكنها لا بد أن تدفع الفيلسوف النقدي إلى التأمل وتبعث فيه القلق. (القسم 52 باء) : إن المرء يستطيع أن يرتكب في الميتافيزيقا عديدا من الأخطاء دون أن يخشى أن يكشف خطؤه، فلو اقتصر على تجنب مناقضة ذاته، وهو أمر ممكن جدا في القضايا التركيبية التي هي في الآن نفسه غير مستندة إلى أساس من الواقع، فإن من المحال أن تناقضنا التجربة في جميع الحالات التي تكون فيها التصورات التي تربط بينها أفكارا لا يمكن أن تعطى، من حيث محتواها الكامل، في التجربة. إذ كيف نقرر، عن طريق التجربة، إن كان العالم أزليا أم له بداية، وإن كانت المادة منقسمة إلى ما لا نهاية أو تتألف من أجزاء بسيطة؟ إن مثل هذه التصورات لا يمكن أن تعطى في أية تجربة، مهما كان اتساع نطاقها، وعلى ذلك فمن المحال كشف بطلان القضية الإيجابية أو السالبة بهذا المعيار.
والحالة الوحيدة التي يستطيع العقل فيها أن يكشف رغم إرادته عن ديالكتيكه الخفي، الذي ينظر إليه خطأ على أنه محتواه التوكيدي، هي تلك التي يمكنه فيها أن يبني تأكيدا على مبدأ معترف به اعترافا شاملا، ويستنبط عكسه تماما بأدق استدلال منطقي من مبدأ آخر مسلم به بنفس القوة، وهذه بالفعل هي الحال ها هنا، بالنسبة إلى أفكار العقل الطبيعية الأربع، التي تسفر من ناحية عن أربعة تأكيدات، ومن الناحية الأخرى عن أربعة تأكيدات مضادة، يتلو كل منها، دون تخلف، من مبادئ معترف بها اعترافا شاملا. وهكذا تكشف هذه الأفكار عن الخداع الديالكتيكي للعقل الخالص في استخدامه لهذه المبادئ، وهو الخداع الذي لولا ذلك لظل مختفيا إلى الأبد.
وإذن فها هنا اختبار حاسم يؤدي حتما إلى كشف أي خطأ مستتر يختفي بين ثنايا مصادرات العقل؛
10 ⋆
فالقضيتان المتناقضتان لا تكونان باطلتين ما، إلا إذا كان التصور الذي ترتكزان عليه باطلا.
مثال ذلك أن القضيتين «الدائرة المربعة مستديرة» و«الدائرة المربعة ليست مستديرة» باطلتان معا؛ في الأولى يستحيل أن تكون هذه الدائرة مستديرة؛ لأنها مربعة، ولكن يستحيل أيضا ألا تكون مستديرة؛ أي أن تكون لها زوايا؛ لأنها مستديرة. ذلك لأن المعيار المنطقي لاستحالة تصور ما هو أن يكون افتراضه مؤديا إلى إمكان بطلان قضيتين متناقضتين معا، ومن ثم، فلما كان من المحال تصور قضية وسط بينهما، فإن هذا التصور لا يكون منطويا على أي شيء. (القسم 52ج) : ومثل هذا التصور المتناقض هو أساس النقيضتين الأوليين، اللتين أسميهما بالرياضيتين؛ لأنهما تتعلقان بجمع المتجانس أو قسمته، وعلى هذا النحو أفسر اشتراك القضية والقضية المضادة معا في البطلان.
فعندما أتحدث عن أشياء (موضوعات) في الزمان والمكان، فإني لا أتحدث عن أشياء في ذاتها؛ إذ إني لا أعرف عن هذه شيئا، وإنما أتحدث عن أشياء ظاهرية؛ أي عن التجربة، بوصفها طريقة خاصة لمعرفة تلك الموضوعات، متاحة للإنسان وحده. وليس لي أن أقول عما أدركه في المكان والزمان إنه يوجد في ذاته، مستقلا عن أفكاري، في الزمان والمكان، وإلا لكنت مناقضا لنفسي؛ إذ إن الزمان والمكان، مع ما فيهما من ظواهر، لا وجود لهما في ذاتهما خارج تمثلاتي، وإنما هما مجرد طرق للتمثل، ومن التناقض الصريح أن يقال عما هو مجرد طريقة للتمثل، إنه يوجد دون تمثلنا. وإذن فموضوعات الحواس لا توجد إلا في التجربة، أما إذا أضفينا عليها وجودا قائما بذاته، مستقلا عن التجربة أو سابقا عليها، فإنا نكون أشبه بمن يتصور التجربة موجودة دون التجربة، أو قبلها.
فإذا ما تساءلت عن عظم العالم من حيث المكان والزمان، فمن المحال أن تتيح لي تصوراتي أن أقرر إن كان لا متناهيا أم متناهيا؛ إذ إن كلا القولين ليس متضمنا في التجربة؛ لأن من المستحيل أن تكون لدينا تجربة عن مكان لامتناه أو عن زمان لامتناه في مجراه، ولا عن تحدد العالم بمكان خاو؛ فهذه كلها لا تعدو أن تكون أفكارا. وعلى ذلك، فسواء أحددنا عظم العالم على هذا النحو أم ذاك، فسيكون من المحتم، بناء على ذلك، أن يوجد في ذاته، مستقلا عن كل تجربة. غير أن هذا يناقض تصور العالم المحسوس، الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من المظاهر لا وجود لها ولا ارتباط بينها إلا في تمثلاتنا؛ أي في التجربة؛ إذ إن هذا العالم ليس شيئا في ذاته، وإنما مجرد طريقة للتمثل. ويترتب على ذلك أنه لما كان تصور عالم محسوس ذي وجود بذاته متناقضا مع نفسه، فإن حل المشكلة المتعلقة بعظمه باطل دائما، سواء جربناه إيجابا أم سلبا.
ومثل هذا يصدق على النقيضة الثانية، التي تتعلق بانقسام الظواهر؛ إذ إن هذه مجرد تمثلات، أجزاؤها لا توجد إلا في تمثلاتها، وبالتالي في الانقسام؛ أي في تجربة ممكنة تعطى فيها، بحيث لا يبلغ الانقسام إلا المدى الذي تبلغه التجربة الممكنة. فافتراضنا، مثلا، أن مظهرا كالجسم يحوي في ذاته، قبل كل تجربة، جميع الأجزاء التي يمكن أن تبلغها أي تجربة ممكنة، معناه أننا ننسب إلى مجرد مظهر، لا وجود له إلا في التجربة، وجودا فعليا سابقا على التجربة، أو نقول بإمكان وجود التمثلات الخالصة قبل أن يهتدى إليها في ملكتنا للتمثل، وهو قول مناقض لذاته، مثله في ذلك مثل كل حل لهذه المشكلة التي أسيء فهمها، سواء أقلنا فيه إن الأجسام في ذاتها تتألف من عدد لا متناه من الأجزاء، أو من عدد متناه من الأجزاء البسيطة. (القسم 53) : وموضع بطلان الفرض في الفئة الأولى من النقائض (الفئة الرياضية) هو في تمثل شيء مناقض لذاته (أي المظهر بوصفه شيئا في ذاته) على أنه يمكن أن يجتمع في تصور واحد. أما موضع بطلان الفرض في الألفية الثانية من النقائض (أي الفئة الدينامية)، فهو في تمثل ما يقبل التوفيق على أنه متناقض. وعلى ذلك، في حين كان القولان المتضادان باطلين في الحالة الأولى، فإنهما هنا يمكن أن يكونا صحيحين معا، ما دام التقابل بينهما يرتد إلى سوء فهم فحسب.
والواقع أن الارتباط الرياضي يفترض مقدما تجانس ما يجمع بينه (في تصور المقدار
Grösse ) في حين لا يلزم هذا في الارتباط الدينامي؛ فعندما يتعلق الأمر بمقدار ما هو ممتد، ينبغي أن تكون جميع الأجزاء متجانسة بعضها مع البعض ومع الكل، أما في حالة ارتباط العلة بالمعلول، فقد يوجد التجانس فعلا، غير أنه ليس ضروريا؛ إذ إن تصور العلية (الذي يتلو فيه شيء من شيء آخر مختلف عنه تماما) لا يستلزم التجانس قط.
ولو عدت موضوعات عالم الحس أشياء في ذاتها، وقوانين الطبيعة المشار إليها من قبل قوانين للأشياء في ذاتها، لأصبح التناقض أمرا لا مفر منه. وكذلك لو نظر إلى موضوع الحرية على أنه مجرد مظهر، شأنه شأن بقية الموضوعات، لكان التناقض هنا أيضا أمرا لا مفر منه؛ إذ إن محمولا واحدا سيثبت وينفى في هذه الحالة على موضوع واحد بنفس المعنى. أما إذا ألحقت الضرورة الطبيعية بالمظاهر وحدها، والحرية بالأشياء في ذاتها فحسب، فلن يكون ثمة تناقض في القول بنوعي العلية هذين في آن واحد، مهما كانت صعوبة أو استحالة تقريب النوع الأخير إلى الأذهان.
إن كل معلول بين المظاهر حادث؛ أي شيء يحدث في الزمان، وينبغي تبعا لقانون الطبيعة الشامل، أن يسبقه تحديد لسببية علته (
Kausilität ihrer Ursache )؛ أي حالة لهذه العلة، يتلو منها المعلول تبعا لقانون ثابت. غير أن هذا التحديد للعلة المؤدية إلى السببية (
Ursache zur Kausilität )، ينبغي أن يكون بدوره شيئا يقع أو يحدث، ولا بد أن تكون العلة قد «بدأت في الفعل»، وإلا لما أمكن تصور التعاقب الزمني بينها وبين المعلول، ولكان المعلول، وكذلك سببية العلة، موجودين على الدوام. وإذن فلا بد أن يكون تحديد علة الفعل قد نشأ بدوره بين المظاهر، ولا بد بالتالي أن يكون، مثل معلوله، حادثا، وهذا الأخير ينبغي أن تكون له علته، وهكذا دواليك، وإذن فلا بد أن تكون الضرورة الطبيعية هي الشرط الذي تحدد تبعا له العلل الفاعلة. أما لو نظر إلى الحرية على أنها صفة لبعض علل الظواهر، فلا بد أن تكون الحرية، بالنسبة إلى هذه الظواهر الأخيرة من حيث هي حوادث، قدرة على البدء بها تلقائيا؛ أي دون أن تقتضي ابتداء لسببية العلة ذاتها، ودون أن تحتاج إلى أي أساس آخر يحدد بدايتها. ولكن عندئذ لن تندرج العلة، من حيث سببيتها،
11
تحت التحديدات الزمنية لحالتها؛ أي إنها لن تكون ظاهرة، وإنما ينبغي النظر إليها على أنها شيء في ذاته، بينما تعد معلولاتها وحدها هي المظاهر.
12 ⋆
فإذا استطعنا أن نتصور، دون تناقض، كائنات عاقلة تمارس مثل هذا التأثير على الظواهر، فعندئذ ستلحق الضرورة الطبيعية جميع ارتباطات العلة والمعلول في العالم المحسوس، وإن كان من الممكن ، من ناحية أخرى، التسليم بحرية العلة التي ليست هي ذاتها ظاهرة (مع كونها أساسا للظاهرة). وإذن فالطبيعة والحرية يمكن أن ينسبا دون تناقض إلى الشيء نفسه، ولكن على نحوين مختلفين؛ أي بوصفه مظهرا من ناحية، ووصفه شيئا في ذاته من ناحية أخرى.
إن لدينا في ذاتنا قدرة لا ترتبط فقط بالأسس المتحكمة فيها ذاتيا، التي هي العلل الطبيعية لأفعالها، وبالتالي لا تقتصر على أن تكون قدرة كائن ينتمي هو ذاته إلى الظواهر، وإنما ترتبط أيضا بأسس موضوعية ليست سوى «الأفكار»، من حيث إن في وسعها التحكم في هذه القدرة. وتعبر عن هذا الارتباط كلمة «الوجوب
Sollen ». وهذه الملكة تسمى ب «العقل»
Vernunft ، وبقدر ما ننظر إلى الكائن (كالإنسان) تبعا لهذا العقل القابل للتحدد موضوعيا فحسب، فلا يمكن أن يعد كائنا محسوسا؛ فهذه الصفة صفة للشيء في ذاته، وهي صفة لا نستطيع أن نفهم إمكانها. أعني أننا لا يمكننا أن نفهم كيف يستطيع «الوجوب» أن يتحكم (حتى لو لم يكن ذلك قد حدث بالفعل على الإطلاق) في فاعليته، ويصبح علة لأفعال نتيجتها ظاهرة في العالم المحسوس. ومع ذلك فإن علية العقل تغدو حرية فيما يتعلق بالمعلولات في العالم المحسوس، بقدر ما يمكننا أن ننظر إلى «الأسس الموضوعية» التي هي ذاتها أفكار، على أنها هي المتحكمة في هذه المعلولات؛ إذ إن فعل العقل في هذه الحالة لن يتوقف على الشروط الذاتية، وبالتالي لن يتوقف على شروط زمانية، ولن يتوقف تبعا لذلك على قانون الطبيعة التي يتحكم فيها؛ إذ إن القاعدة التي تضفيها أسس العقل على الأفعال تكون شاملة وفقا للمبادئ، ولا تتأثر بظروف الزمان ولا المكان.
وفي وسعي الآن أن أقول، دون تناقض، إن جميع أفعال الكائنات العاقلة، من حيث هي ظواهر (تصادف في تجربة ما) تخضع لضرورة الطبيعة، غير أن نفس هذه الأفعال تغدو حرة إذا ما نظر إليها من حيث الذات العاقلة وحدها، وقدرتها على الفعل تبعا للعقل وحده؛ إذ ما هو الشرط اللازم لضرورة الطبيعة؟ لا شيء سوى قابلية كل حادث في عالم الحس للتحدد وفقا لقوانين ثابتة ؛ أي إرجاعه إلى علة في عالم الظواهر، بينما يظل الشيء في ذاته، الذي يكون أساس الحادث وعلته، مجهولا. غير أن قانون الطبيعة يظل باقيا، سواء أكان الكائن العاقل هو علة المعلولات في عالم المحسوس عن طريق العقل - أي من خلال الحرية - أم لم يكن يتحكم فيها على أسس منتمية إلى مجال العقل. ففي الحالة الأولى يتم الفعل تبعا لقواعد عامة
Maximen
تتمشى نتيجتها، من حيث هي ظاهرة، مع قوانين ثابتة على الدوام. وفي الحالة الثانية، التي لا يتم فيها الفعل حسب مبادئ العقل، يخضع الفعل لقوانين الحس التجريبية، وفي الحالتين ترتبط المعلومات تبعا لقوانين ثابتة. ولسنا في حاجة إلى أكثر من هذا فيما يتعلق بالضرورة الطبيعية، بل إننا لا نعرف عنها أكثر من هذا. ولكن العقل في الحالة الأولى هو علة قوانين الطبيعة هذه، ومن ثم فهو حر، أما في الحالة الثانية فإن المعلومات تتلو وفقا لقوانين الحس الطبيعية وحدها؛ لأن العقل لا يؤثر فيها. غير أن العقل ذاته لا يتحدد، لهذا السبب، بالحساسية (وهو محال)، ولذا يكون حرا في هذه الحالة بدورها، وإذن فالحرية ليست عائقا في وجه القانون الطبيعي للظواهر، كما أن هذا القانون لا يقضى على حرية الاستخدام العملي للعقل، الذي يرتبط بالأشياء في ذاتها، بوصفها الأسس المتحكمة فيه.
وهكذا تصان الحرية العملية؛ أي الحرية التي تكون للعقل فيها علية مبنية على أسس متحكمة موضوعيا، دون أن يستتبع ذلك أي تضييق لنطاق الصورة الطبيعية فيما يتعلق بالمعلولات ذاتها، بوصفها ظواهر. وهذه الملاحظات ذاتها تفيد في تفسير ما قلناه بشأن الحرية الترنسندنتالية وتمشيها مع الضرورة الطبيعية (في الذات الواحدة، ولكن ليس تبعا لوصف واحد لها) إذ إنه في هذه الحالة تكون كل بداية لفعل كائن تبعا لعلل موضوعية تعد أسسا متحكمة و«بداية أولى» على الدوام، وإن يكن هذا الفعل ذاته في سلسلة المظاهر مجرد «بداية ثانوية»، ينبغي أن تسبقها حالة للعلة تتحكم فيها وتخضع هي ذاتها، على النحو ذاته، لتحكم حالة أخرى تسبقها مباشرة. وهكذا نستطيع، دون أن نناقض قوانين الطبيعة، أن نتصور لدى الكائنات العاقلة، أو الكائنات في عمومها بقدر ما تتحدد عليتها فيها بوصفها أشياء في ذاتها، قدرة على أن تبدأ من ذاتها سلسلة من الحالات؛ إذ إن علاقة الفعل بالأسس الموضوعية للعقل ليست علاقة زمنية، ولا يكون الفعل في هذه الحالة مسبوقا في الزمان بما يتحكم في عليته؛ إذ إن هذه الأسس المتحكمة لا تمثل الإشارة إلى موضوعات حسية؛ أي إلى العلل المتحكمة من حيث هي أشياء في ذاتها، لا تندرج تحت شروط الزمان، وعلى هذا النحو يمكننا أن نعد الفعل، فيما يتعلق بعلية العقل، بداية أولى، في حين أنه فيما يتعلق بسلسلة الظواهر لا يعدو أن يكون بداية ثانوية، ومن ثم ففي وسعنا دون تناقض أن نعده حرا من وجهة النظر الأولى، وخاضعا للضرورة الطبيعية من وجهة النظر الثانية (أي من حيث هو مجرد ظاهرة).
أما النقيضة الرابعة، فمن الممكن حلها على نفس النحو الذي يخالف به العقل ذاته في النقيضة الثالثة؛ إذ إننا إذا سلمنا بأن العلة «في» الظاهرة تتميز عن علة الظواهر (بقدر ما يمكن أن تعد هذه الحالة شيئا في ذاته)، فمن الممكن عندئذ التوفيق بين القضيتين؛ الأولى: إذ تقول إنه لا توجد للعالم المحسوس علة (حسب قوانين العلية المماثلة) يكون لها وجود ضروري. والثانية: إذ تقول إن هذا العالم يرتبط مع ذلك بكائن ضروري هو علته (ولكنه علة من نوع آخر وتبعا لقانون آخر). أما الاعتقاد بتعارض هاتين القضيتين فيرتكز بأسره على خطأ تطبيق ما لا يصح إلا على الظواهر، على الأشياء في ذاتها، والخلط بين الاثنين في تصور واحد.
الفصل الثالث
مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
يوهان جوتليب فشته (1762-1814م)
رغم أن فلسفة كانت تنطوي على الكثير من بذور الثورة الرومانتيكية على «عصر العقل»، فإن خصائص هذا العصر تظهر في معظم اتجاهات كانت الأساسية. فتأكيده الاستقلال الذاتي الأخلاقي للفرد هو صفة مميزة لفترة أنكرت فيها معظم الأذهان المتعمقة السلطة الروحية المستقلة لأي نظام. ولقد كان كانت فردي النزعة، بحيث كان الالتزام الأخلاقي الأساسي في نظره هو احترام فردية كل شخص بوصفها غاية في ذاتها. ومع ذلك فهو لم يكن فرديا بالمعنى الرومانتيكي. ولا جدال في أنه كان يرتاع لو اطلع على تأكيد نيتشه لحق الإنسان الأرقى في «قلب» جميع القيم، أو في النظر إلى مطامحه الشخصية على أنها قوانين لذاته. فكانت قد ظل من أصحاب النزعة الكلية الشاملة؛ أي إن أي أمر أخلاقي هو في نظره أمر للناس أجمعين، لا للألمان أو المسيحيين أو الجنس الأبيض فحسب. ولقد كان ميله إلى جعل المسائل الخاصة بالسعادة الفردية وبرفاء المجتمع تحتل مركزا ثانويا، كان هذا الميل من الخصائص المميزة لفترة كانت فيها المشكلة الاجتماعية الكبرى هي مشكلة الحقوق الإنسانية المشتركة.
ولقد اقتبس كانت من روسو، وهو الأب الحقيقي للرومانتيكية، الرأي القائل بأولوية الإرادة من وجهة نظر الأخلاق. غير أنه، على خلاف روسو، قد حرص على أن يلحق هذا الرأي بشرط يقول إن الإرادة الأخلاقية هي في الوقت ذاته إرادة عاقلة لا بد لها من تصور للقانون. كما أنه لم يشارك روسو خوفه من العقل النظري أو كراهيته له، ولم يشاطره رغبته في إخضاع المعايير العقلية للمعايير الأخلاقية أو الدينية. وقد يكون صحيحا، بمعنى معين، أن للقلب، كما قال إسكال، أسبابه التي لا يعرفها العقل، غير أن هذا، في رأي كانت، لا يبرر على الإطلاق تخلينا عن قوانين المنطق لحساب الضمير أو الإيمان، ولا يحلل لنا الاعتقاد أن الشمس تشرق من الغرب إذا بدا أن الأخلاق أو الدين تقتضي ذلك.
والواقع أن العناصر الأساسية المؤدية إلى فهم سليم للطابع الفلسفي الذي تميز به كانت هي تلك العناصر التي لم يكن فيها مقتفيا أثر روسو. ولا مفر للمرء من إساءة فهم تعاليم كانت إلى حد بعيد إذا حاول أن يمضي بها إلى أبعد من فترة البداية الأولى للعصر الرومانتيكي. أما في حالة فشته، الذي كان أول مفكر هام، وأصيل، تأثر بكانت، فلسنا في حاجة إلى مثل هذه المحاولة؛ إذ إنه يتجاوز حدود البدايات الأولى الرومانتيكية بطبيعته، وبحكم ميله ومزاجه وعقيدته. وفي تفكيره تخف وطأة تلك القيود التي حالت دون تمجيد كانت للإرادة على حساب الذهن. كذلك يكاد يكتمل في تفكيره ذلك التحول لمفهوم العقل، الذي كان قد بدأ عند كانت. فقد نظر كانت إلى قوانين المعقولية، لا على أنها انعكاس لتركيب الأشياء في ذاتها، بل على أنها صور للذهن البشري. ولكنه لم يفترض أن في وسع أي مخلوق بشري أن يطرح هذه الصور جانبا إذا ما شاء ذلك. فلا جدال في أن الذهن البشري يفرض على ذاته من القواعد ما يلزم لإنجاز مهمة المعرفة. غير أن القواعد التي يشرعها الذهن للبحث واحدة بالنسبة إلى جميع الناس. أما فشته فإنه يصبغ ثورة كانت الكبرنيكية، في البداية على الأقل، بصبغة ذات طابع أقوى بكثير؛ فهو يتخذ في البداية الموقف القائل إنه، مثلما أن أي قانون أخلاقي لا يمكن أن يلزمني إلا إذا اخترت بنفسي أن ألتزم به، فكذلك لا تستطيع أية قوانين لا شخصية مزعومة للذهن البشري أن تشرع الطريقة التي يتعين علي بها أن أنجز مهمة المعرفة إلا إذا كنت على استعداد لقبول هذه القوانين بوصفها قوانين خاصة بي. ولا بد أن يكون أي «عقل» أعد مسئولا أمامه، عقلا «خاصا بي». وبالاختصار، فإن فشته يفسر الفلسفة «النقدية» بأنها تقوم على القول بأن مقتضيات الذات الفردية، أو الأنا، هي نقطة بداية كل تفكير فلسفي. والمشكلة الأساسية هي معرفة هذه المقتضيات.
وهكذا حول فشته النقد الكانتي للعقل إلى مسألة حياة أو موت ل «يوهان جوتليب فشته» ذاته، فإذا ما وجد أفراد آخرون أن النتائج التي انتهى إليها مقبولة لديهم بدورهم، فذاك شأنهم. ومن المسلم به أن أحدا لا يستطيع، ولا ينبغي، أن يظل جزيرة عزلاء. أما من الوجهة الفلسفية فإن عليه أن يبدأ على هذا النحو بالفعل.
ولن يدرك أحد الأزمة البشرية الأساسية الكامنة في النقد الكانتي للعقل إلا إذا اعترف باستحالة وجود أية نقطة بداية أخرى للتفلسف. أو إذا شئنا تحوير الاستعارة السابقة، فليقل إن أحدا لا يستطيع مبارحة جزيرة الأنا إلا عن طريق جسور يختارها هو. كما أن «من المحتم عليه»، من الوجهة العملية، أن يشيد هذه الجسور. ولكن «الضرورة» الوحيدة هنا تكمن في إرادته الخاصة. ومع ذلك فقد حاد فشته عن هذا الموقف في النهاية إلى حد ما، وهكذا نجده يتحدث، ولا سيما في الفترة المتأخرة من تطوره، عن «روح مطلقة»، لا يعد «أناي» المتناهي سوى مظهر لها. ولكن حتى لو بدا أن فشته لم يكن جادا كل الجد في تفسير التحول الترنسندنتالي عند كانت تفسيرا شخصيا خالصا، فعلينا نحن على الأقل أن نأخذه مأخذ الجد إذا شئنا أن يكون لفلسفته أية أهمية بالنسبة إلينا.
ولقد كان تطور فشته الفلسفي عكس تطور كانت على خط مستقيم؛ فكانت قد بدأ بنزعة عقلية توكيدية، ولم يصل إلى فلسفته النقدية الجديدة إلا في مرحلة متأخرة من أواسط عمره. أما فشته فقد بدأ تلميذا لكانت، وعد نفسه مجرد منفذ لبرنامج كتب «النقد» الثلاثة على نحو أكمل، وانتهى به الأمر مثاليا توكيديا لا يعترف بحقيقة سوى الروح، مما دفع كانت نفسه في النهاية إلى تفنيد فلسفة فشته بوصفها تحريفا أساسيا لتعاليمه.
وأفضل كتابات فشته تلك الكتابات الأولى التي كان لا يزال فيها واقعا تحت تأثير كانت، أما كتاباته المتأخرة فأقل طرافة، وأقل تشويقا بكثير. فلقد بدأ بدفاع قوي عن المثل العليا التي استهلتها الثورة الفرنسية، مؤكدا بحماسته المعروفة أن للفرد حقوقا لا يمكن مطلقا أن يسلبه إياها أحد، وأن حرية الكلام والفكر ضرورية، وأن لكل شعب حقا أخلاقيا في الثورة على أي نوع من الحكم تقمع فيه حرياته. ولكنه حين تحول فيما بعد إلى وطني ألماني متعصب، أغضبه غزو نابليون لوطنه، ألف كتابه المشهور «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي تظهر فيه بوضوح نزعة عنصرية وقومية عنيفة جعلت بعض نقاده يعدونه سلفا مباشرا للنازية. وفي آخر أطوار تفكيره، تحولت نزعته الفردية الأولى تدريجيا إلى مذهب لتمجيد الدولة قائم على أسس تاريخية الوجهة ، وهو مذهب يتزايد فيه إخضاع حرية الأنا الفردي «للروح المطلقة» في تكشفها الذي يتبدى تاريخيا في حياة المجتمع، أو يؤكد أن تلك الحرية هي ذاتها هذه الروح المطلقة.
وهكذا يشبه تطور فشته، في هذا الصدد، تطور كثير من الرومانتيكيين الآخرين في عصره، ممن بدءوا ثوارا وانتهوا محافظين أو أسوأ من المحافظين.
وثمة طريقتان لفهم فلسفة فشته، تقترب كل منهما من الأخرى كثيرا في نهاية الأمر. الطريقة الأولى لفهمه تسمى عادة بالطريقة «الأخلاقية»، والثانية تسمى ب «الميتافيزيقية». وسبب تقاربهما في نهاية الأمر هو أن الميتافيزيقا ليست عند فشته علم العلوم
superscience ، وإنما هي نسق من مواقف الإرادة أو تأكيداتها؛ فالواقع
reality
كما يفهمه، ليس مقترنا بما يقال عنه إنه «موجود
exist » بأي معنى مألوف، وإنما بما تعده الإرادة ضروريا لتحقيق غاياتها الخاصة. ففي فلسفته يقضى آخر الأمر تماما على أي تمييز بين ما ينبغي أن يكون وما هو واقع؛ ولهذا السبب لم يكن لديه أي تمييز قاطع بين الأخلاق أو الأيديولوجية الأساسية وبين الميتافيزيقا. فمن العبث، من وجهة نظر فشته، أن نتساءل، على طريقة العالم، عما إذا كان ثمة إله؛ فمثل هذه الطريقة في وضع هذه الأسئلة تشوه تماما دلالتها، التي هي دلالة عملية لا نظرية؛ فالشخص الذي يشك فيما إذا كان ثمة عالم خارجي ليس في حاجة إلى دليل، وإنما إلى علاج؛ فإخلاصي في سعيي وجدي في عملي هو وحده الكفيل بجعل العالم الخارجي حقيقة بالنسبة إلي. كما أن ذاتي ومقتضياتها هي التي تأتيني بالضمان الوحيد الممكن للإيمان بالله. والواقع أن فشته لا يرى فارقا أساسيا، في نطاق المسائل الميتافيزيقية، بين الاعتقاد بالشيء وبين الإيمان به. فأي شي يكون حقيقيا من الوجهة الميتافيزيقية إذا تحتم علينا الإيمان به، أو إذا شئنا ذلك، حتى لو لم يكن يوجد سبب، بالمعنى المعتاد، للقول بوجوده.
كل هذه الآراء تبدو خيالية جامحة إذا لم يتأملها المرء دائما في ضوء التعاليم الكانتية الكامنة من ورائها. أما إذا تتبعنا استدلالات فشته المعقدة من خلال هذا المنظور على الدوام، فسوف يبدو مذهبه أقرب إلى المعقول إلى حد ما . ويضع فشته، في البداية، تقابلا بين فلسفتين يطلق عليهما اسم «التوكيدية» و«المثالية». وهو يرى أن الأساس النهائي الوحيد لاختيار المرء بينهما هو ملاءمة الفلسفة التي يختارها «لنوع الإنسان الذي يكونه ذلك الشخص». وهنا يقول فشته في الواقع بذلك الرأي الذي يؤمن به الكثيرون، وإن كان القليلون هم وحدهم الذين يعترفون به، وأعني به أن الالتزامات النهائية تحدث آخر الأمر بناء على أسس تنتمي إلى مجال الطبع أكثر منها إلى مجال البرهان. والأهم من ذلك أنه يقول إن هذه الالتزامات سابقة على المعقولية؛ إذ لا يمكن أن تفهم الأحكام المتعلقة بما هو معقول أو صحيح إلا في علاقتها بهذه الالتزامات. إن الفيلسوف الواقعي يسلم، دون تمحيص، بوجود عالم من الأشياء المستقلة الحقيقية التي لا تختبر حقيقة أفكارنا أو مطابقتها إلا عن طريقها، وينسى أن مجرد القول بوجود هذا العالم معناه اتخاذ موقف فلسفي تعد معطيات التجربة بالنسبة إليه محايدة تماما.
إن التوكيدية هي فلسفة أولئك الذين يحتاجون إلى سلطة خارجية، ولو كانت سلطة عقل لا شخصي «موضوعي» يستطيع المرء بوصفه «كائنا عاقلا» أن يرتكن إلى قوانينه أو قواعده؛ فالفلاسفة العقليون، من أمثال ديكارت واسبينوزا، كانوا توكيديين، غير أن توكيديتهم تقضي على ذاتها إذ تعجز عن تبديد شكوكهم الفلسفية الباقية. إنهم حقا يتحدثون كما لو كانت المعرفة هي الغاية القصوى للحياة الفلسفية، ولكن المعنى الذي يتضح أنهم يستخدمون به كلمة المعرفة لا يعدو أن يكون الحدس السلبي. وهكذا ينتهي الأمر فعلا بالعقليين إلى التوحيد بين المعرفة وبين التأمل الحسي على نحو يقضي بطريقة غريبة على التفرقة بين ما هو حقيقي بالفعل
real ، وما هو غير حقيقي
unreal . ويرضى بالصور الخيالية بقدر ما يرضى بإدراك ما هو موجود. ومن المحال أن يتم أي تمييز جدي بين الذات واللاذات
the not-self
إلا على يد «أنا» يتجاوز ما هو «معطى» في الحدس لكي «يؤكد» أنه إما مظهر وإما واقع. أما المثالية فهي فلسفة إيجابية، تضع افتراضاتها عن إدراك لما تفعله ، وتأبى التقيد بأي سلطة خارجية، حتى لو أكدت هذه السلطة على نحو لا شخصي باسم العقل ذاته. والمثالي لا يعترف بسلطة أي عقل سوى عقله هو، ولا يتقيد بقوانينه إلا لأنها تعبر عن مطالب «أناه» هو. وعلى حين أن صاحب المذهب العقلي يسلم مقدما بعالم خارجي لأشياء في ذاتها يفترض أن على أفكارنا مطابقتها، فإن المثالي يرفض التقيد مقدما بأي افتراض كهذا، ولا يقبل في البداية سوى حقيقة الأفكار كما تعطى في التجربة. فإذا ما أكد بعد ذلك حقيقة عالم من وراء أفكاره هذه، فينبغي أن يفهم قبوله هذا على أنه نتيجة لما اختار هو ذاته أن يصنعه منها.
وليس هناك بالطبع أي شك في نوع الرجل الذي كانه فشته؛ فقبوله للمثالية لم يكن راجعا إلى كونها «أقرب» إلى طبيعة الأشياء في نظره، بقدر ما كان راجعا إلى ملاءمتها على نحو أفضل لنظرته إلى ذاته على أنه فاعل حر الإرادة، وهو إذا كان يقبل حقيقة الطبيعة، كما فعل، فلا بد أن يكون ذلك بشروطه هو، لا لأن أي مبدأ لا شخصي للعقل يرغم على ذلك. إن فشته ليس من الشكاك، ولا هو من المنادين بمذهب «الذات الوحيدة
solipsism »؛ فهو لا ينكر وجود شيء في الواقع عداه هو وأفكاره، غير أن هذا الشيء في نظره «حقيقي» لأنه يتيح مجالا لفاعلية إرادته.
وإذن فأولى خطوات الفلسفة المثالية عند فشته هي رفض ذلك الأثر الباقي للتوكيدية العقلية في نظرية المعرفة عن كانت؛ أعني «الشيء في ذاته». ويرى فشته أن أي حديث عن «الشيء في ذاته» هو حديث لا قيمة له من وجهة نظر الفلسفة النقدية الحقة؛ فما نسميه ب «نظام العالم» هو عالم قضايانا. والسبب الوحيد لتأكيد واقعية أي شيء من وراء انطباعاتنا المباشرة هو سبب عملي. وكل ما يفعله المفكر العقلي هو أن يخفي هذه الحقيقة عن ذاته باستخدام تعبيرات لا شخصية مثل «العقل» أو «الحدس» أو «الحقيقة الواضحة بذاتها».
فنقطة بداية فشته هي إذن تلك النتيجة التي انتهى إليها كانت في مذهبه في العقل العملي. فلقد اعترف كانت ذاته أن المنفذ الوحيد الذي يصلنا بعالم الأشياء في ذاتها المتجاوز للتجربة هو مصادرات العقل العملي. ومضى فشته أبعد مما مضى إليه كانت مؤكدا أن المنفذ الوحيد الذي يصلنا بأي عالم، تجريبيا كان أم متجاوزا للتجربة، هو تلك التأكيدات
posits
التي يتعين على الذات الفاعلة القيام بها لممارسة نشاطها. ولقد اعترف كانت ذاته بأن موضوعات البحث العلمي ليست معطاة. ويرى فشته أن حقيقتها التجريبية ذاتها تتوقف على كوننا نجد من الضروري تأكيدها، تحقيقا لأغراض المعرفة. والواقع أن أي موضوع نرى لزاما علينا أن نؤمن به، سواء أكان هو الله أم الإرادة الحرة أم النفس الخالدة - وهي الموضوعات التي عدها كانت ضرورة للحياة الأخلاقية - أم كان من الموضوعات التجريبية للعلم ولحياة الإنسان اليومية، ليس إلا هدفا يفي بواحد من المطالب الجدية للذات.
وفي وسعنا أن نقدم صورة لخلاصة مذهب فشته على النحو الآتي: فلنتصور شخصا عاديا، واقعيا إلى أبعد حد، تثيره أولا تلك الخلافات الميتافيزيقية حول مسألة وجود العالم الخارجي، وتزيد بعد ذلك من حيرته تدريجيا، فينتهي به الأمر إلى الهتاف موجها هذا السؤال الذي يبدو غير فلسفي: «فيم يهم، على أية حال، إن كان ثمة عالم خارجي أم لا؟» مثل هذا السؤال ينتمي إلى صميم فلسفة فشته؛ فالسؤال الفلسفي عند فشته ليس السؤال عما إذا كان ثمة شيء «هناك»، وإنما السؤال عما إذا كان لهذا القول أية قيمة عملية.
ورغم أن فشته يؤكد أن كل نشاط بشري، سواء أكان علميا أم غير ذلك، يبدأ بتأكيدات معينة، وأن ما نسميه باللاذات
not-self «الموضوعية»، هي ذاتها لا تعطى مستقلة عن فاعلية الإرادة، فإنه لا يقول بأن شيئا لا يعطى في التجربة؛ فمواد الحس ليست من خلق الذهن العارف. صحيح أننا نستطيع بإرادتنا أن نهتم بها أو نطرحها جانبا، ولكننا لا نستطيع أن نقرر إن كانت ستظهر أمامنا عندما نفتح أعيننا؛ فهي معطاة، ولكنها ليست معطاة بوصفها موضوعات، وكونها معطاة ليس في ذاته كافيا لجعلها حقيقية. وبعبارة أخرى فإن الإحساس، بما هو كذلك، لا ينطوي على عنصر التأكيد
assertion
أو الحكم. فليس ثمة إحساس يأتي منطبعا بما في ذاته بصفة «الواقعية» أو «الظاهرية»، مثلما لا يوجد إحساس منطبع في ذاته بصفة «الزرقة»، أو «الصلابة». وقبل أن يمارس الذهن أي نشاط له على أي تمثل حسي، يظل هذا التمثل «س» غير مصنفة وغير مفسرة، لا يمكن أن يقال عنها سوى أنها ماثلة فحسب. ولا يتحول ما تكشفه الحواس إلى معطيات أو شواهد لأي اعتقاد إلا عندما ننظر إليه على أنه كذلك، وفقا لقواعد للبحث وضعناها نحن أنفسنا. وهكذا لا يكون المنهج العلمي ذاته شيئا تتكشف أو تظهر لنا «صحته» أو «صدقه» على نحو واضح بذاته، بل إنه من حيث هو منهج، شيء ينبغي لنا الأخذ به تحقيقا لمصالحنا الخاصة، والشيء الوحيد الذي يضمن آخر الأمر اتخاذ أي إجراء أو قاعدة معيارا للصحة أو للتبرير هو جدية التزاماتنا وولائنا لغاياتنا الخاصة؛ فتصور «الصحة
validity » كتصور الإلزام، لا ينطوي على إشارة إلى «علاقات فعلية» كامنة في واقع معطى بصفة مستقلة، بل إن كل ما يعنيه هو شروط معينة للقابلية للتصديق نفرض بها مقدما تلك القواعد التي ينبغي في اعتقادنا تصديق أي شيء بناء عليها.
وهكذا يرفض فشته تلك النظرية القديمة، التلقائية، عن الحقيقة، المسماة ب «نظرية التطابق»، ويستعيض عنها برأي يقترب كثيرا مما أسماه المثاليون اللاحقون باسم «نظرية الترابط»، القائلة إن حقيقة أي قول تختبر تبعا لتمشيه مع مجموع الأقوال الأخرى التي يتعين علينا الأخذ بها. والهدف الأخير للمعرفة لا يعدو أن يكون تنظيم التأكيدات
posits
على أكمل وأحكم وجه يكفل تحقيقنا لذواتنا بوصفنا كائنات فاعلة. والبرهان الوحيد على صحة مثل هذا النسق هو استعدادنا للأخذ به.
وفي فلسفة فشته عناصر كثيرة استبق فيها الاتجاه الفلسفي للبرجماتيين في القرن التالي. ولقد أدرك أحد هؤلاء البرجماتيين، وهو «كلارنس أ. ليويس
c. I. Lewis »
1
وجه الشبه هذا بكل وضوح، وأشار أكثر من مرة إلى تأثير فشته في تفكيره. فالمعطى الحسي عند البرجماتي ليس معرفة. والتجربة ليست مرآة لحقيقة مغايرة لا نستطيع، لظروف شاذة، إدراكها مباشرة. وإنما الأفكار موجهات للعمل، لا يمكن تقدير قيمتها إلا ببحث النتائج المترتبة على تصرفنا بموجبها. وليست معايير المعقولية في أي ميدان منزلة من السماء، وإنما هي معايير تأخذ بها الكائنات الفاعلة بوصفها ضرورات عملية. وكل تفكير، إذا فهم على حقيقته، إنما يكون استباقا للتجربة، لا يتضح صوابه آخر الأمر إلا بقدرته على الوفاء بحاجاتنا. وإذن فأقصى ما يحققه العقل ليس «التأمل»، وإنما الحل العملي للمشاكل. والحقيقي
real
ليس شيئا يتأمل، بل هو ما نقبله في النهاية بوصفه الحل المرضي لمشكلاتنا.
ولا جدال في أن طريقة فشته في التعبير مختلفة كل الاختلاف عن مثيلتها لدى البرجماتيين المتزمتين، الذين لا يقبلون على الإطلاق طريقته التشخيصية في الكلام؛ فذلك الميل الغريب لدى فشته إلى وصف الأمور كما لو كان ثمة شيء يسمى ب «الحرية»، هو الذي يؤكد ذاته ويحقق ذاته في الفعل، يصدم القارئ الذي لا يقبل آراءه، فيصف الكثير منها بأنها أشنع أنواع التضليل الميتافيزيقي. كذلك لا يمكننا أن ننكر أن فشته قد وقع، ولا سيما في مرحلته المتأخرة (التوكيدية)، في نفس الحبائل التي تحاول الفلسفة النقدية الكشف عنها، فهو يقع آخر الأمر ضحية ميله إلى تشخيص التصورات والنظر إليها كما لو كانت هي، لا نحن، التي تريد وتفعل. وتكون خاتمة مطافه المحزنة هي اتخاذه موقف «المثالي المطلق»، الذي ينظر إلى الذات الفردية، ومعها «اللاذات» التي تؤكدها الذات لأسباب عملية، على أنها أوجه أو مظاهر لروح مطلقة أو ذات كبرى يقال إنها تشمل الواقع بأسره.
وهكذا ينتهي الأمر بفشته إلى محاولة الإمساك بفطيرته والتهامها؛ فهو يبدأ بأنا جزئي متناه يضع
posits
عالما يخدم أغراضه العملية، وينتهي بإدماج الاثنين معا في أنا مطلق يضعهما معا. وهكذا فإن الشيء في ذاته الذي قال به كانت، والذي سبق لفشته أن رفضه رفضا قاطعا، بوصفه آخر بقايا التوكيدية، يعود إليه آخر الأمر كشبح لا يبارحه. والنتيجة أنه هو ذاته قد منح الميتافيزيقا التوكيدية فسحة جديدة من العمر أتاحت لها القضاء على كل مبرر لمذهبه في أولوية العقل العملي. وهو إذ قضى على تمييز كانت بين الترنسندنتالي (المرتبط بالتجربة) والعالي (المتجاوز للتجربة)، فقد أحال المذهب الذي بدأ في صورة نقد ذاتي مشروع إلى «نقد أعلى» ممسوخ انتهى به آخر الأمر إلى الخلط بينه وبين الواقع ذاته.
ومع ذلك فمن الممكن، إذا اقتفينا أثر أكثر مفسريه تحمسا له؛ أعني «جوشيا رويس
Josiah Royce »، أن نجد حتى في هذا الحطام شيئا ينقذه، شيئا لا يعد مجرد خزعبلات ميتافيزيقية. فرغم قوة «مذهب الأنا» لدى فشته، فإنه يدرك بوضوح الطابع الاجتماعي، بل العرفي، لكل نشاط إنساني.
ولقد أدرك كانت ذاته أن ما نسميه «عقليا» في أي ميدان هو ما نتصوره مشتركا بيننا وبين آخرين مثلنا؛ فنحن لا نتصور أنفسنا عمليا على أننا نشتغل وحدنا، ولا ننظر إلى معاييرنا على أنها مقتصرة علينا. وبالاختصار، ففي كل مهمة نضطلع بها، سواء أكانت شيئا نسميه فعلا أخلاقيا أو بحثا عمليا، ننظر إلى أنفسنا على أننا مقيدون بمعايير «موضوعية» أو مشتركة بين الأشخاص، يلتزم بها الآخرون مثلما نلتزم نحن بها. ولو لم نفترض أن الآخرين موجودون مثلنا، لما استطعنا الحديث عن معايير موضوعية على الإطلاق. ولو لم نفترض أن ثمة مجتمعا من الكائنات المماثلة لنا والراغبة في الالتزام بهذه المعايير، لما استطعنا القول بأن أي كائن عاقل ملزم بالاعتراف بهذه المعايير. فما قيمة الحديث عن «الحقوق» و«الواجبات»، بل ما قيمة الحديث على إطلاقه، إن لم أكن أفترض أن عالمي عالم مشترك للفعل، يندمج فيه آخرون مثلي، وذلك لأسباب مماثلة لأسباب؟ وهكذا فرغم أن أحدا غيري لا يستطيع القيام بدلا مني بعملية التأكيد الخاصة بي (
my position )، فما زلت مضطرا إلى النظر إلى القواعد التي أختار بها أن أحيا على أنها قواعد مشتركة بين الأشخاص أو الذوات.
لا مفر لأحد، إذن، من أن ينظر إلى عالمه على أنه عالم اجتماعي، وإلى أناه على أنه ينتمي إلى مجتمع من «الأنوات
egos » أوسع نطاقا. وربما لم يكن هذا «معطى» كاللون الأصفر أو طعم الثوم، ولكنه مع ذلك وجه ضروري لتفكيرنا وفعلنا بوصفنا موجودات اجتماعية، فلو نحينا جانبا كل الادعاءات، لقلنا إذن إن ما نسميه بالعالم المشترك هو كثرة من «الأنوات»، أو ينطوي على الأنوات من أمثالنا، وهي كثرة تصدر تأكيدات مشتركة، وتعد نفسها مسئولة عن قواعد مشتركة للفكر والعمل. وليس هناك، من وجهة نظر فشته، سوى خطوة واحدة بين هذا القول وبين افتراض «أنا أعظم» يريد هذا العالم المشترك وهذه الحياة المشتركة من خلالنا. ولا شك في أننا لسنا ملزمين بأن نخطو هذه الخطوة، ولكن كثيرا من الناس في جميع العصور قد خطوها. وهي في رأيهم ضرورية لإضفاء الحقيقة على المبادئ المشتركة التي نجد أنفسنا مسئولين عنها.
والنص التالي مختار من الأقسام الثلاثة الأولى من كتاب فشته: «مبادئ النظرية العامة في العلم».
2 ⋆ (النص)
القسم الأول : المبدأ الأول الأساسي غير المشروط على الإطلاق.
علينا أن نبحث عن المبدأ المطلق الأول، والأساسي غير المشروط على أي نحو، للمعرفة البشرية. ولكي يكون هذا مبدأ أول مطلقا، فلا يمكن أن يقبل البرهنة عليه أو تحديده.
هذا المبدأ ينبغي أن يعبر عن ذلك الفعل
Thathandlung
الذي لا يحدث ولا يمكن أن يحدث، بين التحديات التجريبية لوعينا، وإنما يكون هو أساس وعينا، وهو وحده أول ما يجعل هذا الوعي ممكنا. والأمر الذي يخشى منه عند تصور هذا الفعل ليس هو ألا يفكر المرء فيما ينبغي أن يفكر فيه، بقدر ما هو أن يفكر فيما لا ينبغي له التفكير فيه. وهذا يحتم علينا تأمل ما قد يعد مؤقتا فعلا كهذا، وتجريده من كل ما لا ينتمي فعلا إليه.
هذا الفعل، الذي ليس بالواقعة، التجريبية للوعي، لا يمكن أن يتحول، حتى عن طريق هذا التأمل التجريدي إلى واقعة للوعي، ولكنا نستطيع عن طريق هذا التأمل التجريدي أن ندرك ما يلي؛ إن هذا الفعل ينبغي بالضرورة أن يعد أساس كل وعي.
وإن القوانين
3
التي ينبغي بالضرورة أن يعد هذا الفعل تبعا لها أساسا للمعرفة البشرية، أو بعبارة أخرى، تلك القواعد التي يسير ذلك التأمل التجريدي تبعا لها، لم تثبت صحتها بعد، ولكننا سنفترض ضمنا، وبصفة مؤقتة، أنها معروفة متفق عليها. وسوف نستنبطها، أثناء سيرنا، من ذلك المبدأ الأساسي الذي لا يصبح إثباته إلا إذا كانت هي صحيحة. وفي هذا حقا دور، ولكنه دور لا مفر منه. ولما كان دورا لا مفر منه، ومعترفا به فعلا، فإنه يحق لنا الإهابة بجميع قوانين المنطق العام في وضع هذا المبدأ الأساسي الأعلى.
وعلينا أن نبدأ، عند القيام بهذا التأمل التجريدي، من قضية يسلم بها الجميع دون جدال. ولا شك أن ثمة قضايا عديدة كهذه. وسنختار منها تلك التي تبدو في نظرنا أقرب الجميع إلى تحقيق الغرض الذي نرمي إليه.
ولا بد عند قبول هذه القضية من قبول الفعل الذي نعتزم أن نتخذه أساسا لكل نظرية العلم لدينا، ولا بد أن يوضح التأمل أن هذا الفعل يقبل بمجرد قبول القضية. وهكذا سنتناول أية واقعة من وقائع الوعي التجريبي يعترف بأنها قضية لها مثل هذه الصحة، ونعزل عنها واحدا بعد الآخر من تحديداتها التجريبية، حتى لا يتبقى فيها إلا ما لا ينطوي على شيء يعزل أو يجرد.
والقضية التي سنتناولها من هذا النوع هي: أ هي أ (وهي تعادل أ = أ؛ لأن هذا هو معنى الرابطة المنطقية). فصحة هذه القضية معترف بها من الجميع دون أي تردد. والكل يقرون بيقينيتها ووضوحها التام.
فإذا ما طلب أحد برهانا على يقينيتها، فلن يأتي أحد بمثل هذا البرهان، بل سيقول: إن هذه القضية يقينية فحسب؛ أي دون أي أساس آخر. وهو إذ يقول هذا، يعزو إلى نفسه القدرة على تأكيد (
setzen ) شيء على نحو مطلق.
وأنت حين تؤكد يقينية القضية السابقة في ذاتها، لا تؤكد أن أ موجودة؛ إذ إن القضية أ هي أ لا تعادل على الإطلاق القضية أ موجودة، أو: توجد أ (إذ إن تأكيد الوجود دون محمول يختلف كل الاختلاف عن تأكيده مع محمول). ولو فرضنا أن أ تعني مكانا منحصرا بين خطين مستقيمين، فعندئذ تكون القضية أ هي أ صحيحة رغم ذلك، وإن كانت القضية «أ موجودة» كاذبة؛ إذ إن مثل هذا المكان محال.
ولكنك تؤكد بهذه القضية ما يلي. إذا كانت أ موجودة، فإن أ موجودة، وإذن فمسألة كون أ موجودة أو غير موجودة، لا تتأثر هنا أصلا. ومحتوى القضية لا يبحث هنا على الإطلاق، بل إن موضع البحث هو صورتها فحسب. والمسألة ليست ذلك الموضوع الذي تدور معرفتك حوله، بل ما تعرفه عن أي موضوع ما. وإذن فالشيء الوحيد الذي يؤكد في هذه القضية هو الارتباط الضروري بصفة مطلقة بين أ وأ. وسوف نرمز إلى هذا الارتباط بالحرف س.
أما بالنسبة إلى أ ذاتها فإنا لم نؤكد شيئا بعد.
وهكذا يظهر السؤال التالي: تحت أي الشروط تكون أ موجودة؟ إن س على الأقل توجد في الأنا، وتؤكد من خلال الأنا؛ إذ إن الأنا هو الذي يؤكد القضية السابقة، وبذا يؤكدها عن طريق س بوصفها قانونا، ومن ثم وجب أن تكون س هذه، أو هذا القانون، معطاة للأنا. ولما كانت تؤكد على نحو مطلق، ودون أي أساس آخر، فلا بد أن تكون معطاة للأنا عن طريق ذاته.
ولكنا لا نعلم إن كانت أ تؤكد «
Gesetzt »، ولا كيف تؤكد، ولكن لما كان المقصود من س هو أن تعبر عن ارتباط بين تأكيد غير معروف ل أ (أ الأولى في القضية أ هي أ) وتأكيد ل أ نفسها، وهو تأكيد مطلق في الحالة الأخيرة بناء على التأكيد الأول، فالنتيجة هي أن أ تؤكد، على الأقل بقدر ما يؤكد هذا الارتباط، في الأنا ومن خلاله، مثل س؛ ذلك لأن س لا تكون ممكنة إلا في ارتباطها ب أ. ولكن الأنا هو الذي يؤكد س، وإذن فالأنا هو الذي يؤكد أ أيضا، بقدر ما ترتبط بها س.
وفي القضية السابقة ترتبط س ب أ التي تحتل فيها موقع الموضوع المنطقي، وكذلك ب أ التي تحتل فيها موقع المحمول؛ إذ إن س هي التي تجمع بينهما. وإذن فكلتاهما، بقدر ما تؤكد
Gesetzt ، تؤكد في الأنا، كما أن أ المحمول تؤكد تأكيدا مطلقا إذا ما أكدت الأولى. ومن هنا فمن الممكن التعبير عن القضية السابقة على النحو الآتي: إذا أكدت أ في الأنا، فإنها تؤكد (أو توضع)؛ أي تكون.
وهكذا يؤكد الأنا عن طريق س: أن أ موجودة بصفة مطلقة بالنسبة إلى الأنا المؤكد، وأنها موجودة لا لشيء إلا لأنها مؤكدة في الأنا، أو أن في الأنا شيئا يظل دائما على ما هو عليه، وبذلك يتمكن من أن يربط أو يؤكد، ومن ثم فمن الممكن أيضا التعبير عن س المؤكدة تأكيدا مطلقا على النحو الآتي: أنا = أنا، أو: «أنا أكون أنا».
وهكذا وصلنا إلى القضية «أنا أكون» لا بوصفها تعبيرا عن فعل، وإنما على الأقل بوصفها تعبيرا عن واقعة.
ذلك لأن س مؤكدة بصفة مطلقة، وهذه واقعة للوعي التجريبي كما يتبين من القضية المعترف بها. ولكن معنى س يساوي «أنا أكون أنا»، ومن هنا فإن هذه القضية مؤكدة على نحو مطلق.
غير أن «أنا أكون أنا»، لها معنى مختلف كل الاختلاف عن أن أ هي أ؛ إذ إن القضية الأخيرة لا يكون لها محتوى إلا بناء على شرط معين؛ أي إذا أكدت أ. ولكن القضية «أنا أكون أنا» صحيحة على نحو مطلق غير مشروط، ما دامت معادلة ل س، وهي صحيحة لا من حيث صورتها فحسب، ولكن من حيث محتواها أيضا. وفيما يؤكد الأنا لا بناء على شرط، بل على نحو مطلق، مع محمول المساواة للذات، وهكذا فإن الأنا يؤكد، ويمكن التعبير عن القضية أيضا على هذا النحو: «أنا أكون».
هذه القضية، «أنا أكون» لا تقوم حتى الآن إلا على واقعة، وليست لها سوى صحة واقعة. فلكي تكون «أ = أ»، (أو س) يقينية، ينبغي أن تكون «أنا أكون» يقينية بدورها. على أن من وقائع الوعي التجريبي أننا مضطرون إلى النظر إلى س على أنها يقينية على نحو مطلق، وإذن «فأنا أكون» يقينية بدورها؛ إذ إنها أساس س. وهذا يستتبع أن أساس تفسير جميع وقائع الوعي التجريبي هو الآتي:
قبل كل تأكيد (
setzen ) في الأنا، ينبغي أن يؤكد الأنا ذاته. •••
إن في القضية أ = أ حكما، غير أن كل حكم (
urtheilen ) فعل للذهن البشري؛ إذ إن له جميع شروط هذا الفعل في الوعي التجريبي، الذي ينبغي أن نفترض مقدما كونه معروفا، ومسلما به، حتى نتقدم بتفكيرنا. على أن هذا الفعل مبني على شيء ليس له أساس أعلى؛ أي س أو أنا أكون.
وعلى ذلك فما يؤكد
posited
على نحو مطلق، وما يكون مبنيا على ذاته، هو أساس فعل معين (وستكشف لنا نظرية العلم بأسرها أنه أساس كل فعل) للذهن البشري، ومن هنا كان طابعه الخالص، وهو الطابع الخالص للفعل في ذاته، مجردا تماما من شروطه التجريبية الخاصة.
وإذن فتأكيد الأنا لذاته هو الفعل الخالص للأنا؛ فالأنا «يؤكد ذاته»، والأنا، لهذا السبب، هو مجرد تأكيد ذاته. وبالعكس، فإن الأنا «يكون ويؤكد» وجوده، لمجرد كونه موجودا؛ فهو الفعل وحاصل الفعل معا، والفاعل ونتيجة الفاعلية معا، والنشاط والفعل متحدين، ومن هنا فإن «أنا أكون» تعبر عن فعل
Thathandlung ، وعن الفعل «الوحيد» الممكن، كما ستكشف لنا نظرية العلم بأسرها بالضرورة.
القسم الثاني : المبدأ الأساسي الثاني المشروط بمقتضى محتواه.
لا يمكن البرهنة على المبدأ الأساسي الثاني؛ لنفس السبب الذي لم يمكن من أجله البرهنة على المبدأ الأول. وعلى ذلك فنحن نبدأ في هذه الحالة أيضا من واقعة للوعي التجريبي على النحو ذاته.
ولا شك في أن كل شخص على استعداد للاعتراف بيقينية القضية لا أ ليست هي أ (
A nicht = A )، ولا يكاد يتوقع من أحد أن يطلب عليها برهانا.
ومع ذلك، فإذا كان مثل هذا البرهان ممكنا، فلا بد في مذهبنا هذا ... أن يستنبط من القضية أ = أ.
غير أن هذا البرهان مستحيل. فلنتصور، على أحسن الفروض، أن القضية السابقة تعادل لا أ هي لا أ (وبذلك تكون لا أ مساوية ل ص التي تؤكد في الأنا)، وأن معنى قضيتنا هذه قد أصبح الآن، نتيجة لذلك، هو: إذا أكد عكس أ، فإنه يؤكد؛ ففي هذه الحالة لا نكون قد أكدنا سوى نفس الارتباط (س) الذي وصلنا إليه في القسم الأول، وبدلا من أن تكون قضيتنا «لا أ ليست هي أ» مستمدة من أ = أ، فإنها عندئذ تكون هي هذه القضية ذاتها. وهنا يغفل تماما السؤال الرئيسي، وهو: هل يؤكد عكس أ، وتحت أي شرط من صورة الفعل البحت يؤكد؟
4
إن هذا الشرط ينبغي أن يكون مستمدا من القضية أ = أ، إذا كانت قضيتنا الثانية هذه قضية مستمدة، ولكن كيف يمكن أن تتضمن القضية أ = أ، التي لا تنطوي إلا على صورة التأكيد، صورة التأكيد العكسي
Gegensetzen
5
أيضا، الذي هو مقابل الأولى وعكسها؟ لا بد إذن أنها غير مشروطة تؤكد عكسيا على نحو مطلق بدورها؛ أي إن لا أ تؤكد بما هي كذلك لمجرد كونها تؤكد.
وعلى ذلك، فكما أن القضية لا أ ليست هي أ تحدث قطعا ضمن وقائع الوعي التجريبي، فإنه يحدث ضمن أفعال الأنا تأكيد عكسي، وهذا التأكيد العكسي ممكن على نحو مطلق غير مشروط، من حيث صورته، وهو فعل
Handlung
ليس له أساس أعلى.
وعن طريق هذا الفعل
Handlung
المطلق يؤكد العكس، من حيث هو مجرد عكس. وكل عكس، بما هو مجرد عكس، لا يكون إلا بفضل فعل مطلق الأنا، وليس له أي أساس عدا ذلك.
فالعكس عامة لا يعدو أن يكون مؤكدا من خلال الأنا.
ولكن تأكيد أي «لا أ» يحتم تأكيد أ. ومن هنا فإن فعل التأكيد العكسي هو أيضا، ومن وجهة نظر أخرى، مشروط؛ فمجرد كون الفعل ممكنا يتوقف على فعل آخر، ومن ثم فإن الفعل في محتواه، من حيث هو فاعلية
ein Handeln
على الإطلاق، مشروط، وهو فاعلية
ein Handeln
بالنسبة إلى فاعلية أخرى، أما كون الفعل قد حدث على هذا النحو، لا على نحو آخر، فهو أمر غير مشروط؛ أي إن الفعل من حيث الصورة (أي من حيث «الكيف
das wie » غير مشروط. (فالتأكيد العكسي
Das Entgegenaetzen
لا يكون ممكنا إلا بشرط وحدة الشعور بالتأكيد والتأكيد العكسي؛ إذ لو لم يكن الشعور بالفعل الأول مرتبطا بالشعور بالثاني، لما كان التأكيد الثاني تأكيدا عكسيا، بل لكان تأكيدا مطلقا. وهو لا يغدو تأكيدا عكسيا إلا من خلال علاقته بتأكيد).
ونحن إلى الآن لم نتحدث إلا عن الفعل من حيث هو مجرد فعل؛ أي عن «نوع» الفعل، فلنختبر الآن ناتجه، وأعني به «لا أ».
ففي لا أ يمكننا أن نميز بين صورة ومادة. أما الصورة فهي التي تقرر كونها ضدا
gegentheil ، وأما المادة فتقرر كونها عكس شيء محدد (هو أ)؛ أي كونها ليست هذا الشيء المحدد.
وتتحد صورة لا أ عن طريق الفعل فحسب، وهي «ضد» لأنها نتيجة تأكيد عكسي
gegensetzen ، أما مادتها فتتحدد بواسطة أ؛ فهي ليست ما تكونه أ، وماهيتها كلها تنحصر في كونها ليست ما تكونه أ، فكل ما أعلمه عن لا أ هو أنها ضد أ. أما كنه ذلك الذي أعلم عنه هذا، فذلك ما لا يتسنى لي معرفته إلا عن طريق معرفة أ.
والأصل أن الأنا وحده هو الذي يؤكد، وهو وحده الذي يؤكد على نحو مطلق (القسم الأول). ومن ثم فإن أي تأكيد عكسي مطلق لا يمكن إلا أن يشير إلى الأنا. ونحن نطلق على عكس الأنا اسم «اللاأنا».
وكما يسلم بالقضية «لا أ ليست هي أ» على نحو غير مشروط بوصفها واقعة في الوعي التجريبي، فكذلك يؤكد اللاأنا بوصفه العكس المطلق للأنا. وكل ما قلناه من قبل بشأن التأكيد العكسي عامة، يستنبط من هذا التأكيد العكسي الأصلي، ومن ثم فهو يسري عليه، وإذن فهو غير مشروط في صورته ولكنه مشروط في مادته. وهكذا نجد المبدأ الثاني لكل المعرفة البشرية:
فكل ما ينتمي إلى الأنا، لا بد أن ينتمي ضده إلى اللاأنا. •••
وبإجراء نفس التجريد الذي أجريناه على القضية الأولى، على هذه القضية، نحصل على القضية المنطقية لا أ ليست هي أ، التي ينبغي أن أسميها قضية التأكيد العكسي. هذه القضية، أولا، لا يمكن حتى الآن تحديدها على النحو الصحيح، أو التعبير عنها في صيغة، وذلك لسبب سنذكره في القسم المقبل.
وبالتجريد من الفعل المحدد للحكم المتضمن في هذه القضية، والنظر المجرد إلى صورة استخلاص اللاوجود من الوجود المؤكد عكسيا، نحصل على «مقولة السلب»، وهذا أيضا لا يمكن إيضاحه بإسهاب حتى القسم المقبل.
القسم الثالث : المبدأ الثالث الأساسي المشروط بمقتضى صورته.
إن كل خطوة نسيرها في علمنا تقربنا من النقطة التي يصبح فيها كل شيء مبرهنا عليه؛ ففي المبدأ الأول كان ينبغي ألا يبرهن، أو أن يتسنى البرهنة، على شيء. وفي الثاني، كان فعل التأكيد العكسي هو وحده غير القابل للبرهنة. ولكن ما إن أكد هذا الفعل العكسي بصورته المجردة تأكيدا مطلقا، فقد برهن بدقة على أن العكس ينبغي أن يكون لا أنا. أما المبدأ الثالث فكله تقريبا قابل للبرهان؛ إذ إنه ليس مشروطا في مادته، كالثاني، وإنما في صورته فحسب، وهو فضلا عن ذلك مشروط في صورته بالقضيتين السابقتين.
ومعنى كونه مشروطا في صورته، هو أن القضيتين السابقتين هما اللتان تكونان مشكلة الفعل التي يثيرها ذلك المبدأ، ولكنهما لا تأتيان بحل لهذه المشكلة؛ إذ الحل ناتج عن فعل مطلق غير مشروط للعقل.
فنحن إذن نبدأ باستنباط، ثم نمضي أبعد ما يمكننا المضي. فإذا ما بلغنا نقطة لا نستطيع المضي بعدها، فسوف يكون علينا أن نهيب بهذا الفعل المطلق. (1)
فبقدر ما يؤكد اللاأنا، لا يؤكد الأنا؛ إذ إن اللاأنا يلغي الأنا تماما.
على أن اللاأنا يؤكد في الأنا؛ لأنه يؤكد عكسيا في مقابله، وكل تأكيد عكسي يفترض مقدما هوية الأنا.
وإذن فالأنا لا يؤكد في الأنا بقدر ما يؤكد فيه اللاأنا. (2)
ولكن لا يمكن تأكيد اللاأنا إلا بقدر ما يؤكد في الأنا (أي في الوعي القائم على الهوية) أنا يكون اللاأنا هو تأكيده العكسي المقابل. (3)
وإذن فبقدر ما يؤكد اللاأنا في الأنا، لا بد أن يؤكد الأنا بدوره فيه. (4)
ومع أن كلا من نتيجتي القضيتين 1 و2 عكس الأخرى، فإن كلتيهما مستمدة من المبدأ الأساسي الثاني، وعلى ذلك فهذا المبدأ الثاني معاكس لذاته ويلغي ذاته. (5)
ولكنه يلغي ويرفع ذاته بقدر ما يعمل المؤكد عكسيا على إلغاء المؤكد؛ أي بقدر ما يكون هذا المبدأ صحيحا.
وإذن، فهو لا يلغي ذاته؛ فالمبدأ الأساسي الثاني يلغي ذاته ولا يلغي ذاته. (6)
فإذا كان هذا حال المبدأ الثاني، فلا بد أن يكون أيضا حال المبدأ الأول. فهذا المبدأ الأول يلغي ذاته ولا يلغي ذاته؛ إذ إنه:
إذا كان الأنا = الأنا، فكل ما يؤكد في الأنا يؤكد.
ولكن المبدأ الثاني يتعين أن يؤكد وألا يؤكد في الأنا.
وإذن فالأنا ليس هو الأنا، وإنما الأنا هو اللاأنا واللاأنا هو الأنا.
كل هذه النتائج قد استنبطت من المبادئ المقررة وفقا لقوانين الفكر التي افترضنا مقدما صحتها، وعلى ذلك فلا بد أن تكون صحيحة، ولكن إذا كانت صحيحة، فإن هذا يؤدي إلى إلغاء هوية الوعي، وهي الأساس الوحيد المطلق لمعرفتنا، وهذا يحدد مشكلتنا. فعلينا أن نجد س تتيح صحة هذه النتائج كلها، دون قضاء على هوية الوعي. (1)
ولما كانت الأضداد الواجب توحيدها موجودة في الأنا بوصفه وعيا، فلا بد أن تكون س بدورها في الوعي. (2)
والأنا واللاأنا معا ناتجان عن أفعال أصيلة للأنا، والوعي ذاته ناتج عن هذا النوع للفعل الأصيل الأول للأنا؛ أي لتأكيد الأنا لذاته. (3)
ولكن نتيجتينا السابقتين تدلان على أن الفعل الذي يكون اللاأنا ناتجه؛ أي التأكيد العكسي، ليس ممكنا على الإطلاق دون س. وإذن فلا بد أن تكون س ذاتها ناتجة عن فعل أصيل للأنا؛ أي لا بد أن يكون هناك فعل للذهن البشري = ص، يكون ناتجه هو س. (4)
وتتحدد صورة هذا الفعل ص على أساس المشكلة السابقة، فعليه أن يكون توحيدا للضدين (الأنا واللاأنا) دون أن يلغي أحدهما الآخر؛ أي إن من الواجب جلب الضدين معا في هوية الوعي. (5)
ولكن المشكلة لا تحدد كيف؛ أي بأية طريقة، يتحدان، بل لا توحي بها على الإطلاق. فعلينا إذن أن نجري تجربة، ونتساءل: كيف يمكن التفكير في أ ولا أ؛ أي في الوجود واللاوجود، والإيجاب والسلب معا، دون أن يلغي كل منهما الآخر؟ (6)
لا يتوقع من أحد أن يجيب عن هذا السؤال إلا على النحو الآتي: لا بد أن يحد (
einschränken ) كل منهما الآخر . فإذا كان هذا الجواب صحيحا، فإن الفعل ص هو حد الضدين كل عن طريق الآخر، ويكون معنى س هو الحدود (
die Schränken ). (7)
على أن فكرة الحدود تتضمن أكثر من س المطلوبة؛ «إذ هي تنطوي أيضا على مفهومي الإيجاب والسلب، الواجب التوحيد بينهما». وإذن، فلكي نصل إلى س خالصة، ينبغي أن نقوم بتجريد آخر. (8)
ومعنى أن يحد شيء هو إلغاء إيجابيته بالسلب لا إلغاء تاما، وإنما إلغاء جزئي. وإذن ففكرة الحدود تتضمن، إلى جانب فكرتي الإيجاب والسلب، فكرة القابلية للانقسام (أي القابلية للإنصاف بصفة الكم عامة، لا الحكم المحدد). وهذه الفكرة هي س المطلوبة، ومن هنا، فعن طريق الفعل ص، يؤكد الأنا وكذلك اللاأنا بوصفهما قابلين للانقسام. (9)
إن الأنا، وكذلك اللاأنا، يؤكدان بوصفهما قابلين للانقسام؛ إذ لا يمكن أن يعقب الفعل ص فعل التأكيد العكسي؛ إذ تبين أن فعل التأكيد العكسي هو في ذاته مستحيل، كما لا يمكنه أن يسبق هذا الفعل؛ إذ إن الفعل ص لا يحدث إلا لكي يجعل فعل التأكيد العكسي ممكنا؛ والقابلية للانقسام ليست سوى شيء قابل للانقسام. ومن ثم فإن الفعل ص وفعل التأكيد العكسي يحدثان كل منهما في الآخر ومع الآخر، وكلاهما نفس الفعل، وهما لا يتميزان إلا بالفكر. وإذن فعن طريق تأكيد لا أنا في مقابل الأنا، يؤكد الأنا واللاأنا معا بوصفهما منقسمين.
فلنر الآن إن كان الفعل الذي وصلنا إليه ها هنا قد حل المشكلة بالفعل ووحد الأضداد.
إن النتيجة الأولى تتحدد الآن على النحو التالي؛ فالأنا لا يؤكد في الأنا عن طريق تلك الأجزاء من الواقع التي يؤكد بها اللاأنا؛ فذلك الجزء من الواقع الذي يعزى إلى اللاأنا، يلغى في الأنا.
هذه القضية، في صورتها الحالية، لا تناقض النتيجة الثانية؛ فبقدر ما يؤكد اللاأنا، ينبغي أيضا أن يؤكد الأنا؛ إذ إنهما معا يؤكدان بوصفهما منقسمين من حيث حقيقتهما.
والآن فقط يمكنك أن تقول عن أحدهما إنه شيء ما؛ إذ إن الأنا المطلق في المبدأ الأساسي الأول ليس «شيئا» (أي ليس له، ولا يمكن أن يكون له محمول)، وإنما هو لا يعدو أن يكون ما هو عليه. ولكن كل واقع
reality
إنما يكون في الوعي، ومن هذا الواقع ينسب إلى اللاأنا ذلك الجزء الذي لا ينبغي أن ينسب إلى الأنا، والعكس بالعكس؛ فكلاهما شيء ما. واللاأنا هو ما لا يكونه الأنا، والعكس بالعكس. وفي مقابل الأنا المطلق، يكون اللاأنا لا شيء مطلقا (ولكنه لا يمكن أن يوضع في مقابل الأنا المطلق إلا بقدر ما يكون موضوعا للتمثل، كما سنرى فيما بعد)؛ ففي مقابل الأنا المنقسم، يكون اللاأنا كمية سالبة.
وهكذا يتعين على الأنا أن يكون مساويا لذاته، وأن يكون مع ذلك مضادا لذاته. ولكنه مساو لذاته فيما يتعلق بالوعي، وفي هذا الوعي يؤكد الأنا المطلق بوصفه غير منقسم، ويؤكد الأنا، الذي يقابله اللاأنا، بوصفه منقسما. وهكذا تتحد كل الأضداد في وحدة الوعي؛ إذ إن الأنا ذاته، بقدر ما يكون هناك لا أنا مقابل له، يكون فيها مقابلا للأنا المطلق، وذلك هو الاختيار الذي يدل على أن مفهوم القابلية للانقسام، الذي تم وضعه، هو المفهوم الصحيح.
وعلى أساس افتراضنا الأول، الذي لا يمكن إثباته إلا بالانتهاء من المعرفة، لا يمكن أن يكون هناك سوى مبدأ واحد مطلق غير مشروط ومبدأ واحد مشروط في محتواه، ومبدأ واحد مشروط في صورته. وإذن فلا يمكن أن يكون ثمة مبدأ آخر؛ فقد استنفد كل ما هو مؤكد على نحو مطلق غير مشروط، وأستطيع أن أعبر عن الكل بهذه الصيغة: «أنا أؤكد في الأنا لا أنا قابلا للانقسام مقابل أنا قابل للانقسام».
وليس في وسع أية فلسفة أن تمضي إلى ما وراء هذه المعرفة، وإنما ينبغي أن تصل إليها كل فلسفة دقيقة، فتصبح بذلك نظرية للعلم. وكل ما يمكن أن يحدث بعد ذلك في نسق الذهن البشري ينبغي أن يكون قابلا للاستنباط مما أثبتناه ها هنا.
الفصل الرابع
الديالكتيك والتاريخ
ج. ف. ف. هيجل (1770-1831م)
ينظر إلى فلسفة هيجل عادة على أنها القمة التي بلغها تطور المثالية التالية لكانت في ألمانيا. وهذه الفلسفة هي قطعا من أقوى المذاهب الفكرية تأثيرا في القرن التاسع عشر؛ فمن غير هيجل، يستحيل تصور ماركس، وعلى ذلك فمن الصعب بدونه تخيل الخلافات الأيديولوجية السائدة في عصرنا الحالي. ولكن هيجل كانت له آثار أخرى عديدة بعيدة المدى في الفكر الحديث، وهي آثار لا تقتصر على ميدان الفلسفة، بل تشمل النظريات الاجتماعية والتاريخ والتشريع. ولقد كنا على وشك القول بأن الميدان الوحيد الذي لم يكن لتفكير هيجل فيه أثر هو ميدان العلوم الفيزيائية، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن علماء الفيزياء أنفسهم في روسيا ينبغي عليهم أن يشيدوا بالديالكتيك الهيجلي كما صاغه ماركس.
وليس من السهل أن يقدر المرء فلسفة هيجل حق قدرها؛ إذ إن الآراء لم تختلف حول فلسفة رئيسية بقدر ما اختلفت حول فلسفته؛ فالبعض ينظر إليه كما نظر القديس توما الأكويني إلى أرسطو، على أنه هو «الفيلسوف» الذي أتى بمذهب رحب يسع في داخله كل الفلسفات السابقة الضيقة النطاق. والبعض الآخر يعده «الخطأ الأكبر» الذي ارتكب في تاريخ الفلسفة. وفي هذا غرابة بحق؛ إذ إن كتابة هيجل تتصف بأسلوب لا شخصي لا يقل في جفافه عن أي كتاب في التقويم الفلكي. وليس في هيجل، من حيث هو إنسان، أي جانب طريف؛ إذ يبدو أن الهدف الوحيد لحياته كان القيام بدور كاتم سر «المطلق». ولكن إذا لم يكن في الرجل ذاته من الصفات ما يجذب المرء إليه كثيرا أو ينفره منه كثيرا، فإن ضخامة تأثيره كانت أمرا لا شك فيه. وقد ينفر المرء من فلسفته، ولكن أحدا لا يملك أن يتجاهلها.
ولقد وصف هيجل كتاباته بأنها «محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالألمانية.» ولو صح هذا، لكانت تلك لغة ألمانية لم ينطق بها أحد قبله. ولقد وصف البعض كتابة هيجل بأنها «حبلى»، وهو وصف لا بأس به؛ فهيجل لا يقدم إلينا النتيجة النهائية قط، بل يظل دائما ثمة وصف آخر ينبغي إطلاقه، ومنظور جديد ما ينبغي النظر إلى أية فكرة من خلاله. والنتيجة هي أن قراءة هذه الكتابات ليست هينة؛ فكتابة هيجل مركزة، مدققة، متقنة، مثقلة بالمعاني، ونادرا ما يقول ما يعنيه، أو يعني ما يبدو أنه يقول. فالوصف هو في رأيه ماهية الحقيقة. والنتيجة هي أن الناقد المجهد ييأس آخر الأمر من أن يقول عنه شيئا لا يكون باطلا، أو لا يكون مضللا - والصفة الثانية لا تختلف كثيرا في رأي هيجل عن الأولى. ومع ذلك فإن أسلوبه الذي يغلب عليه اللون الرمادي الباهت، له سحره الغريب، وعندما ننتهي من قراءته، يكون قد فتح أمامنا، على نحو ما، آفاق عالم فلسفي. وإذا كانت الأشياء في ذلك العالم لا تتحرك على طريقتها المعتادة، فإنها مع ذلك تتحرك، والبراعة إنما تكون في تعلم طريقة رؤيتها.
وتظهر في فلسفة هيجل أول محاولة كاملة للنظر إلى جميع المشاكل والتصورات الفلسفية، ومنها تصور العقل ذاته، من خلال منظور تاريخي في أساسه. فليس لأية فكرة، في نظر هيجل، معنى ثابت، وليس لصورة الذهن صحة أزلية ثابتة. ولقد نظر معظم الفلاسفة السابقين، وضمنهم كانت، إلى الطبيعة والذهن من وجهة نظر المقولات والقوانين السكونية التي تفرض أزلا، ويعاد فرضها، على الكثرة المتغيرة من الأشياء الجزئية. وتصور كانت الذهن على أنه قوة فاعلة إيجابية مشكلة، غير أن مقولات الذهن وأوامر العقل العملي ليست في رأيه معرضة للتغير. أما هيجل فينظر إلى كل شيء - ما عدا فلسفته هو، على الأرجح - من منظور التاريخ. ولقد نظر الفلاسفة السابقون عليه إلى ما هو جزئي على أنه، بما هو جزئي، غير قابل للفهم. وكانت كل معرفة في نظرهم متعلقة بالكليات، والمعرفة الفلسفية هي أعم المعارف كلها. أما هيجل فقد نظر إلى الخاص أو الجزئي وحده على أنه هو الذي ينبغي أن يفهم، وإن كان قد رأى أنه لا يمكن أن يفهم فهما كاملا إلا إذا تأملناه في علاقته بكل شيء آخر. وكل ما هو جزئي هو، من غير علاقاته، «مجرد جزئي»، وبالتالي مجرد تجريد آخر. وإذا تأملنا الجزئي عينيا كما هو في حقيقته، لما كان له وجود إلا في علاقاته بكل ما يحيط به. وفي مثل هذا الفهم للجزئي، لا يعود منظورا إليه على أنه «جوهر» أو «شيء»، ويصبح عملية حادثة دائمة التغير. ولهذا السبب كان «الوعي التاريخي» هو وحده الذي يدرك الواقع كما هو؛ أي من حيث هو عملية صيرورة.
ففلسفة هيجل إذن فلسفة تغير، شأنها شأن تفكير هرقليطس، الفيلسوف القديم السابق على سقراط، والذي كان هيجل شديد الإعجاب به. ومع ذلك فبين الاثنين فوارق هامة؛ فهرقليطس يرى أن «الدوامة هي السائدة»، غير أن الاستعارة توحي بأن هرقليطس، مثله مثل معظم الفلاسفة اليونانيين الآخرين، قد اعتقد بأن التغير خاضع لمبدأ عاقل (لوجوس) أو قانون هو ذاته ثابت لا يتغير. أما هيجل فقد نظر إلى التاريخ على أنه يعني التطور، وكل عملية تاريخية هي شيء جديد تحت الشمس، وليس ثمة شيء مشابه تماما لأي شيء سابق عليه. وعلى كل قانون صحيح للتغير التاريخي أن ينظر إلى هذا التغير، لا على أنه تعاقب لدورات من التغير أزلية العود، بل على أنه تطور تدريجي تعد كل مرحلة أو «لحظة» فيه (حسب تعبير هيجل) نتيجة ضرورية لما قبلها ومختلفة أساسا عنه.
ومن المؤسف أن نظرية هيجل في التطور التاريخي لا يمكن أن تفهم فهما كاملا دون إشارة إلى ديالكتيكه أو «منطقه» الشاذ، ولعلنا نذكر أن كانت قد رأى أن العقل الخالص عندما يحاول أن يمد تطبيق مقولات كالعلة والمعلول إلى ما وراء التجربة، ينتهي حتما إلى تناقضات لا سبيل إلى رفعها. ولذا رأى أن النظر الميتافيزيقي في العلة النهائية للأشياء هو بحث عقيم تماما. ومع ذلك فقد كان في وسعه أن يسير في الطريق الأكثر جسارة، والأكثر تسرعا في نظر معظم الفلاسفة، ألا وهو قبول هذه المتناقضات بوصفها معبرة، بذاتها، عن طبيعة الأشياء. وذلك في الحق هو الطريق الذي سار فيه هيجل؛ فقد استعان هيجل بفشته إلى حد ما في تحويل مذهب كانت في التعارض الديالكتيكي المحتوم للقضايا الميتافيزيقية - وهو التعارض الذي عده كانت علامة لا تخيب على خداع الميتافيزيقا - إلى منطق جديد للحقيقة الفلسفية . فالتقابل الديالكتيكي عند هيجل يميز كل تفكير صحيح عن الواقع . وكل قضية، كما رأى كانت، تولد قضيتها المضادة. والأمر الذي غاب عن ذهن كانت هو أن من الممكن النظر إلى القضية والقضية المضادة على أنهما صحيحتان إذا ما فهمت الاثنتان، في ضوء جديد، على أنهما تعبيران ناقصان عن قضية أعلى وأشمل، تضم ما له أهمية في كل منهما. مثل هذه القضية هي ما يطلق عليه هيجل اسم «القضية المركبة».
وإذا شئنا تعبيرا أدق من ذلك، لقلنا إن كل تناقض هو في نظر هيجل علاقة أو إضافة متنكرة، وإذن فمن الممكن النظر إلى أي تناقض على أنه لا يعدو أن يكون وصفا مجردا، وبالتالي ناقصا، لحقيقة أشمل، حقيقة تفهم عينيا على نحو أكمل. ولقد كان منطق أرسطو التقليدي، الذي رأى هيجل أنه لا يصلح لفهم التغير. ينظر إلى نقيض أي «أ»، على أنه دائما «لا - أ» التي تستبعد «أ» تماما. وكل أ، حسب قانون عدم التناقض التقليدي، هي دائما لا لا - أ. أما هيجل فيرى أن أية لا - أ، بما هي كذلك فحسب، هي لا وجود بحت، وتجريد خالص لا يتميز عن العدم التام. وإذن، فإذا شئنا أن يكون لأي تناقض معنى إيجابي، فلا بد أن تفهم لا - أ على أنها «ب»؛ أي على أنها شيء إيجابي ذو طابع خاص به، ولكنا إذ نتصورها على هذا النحو، نرفع التناقض على التو، ونستبدل به تركيب إضافة يمكن أن يرمز إليه الآن على هذا النحو «أ ض ب».
1
وإذن فكل تفكير صحيح عن الواقع ينطوي على حركة ثلاثية من قضية أ، إلى نقيضها لا أ. وهذا بدوره يؤدي إلى مركب يؤدي إلى تغيير الطريقة التي تفهم بها أو لا - أ معا. ولكن لا بد أن يولد هذا المركب نقيضا جديدا لا يمكن رفعه إلا بمركب أعلى منه. ثم يعود الديالكتيك إلى الحركة مرة أخرى. ويرى هيجل أن هذه الحركة لا نهاية لها.
وربما لن يدهش القارئ إذ يعلم بعد هذا كله أن هيجل يتهم في كثير من الأحيان بمناقضة نفسه في كل مناسبة . ولا شك في أن هذا يحدث بالفعل، ولكنه يستطيع على الأقل أن يؤكد المزايا الكامنة في عيوبه هذه؛ فالتناقض عنده ليس علامة على التخبط العقلي، وإنما علامة على القدرة الإبداعية والبصيرة. وعلى الفيلسوف الحق أن يرحب به بوصفه حافزا على تكوين مركب جديد يكون أصدق تمثيلا لموضوعه. وليس للتناقض الذاتي، بالنسبة إلى البشر، نهاية، وبالتالي فلا نهاية للتطور العقلي. فإذا لم يكن أمام الذهن البشري مكان نهائي يسكن إليه، ففي وسعنا أن نعزي أنفسنا إذ نتذكر، على الأقل، أن أفكارنا تتسع في نطاقها وترتفع في مستواها. ولا شك أن هناك ذلك المطلق الذي نظر إليه هيجل، بطريقته الشاذة، على أنه الحقيقة العينية الوحيدة، ولكنا لا نستطيع الوصول إليه إلا على نحو مجرد، بوصفه مثلا أعلى لا يتوصل إليه.
ولا يفرق هيجل بين منطقه وميتافيزيقاه؛ فالديالكتيك، كما يفهمه، قانون للفكر وقانون للوجود في آن واحد، ولو نظرنا إلى الأمور نظرة سطحية لقلنا إن الشيء الذي تبدو له في نظرنا أكثر حقيقة، هو الشيء الفردي أو الجوهر. ولكنا إذا تأملنا هذا الشيء الفردي أو الجوهر في ذاته، لوجدناه يستحيل إلى مجرد تجريد؛ أي مجرد «وجود» لا يمكن تمييزه من أي شيء آخر. ولنقل إن أي شيء لا يغدو حقيقيا
real ، إلا بقدر ما يختفي فيه الطابع الجزئي المجرد، مثلما أن الكائن البشري في نظر هيجل لا يصبح شخصا إلا بقدر ما يتنازل عن ادعائه الفردانية ويقنع بأن يعد وجها من أوجه الكل الاجتماعي الذي ينتمي إليه. فالجزئي البحت مجرد، والكل العيني هو وحده الحقيقي. والكيان الوحيد الذي يتصف بالعينية أو الحقيقة الكاملة هو ذلك الكل الذي لا يعبر عنه؛ أي «المطلق» ذاته، وكل ما عدا ذلك - إن كان ثمة أي شيء عدا ذلك - ليس إلا «لحظة» في المطلق. وهكذا ينتهي به الأمر إلى فكرة ممتنعة يقصد منها القضاء على كل الأفكار الممتنعة؛ إذ يرى أن الحقيقية العينية الوحيدة تظل في نظرنا مثلا أعلى للعقل يتحقق دائما بعمليات خاصة ليس لها أي وجود «حقيقي ».
ومن السهل، وسط هذه الغوامض، أن تغيب عن بال المرء الدلالة الإنسانية لفلسفة هيجل؛ فكثيرا ما يتهم هيجل بالالتواء المتعمد، ولكن لا شك في أن رده هو أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتصور حقيقة هي أكثر التواء. فالمرء يلمس في فلسفته بأسرها شعورا طاغيا بتغير كل الأشياء، وتسلطا رومانتيكيا للفكرة القائلة بوجود نقص كامن في كل نشاط ونظام بشري. وهو يجمع، على نحو غريب، بين القلق والاستسلام، وبين الطموح العقلي المفرط والتواضع الذي نجح في إخفائه. وإن قراءته لتذكر المرء دائما بعبارة فاوست الخالدة: «ليس تماما أبدا ...» (
ever not quite )؛ ففلسفته تعد، من وجهة نظر معينة، كابوسا في نظر المنطقي، وإفسادا حقيقيا للعقل، ولكن المطلق، الذي هو وحده المعقول والحقيقي تماما في نظر هيجل، يظل مثلا أعلى للعقل لا يمكن بلوغه، ولا يمكن أن يدركه الوعي الديالكتيكي المتناهي للإنسان إلا بوصفه هدفا يسعى إليه دون انقطاع، ولا يتوصل إليه أو يفهم أبدا. ولقد أطلق على مذهب هيجل، إن كان هذا هو الوصف الذي يصدق على فلسفته، اسم الكوميديا الإلهية الفلسفية. ولهذا المذهب قطعا أوجهه الكوميدية، ولكن ما يعرضه أقرب، في المنظور البشري، إلى المأساة (التراجيديا) منه إلى الكوميديا. والحق أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن هيجل قد حلل في مذهبه الفلسفي الضخم عن الفن، معنى المأساة على نحو أعمق مما فعل أي فيلسوف حديث آخر؛ فالمأساة في نظره عقلية وأخلاقية أو ميتافيزيقية في آن واحد، وهي مظهر لا مفر منه لحياتنا الجزئية المتناهية المتغيرة المنشقة على ذاتها.
ولنعد الآن إلى فلسفة التاريخ في هيجل. فلنقل باختصار إن هيجل يعد كل تغير تاريخيا، وينظر إلى التاريخ ذاته على أنه هو الديالكتيك كما يتبدى في الزمان. وهو بهذا المعنى حركة هائلة أشبه برقصة الفالس،
2
من القضية إلى نقيضها إلى المركب بحيث تمثل كل خطوة مرحلة أعلى في التطور الذاتي المطلق؛ في التطور الديالكتيكي للأفكار، الذي يطلق عليه هيجل اسم «المنطق»، لا تنكر أية قضية إنكارا كاملا نهائيا، كما أن أي نجم لا يأفل تماما في ديالكتيك التاريخ. وكل لحظة تاريخية، إذ تقضي على سابقتها، تقتبس منها في الوقت ذاته ما هو هام فيها، وتحتفظ بها بوصفها مظهرا لواقع اجتماعي أكثر ثراء وشمولا. وإذن فلكل جيل جديد، من وجهة نظر هيجل، أن يعد نفسه محطم الحضارة التي ورثها من الجيل السابق عليه، وكذلك حافظها والناهض بها في آن واحد. والواقع أن حضارتنا الغربية ذاتها هي، من وجهة نظر معينة، شيء جديد تحت الشمس. غير أن كل ما كان ذا أهمية حيوية في حضارات اليونان وروما وجوديا ومسيحية العصور الوسطى، لم يضع «حقيقة»، وإن تكن حضارتنا الحالية قد حورته وتجاوزته جزئيا. والواقع، في نظر هيجل، أن الدلالة الكامنة في هذه الحضارات تتكشف لنا على نحو لم يكن ميسورا لليونانيين والرومانيين واليهود القدماء، بل وللمسيحيين أنفسهم. ولهذا السبب استطاع هيجل أن يدعي فهم المسيحية أفضل مما فهمها آباء الكنيسة، وفهم الدلالات التي تنطوي عليها الفلسفة اليونانية خيرا مما فهمها أفلاطون وأرسطو.
ولكن لهذه الفكرة وجها آخر؛ ذلك لأنه إذا كان في وسعنا فهم «فكرة» اليونان أو المسيحية أفضل من اليونانيين القدماء والمسيحيين أنفسهم (نظرا إلى موقعنا في التاريخ)، فليس في استطاعتنا أن نحيا حياتهم من جديد، أو أن نعيد إقامة الظروف الحضارية للمجتمعات التي عاشوا فيها. وهكذا فإن هيجل، رغم إعجابه الشديد باليونانيين، لم تكن تشوب فكره أية شائبة من تلك «العقلية العتيقة» كما أسماها المؤرخ توينبي، وهي العقلية التي تميز أولئك الذين يرجعون القهقرى، بفكرهم، إلى حضارة سابقة ما يعدونها العصر الذهبي. كذلك عد هيجل نفسه «مسيحيا»، ولكن فلسفته لم يكن فيها أثر لذلك التعلق بالعصور الوسطى، الذي تميز به كثير من رومانتيكيي عصره.
والتاريخ عند هيجل عملية ديالكتيكية وروحية معا، وهكذا نظر إليه على أنه التكشف أو التطور الذاتي الديالكتيكي لما هو غير مشروط على الإطلاق؛ أي للمطلق ذاته، وهذا يعني، بتعبير أكثر عبثية، أن من الواجب النظر إلى التغير التاريخي على أنه صراع مستمر نحو الحرية الروحية للبشر. وكل مرحلة في هذه العملية هي مرحلة (أعلى) بالنسبة إلى ما سيتلوها. ولو نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر ما سيحدث، فإن أي شيء يبدو أنه يقاوم التغير هو، بهذا المعنى، شر، ولكنه، من حيث هو تحقيق واكتمال لما سبقه، هو، بهذا المعنى، خير. ومن الشائع أن ينظر إلى هيجل على أنه محافظ متطرف، وهو بالفعل قد أخذ في سنواته الأخيرة يزداد تأكيدا لأهمية التراث والنظم الثابتة بوصفها نواقل للحضارة. غير أن تفكيره، كما رأى ماركس فيما بعد، ينطوي أيضا على جانب ثوري، ومذهبه ذاته يرى في حتمية تغير كل تراث وكل نظام مجرد حقيقة من حقائق الحياة. والواقع أن فلسفة هيجل محافظة وثورية في آن واحد. ولقد كان هيجل نفسه يميل شخصيا إلى الجانب المحافظ، غير أنه كان في الوقت ذاته شاعرا بأن العصر الذي كان يمثل روحه كان موشكا على الزوال.
وكتاب هيجل في «فلسفة التاريخ» هو في أساسه لاهوت أخلاقي
theodicy ،
3
مثل كتاب القديس أوغسطين «مدينة الله» الذي يشبه كتاب هيجل هذا من نواح عديدة. فهو لا يهتم بالتاريخ من حيث هو مجرد سرد لحوادث متعاقبة في الزمان. بل إن وصف أية حضارة هو بالنسبة إليه مجرد تمهيد لتحديد دلالتها الروحية بالنسبة إلى العصر الحاضر. وحين ينظر تفكيرنا الاجتماعي إلى حضارتنا هذه على أنها النتيجة التاريخية المحتومة لتطور مستمر للمجتمع، فإن هذا التفكير يكتسب تحددا ودقة ما كانت لتتوافر له لو كان يبدأ في بحث مشاكلنا (من الصفر). وعلى هذا النحو أيضا يمكننا التغلب على الشعور بالعزلة الروحية التي هي آفة الحياة الحديثة؛ فالدراسة الفلسفية للتاريخ تكشف لنا عن اتصال في المقصد والغاية بيننا وبين أسلافنا.
ومع ذلك فإننا إذا فهمنا الطابع الديالكتيكي للتطور التاريخي، فلن يؤدي هذا الوعي التاريخي إلى حرماننا من الشعور بفرديتنا أو بالفوارق بين أحوالنا وأحوال من سبقونا. وليست الدلالات الروحية للسجل التاريخي شيئا «معطى»، وإنما هي نتيجة نظر فلسفي. وبالمثل فإن «الضرورة» المنسوبة إلى التقدم الديالكتيكي للبشر خلال العصور ليست مجرد واقعة «اعتباطية» أخرى نجدها هناك على نفس النحو الذي نكتشف به أن قيصر كان أصلع. بل إن من المحال عندما نقرأ التاريخ قراءة «آلية» على أنه مجرد حوادث جزئية متعاقبة، أن ندرك أية ضرورة فيه. «فالضرورة»، كما لاحظ كانت، هي تصور عقلي ينبغي أن نقرأه نحن أنفسنا في هذا السجل. وكما قال فشته، فليس من الممكن أن يعزى إلى التاريخ أي مقصد أو أية ضرورة إلا لأننا نريد أن ننظر إلى التاريخ من خلال صورة الروح أو العقل. وإذا كنا ننسب إلى هذا التفسير الروحي «واقعية»، فينبغي أن نذكر أن الواقعية عند هيجل ليست شيئا في ذاته نهتدي إليه بمجرد التطلع، وإنما هو تركيب مثالي للروح ذاتها.
وهكذا فإن «ميتافيزيقا» التاريخ ليست ناتجا ثانويا محتوما لدراسات تاريخية خالصة لسجل الحوادث الماضية، وإنما هي شيء لا يتوصل إليه إلا بالتفكير في ذلك السجل عندما يفهم ديالكتيكيا من خلال الروح؛ أي عندما نضفي نحن أنفسنا على ما حدث اتجاها أو هدفا. والأمر الذي يجوز أن هيجل لم يدركه بوضوح هو أن الصبغة التي أضفاها على التاريخ ليست هي الصبغة الروحية الوحيدة التي يمكن أن يصطبغ بها التاريخ، وأن لغيره نفس الحق في أن ينظر إلى التاريخ، كما فعل المانويون،
4
على أنه صراع لا نهاية له بين قوى متعارضة، مما يجعل المسألة الروحية أمرا مشكوكا فيه في آخر الأمر، بل إن البعض قد ينظر إلى التاريخ على أنه سجل للإخفاق المنظم الذي يلحقه الواقع بكل أماني البشر. ولكن هيجل لا ينبئنا بالسبب الذي ينظر من أجله إلى تفسيره على أنه أكثر «معقولية» من سائر التفسيرات، وإن يكن من العسير أن نرى، في ضوء تفكيره الخاص، كيف يتسنى له إنكار «صحة» تلك التفسيرات الأخرى، طالما أن هذه التفسيرات قد تكون معبرة، من وجهة نظرها الخاصة، عن مرحلة «أعلى» في تطور الروح البشرية. بل إن هيجل لو كان أكثر سخرية مما هو، لوجد في المذهب المتشائم الذي قال به نقيض هيجل؛ أعني شوبنهور ، مزيدا من الكمال الروحي بالقياس إلى مذهب هيجل ذاته.
وفي فلسفة هيجل فكرتان هامتان أخريان تستحقان التنويه؛ إحداهما هي فهمه للحرية. فكثيرا ما انتقد هيجل لتغييره مفهوم الحرية تغييرا أساسيا؛ إذ إنه عندما يختم وصفه لها، لا يكون قد تبقى من معناها المعتاد إلا النزر اليسير. ولكن مرد ذلك إلى أنه قد نظر إلى هذا التصور، كما نظر إلى غيره، نظرة ديالكتيكية، وهي نظرة تتجه فيها أية فكرة، إذا ما فهمت فهما كافيا، إلى ضدها. وينظر هيجل إلى المسألة على النحو الآتي؛ فالمرء ينظر في البداية إلى الحرية على أنها فعل لما يحلو له. ويعتقد هيجل أن هذا الفهم للحرية هو أكثر التجريدات هزالا، وهو خال من أي معنى أخلاقي. وإنما الحرية عنده قدرة المرء على تحقيق ذاته، وليست الذات أنا محضا، وإنما هي من الوجهة العينية، شخصية ذات ميول وقدرات محددة. ويتوقف كنه هذه الميول والقدرات تماما على ما يتلقاه الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه من تدريب وتعليم. وإذن فأول خطوة نحو معرفة المرء لذاته وتثقيفه لذاته هي اعتراف المرء بانتمائه إلى مجتمع متطور تاريخيا، وعلى هذا النحو وحده يهتدي المرء إلى ذاته بوصفه كائنا بشريا متكاملا؛ فالشخص الحر هو ذلك الذي يعرف كيف يفرض بنفسه على نفسه تلك الواجبات والمسئوليات التي تحملها إياه الدولة، وهي في نظر هيجل أعلى النظم الاجتماعية.
وفي فلسفة هيجل شواهد تدل على أن عقليته كانت بيروقراطية إلى حد بعيد، غير أن خصومه من النقاد قد بالغوا دون شك في صبغ مذهبه في الحرية بالصبغة المضادة للفردية والتحررية، وكذلك في إضفاء طابع مطلق على مذهب الدولة لديه. صحيح أن هيجل قد نظر إلى الدولة على أنها تجسد للحرية العاقلة، كما تحقق ذاتها وتعرف ذاتها في صورة موضوعية. فالدولة كما يقول هي فكرة الروح في التجلي الخارجي للإرادة البشرية وحريتها، غير أن هذه الصور «الموضوعية» للحرية ليست هي صورها الوحيدة. ولا يمكن بلوغ أعلى صور الحضارة البشرية إلا في الفن والدين والفلسفة، التي وصفها هيجل بأنها المظاهر البشرية «للروح المطلقة»؛ فتلك مجالات للحياة الروحية تضع قوانينها لذاتها. وليس لأي نظام سياسي محض أي سلطان على تطورها الباطن.
وهكذا يتبدى في فلسفة الحرية عند هيجل ذلك الجمع الغريب بين الخضوع الظاهري للدولة، بل العبودية الظاهرية إزاءها، وبين الحرية الروحية الباطنة التي نصادفها في كثير من الأحيان لدى رجال الفكر الألمان. وفي وسعنا أن نلحظ ملامح مماثلة لدى ممثلين آخرين للعصر الذهبي للفكر الألماني، مثل ليبنتس، وجوته، بل وكانت ذاته. ومع ذلك فمن الإنصاف لهيجل أن نقول إنه ينظر إلى إطاعة الواجبات التي يفرضها المجتمع على أنها مجرد مظهر واحد للتثقيف الذاتي أو التربية الذاتية
self-culture ، ولكنه يشبه معظم المتعلقين بالتقاليد في أنه لا يتذكر دائما أن «العقل الموضوعي» الذي يتجسد في النظم الاجتماعية قد لا يكون في بعض الأحيان سوى مجموعة من السنن والقواعد المتراكمة التي تفرض ذاتها بجمود، ولا تعود تخدم الوظائف «الروحية» الكامنة من ورائها. والواقع أن تمجيده المفرط للدولة البروسية لا يليق بفيلسوف ينظر إلى فلسفته كلها، بمعنى معين، على أنها تفكير في مشكلة الحرية البشرية.
بقيت لنا كلمة عن فلسفة الدين عند هيجل؛ فقد ولد هيجل لوثريا، وكان في نيته، كما قال ذات مرة، أن يموت كذلك. غير أن مسيحيته لا شأن لها بالنزعة إلى التمسك بأصول الدين؛ ذلك لأن هيجل، شأنه شأن كثير من المسيحيين «المتحررين» الذين كان تأثيره عليهم هائلا، لم ينظر إلى الإنجيل على أنه سجل لحقائق تاريخية، وإنما على أنه كتاب من الرموز لا يمكن فهم معناه الباطن على النحو الصحيح إلا بعد قدر كبير من التفسير الفلسفي. وليست مسألة وجود الله، كما تفهم عادة، بالمشكلة في نظره. وهذا لا يعني أن على الذهن العقلي أن يتخلى عن الدين عامة أو عن المسيحية خاصة، بل إن الدين عند هيجل «يستبق الفلسفة»، «وما الفلسفة إلا دين واع»، وعلى ذلك فهو ينظر إلى فكرة التجسد المسيحية على أنها تعبير أسطوري متقدم عن فلسفته هو، وهي الفلسفة التي ترى في التاريخ تجسدا تدريجيا للروح المطلقة. وهكذا فإن ما يعرفه الإنجيل في صورة مجازية على أنه «وحي»، هو بعينه ما يحاول هيجل تبريره في صورة أكثر نقدية أو معقولية. والعنصر المشترك بين الاثنين هو الحاجة الدينية إلى تبرير التاريخ البشري في مجموعه، والنظر إليه على أنه يزيد عن كونه «أسطورة لا معنى لها يرويها مخبول».
على أن هناك فلاسفة مسيحيين آخرين في القرن التاسع عشر لم يتمكنوا، كما سنرى فيما بعد، من السير في الطريق الذي مهده هيجل؛ فقد نظر بعضهم إلى تفسيره العقلي لفكرة المسيح في الكتب المقدسة على أنه مجرد خطوة أخرى نحو صبغها بصبغة دنيوية، ومن ثم نحو القضاء على الحضارة المسيحية بعد ذلك. ففي رأيهم أن طريقة تفسير الإنجيل تتجاوز تماما تلك الادعاءات الوجودية الجدية التي ينطوي عليها ذلك الكتاب. ولقد اتهمه خصمه الأكبر، كيركجورد، صراحة بأنه كان في قرارة نفسه ملحدا يخفي تجديفه وراء قناع من الرموز. ف «مسيحية» هيجل كانت في نظر كيركجورد نموذجا لمسيحية الدنيوي البرجوازي، الذي يسعى إلى التمتع بصفة مسيحية غامضة، بينما يرفض في الوقت ذاته التقيد بأي من التزامات العقيدة المسيحية.
ويمكن القول، دفاعا عن هيجل، إن نظرة المسيحية الأولى إلى العالم لم تعد، في رأيه اختيارا حيا للأذهان المفكرة التي ظهرت بعد عصري العقل والتنوير. والسبيل الوحيد إلى بقاء هذه الأذهان مسيحية، هو الأخذ بتلك المبادئ التي تنطوي عليها فلسفته الدينية. فاستحالة العودة إلى المنظور الديني للمسيحية الأولى لا تقل، من وجهة نظر هيجل، عن استحالة إحياء النظم السياسية اليونانية القديمة. وعلى الرغم من كل ما قاله هيجل عن المطلق، فقد كان عمق وعيه التاريخي - وبالتالي النسبي - من أكبر العوامل المنفردة التي أدت في القرن التاسع عشر إلى تدهور النزعة المطلقة الدينية والفلسفية. ولقد بلغ من سخرية الأقدار من نوايا هيجل، أن القضاء على المطلق قد تم، إلى حد بعيد، على يديه هو ذاته.
والنص الآتي مقتطف من مقدمة كتاب هيجل «محاضرات في فلسفة التاريخ».
5 ⋆ «والنوع الثالث من التاريخ هو التاريخ الفلسفي. ولم يكن النوعان السابقان بحاجة إلى إيضاح، بل كان تصورهما مفهوما بذاته. والأمر ليس كذلك في هذا النوع الأخير الذي يبدو أنه يحتاج قطعا إلى شرح أو تبرير. وأعم تعريف يمكن الإتيان به هو أن فلسفة التاريخ لا تعني إلا تأمله من خلال الفكر. والفكر في الواقع أساس للبشر، وهو الذي يميزنا عن البهائم. والفكر عنصر مشترك يظهر في الإحساس والتعرف والتعقل، وفي غرائزنا بقدر ما تكون بشرية بحق. ولكن تأكيد أهمية الفكر في هذا الصدد مع التاريخ قد لا يبدو أمرا مرضيا؛ إذ يبدو كأن من المحتم على الفكر، في التاريخ، أن يخضع لما هو معطى؛ أي لما هو موجود، بحيث يبدو هذا الأخير كأنه هو أساس هذا العلم وموجهه، في حين أن الفلسفة تنتمي إلى مجال الأفكار التي يجلبها النظر الفكري (
Spekulation ) من ذاته، دون إشارة إلى الواقع الفعلي. فإذا ما طرق النظر الفكري مجال التاريخ متأثرا بهذا الرأي، فقد يتوقع منه أن ينظر إلى التاريخ على أنه مادة سلبية فحسب، وأن يرغمه على الاتفاق مع فكرة تسوده، بدلا من أن يتركه في حقيقته الأصيلة، وأن يشيده، كما تقول العبارة المعروفة «بطريقة أولية». ولكن لما كانت مهمة التاريخ لا تزيد على أن يضم إلى سجلاته ما هو الآن، وما كان من قبل، حوادث وأفعالا، ولما كان يغدو أصدق بقدر ما يتمسك بالوقائع الموجودة بدقة، فيبدو لذلك أن الفلسفة عملية مضادة تماما لعمل المؤرخ. وسوف نعمل فيما بعد على إيضاح ودحض هذا التناقض، ومعه التهمة التي توجه نتيجة لذلك إلى النظر الفكري. ومع ذلك فليس في نيتنا تصحيح التشويهات الخاصة الهائلة العدد، التي ظهرت من قبل ويتكرر ظهورها على الدوام، بشأن أهداف البحث التاريخي وعلاقته بالفلسفة، وفوائد هذا البحث وطرقه.
إن الفكرة الوحيدة التي تدخلها الفلسفة على تأمل التاريخ، لا تعدو أن تكون فكرة «العقل»؛ أي الفكرة القائلة إن العقل يسود العالم، وإن تاريخ العالم بالتالي يكشف لنا عن عملية عاقلة. هذا الاعتقاد والحدس هو فرض في مجال التاريخ من حيث هو تاريخ فحسب، أما في مجال الفلسفة فهو ليس فرضا، بل إن المعرفة النظرية (
spekulative ) تثبت في هذا المجال أن العقل - وهو في هذا المجال تعبير كاف، دون بحث العلاقة التي تربط الكون بالكائن الإلهي - هو جوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية، وأن مادته اللامتناهية - الكامنة من وراء كل حياة مادية وروحية تولدها، هي أيضا الصورة اللامتناهية - هي التي تبعث الحركة في تلك المادة. وفضلا عن ذلك فالعقل هو الجوهر، الذي تكتسب كل حقيقة وجودها وبقاءها في الوجود منه وفيه. وهو القوة اللامتناهية للكون؛ إذ إن العقل ليس من العجز بحيث يعجز عن إنتاج أي شيء ما عدا مجرد مثل أعلى، ومجرد مقصد، مكانه يقع خارج الواقع، حيث لا يعلم أحد؛ أعني شيئا مفارقا مجردا، في رءوس بعض الكائنات البشرية. كما أن العقل هو المركب اللانهائي للأشياء، وهو ماهيتها وحقيقتها الكاملة، وهو مادة ذاته، التي تعهد بها ذاته إلى فاعليتها لتشكيلها؛ إذ إنه لا يحتاج، كما يحتاج الفعل المتناهي، إلى شرط مادة خارجية مؤلفة من وسيلة معينة، يكتسب منها دعامته وموضوعات فاعليته، وإنما هو يأتي بغذائه الخاص معه، وهو موضوع عملياته. وإلى جانب كونه هو الشرط الوحيد لوجوده الخاص، وهدفه النهائي المطلق، فإنه أيضا القوة الفعالة العاملة على تحقيق هذا الهدف، وبعثه، لا من باطن ظواهر الكون الطبيعي فحسب، بل من باطن ظواهر الكون الروحي أيضا؛ أي في تاريخ العالم. أما أن هذه «الفكرة» أو «العقل» هي الماهية الحقة، الأزلية الفعالة على نحو مطلق، وأما أنها تتكشف في العالم، وأنه لا شيء في هذا العالم يتكشف سوى هذه الفكرة أو العقل وشرفه ومجده، فتلك هي القضية التي ثبتت، كما قلنا، في الفلسفة، والتي نعدها هنا مبرهنا عليها. •••
وسأكتفي هنا بذكر صورتين ووجهتي نظر تتعلقان بالاعتقاد المنتشر عامة بأن العقل قد ساد العالم وما زال يسوده، وبالتالي ساد تاريخ العالم؛ ذلك لأنهما يتيحان لنا في آن واحد فرصة للقيام باختبار أدق للمسألة الرئيسية التي تتمثل فيها أعظم صعوبة، ولإيضاح ما سيكون علينا التوسع فيه فيما بعد.
إحدى هاتين النقطتين هي تلك الرواية التاريخية التي تنبئنا بأن أنكساجوراس اليوناني كان أول من نادى بالمذهب القائل إن «النوس
nous »؛ أي الذهن عامة، أو العقل، هو الذي يحكم العالم. وليس المقصود هنا هو الذكاء بوصفه عقلا شاعرا بذاته - ولا الروح بما هي كذلك - فهذان معنيان ينبغي تمييز كل منهما من الآخر. فحركة النظام الشمسي تحدث وفقا لقوانين ثابتة، وهذه القوانين هي العقل من حيث هو كامن في الظاهرة المشار إليها. ولكن لا الشمس ولا الكواكب التي تدور حولها وفقا لهذه القوانين، لديها وعي بتلك القوانين. •••
أما الصورة الأخرى التي ظهرت فيها هذه الفكرة القائلة إن العقل يوجه العالم - في صدد تطبيق آخر لها، معروف لنا جيدا - فهي صورة الحقيقة الدينية، القائلة إن العالم ليس متروكا للاتفاق وللعلل العرضية الخارجية، وإنما تتحكم فيه عناية إلهية.
ولقد قلت من قبل إني لن أستعين بإيمان القارئ فيما يتعلق بهذا المبدأ الذي قلت به. ومع ذلك فإن لي أن أهيب بإيمان القارئ به، في هذه الصورة الدينية، «إذا كانت طبيعة العلم الفلسفي تسمح له، كقاعدة عامة، أن ينسب إلى المسلمات
Voraussetzungen
سلطة. وبعبارة أخرى، فهذه الإهابة محرمة؛ لأن العلم الذي يتعين عليها بحثه، يعلن هو ذاته أنه يأتي بالبرهان، لا على الحقيقة المجردة للمذهب، وإنما على صوابه إذا ما قورن بالوقائع، وإذن فالحقيقة القائلة إن عناية (هي العناية الإلهية) تتحكم مقدما في أحداث العالم، تتفق مع القضية موضوع البحث؛ إذ إن العناية الإلهية هي الحكمة ذات القدرة اللامتناهية، التي تحقق هدفها، وهو رسم خطة عقلية مطلقة للعالم. فالعقل هو الفكر الذي يحدد ذاته في حرية كاملة. ولكن سيظهر فارق - بل تناقض - بين هذا الاعتقاد وبين مبدئنا؛ إذ إن الاعتقاد في عناية شاملة هو بدوره اعتقاد غير محدد
unbestimunt
لا يتابع في تطبيقات محددة، أو يتبدى في تأثيره على المجموع الكلي؛ أي المجرى الكامل للتاريخ البشري. غير أن تفسير التاريخ هو وصف لانفعالات البشر، وللعبقرية والقوى الإيجابية التي تلعب دورها على المسرح الهائل، وتؤلف العملية التي تتحكم فيها العناية، والتي تتبدى في هذه الانفعالات والعبقرية والقوى، ما يسمى عامة باسم «خطة» العناية (
). ومع ذلك فإن هذه الخطة ذاتها هي التي يفترض أنها تختفي عن أنظارنا، والتي يعد من الغرور حتى أن نرغب في معرفتها. •••
غير أننا في تاريخ العالم نتعامل مع أفراد هم شعوب أو مجموعات كلية، هي دول؛ ولذلك فليس لنا أن نقنع بما يمكننا أن نسميه هذه النظرة المحدودة إلى العناية، التي يقتصر عليها الاعتقاد المشار إليه. كذلك لا يمكن الاكتفاء بالاعتقاد البحت، المجرد، غير المحدد، في عناية، بالمعنى العام، دون ربط بين ذلك الاعتقاد وبين تفصيلات الفعل الذي تقوم به هذه العناية. بل إن حماستنا ينبغي أن تتجه إلى التعرف على الطرق التي تسلكها العناية، والوسائل التي تستخدمها، والظواهر التاريخية التي تتبدى فيها، وعلينا أن نوضح ارتباط هذا كله بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه. ولكني، إذ أشرت إلى الاعتراف بخطة العناية الإلهية عامة، قد عرضت ضمنا لمسألة هامة من مسائل اليوم؛ أي مسألة إمكان معرفة الله، أو على الأصح - طالما أن الرأي العام لم يعد يسمح بجعلها موضوع سؤال - المذهب القائل إن من المستحيل معرفة الله. فعلى العكس تماما مما يقول الكتاب المقدس إنه الواجب الأسمى - أي إننا ينبغي أن نعرف الله، لا أن نحبه فحسب - فإن الفكرة السائدة الآن تنطوي على إنكار ما يقال في ذلك الكتاب من أن «الروح» هي التي توصل إلى «الحقيقة»، وهي التي تعرف كل الأشياء، وتتغلغل حتى في أعماق الألوهية. وبينما يؤدي هذا إلى وضع الوجود الإلهي فوق معرفتنا، وخارج حدود الأمور البشرية، فإن المرء يتمتع في هذه الحالة بحرية التنقل كما يشاء، في الاتجاه الذي تشاؤه تخيلاته. وهكذا يتحرر المرء من الالتزام بربط معرفته بما هو إلهي وحقيقي. ومن جهة أخرى، فإن الغرور والأنانية اللذين يميزان هذه المعرفة، يجدان في هذا الموقف الباطل مبررا قويا، كما أن التواضع التقي الذي يجعل معرفة الله بعيدة عنها، يستطيع حقا أن يقدر مدى الكسب الذي سيعود من ذلك على مطامحه الباطلة الغريرة. والواقع أني لم أشأ أن أترك الكلام عن الارتباط بين رأينا القائل بأن العقل كان وما يزال يحكم العالم، وبين مسألة إمكان معرفة الله، وذلك، قبل كل شيء، حتى لا أفوت فرصة ذكر ذلك الادعاء الموجه إلى الفلسفة بأنها مقصرة أو مضطرة إلى التقصير عن إدراك الحقائق الدينية، أو لا تملك فرصة إدراك هذه الحقائق، وهو ادعاء ينطوي على إيعاز بالشك في حسن نية الفلسفة إزاء هذه الحقائق. على أن حقيقة الأمر غير ذلك تماما، بل إن الفلسفة قد اضطرت في الآونة الأخيرة إلى الدفاع عن ميدان الدين ضد هجمات عدة مذاهب لاهوتية، ففي العقيدة المسيحية تكشف الله - أي جعل الإنسان يفهم ما هو الله، بحيث لم يعد وجوده محتجبا أو خفيا. وهذه القدرة المتاحة لنا لمعرفته، تجعل مثل هذه المعرفة واجبة؛ فالله لا يريد لخلقه أن يكونوا من ذوي النفوس الواهنة أو الرءوس الفارغة، بل يريد أناسا تكون نفوسهم فقيرة بذاتها، ولكنها غنية بمعرفته، أناسا يعدون معرفة الله ذخيرتهم الوحيدة. هذا التطور للروح المفكرة، الذي نشأ من تكشف للوجود الإلهي بوصفه أساسه الأصلي، لا بد أن يمتد آخر الأمر إلى الفهم الفكري لما كان ماثلا أول الأمر، للروح الشاعرة المتخيلة، ولا بد أن يأتي وقت يفهم فيه هذا الناتج الزاخر للعقل الإيجابي، الذي يتيحه لنا تاريخ العالم. ولقد كان الشائع في وقت من الأوقات إبداء الإعجاب بحكمة الله كما تتبدى في الحيوانات والنباتات والحوادث المنفردة. ولكن، إذا سلمنا بأن العناية تتمثل في مثل موضوعات الوجود وصوره هذه، فلماذا لا نسلم بوجودها أيضا في التاريخ العالمي؟ إن هذا الأخير يعد أضخم من أن يخضع للعناية. غير أن الحكمة الإلهية؛ أي العقل، هي بعينها فيما هو كبير وما هو صغير، وعلينا ألا نتصور الله على أنه أضعف من أن يمارس حكمته على النطاق الضخم. والغاية التي تستهدفها معرفتنا هي تحقيق الاعتقاد بأن ما قصدته الحكمة الأزلية، قد تحقق فعلا في مجال الروح الإيجابية الفعالة في العالم، مثلما تحقق في مجال الطبيعة الخالصة ؛ فبحثنا في هذا الموضوع هو، من هذه الناحية، «ثيوديسية»؛ أي تبرير للمسالك الإلهية، مماثل لذلك الذي حاول ليبنتس القيام به، بطريقة ميتافيزيقية، في منهجه؛ أي بمقولات مجردة غير محددة؛ لكي يستطيع عن طريقه فهم الشر الموجود في العالم، والتوفيق بين الروح المفكرة وبين وجود الشر. والواقع أن مثل هذه النظرة التوفيقية هي ألزم ما تكون في مجال التاريخ العالمي، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالاعتراف بالوجود الإيجابي الذي يخضع له، ويتلاشى فيه، هذا العنصر السلبي. فلا بد من جهة أن يدرك أن هذا القصد النهائي من العالم، ولا بد من جهة أخرى أن يدرك أن هذا القصد قد تحقق فيه بالفعل، وأن الشر لم يتمكن من أن يضمن لنفسه على الدوام مركزا يسمح له بمزاحمته.
إن السؤال عن مصير العقل في ذاته يعادل - بقدر ما يكون ذلك العقل مرتبطا بالعالم - السؤال عن الغاية القصوى للعالم. وهذا التعبير الأخير ينطوي على القول بأن هذا الغرض مقصود منه أن يتحقق. وهنا تعرض لنا مسألتان للبحث؛ أولاهما هي دلالة هذه الغاية القصوى؛ أي تعريفها بما هي كذلك. وثانيها هو تحقيقها.
فأولا ينبغي أن يلاحظ أن موضوع بحثنا - أي التاريخ العالمي - ينتمي إلى مجال الروح، ويشمل لفظ «العالم» الطبيعة المادية والنفسية؛ فللطبيعة المادية هي الأخرى دور تقوم به في تاريخ العالم، ولا بد من توجيه الاهتمام منذ البداية إلى العلاقات الطبيعية الأساسية التي ينطوي عليها مثل هذا الدور. غير أن الروح، ومجرى تطورها، هي الأساسية. ومهمتنا لا تقتضي منا تأمل الطبيعة بوصفها نسقا عاقلا في ذاته - وإن تكن تثبت في مجالها الخاص أنها بالفعل كذلك - من حيث علاقتها بالروح فحسب. والروح تتكشف على حقيقتها الأكثر عينية في ذلك المسرح الذي نلاحظها منه؛ أي في التاريخ العالمي. ورغم ذلك (أو بالأحرى، من أجل فهم المبادئ العامة التي تتضمنها فاعليتها العينية هذه) ينبغي علينا أن نفترض مقدما بعض الخصائص المجردة عن طبيعة الروح. على أن من المحال أن يتخذ هذا الشرح هنا أية صورة سوى صورة التأكيد المحض. فليس هنا مجال للكشف نظريا عن فكرة الروح؛ إذ إن الموضوع الذي يحتل مكانا في مقدمة ينبغي، كما لاحظنا من قبل، أن ينظر إليه على أنه تاريخي فحسب؛ أي أن يؤخذ على أنه شيء شرح وأثبت في موضع آخر، أو سيثبت إثباتا لاحقا في علم التاريخ ذاته.
إذن ينبغي أن نذكرها هنا: (1)
الخصائص المجردة لطبيعة الروح. (2)
والوسائل التي تستخدمها الروح لتحقيق فكرتها. (3)
وأخيرا، ينبغي أن ننظر في الشكل الذي يتخذه التحقق الكامل للروح؛ أي الدولة. (1)
يمكن إدراك طبيعة الروح بتأمل ضدها التام، وهو المادة. وكما أن ماهية المادة هي الثقل (الجاذبية)، فعلينا أن نقول إن جوهر الروح وماهيتها هي الحرية. وإن كل شخص ليوافق دون عناء على الرأي القائل بأن الحرية صفة من صفات الروح، غير أن الفلسفة تذكر أن جميع خصائص. الروح لا توجد إلا من خلال الحرية، وأن هذه الخصائص لا تعدو أن تكون وسيلة لبلوغ الحرية، وأنها كلها تسعى إلى بلوغ الحرية، والحرية وحدها. فالنظر الفلسفي يفضي إلى القول إن الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح. والمادة تتصف بالثقل نظرا إلى اتجاهها نحو نقطة مركزية. وهي مركبة بالضرورة، تتألف من أجزاء يستبعد كل منها الآخر. وهي تسعى إلى وحدتها، وبالتالي تتبدى قاضية على ذاتها، وساعية إلى ضدها (أي النقطة غير المنقسمة). ولو أمكنها أن تصل إلى ضدها هذا، لما عادت مادة، ولقضت على ذاتها؛ فهي تسعى إلى تحقيق حالتها الفكرية أو المثالية؛ ففي الوحدة يكون وجودها فكريا أو مثاليا.
أما الروح فيمكن تعريفها بأنها ما يوجد مركزه في ذاته. فليست لها وحدة خارجها، بل إنها تملك بالفعل وحدتها، وهي توجد في ذاتها ومع ذاتها. وعلى حين أن ماهية المادة توجد خارجها، فإن الروح وجود مع ذاته. وهذه هي الحرية بعينها؛ إذ إنني عندما أكون غير مستقل، يكون وجودي مرتبطا بشيء آخر مختلف عني، ولا أستطيع أن أوجد مستقلا عن شيء خارجي. وعلى العكس من ذلك، فإني أكون حرا عندما يتوقف وجودي على ذاتي. وما وجود الروح المنطوي على ذاته هذا سوى الشعور بالذات؛ أي شعور المرء بوجوده. وعلينا أن نميز بين أمرين في الشعور:
أولهما كوني أعرف، وثانيهما ما أعرفه. أما في الشعور بالذات، فالأمر أن يندمجان في شيء واحد؛ إذ تعرف الروح ذاتها، ويكون في ذلك حكم لها على طبيعتها الخاصة، كما أن فيه فاعلية تتيح لها تحقيق ذاتها، وجعلها بالفعل ما تكونه بالقوة. ويمكن القول، على أساس هذا التعريف المجرد، إن التاريخ العالمي عرض للروح وهي تستخلص معرفة ذلك الذي تكونه في ذاتها. وكما تنطوي البذرة في ذاتها على طبيعة الشجرة بأسرها، وعلى طعم ثمارها وشكلها، فكذلك تنطوي أول آثار الروح بالقوة على ذلك التاريخ بأسره؛ فالشرقيون لم يصلوا إلى المعرفة القائلة إن الروح - أي الإنسان بما هو كذلك - حرة، ولعدم توافر هذه المعرفة لديهم، فإنهم لم يكونوا أحرارا، وكل ما عرفوه هو أن فردا معينا حر. غير أن حرية هذا الفرد تغدو؛ لهذا السبب ذاته، مجرد نزوة، وهمجية، واندفاع وحشي للانفعال، أو اعتدال وكبح للرغبات، هو في ذاته عرض من أعراض الطبيعة، وبالتالي فهو نزوة كسابقه. وإذن فهذا الفرد ليس إلا طاغية، لا إنسانا حرا. ولم يظهر الشعور بالحرية لأول مرة إلا لدى اليونانيين؛ ولذا كانوا أحرارا، غير أنهم، كالرومان، لم يدركوا إلا أن البعض وحدهم هم الأحرار، لا الإنسان بما هو كذلك. بل إن أفلاطون وأرسطو ذاتهما لم يدركا ذلك؛ ولذا كان لدى اليونانيين رقيق، وكانت حياتهم بأسرها، وكذلك كان الاحتفاظ بحريتهم الرائعة، مرتبطين بنظام الرق، وهي حقيقة أدت فضلا عن ذلك، إلى جعل تلك الحرية نموا عرضيا عابرا محدودا من جهة، وجعلت منها من جهة أخرى، عبودية صارمة لما هو بشري؛ أي إنساني. ولقد كانت الأمم الألمانية، بتأثير المسيحية، أول من وصلت إلى الشعور بأن الإنسان، بما هو إنسان، حر، وإلى أن حرية الروح هي التي تكون ماهيتها. وقد ظهر هذا الشعور، أول ما ظهر، في الدين، وهو أشد مجالات الروح تغلغلا، غير أن إدخال هذا المبدأ في مختلف علاقات العالم الفعلي ينطوي على مشكلة أوسع نطاقا من مجرد تنفيذ هذا المبدأ، فتلك مشكلة يحتاج حلها وتطبيقها إلى عملية حضارية شاقة طويلة الأمد. والدليل على ذلك، مثلا، أن الرق لم ينته بعد قبول المسيحية مباشرة، كما لم تسد الحرية بين الدول، ولم تتخذ الحكومات ولا الدساتير تنظيما عقليا، أو تعترف بالحرية أساسا لها. بل إن هذا التطبيق للمبدأ على العلاقات السياسية، وتشكيل هذا المبدأ لتركيب المجتمع وتغلغله فيه، هو ذاته ذلك المسار الطويل الأمد، الذي يكون التاريخ ذاته. ولقد سبق لي التنبيه إلى التمييز المتضمن هنا، بين المبدأ في ذاته وبين تطبيقه؛ أي الأخذ به وتنفيذه في الظواهر الفعلية للروح والحياة. وتلك نقطة لها أهميتها الكبرى في علمنا، وينبغي أن نذكر على الدوام أنها أساسية. وكما أن هذا التمييز قد استرعى الانتباه في صدد المبدأ المسيحي القائل إن الشعور بالذات والحرية شيء واحد، فإنه يتمثل أيضا بصورة أساسية في صدد مبدأ الحرية بوجه عام. وما تاريخ العالم إلا تقدم الشعور بالحرية، وهو التقدم الذي يتعين علينا هنا تتبعه في ضرورته الكامنة. •••
في رأينا أن مصير العالم الروحي، بل الغاية القصوى للعالم بأسره - إذ إن العالم الروحي هو العالم الأهم، في حين يظل العالم المادي خاضعا له، أو بلغة النظر الفلسفي، لا تكون له حقيقة في مقابل الروحي - إنما هو شعور الروح بحريتها، وبالتالي حقيقة هذه الحرية. غير أن العصور الحديثة قد أدركت بوضوح يفوق إدراك كل ما عداها من العصور، أن لفظ «الحرية» هذا، إن لم يلحقه وصف آخر، يظل لفظا غامضا، غير محدد، ولا يعول عليه. وأنه، في حين أن مدلوله هو أقصى ما يطمح في الوصول إليه، فإنه معرض لشتى أنواع سوء الفهم والخلط والخطأ، ومعرض لأن يكون موضوعا لجميع أنواع التطرف الخيالي. ومع ذلك فلزام علينا، في الوقت الحالي، أن نقنع باللفظ ذاته دون مزيد من التعريف. ولقد نبهنا أيضا إلى أهمية الفارق الهائل بين المبدأ مجردا، وبين تحقيقه عينيا. وفي مجالنا هذا سوف تعرض الطبيعة الأساسية للحرية - التي تنطوي في ذاتها على ضرورة مطلقة - على أنها الوصول إلى شعور بالذات (إذ إنها تبعا لتصورها ذاته معرفة بذاتها)، وعلى أنها تحقق بذلك وجودها؛ فهي ذاتها الهدف الذي تسعى إلى بلوغه والهدف الوحيد للروح. وتلك هي النتيجة التي ظلت عملية التاريخ العالمي تستهدفها على الدوام، والتي قدم من أجلها من القرابين ما ظل يوضع دون انقطاع على مذبح الأرض الواسعة، طوال الأحقاب التاريخية الطويلة.
وهذا هو الهدف الوحيد الذي يرى ذاته متحققا ومنفذا، وهو القطب الوحيد الساكن وسط التغير الدائم للحوادث والظروف، والمبدأ الوحيد الفعال الذي يسودها.
وهذه الغاية القصوى هي مقصد الله من العالم، غير أن الله موجود مطلق الكمال، ولا يمكن بالتالي أن يرغب في شيء سوى ذاته، وإرادته؛ فطبيعة إرادته؛ أي طبيعته ذاتها، هي ما نسميه هنا بفكرة الحرية، هذا إذا ترجمنا لغة الدين إلى لغة الفكر.
وإذن فالسؤال الذي يحق لنا أن نوجهه بعد ذلك مباشرة هو:
ما هي الوسائل التي يستخدمها مبدأ الحرية هذا لتحقيق ذاته؟ تلك هي النقطة الثانية التي يتعين علينا بحثها. (2)
هذا السؤال عن الوسيلة التي تكشف بها الحرية عن ذاتها في العالم يؤدي بنا إلى ظاهرة التاريخ ذاته. ورغم أن الحرية ذاتها تصور منطو على ذاته، فإن الوسائل التي تستخدمها خارجية وظاهرية، تتكشف وتتجلى لأعيننا مباشرة في التاريخ. وإن النظرة الأولى إلى التاريخ لتقنعنا بأن أفعال الناس مبعثها حاجاتهم وعواطفهم وطباعهم ومواهبهم؛ وتبعث فينا الاعتقاد بأن هذه الحاجات والعواطف والاهتمامات هي المصادر الوحيدة للفعل؛ فهي العلل الفاعلة على مسرح الفاعلية هذا. وربما وجدت ضمن هذه أهداف عامة متحررة، كالخيرية أو الوطنية النبيلة، غير أن مثل هذه الفضائل والمواقف العامة ضئيلة القيمة بالقياس إلى العالم ونواتجه، وربما أمكننا أن ندرك المثل الأعلى للعقل متحققا فيمن يستهدفون مثل هذه الأهداف، وفي مجال تأثيرهم، غير أن نسبتهم في الحق إلى مجموع البشر ضئيلة، وبهذا القدر نفسه يكون تأثيرهم محدودا. أما العواطف والغايات الشخصية ، وإرضاء الرغبات الأنانية؛ فهي أقوى الدوافع إلى الفعل. وتكمن قوتها في أنها لا تتقيد بواحد من القيود التي تفرضها عليها العدالة والأخلاقية وفي أن لهذه الدوافع الطبيعية تأثيرا أقرب إلى الإنسان من تأثير النظام الشاق المصطنع، الذي يوجه الإنسان إلى الطاعة وضبط النفس والقانون والأخلاقية. وعندما نتأمل معرض مسرح الانفعالات هذا، ونتائج عنفها، واللاعقلية التي ترتبط، لا بها فحسب، بل بالمقاصد الحسنة والنوايا الطيبة ذاتها (أو بالأحرى ترتبط بهذه الأخيرة بوجه خاص)، وعندما نتأمل الشر والرذيلة والدمار الذي لحق أكثر مجالات الروح البشرية ازدهارا؛ عندئذ لا يسع نفوسنا إلا أن تفيض أسفا على لطخة الفساد الشامل هذه. ولما كان إحداث هذا الفساد لا يقتصر على الطبيعة وحدها، بل تشترك فيه الإرادة البشرية أيضا، فإن النتيجة التي يفضي إليها تفكيرنا قد تكون شعورا بالمرارة الأخلاقية وثورة من الروح الخيرة (إن كان لا يزال لها فينا وجود). ويمكن القول، دون أية مبالغة بلاغية، إن مجرد الجمع بين مظاهر البؤس التي قهرت أقل الأمم والمدن، وأفضل أمثلة الفضيلة الشخصية، يؤلف صورة مخيفة إلى أقصى حد، ويثير انفعالات الحزن الذي لا يعادله حزن آخر في عمقه ويأسه، ولا تعوضه أية نتيجة مواسية. وهكذا نتحمل عند تأملنا لهذه الصورة عذابا عقليا لا يقبل دفاعا أو مهربا سوى القول بأن ما حدث قد حدث على هذا النحو وانتهى الأمر، وأنه قدر، وأنه ما كان في الإمكان رده، وينتهي بنا الأمر إلى الارتداد من ذلك الاشمئزاز الذي لا يطاق، والذي تهددنا به هذه الأفكار، إلى مجال حياتنا الفردية الحبيب إلى نفوسنا، إلى «الحاضر» الذي تكونه غاياتنا ومصالحنا الشخصية. ولكن حتى لو نظرنا إلى التاريخ على أنه المذبح الذي ضحيت من أجله سعادة الشعوب وحكمة الدول وفضيلة الأفراد، فلا بد أن يثار، رغما عنا، السؤال التالي: لأي مبدأ، ولأي هدف نهائي، قدمت هذه التضحيات الهائلة؟ من هذه النقطة ينتقل البحث عادة إلى ذلك الذي جعلنا منه بداية عامة لمعالجتنا للموضوع؛ فقد بدأنا من هذه النقطة، وأشرنا إلى تلك الظواهر التي تكون صورة توحي بقدر كبير من الانفعالات الكئيبة والتأملات الفكرية، بوصفها عين الميدان الذي نعتقد أنه يكشف عن وسيلة تحقيق ما نؤكد أنه المصير الأساسي، والهدف المطلق، أو - بنفس المعنى - النتيجة الصحيحة لتاريخ العالم. ولقد تعمدنا خلال هذا كله اتخاذ «التأملات الأخلاقية» منهجا للارتقاء من مجال الحوادث التاريخية الخاصة إلى المبادئ العامة التي تنطوي عليها هذه الحوادث. وفضلا عن ذلك فمثل هذه التأملات العاطفية لا تهتم فعلا بالارتفاع فوق مستوى تلك الانفعالات المحزنة، وبحل ألغاز العناية الإلهية التي أثارتها هذه التأملات؛ فمن طابعها الأساسي أن تجد رضاء كئيبا في ذلك التسامي الخاوي العقيم الذي تنطوي عليه تلك النتيجة السلبية. وعلى ذلك فسوف نردها إلى وجهة النظر التي اتخذناها، ملاحظين أن الخطوات المتعاقبة للتحليل الذي تؤدي بنا إليه، ستكشف أيضا عن الشروط اللازمة للإجابة عن الأسئلة التي توحي بها تلك اللوحة الكبيرة الزاخرة بالرذيلة والألم، والتي يكشف عنها التاريخ.
وأول ملاحظة يتعين علينا إبداؤها - وهي ملاحظة سبق إبداؤها أكثر من مرة، ولكن لا بد من تكرارها كلما بدا أن الحاجة تدعو إليها - هي أن ما نسميه بمبدأ الروح، أو هدفها أو مصيرها أو طبيعتها وتصورها، ليس إلا شيئا عاما جدا؛ فألفاظ المبدأ، والخطة الأساسية والقانون، تعبر عن ماهية كامنة غير متكشفة، ليست في ذاتها متحققة تماما، مهما كانت صحيحة في ذاتها؛ فالأهداف والمبادئ ... إلخ، ليس لها من مكان إلا في أفكارنا، وفي مقاصدنا الذاتية، لا في مجال الواقع ذاته. وما يوجد من أجل ذاته فحسب، إنما هو إمكانية أو قوة، لم ترق بعد إلى مرتبة الوجود. وهناك عنصر ثان ينبغي إدخاله لنقلها إلى مجال الفعل - هو التحقيق والواقعية، والقوة المحركة لهذا العنصر هي الإرادة - أي فاعلية الإنسان بأوسع المعاني. فبهذه الفاعلية وحدها تتحقق وتنتقل إلى مجال الفعل تلك الفكرة وتلك الخصائص المجردة بوجه عام؛ إذ لا حول لهذه الأخيرة في ذاتها. فالقوة المحركة التي تدفعها إلى العمل، وتكسبها وجودا محددا، هي حاجة الإنسان وغريزته وميله وانفعاله. فتحول فكرة معينة لدي إلى فعل ووجود، هو رغبتي الجادة؛ إذ أرغب في تأكيد شخصيتي بالنسبة إليها، وفي إرضاء ذاتي بتنفيذها. ولا بد لكي أبذل جهدي في سبيل أي هدف، من أن يكون ذلك هدفي بمعنى من المعاني. ولا بد في تحقيقي لهذا الهدف أو ذاك أن أجد في الوقت ذاته رضاء لي، رغم أن الهدف الذي أبذل نفسي في سبيله ينطوي على نتائج معقدة، ليس للكثير منها أهمية بالنسبة إلي. فالحق اللامتناهي للذات هو أنها تجد إرضاء لذاتها في فاعليتها وجهدها. ولو شاء الناس أن يكون لهم اهتمام بأي شيء، فلا بد (إن جاز هذا التعبير) أن يشركوا جزءا من كيانهم في هذا الشيء، وأن يجدوا شخصيتهم راضية عن بلوغه. وها هنا خطأ ينبغي تجنبه، فعندما نصف شخصا بأنه «مغرض» (في اشتراكه في أمر ما)؛ أي يسعى إلى نفعه الخاص وحده، نقصد من ذلك معنى الذم، وننسب الأمر إليه - عن حق - على أنه خطأ. ونحن إذ نذم هذا الشخص، ننتقده لسعيه وراء أهدافه الشخصية دون أي اهتمام بمقصد أعم، يستغله هو لتحقيق مصلحته الخاصة، بل قد يضحي به لهذا الغرض. غير أن من يجتهد في سبيل تحقيق هدف، ليس مغرضا فحسب، وإنما ينصب غرضه على هذا الهدف ذاته. وإن اللغة لتعبر عن هذا التمييز تعبيرا دقيقا. وإذن فلا شيء يحدث، ولا شيء يتحقق، ما لم يسع الأفراد الذين يعنيهم الأمر إلى تحقيق رضائهم الخاص في هذا الأمر؛ فهؤلاء الأفراد وحدات جزئية في المجتمع؛ أي إن لهم حاجاتهم وغرائزهم، وبوجه عام مصالحهم الخاصة بهم وحدهم. ولا تقتصر هذه الحاجات على ما نسميه عادة بالضرورات - كمنبهات الرغبة والإرادة الفردية - بل تشمل أيضا تلك الحاجات المرتبطة بالآراء والمعتقدات الفردية، أو إذا شئنا استخدام لفظ ينطوي على تصميم أقل، اتجاهات الرأي الفردية، هذا إذا افترضنا أن دوافع التفكير والفهم والعقل قد استيقظت. وفي هذه الحالات يود الناس، إذا لزم أن يبذلوا جهودهم في أي اتجاه، أن يكون الموضوع ذاته مقبولا لديهم، وأن يكونوا، من حيث رأيهم في خيرية هذا الموضوع وعدالته وقيمته ومنفعته، قادرين على «الاندماج فيه».
وإذن فنحن نؤكد أن شيئا لم ينجز دون اهتمام من جانب فاعليه، فإذا أمكن تسمية الاهتمام باسم الانفعال
Leidenschaft
على أساس أن الشخصية بأكملها تكرس ذاتها للموضوع بكل ذرة في إرادتها، مركزة جميع رغباتها وقواها فيه، ومتجاهلة كل اهتمام ومطلب فعلي أو ممكن آخر، ففي وسعنا عندئذ أن نؤكد على نحو مطلق أنه لم ينجز شيء عظيم في العالم دون انفعال. وعلى ذلك فموضوع بحثنا يشتمل على عنصرين؛ أولهما «الفكرة»، وثانيهما مجموعة الانفعالات البشرية المعقدة. أحدهما هو لحمة النسيج الضخم لتاريخ العالم والآخر سداه. والوسط الموحد بين الاثنين هو الحرية، في ظل شروط الأخلاقية داخل دولة. ولقد تحدثنا عن فكرة الحرية بوصفها طبيعة الروح، والهدف المطلق للتاريخ. أما الانفعال فينظر إليه على أنه شيء غير سليم، وعلى أنه قبيح بمعنى ما. وهكذا يطلب من الإنسان ألا تكون لديه انفعالات. وأنا أعترف بأن لفظ الانفعال ليس هو اللفظ الذي يلائم تماما المعنى الذي أرمي إلى التعبير عنه؛ فأنا لا أعني هنا سوى الفاعلية البشرية من حيث هي ناتجة عن اهتمامات شخصية - أي مقاصد خاصة، أو إن شئت فسمها مقاصد مبعثها حب الذات - موصوفة، مع ذلك، بصفة خاصة، هي أن كل طاقة الإرادة والشخصية تكرس لبلوغها، وأن الاهتمامات الأخرى (التي قد تكون في ذاتها أهدافا جذابة)، أو على الأصح كل الأشياء الأخرى، يضحى بها من أجلها، وهكذا يرتبط الموضوع مدار البحث بإرادة الإنسان إلى حد يجعله هو وحده المتحكم تماما في عزيمة الشخص وغير منفصل عنها. ويغدو هو ماهية إرادة الإنسان ذاتها؛ ذلك لأن الشخص إنما هو وجود محدد؛ فهو ليس الإنسان عامة (الذي هو لفظ لا يقابله وجود فعلي)، وإنما هو كائن بشري بعينه. (3)
ومن هذا الإيضاح للعنصر الأساسي الثاني في التجسد التاريخي لهدف ما، نستنتج، عندما نلقي نظرة عابرة على نظام الدولة، أن الدولة تكون سليمة الكيان قوية البنيان إذا اتفقت المصلحة الخاصة لمواطنيها مع الصالح المشترك للدولة، وإذا تحقق الأول وأرضي عن طريق الثاني، وهي قضية لها في ذاتها أهميتها العظمى. غير أنه لا بد في الدولة من اتخاذ أنظمة متعددة، ومن اختراع أجهزة سياسية عديدة، تصحبها ترتيبات سياسية ملائمة - مما يحتم صراعا طويلا للذهن قبل كشف ما هو ملائم بحق - ويتضمن كذلك صراعا مع المصالح والانفعالات الشخصية، وترويضا شاقا لهذه الأخيرة، حتى يتحقق الانسجام المنشود. وتبلغ الدولة مرحلة الازدهار والفضيلة والقوة والرخاء في العصر الذي يتحقق فيه هذا الانسجام. غير أن التاريخ العالمي لا يبدأ بهدف واع من أي نوع، كما هي الحال في المجالات البشرية الخاصة. وإن الغريزة الاجتماعية وحدها لتتضمن هدفا واعيا هو أمان الحياة وسلامة المال، وعندما يتم تكوين المجتمع، يغدو هذا الهدف أشمل. ويبدأ تاريخ العالم بهدفه العام - أي إدراك فكرة الروح - ولكن في صورة ضمنية فحسب؛ أي بوصفها طبيعة، وغريزة واعية خفية، بل هي الأشد خفاء، وتأخذ عملية التاريخ بأسرها (كما لاحظنا من قبل) اتجاها يستهدف جعل هذا الدافع اللاشعوري دافعا واعيا. وهكذا تتبدى منذ البداية الأولى، ولكن في صورة مجرد وجود طبيعي الإرادة الطبيعية؛ أي ما يسمى بالوجه الذاتي، والميل المادي والغريزة والانفعال والمصلحة الشخصية، وكذلك الرأي الخاص والفهم الذاتي، ويكون هذا المجموع الضخم للإرادات والاهتمامات والأفعال، وسائل الروح الكلية وأدواتها للوصول إلى هدفها، ونقله إلى الوعي، وتحقيقه. وما هذا الهدف سوى اهتدائها إلى ذاتها، أو عودتها إلى ذاتها، وتأملها ذاتها في تحققها العيني. أما القول بأن مظاهر الحيوية هذه في الأفراد والأمم، وهي المظاهر التي سعوا فيها إلى الاهتداء إلى أهدافهم وتحقيقها، هي في الوقت ذاته وسائل وأدوات هدف أعلى وأوسع لا يعلمون عنه شيئا، ويدركونه لا شعوريا، فذلك قول قد يكون موضوع تساؤل، بل لقد كان بالفعل موضوع شك، وأنكر وانتقد وازدري بشتى الصور، بوصفه مجرد أضغاث أحلام و«فلسفة». غير أني قد أبديت رأيي في هذه المسألة منذ البداية، وأكدت فرضنا - الذي سيظهر مع ذلك فيما يعد في صورة استدلال مشروع - واعتقادنا بأن العقل يحكم العالم، وبالتالي فقد تحكم في تاريخه. وكل ما عدا ذلك خاضع وتابع لهذا الوجود الكلي الأساسي ووسيلة لإظهاره. والقول بأن الحقيقة الوحيدة هي اتحاد الوجود الكلي المجرد عامة مع الفرد أو مع العنصر الذاتي، هذا القول ينتمي إلى مجال النظر، ويبحثه المنطق في هذه الصورة العامة. أما في عملية تاريخ العالم ذاته، وهي عملية ما زالت غير تامة، فإن الهدف النهائي المجرد للتاريخ لا يصبح بعد هو الموضوع المتميز للرغبة والاهتمام. وفي حين أن هذه المشاعر المحدودة ما زالت غير واعية بالغرض الذي تحققه، فإن المبدأ الكلي كامن فيها، ويحقق ذاته من خلالها. كذلك يتخذ السؤال صورة توحيد بين الحرية والضرورة؛ إذ تعد العملية المجردة الكامنة للروح ضرورة، أما الوجه الذي يتكشف للإرادة الواعية للناس، ويغدو موضوعا لاهتمامهم، فإنه ينتمي إلى مجال الحرية.
الفصل الخامس
العالم إرادة وتمثلا
أرتور شوبنهور (1788-1860م)
يصعب على المرء، وهو يشق طريقه بصعوبة خلال مؤلفات هيجل المعقدة، أن يتجنب الشعور بأن هيجل يعد نفسه، في تواضع محمود، مجرد وسيط شاء «المطلق» ذاته، بمحض إرادته، أن يتحدث من خلاله. ومن هنا فإن المرء يتنفس الصعداء عندما ينتقل أخيرا إلى كتابات عدوه اللدود شوبنهور، الذي يشعر المرء على التو بأن فلسفته إن هي إلا فكرة شديدة التواضع لكائن بشري واحد عن عالم لم يصنعه قط، ولا يعجب به إلا قليلا.
ولقد كانت شخصية شوبنهور عكس الشخصية الوديعة الطيبة تماما؛ ففي الوقت الذي كان فيه مدرسا شابا في جامعة برلين، يتميز بقدر كبير من الصلف والاعتزاز بالنفس، اختار أن يحاضر في نفس الساعة التي كان هيجل العظيم يحاضر فيها، وهو اختيار له مغزاه. وغني عن البيان أن قاعة محاضراته كانت خاوية. ولقد نبذته أمه، فكان من الطبيعي أن يغدو كارها للنساء. ولقد كان شوبنهور ميالا إلى المتع الحسية ولكن بحرص شديد؛ فكان يتعاطى لذاته بجرعات صغيرة على الدوام، غير أن الوسيلة الوحيدة التي اتخذها سبيلا إلى الشهرة من حيث هو إنسان، هي أن يصبح واحدا من أكبر «الكارهين» في العالم. ولهذا كان من المعقول ألا يعد، بوجه عام، واحدا من أبطال الثقافة في القرن التاسع عشر. غير أن ثمة شيئا محببا إلى النفس لدى هذا الأعزب العجوز الشاذ الطبع، المنطوي على ذاته؛ ففي تشاؤمه صدق وإخلاص. كما أن هذا التشاؤم لا يقتصر عليه وحده؛ فشوبنهور، كالشاعر الإيطالي ليوباردي،
1
يمثل ذلك الضجر من العالم والشعور بالعزلة اللذين ينطوي عليهما معظم إنتاج الحركة الرومانتيكية، واللذين لا يصعب الاهتداء إليهما حتى لدى أصحاب المذاهب التي تعد رسميا متفائلة مثل هيجل. غير أن شوبنهور رفض في إصرار أن يستخدم الدعائم الأيديولوجية التي استخدمها معظم معاصريه؛ فهو مثلا متحرر تماما من الهوس القومي الذي انتاب فشته وهيجل، كما أن كتاباته ليس فيها أثر لأسلوبهما الخطابي الممل في إعلاء الذات. وهو لا يتخذ مواقف رسمية، ولا يسمح لنفسه أبدا أن يستخدم ناطقا بلسان روح العصر. ففلسفته تبدو آخر الأمر نوعا من «الثيوديسية»
2
المعكوسة، يسعى فيها إلى تبرير اعتقاده بأن العالم شرير في أساسه، وأن المهرب الوحيد للناس العاديين إنما يكون في عالم التأمل المنزه عن الغرض، غير أن ما يطرب الذهن أن يقرأ لمعاصر شاب لهيجل يجسر على أن يسمي الألم شقاء، ولا يجد نفسه مضطرا إلى النظر إلى التاريخ البشري على أنه مسار محتوم نحو التقدم. وإن ثقافة شوبنهور وإحساسه بالتناسق، ونزعته الدنيوية الغريزية وذكاءه، ورشاقة أسلوبه الأدبي، كل هذا يذكر المرء بقوة بعصر التنوير.
ولقد لمح شوبنهور على التو، بذهنه الثاقب كعادته، الدلالة الأيديولوجية الأساسية لفلسفتي هيجل وفشته. وها هي ذي الكلمات التي يستخدمها في التعبير عن الأهمية السياسية والاجتماعية لمذهب هيجل: «لقد تعين على الفلسفة، التي استعادت سمعتها بفضل كانت ... أن تغدو سراعا أداة تلعب بها المصالح، مصالح الدولة من أعلى، والمصالح الشخصية من أسفل ... وعلى العكس من جميع تلك المظاهر والتأكيدات الجادة، لم تكن القوى الدافعة لتلك الحركة أفكارا، بل كانت بالفعل أغراضا حقيقية إلى أبعد حد؛ أي مصالح شخصية، ورسمية، وكنسية، وسياسية، وبالاختصار، مصالح مادية. فالمصالح الجزئية تهز بعنف أقلام الكثيرين من محبي الحكمة الخالصة ... ولا جدال في أن الحقيقة هي آخر ما يجول بخاطرهم ... فالفلسفة تستغل استغلالا سيئا، من جانب الدولة بوصفها أداة، ومن الجانب الآخر بوصفها وسيلة للكسب. وإذن، فمن ذا الذي يؤمن فعلا بأن الحقيقة بدورها ستظهر إلى النور، بوصفها مجرد ناتج عرضي؟» والحق أنه لو كان كارل ماركس قد فهم تماما اتجاه نقد شوبنهور، بدلا من أن يحاول أن يقلب الديالكتيك الهيجلي رأسا على عقب، كان من الجائز جدا أن يطرأ تغير أساسي على تاريخ البشر خلال الأعوام المائة الأخيرة.
3
ولقد كان من أسباب كراهية شوبنهور لفشته وهيجل اعتقاده أنهما قد شوها ما هو صحيح وعميق في فلسفة كانت؛ فشوبنهور كان واحدا من أوائل المجموعة الكبيرة من الفلاسفة الذين نادوا، في عصر ساد فيه المذهب الهيجلي بالشعار «عودا إلى كانت!» واستخدموه في الاحتجاج على الاتجاهات السائدة؛ وهذا يعني في حالة شوبنهور، أنه يعد نفسه قبل كل شيء فيلسوفا نقديا ينبغي أن ينقد العقل أولا قبل أن يستخدمه فلسفيا. والحق أن شوبنهور وإن لم يكن قد اشتهر بفضل مساهماته في نظرية المعرفة، فإن كتابه الأشهر «العالم إرادة وتمثيلا» يبدأ، لا على نحو توكيدي ببيان مبادئ ميتافيزيقية، بل بتقدير لطبيعة الذهن وحدوده. ويعتقد شوبنهور، مثل كانت، أن الذهن عاجز عن معرفة كنه الأشياء في ذاتها. فهو يرى أن أفكارنا لا توصلنا إلى أي عالم يتجاوز نطاق مدركاتنا الحسية. والواقع أن شوبنهور يقترب كثيرا من مذهب لوك التجريبي؛ إذ يصر على أن يستخدم كل التصورات مما يوجد في التجربة. ومع ذلك فهو يرى أننا نستطيع الوصول بطريقة أخرى، غير عقلية، إلى حقيقة تتيحها لنا الإرادة. ونستطيع أن ندرك مدى ابتعاده عن كانت في هذا الصدد إذا تأملنا الفارق بين تفسير كل منهما لهذا التصور. فإلى كانت ترجع بلا شك، من الوجهة التاريخية، تلك الفلسفات الإرادية التي طالما تردد ظهورها طوال القرن التاسع عشر. غير أنه نظر إلى الإرادة أساسا من خلال الأخلاق. أما عند شوبنهور فالإرادة هي المقولة الميتافيزيقية الرئيسية، وهي أصل كل ما نسميه ب «الحقيقي». فهو يرى أننا لا نحقق أنفسنا بوصفنا كائنات موجودة إلا في أفعالنا الإرادية، ولا نشعر بالعالم الحقيقي على أنه أكثر من نسق من الأفكار المترابطة إلا لشعورنا بأنفسنا من حيث نحن نريد شيئا.
ومن الواضح، رغم كل عداء شوبنهور لفشته، أن في هذا الجزء من فلسفته تشابها قويا بينهما. ولم يكن الفارق الرئيسي بينهما في هذا الصدد فارقا نظريا بقدر ما كان اختلافا في المزاج؛ ففشته يمجد الإرادة في آخر الأمر، أما شوبنهور، فهو وإن يكن يتجه إلى إضفاء صبغة شخصية عليها، فإنه يعدها قوة شريرة تحبط من كل وجه حياة الإنسان الروحية.
ومع ذلك فإن شوبنهور ليس مجرد ميتافيزيقي شيطاني يشوه «عالم الواقع» الذي وصفه معاصروه بأنه «معقول» و«حقيقي» في آن واحد. بل إن فيه أيضا شيئا من النزعة الطبيعية، بحيث إن نظرته إلى الحياة الواعية للإنسان على أنها ناتج عرضي للإرادة فيها قطعا استباق لفرويد. ولقد كان شوبنهور يستخدم على الدوام معلومات بيولوجية وتاريخية تجريبية لضرب أمثلة لرأيه القائل إن إرادة الحياة هي القانون الأساسي للحياة ذاتها. وإذا كانت فكرة الإرادة عنده قد حملت ما لا تحتمل، واكتسبت صفات شبه خرافية لا شأن للعلم التجريبي بها، فإن الكثيرين من شراح شوبنهور قد نوهوا بحساسيته العميقة في ميدان علم النفس.
ويمكن القول، بمعنى ما، إن أوصاف شوبنهور التجريبية غير المتكلفة للإرادة، تبعث قدرا كبيرا من الحرج في نفس أي فيلسوف يتخذ نقطة بدايته من ثورة كانت الكبرنيكية في الفلسفة. إذ إنه يربط فهمه للإرادة بأوصافه للسلوك الملحوظ للكائنات العضوية ربطا يبلغ من الوثوق حدا يجعل مشكلة الاحتفاظ بالتمييز الأساسي بين الإرادة من حيث هي شيء في ذاته يعلو على التجربة وبين الجسم البشري بوصفه فكرة، أو ظاهرة صبغت بصبغة موضوعية، واحدة من مشاكله الأساسية. ورغم تحمس شوبنهور الهائل لكانت، فإنه لم يتعلم تماما درس الفلسفية النقدية؛ إذ يبدو، من وصفه للإرادة أو مظاهرها مثل هذا التفصيل، أنه يحولها إلى مجرد «فكرة» أخرى ليس لها، بالنسبة إلى مقدماته هو، أن تدعي لنفسها حقيقة تزيد على حقيقة أية فكرة أخرى مستمدة من التجربة. وبالاختصار، فليس في وسع شوبنهور أن يجمع بين الأمرين معا؛ فهو لا يستطيع أن يعد السلوك الملحوظ للكائنات العضوية البشرية مظهرا لحقيقة الإرادة الكامنة من ورائه بوصفها شيئا في ذاته، وأن يؤكد، في الوقت ذاته، أن مجال الملاحظة التجريبية منفصل تماما عن الأشياء كما هي في حقيقتها.
أما حل هذه المشكلة، إن كان هذا هو الاسم الذي ينبغي إطلاقه عليها، فلا يكون في أي جدل نظري أو تحليل منطقي، وإنما نهتدي إليه في المجال الأيديولوجي، وفي مواقف شوبنهور الرئيسية من السلوك في الحياة، واستخدامه الساخر للكلمات الرنانة من أمثال «الواقع
reality ». وفي حين أن فشته، ومن بعده نيتشه، قد أكدا الواقعية المطلقة للإرادة، وجعلا من هذه الصفة علامة على قيمتها الإيجابية الأساسية، فإن شوبنهور يستخدم الكلمات ذاتها للتعبير عن احتقاره العميق ويبدو أنه يقول: هذا حقيقي «في الواقع»، وكأنه ليس ثمة طريقة أشد فعالية من هذه للتعبير عن اشمئزازه. فتلك هي طريقته الحاقدة في التعبير عن احتقاره لكل ذلك النشاط البرجوازي اللاهي غير المكترث الذي تنطوي عليها كل هذه الحركة المثالية بأسرها. ويبدو أنه يتساءل: هل ينظر معاصروه الآن إلى «الإرادة» على أنها مرادفة «للواقع
reality »؟ إذن فالواقع شيء ينبغي الانسحاب منه بأي ثمن، حتى إلى «عالم» أوهام إذا ما دعا الأمر، والواقع أن شوبنهور يمضي في تفنيده للحياة الإيجابية «الأخلاقية» التي يمجدها فشته، وكذلك هيجل إلى حد ما، إلى حد أنه يرفض أن يعزو إلى الإرادة، تلك «الحقيقة القصوى»، حتى تلك التقوى الطبيعية التي يتنازل الطيبون عنها عادة للشيطان. فالإرادة في ذاتها شر كلها، وهو يدير لها ظهره تماما، و«يستغلها»، بطريقته الساخرة، في تشويهها والقضاء عليها.
وهناك من نقاد شوبنهور من يدعون أنهم يجدون في عزوفه المتشائم عن العالم شيئا من عدم الإخلاص. والأمر الذي يفوتهم هو السخرية الكامنة في طريقة ممارسة شوبنهور للتفكير الميتافيزيقي؛ فشوبنهور متشائم بالفعل من وجهة نظر المتعلقين بالعالم، الذين يوحدون بين «الواقع
reality » وبين مطامعهم الخاصة الجامحة. فليخلعوا، إذا شاءوا، صفة «المعقولية» على الإرادة، وليسموا مظاهرها «الموضوعية» في النظم التاريخية للدولة والكنيسة مظاهر تكشف بها «الروح» عن ذاتها، فما ذاك في الحق إلا تعبير عن طريقتهم الخاصة في الكشف عن أنفسهم؛ فليس في مثل هذا «الواقع» في نظر شوبنهور سلام ولا سعادة بالنسبة إلى الإنسان. ولنتأمل الواقع (
reality ) «الروحي» الذي يصفه هيجل ذاته، فماذا يكون الديالكتيك التاريخي إن لم يكن سجلا للصراع اللامتناهي الذي يكتب فيه على كل «لحظة» أن تجد آفتها في التعارض المحتوم الذي تولده داخل ذاتها، وهكذا يقول شوبنهور إنه إذا كان هذا هو «الواقع»، فمرحبا بهيجل فيه، وإذا كان التشاؤم هو بديله عنه، فلم لا تقبل التشاؤم؟
ولكن ماذا يكون الأمر إذا أمكن تحويل الإرادة، وهي مصدر كل شقاء، ضد ذاتها؟ إذا كانت الإرادة هي الشر، فشفاؤنا منها يكون في إخمادها. وهنا يبدو أن الحل الواضح هو الانتحار. غير أن شوبنهور يرفض الانتحار بوصفة آخر أفعال الإرادة وأكثرها يأسا فحسب؛ فالانتحار يقضي على الجسم من حيث هو ظاهرة، ولكنه لا يقضي على الإرادة ذاتها. والحل الوحيد الآخر، في رأيه، هو تحويل الإرادة ضد ذاتها، وإخماد رغباتنا الخاصة عن طريق سلسلة من أفعال العزوف. وهكذا لا تكون النتيجة عنده هي الموت، وإنما التأمل.
وكثيرا ما قيل إن فلسفة شوبنهور تتأثر بأفلاطون وبصوفية الهنود معا. وهذا صحيح، غير أن نظرته إلى حياة التأمل تختلف إلى حد عن نظرة هؤلاء إليها؛ فالتحرر من الرغبة يتم، عند شوبنهور، عن طريق التأمل الجمالي، وعن طريق تأمل الفن بوجه خاص. ففي التجاوب مع الفن الرفيع، ولا سيما الموسيقى، تنزه واضح، وخروج عن التصديق والتكذيب، والأمل واليأس، يتركنا أحرارا في تأمل صور الأشياء دون انشغال، بل في تأمل مظاهر الإرادة ذاتها دون اندماج أو اهتمام شخصي.
ولم يفت نقاد شوبنهور أن ينبهوا إلى أن هذا الوجه من أوجه مذهبه يفتقر إلى الاتساق الشكلي. فإذا كانت الإرادة «هي» الواقع
real ، وإذا كانت تتبدى في شكل من أشكال الحياة، فليس لنا أن نفترض أن التأمل قادر على «القضاء» عليها. فليس ما تقضي عليه الحياة التأملية عند شوبنهور هو الإرادة في ذاتها، وإنما الرغبات الجشعة المتشاحنة للحياة اليومية. غير أن عدم الاتساق لا يكون خطيرا، إذا ما نظرنا إلى ميتافيزيقا شوبنهور، لا على أنها محاولة لتشييد بناء منطقي، بل على أنها نظرة شخصية إلى العالم، كان فيها رده على الأيديولوجيات «الموضوعية» التي أتى بها السابقون عليه. والمسألة الأهم ليست هي كون حياة التأمل تخلصنا من الإرادة، بل هي ما إذا كانت تأتي لنا بحل شاف للمشاكل الروحية، كالقلق وخيبة الأمل، والعزلة والتغرب عن الذات، وهي مشاكل تعد من صميم إنتاج الحياة الحديثة. ولقد عادت نزعة شوبنهور الجمالية إلى الظهور لدى واحد على الأقل من فلاسفة القرن العشرين، هو سانتيانا،
4
كما أكد فلاسفة كثيرون آخرون، ممن يرون أن حياة التأمل لا يصح أن تكون مثلا أعلى يكتفي به المرء، أن التأمل الجمالي ينبغي مع ذلك أن يكون جزءا كبيرا مما نسميه ب «الحياة الطيبة».
وإنه ليكون من الخطأ أن ننظر إلى فلسفة شوبنهور على أنها مجرد تعبير عن شخصيته التي كانت عصابية شاذة المزاج إلى حد بعيد؛ فهذه الفلسفة ما هي إلا صورة واحدة من صور خيبة الأمل الدائمة التي تشعر بها النفوس الحساسة إزاء أنواع الخلاص الجماعي التي تقدمها النظم الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، فقد كان شوبنهور صادق التنبؤ في اعترافه بأعماق «اللامعقول» البشري. وكثيرا ما يصادف المرء في كتاباته إدراكا يدعو إلى الدهشة لحياة الإرادة على المستوى دون العقلي واللاشعوري، وهي أمور أصبحت لها في عمرنا أهمية كبرى بفضل أتباع فرويد.
ولقد أدرك شوبنهور خطورة العقل وعقم الوقوف في وجه الإرادة بوساطة مجرد «أفكار»، ولكنه، على خلاف الكثيرين من «اللاعقليين» الآخرين، لم يمجد اللامعقولية أبدا. فهو مثل فرويد، قد اعترف بعصر الحيوانية في الطبيعة البشرية كاملا، دون أن يحاول تأليه هذا العنصر. بل إنه لم يكن في النهاية يخشاه حقيقة؛ إذ كان يعلم أن ثمة مخرجا منه، عن طريق الفهم والإبداع الفني، والتأمل الجمالي. ولكم في فلسفة هذا المتشائم الأكبر من عناصر حكيمة! إنه ليس مجرد «مرحلة» في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر؛ بل إنه يقف من هيجل، في نواح معينة، موقفا يشبه كثيرا موقف فرويد من كارل ماركس. ولو أغفله المرء لكان في ذلك إغفال لحقيقة هامة، هي أن العصر الذي قدس التقدم كان أيضا عصر يأس فردي.
والنصوص الآتية مقتطفة من الكتاب الأول (القسمين 1، 2) ومن الكتاب الثاني (الأقسام 17-19) من كتاب شوبنهور «العالم إرادة وتمثلا».
5 ⋆
وعنوان الكتاب الأول هو «العالم تمثلا. الوجه الأول: الفكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي: موضوع التجربة والعلم.»
وعنوان الكتاب الثاني: «العالم إرادة. الوجه الأول: الصبغة الموضوعية للإرادة.»
القسم الأول : «العالم تمثلي.» تلك حقيقة تصح على كل كائن يعيش ويعرف، وإن يكن الإنسان وحده هو القادر على استحضارها في الوعي الفكري المجرد، ولو فعل ذلك حقا، لأشرقت عليه الحكمة الفلسفية. وعندئذ يدرك عن يقين ووضوح أن ما يعرفه ليس شمسا ولا أرضا، وإنما هو عين ترى شمسا، ويد تلمس أرضا، وأن العالم المحيط به لا يوجد إلا بوصفه تمثلا؛ أي لا يوجد إلا في علاقته بشيء آخر؛ أي المتمثل، الذي هو الإنسان ذاته. ولو كان لنا أن نؤكد أوليا أية حقيقة، فهذه هي؛ إذ إنها تعبير عن أعم صورة لكل تجربة ممكنة يتسنى لنا تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى؛ أعم من المكان والزمان والعلية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها. وعلى حين أن هذه الصور كلها، التي رأينا أنها ليست إلا أحوالا لمبدأ السبب الكافي، لا تصح إلا على فئة خاصة من التمثلات، فإن التقابل بين الذات والموضوع هو الصورة المشتركة بين كل هذه الفئات، وهي الصورة التي هي وحدها الكفيلة بتحقيق إمكان أي تمثل وجعله قابلا للتصور بوجه عام، سواء أكان هذا التمثل مجردا أم حدسيا، خالصا أم تجريبيا. وإذن فليس ثمة حقيقة أكثر يقينا واستقلالا عن كل ما عداها، وأقل حاجة إلى البرهنة عليها من هذه الحقيقة القائلة إن كل ما هو موضوع للمعرفة، وبالتالي هذا العالم بأسره، ليس إلا موضوعا بالنسبة إلى ذات، ومدركا بالنسبة إلى مدرك. أي إنه بالاختصار تمثل. ومن الواضح أن هذا يصح على الماضي وعلى المستقبل كما يصح على الحاضر، وعلى أبعد الأمور وأقربها؛ إذ إنه يصدق على الزمان والمكان ذاتيهما، وهما اللذان لا تنشأ كل هذه التفرقات إلا فيهما؛ فكل ما ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم على أي نحو يخضع لتحكم الذات، ولا يوجد إلا بالنسبة إلى الذات، فالعالم تمثل. •••
وهكذا فإنا ننظر إلى العالم في هذا الكتاب الأول من هذا الوجه فحسب؛ أعني من حيث كونه تمثلا. غير أن التردد الباطن الذي يشعر به أي شخص في قبوله للفكرة القائلة إن العالم تمثله هو فحسب، لكفيل بتنبيهه إلى أن هذا الرأي عن العالم، مهما كان من صحته، هو مع ذلك تعبير عن وجه واحد من أوجه المسألة، وأنه ينجم عن نوع من التجريد المتعمد. ولكنه من جهة أخرى رأي لا يستطيع أن يجد منه مهربا. وعلى أية حال فسوف يعالج الكتاب المقبل أوجه النقص في هذا الرأي، عن طريق حقيقة ليس لها مثل اليقين المباشر الذي تتصف تلك الحقيقة التي نتخذها ها هنا نقطة بداية لنا، وهي حقيقة لا يمكننا الوصول إليها إلا ببحث أعمق وتجريد أشق، وبالفصل بين ما هو مختلف والتأليف بين ما هو متماثل. وهذه الحقيقية، التي ينبغي أن تكون شديدة الخطورة والتأثير، إن لم تكن حقيقة مخيفة لكل شخص، هي أن الإنسان يستطيع أيضا، بل ينبغي عليه، أن يقول: «العالم إرادتي.»
ومع ذلك فعلينا في هذا الكتاب الأول أن نبحث على حدة في ذلك الوجه الذي نبدأ به من أوجه العالم؛ أعني في الوجه الذي يكون فيه قابلا للمعرفة، وبالتالي أن ننظر دون تحفظ إلى جميع الأشياء الموجودة، حتى أجسامنا ذاتها (كما سنرى بمزيد من التفصيل بعد قليل) على أنها مجرد تمثل، وأن نسميها مجرد تمثلات. وعلى هذا النحو نجرد هذه الموضوعات دائما (كما نأمل أن نوضح للجميع فيما بعد) من الإرادة التي تؤلف في ذاتها الوجه الآخر للعالم. فكما أن العالم هو، في واحد من أوجهه، تمثل كله، فإنه كذلك في وجه آخر إرادة كله. أما القول بوجود حقيقة ليست واحدا من هذين، وإنما هي موضوع في ذاته (هو الذي تدهور إليه الشيء في ذاته، للأسف، على يد كانت) فهو خيال حالم، وقبوله إنما هو السراب الخادع في الفلسفة.
القسم الثاني : إن ما يعرف كل الأشياء، ولا يعرفه شيء، هو الذات. وإذن فهي دعامة العالم، وهي شرط جميع الظواهر والموضوعات، وهي دائما تفترض مقدما؛ إذ إن كل ما يوجد، إنما يوجد بالنسبة إلى الذات فحسب. وإن كل شخص ليجد نفسه ذاتا، ولكن بقدر ما يعرف فحسب، لا بقدر ما هو موضوع للمعرفة. غير أن جسمه موضوع بالفعل، وبالتالي فمن الممكن، من وجهة النظر هذه، أن نسميه تمثلا. إذ إن الجسم موضوع ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين الموضوعات، وإن يكن موضوعا مباشرا. وهو ككل موضوعات الإدراك الحسي، يندرج تحت الصور الكلية للمعرفة، كالمكان والزمان، اللذين هما شرطا الكثرة. أما الذات التي هي العارف دائما، ولا تكون هي المعروف أبدا، فلا تندرج تحت هذه الصور، بل إن هذه الصور تفترضها مقدما. ومن ثم فهي لا تتصف بالكثرة ولا بعكسها؛ أي الوحدة، فنحن لا نعرفها قط، ولكنها هي دائما العارف كلما كان ثمة معرفة. (من الكتاب الثاني، القسم 17) : غير أن ما يدفعنا الآن إلى البحث هو أننا لا نقنع بأن نعرف أن لدينا تمثلات، وأن هذه التمثلات هي كذا وكذا، وأنها مرتبطة حسب قوانين معينة يعبر عنها مبدأ السبب الكافي تعبيرا عاما، بل إنا نريد معرفة دلالة هذه التمثلات، ونتساءل عما إذا كان هذا العالم تمثلا فحسب - وهو قول لو صح لكان العالم يمر بنا كما يمر حلم عابر أو رؤية خادعة، ولما استحق انتباهنا - أم إنه أيضا شيء آخر، شيء يزيد على مجرد التمثل، وفي هذه الحالة، فما هو هذا الشيء؟ إن الأمر المؤكد هو أن هذا الشيء الذي ننشده ينبغي أن يكون في طبيعته الكاملة مختلفا عن التمثل اختلافا تاما أساسيا، وبالتالي إن صور التمثل وقوانينه ينبغي أن تكون غريبة عنه تماما، وهكذا فنحن لا نستطيع أن نصل إليه من التمثل بإرشاد القوانين التي تقتصر مهمتها على الجمع بين الموضوعات والتمثلات سويا، وإنما هذه هي صور مبدأ السبب الكافي.
وهكذا نرى بالفعل أننا لا نستطيع أبدا الوصول إلى الطبيعة الحقة للأشياء من الخارج، ومهما بحثنا، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نصل إلى شيء سوى الصور والأسماء؛ فنحن أشبه برجل يدور حول قلعة باحثا، دون جدوى، عن مدخل، ويقوم أحيانا برسم الوجه الظاهري لهذه القلعة. ومع ذلك فهذه هي الطريقة التي اتبعها جميع الفلاسفة من قبلي. (القسم 18) : والواقع أن المعنى الذي ننشده لهذا العالم الماثل لي بوصفه تمثليا فحسب، أو الانتقال من العالم بوصفه مجرد تمثل للذات العارفة إلى أي شيء آخر قد يكونه إلى جانب هذا، لا يمكن الاهتداء إليه إن كان الباحث نفسه مجرد ذات عارفة (أي ملاك مجنح دون جسم)، غير أنه هو ذاته متغلغل في هذا العالم، وهو يجد نفسه فيه بوصفه فردا؛ أي إن معرفته، التي هي الدعامة الضرورية للعالم كله من حيث هو تمثل، تعطى كلها مع ذلك بتوسط جسم، تكون انفعالاته، كما رأينا، نقطة بداية الذهن في إدراكه لهذا العالم؛ فجسم هذا الباحث، من حيث هو ذات عارفة خالصة، هو بالنسبة إليه تمثل شأنه شأن أي تمثل آخر، وموضوع من الموضوعات. وحركاته وأفعاله لا تعرف لديه إلا كما تعرف تغيرات جميع الموضوعات المدركة الأخرى، ولو لم يكن معناها يكشف له على نحو مختلف تماما، لظلت لها بالنسبة إليه نفس الغرابة والغموض. ولو لم يكن الأمر كذلك لرأى سلوكه يتلو من دوافع معينة باطراد القانون الطبيعي، مثلما تتلو تغيرات الموضوعات الأخرى من علل أو منبهات، أو دوافع. ولكنه لن يدرك عندئذ تأثير الدوافع أكثر مما يدرك الارتباط بين كل معلول آخر يراه وبين علته. عندئذ قد يسمي الطبيعة الباطنة التي لم يفهمها لمظاهر الجسم وأفعاله هذه قوة أو كيفية أو صفة حسبما يشاء، ولكن فهمه لها لن يتجاوز هذه الحدود. غير أن الحال ليست كذلك على الإطلاق، بل إن الإجابة على هذا السؤال المحير إنما تعطى للذات العارفة بوصفها فردا، فالإجابة هي الإرادة. فهذا، وهذا وحده، هو الذي يعطي الذات مفتاح وجودها الخاص، ويكشف لها عن أهمية وجودها وفعلها وحركاتها وتركيبها الباطن؛ فالجسم يعطى على نحوين مختلفين تماما للذات العارفة التي لا تصبح فردا إلا باتحادها معه. فهو يعطى في الإدراك العاقل، بوصفه تمثلا وبوصفه موضوعا ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين هذه الموضوعات، ولكنه يعطى أيضا على نحو مختلف تماما بوصفه ما يعرفه مباشرة كل واحد، وتدل عليه كلمة الإرادة. فكل فعل حقيقي لإرادته هو حتما حركة لجسم في الوقت ذاته، وهو بالفعل لا يستطيع أن يريد الفعل ما لم يشعر في الوقت ذاته أنه يبدو بوصفه حركة للجسم. وليس فعل الإرادة وحركة الجسم شيئين مختلفين معروفين موضوعيا، تجمع بينهما رابطة العلية، بل هما لا يرتبطان ارتباط العلة بالمعلول، وإنما هما شيء واحد، وإن كانا يعطيان على نحوين مختلفين تماما؛ أي على نحو مباشر أولا، ثم في الإدراك بالنسبة إلى الذهن. وما فعل الجسم إلا فعل الإرادة وقد اتخذ صبغة موضوعية؛ أي ترجم إلى إدراك. وسوف نرى فيما بعد أن هذا يصح على كل حركة للجسم، لا على تلك الحركات التي تتلو من دوافع فحسب، بل أيضا على الحركات اللاإرادية التي تتلو من مجرد منبهات، بل إن الجسم كله ليس في واقع الأمر سوى إرادة اتخذت طابعا موضوعيا؛ أي إرادة أصبحت تمثلا، كل هذا سيثبت ويوضح بجلاء خلال هذا الكتاب. ولهذا فإن الجسم، الذي أطلقت عليه في الكتاب السابق، وفي بحثي عن «مبدأ السبب الكافي»، اسم «الموضوع المباشر»، وفقا لوجهة النظر المقتصرة على جانب واحد، والتي اتخذتها فيهما عمدا (أعني وجهة نظر التمثل) اسم الموضوع المباشر، سأطلق عليه ها هنا، من وجهة نظر أخرى، اسم «موضوعية الإرادة ». وهكذا يمكننا أن نقول أيضا بمعنى معين إن الإرادة هي المعرفة الأولية للجسم، وإن الجسم هو المعرفة البعدية
a posteriori
للإرادة، وليست قرارات الإرادة المتعلقة بالمستقبل سوى تفكير العقل فيما سنريده في وقت معين، لا أفعال حقيقية للإرادة. والأمر الوحيد المميز للقرار الذي ينعقد عليه العزم هو التنفيذ؛ إذ إنه لا يكون، حتى ذلك الحين، سوى مقصد قد يتغير، ولا يوجد إلا في العقل وبطريقة مجردة؛ فالإرادة والفعل لا يكونان مختلفين إلا بالنسبة إلى الفكر، أما في الواقع فهما شيء واحد. وكل فعل مباشر أصيل صحيح للإرادة هو في الوقت ذاته وعلى التو فعل ملموس للجسم. ومقابل ذلك نجد أن كل انطباع على الجسم هو أيضا، ومن الناحية الأخرى، انطباع على الإرادة. وهو بهذا المعنى يسمى ألما عندما يخالف الإرادة، وإشباعا أو لذة عندما يوافقها. ولكل من الاثنين درجات واسعة الاختلاف. ومع ذلك فمن الخطأ التام أن نسمي الألم واللذة تمثلات؛ إذ إنهما ليسا تمثلات، وإنما انفعالات مباشرة للإرادة في ظاهرتها التي هي الجسم، وهما رغبة أو عدم رغبة إجبارية فورية في الانطباع الواقع على الجسم. وليست هناك سوى انطباعات قليلة للجسم لا تثير الإرادة، وعن طريق هذه الانطباعات وحدها يكون الجسم موضوعا مباشرا للمعرفة؛ إذ يكون الجسم، بوصفه إدراكا في الذهن، موضوعا غير مباشر شأنه شأن كل ما عداه. ولذا كان من الواجب أن ينظر إلى هذه الانطباعات مباشرة على أنها مجرد تمثلات، وأن نستثنيها مما قيل من قبل، فالمقصود هنا هو انفعالات الحواس الموضوعية الخاصة، حواس البصر والسمع واللمس، وإن لم تكن هذه مقصودة إلا بقدر ما تتأثر أعضاؤها على النحو الفريد المرتبط بطبيعتها المحددة فحسب. ولانفعال الحواس هذا تأثير في الحساسية الحادة المتخصصة لهذه الأجزاء يبلغ من الضعف حدا يجعله لا يؤثر في الإرادة، وإنما يمد الذهن بالمادة التي ينشأ منها الإدراك، دون أن تعكر صفو هذا الذهن أية إثارة للإرادة. غير أن كل تأثر لأعضاء الحس هذه على نحو أقوى أو على نحو مختلف ينطوي على ألم؛ أي يخالف الإرادة، ومن هنا كان بدوره منتميا إلى موضوعية الإرادة. ويظهر ضعف الأعصاب عندما تصل الانطباعات التي ليس لها من القوة إلا ما يكفي لجعلها مادة للذهن، إلى الدرجة الأعلى التي تؤثر فيها في الإرادة؛ أي تسبب ألما أو لذة، أو على الأصح ألما في معظم الأحيان. غير أن هذا الألم يتصف إلى حد ما، بالإبهام والغموض، بحيث لا يقتصر الأمر على تألمنا من أصوات معينة أو من الضوء القوي، بل تنشأ لدينا حالة من الاعتلال والوسوسة لا نفهمها بوضوح. كما تتضح هوية الجسم والإرادة على أنحاء أخرى، منها أن كل حركة قوة عنيفة للإرادة؛ أي كل انفعال، تثير الجسم وكيانه الباطن مباشرة، وتبعث الاضطراب في مجرى وظائفه الحيوية.
وأخيرا فإن المعرفة التي لدي عن إرادتي، وإن تكن مباشرة، لا يمكن أن تفرق عن معرفتي بجسمي. فأنا أعرف إرادتي، لا بوصفها كلا أو وحدة، ولا أعرفها معرفة كاملة حسب طبيعتها، بل أعرفها في أفعالها الخاصة فحسب، وبالتالي في الزمان، الذي هو صورة لظاهرة جسمي، ولكل موضوع كذلك. وإذن فالجسم شرط لمعرفة إرادتي. وهكذا لا يمكنني بالفعل أن أتصور هذه الإرادة دون جسمي. ولقد عالجت الإرادة، أو بالأحرى الذات المريدة، على أنها فئة خاصة من التمثلات أو الموضوعات. ولكنا حتى في تلك الحالة قد رأينا هذا الموضوع يصبح هو والذات شيئا واحدا؛ أي رأيناه لا يعود موضوعا؛ فبقدر ما أعرف إرادتي حقا على أنها موضوع، أعرفها بوصفها جسما، ولكني في هذه الحالة أعود ثانية إلى الفئة الأولى من التمثلات التي عرضتها في ذلك البحث؛ أي إلى الموضوعات الفعلية. وسنرى بوضوح متزايد، كلما سرنا قدما، أن تمثلات الفئة الأولى هذه لا تجد تفسيرها وحلها إلا في تمثلات الفئة الرابعة التي عرضناها في ذلك البحث، والتي لا يعود من الممكن وضعها مقابل الذات بوصفها موضوعا، وأن علينا بالتالي أن نتعلم فهم الطبيعة الباطنة لمبدأ العلية الذي يصح على الفئة الأولى، ولكل ما يحدث وفقا لهذا المبدأ، من خلال مبدأ تحكم الدوافع، الذي يسري على الفئة الرابعة.
ومن المحال إثبات هوية الإرادة والجسم، التي قدمنا لها الآن تفسيرا مؤقتا، إلا على النحو الذي قلنا به ها هنا. ولقد كان هذا أول إثبات لهذه الهوية. وسوف يزداد إثباتنا هذا عمقا خلال هذا الكتاب، وبعبارة أخرى فقد أخرجنا هذه الهوية من نطاق الوعي المباشر، ومن المعرفة العينية، ونقلناها إلى مجال المعرفة العقلية أو المعرفة المجردة. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة هذه الهوية ذاتها تجعل من المحال البرهنة عليها؛ أي استخلاصها بوصفها معرفة غير مباشرة من معرفة أخرى أقرب إلى الطابع المباشر، لا لشيء إلا لأنها هي ذاتها أقرب المعارف إلى الطابع المباشر. فإذا لم ندركها أو نتمسك بها على هذا النحو، فسيكون من العبث أن نتوقع تلقيها مرة أخرى على نحو غير مباشر بوصفها معرفة مشتقة؛ فهي معرفة من نوع خاص إلى أبعد حد، وبالتالي لا يمكن أن تدرج حقيقتها تحت واحدة من الفئات الأربع التي صنفت بها كل الحقائق المنطقية، والتجريبية، والميتافيزيقية، وما بعد المنطقية؛ إذ إنها تختلف عن هذه كلها في أنها ليست مثلها ربطا لتمثل مجرد بتمثل آخر، أو بالصورة الضرورية لتمثل الحدسي أو المجرد، وإنما هي ربط لحكم بالعلاقة التي تجمع بين تمثل إدراكي، هو الجسم، وبين ما ليس بالتمثل على الإطلاق، وإنما يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ أعني بالإرادة. (القسم 19) : وعلى حين أننا قد اضطررنا كارهين في الكتاب الأول إلى وصف جسم الإنسان بأنه مجرد تمثل للذات العارفة، شأنه شأن سائر موضوعات عالم الإدراك هذا، فقد اتضح لنا الآن أن في وعي كل شخص شيئا يميز تمثل جسمه من جميع التمثلات الأخرى التي تشبهه تماما من جميع الأوجه الأخرى؛ ذلك لأن جسمنا يبدو في الوعي على صورة أخرى مختلفة تماما، يعبر عنها بلفظ الإرادة. وهذه المعرفة المزدوجة لدينا بجسمنا هي التي تمدنا بالمعلومات عنه، وعن فعله وحركاته الناجمة عن دوافع، وكذلك عما ينفعل به عن طريق الانطباعات الخارجية، وبالاختصار عما يكونه، لا بوصفه تمثلا، بل بوصفه أكثر من التمثل؛ أي عما يكونه في ذاته. وليست لدينا أية معلومات مباشرة كهذه عن طبيعة أي شيء حقيقي آخر أو فعله وانفعاله.
ولا تكون الذات العارفة فردا إلا بفضل هذه العلاقة الخاصة بجسم بعينه، فإذا ما نظر إلى هذا الجسم بمعزل عن هذه العلاقة، لما غدا سوى تمثل كسائر التمثلات. غير أن العلاقة التي تكون الذات العارفة بفضلها فردا هي لهذا السبب عينه علاقة لا تقوم إلا بينها وبين تمثل واحد بعينه من بين جميع ما لديها من التمثلات، ومن ثم فإنها تشعر بهذا التمثل الخاص، لا بوصفه تمثلا فحسب، بل في الوقت ذاته على نحو مخالف تماما، بوصفه إرادة. أما إذا تجرد عن هذه العلاقة الخاصة، وعن هذه المعرفة المزدوجة والمتباينة تماما لما هو موضوع واحد لا يتغير، فإن هذا الواحد؛ أي الجسم، يغدو تمثلا كسائر التمثلات. وإذن فلا بد لفهم المسألة من أحد أمرين؛ إما أن يفترض الفرد العارف أن ما يميز هذا التمثل الواحد من غيره هو مجرد كون معرفته ترتبط به هو وحده في هذه العلاقة المزدوجة، وأن التبصر في اتجاهين مختلفين في آن واحد لا يتاح له إلا في حالة موضوع الإدراك هذا وحده، وإن مرد هذا ليس إلى الفرق بين هذا الموضوع وجميع الموضوعات الأخرى، وإنما إلى الفرق بين علاقة معرفته بهذا الموضوع الواحد وعلاقتها بجميع الموضوعات الأخرى فحسب. وإما أن يفترض أن هذا الموضوع يختلف عن الباقين جميعهم اختلافا أساسيا، وأنه هو وحده دونها جميعا، إرادة وتمثل معا، في حين أن بقية الموضوعات تمثلات؛ أي أشباح، فحسب. وهكذا يكون عليه أن يفترض أن جسمه هو الفرد الحقيقي الوحيد في العالم؛ أي إنه هو الظاهرة الوحيدة للإرادة، والموضوع المباشر الوحيد للذات. أما كون الموضوعات الأخرى، من حيث هي مجرد أفكار، تشبه جسمه؛ أي تشغل مثله مكانا (لا يتمثل بدوره إلا بوصفه تمثلا)، ولها مثله فاعلية إيجابية في المكان، فذلك ما يثبته بجلاء قانون العلية الذي يصدق أوليا على الأفكار، والذي لا يسمح بوجود أي معلول دون علة. ولكن بالإضافة إلى كوننا لا نستطيع أن نستدل من المعلول إلا على علة بوجه عام، لا على علة مماثلة، فإنا ما زلنا في مجال التمثل وحده، وهو المجال الذي لا يصدق قانون العلية إلا عليه، والذي لا يمكنه أن يسري على ما هو خارج عنه. أما كون الموضوعات المعروفة للفرد بوصفها تمثلات فحسب، هي، مثل جسمه، مظاهر لإرادة، فذلك، كما قلنا في الكتاب الأول، هو المعنى الصحيح للسؤال المتعلق بحقيقة العالم الخارجي. ومن ينكر ذلك يقع في الأنانية النظرية التي ترى، على هذا النحو، أن جميع الظواهر الواقعة خارج إرادتها هي أشباح، مثلما تؤدي الأنانية العملية إلى النتيجة ذاتها في المجال العملي: حيث ينظر فيها الإنسان إلى ذاته وحدها على أنها شخص حقيقي، ويرى في جميع الأشخاص الآخرين بمجرد أشباح. ولا جدال في أن من المحال تفنيد الأنانية النظرية بالبرهان، غير أن استخدامها الوحيد في الفلسفة كان استخدامها بوصفها مغالطة شكاكة؛ أي لغرض الادعاء الظاهري. أما من حيث هي اعتقاد جدي، فمن المحال أن يكون لها قيام إلا وسط المجانين، ومن ثم فإنها بهذا المعنى تحتاج إلى علاج أكثر مما تحتاج إلى تفنيد؛ ولذا فلن نمضي في محاربتها أبعد من ذلك، بل سننظر إليها على أنها آخر معاقل الشكاك فحسب، وهو معقل جدلي على الدوام. وهكذا فإن معرفتنا، التي تتقيد وتحد دائما بالفردية، تقتضي بالضرورة أن يكون كل منا واحدا فحسب، في حين أنه يستطيع أن يعرف كل شيء؛ وهذا التحدد ذاته هو الذي يخلق الحاجة إلى الفلسفة. وإذن فنحن؛ إذ نسعى لهذا السبب بعينه إلى توسيع حدود معرفتنا بالفلسفة، فإننا سننظر إلى حجة الشكاك هذه؛ أعني حجة الأنانية النظرية، مثلما ينظر الجيش إلى قلعة صغيرة على الحدود. حقا إن من المحال اقتحام القلعة، غير أن من المستحيل على حاميتها أن تغادرها؛ ولذا ففي وسعنا أن نتجاوزها دون خطر، وأن نتركها في مؤخرة صفوفنا دون أن نخشى شيئا.
وهكذا أوضحنا بجلاء تلك المعرفة المزدوجة التي لدينا بطبيعة جسمنا وفاعليته، والتي تعطى على نحوين مختلفين تماما، ومن ثم فسوف ننتفع منها على نحو آخر إذ نتخذها مفتاحا للماهية الباطنية لكل ظاهرة في الطبيعة، وسوف نحكم على جميع الموضوعات المغايرة لأجسامنا، والتي لا تعطى لوعينا بالتالي على نحو مزدوج، وإنما بوصفها تمثلات فحسب، على أساس تشبيهها بأجسامنا. وهكذا فسوف نفترض أنه لما كانت هذه الموضوعات في أحد أوجهها تمثلا، كأجسامنا، ولما كانت متجانسة مع أجسامنا في هذا الوجه، فإن ما يتبقى منها عندما ندع جانبا وجودها بوصفها تمثلا للذات، لا بد أن يكون في طبيعته الباطنة مماثلا لما نسميه بالإرادة فينا. إذ ما هو النوع الآخر من الوجود أو الحقيقة الذي ينبغي أن نعزوه إلى بقية العالم المادي؟ ومن أين نستمد العناصر التي نشيد منها مثل هذا العالم؟ ليس ثمة شيء معروف لنا أو يمكننا التفكير فيه، سوى الإرادة والتمثل، فإذا شئنا أن نعزو أكبر قدر من الحقيقة المعروفة إلى العالم المادي الذي لا يوجد مباشرة إلا في تمثلنا، فإنا نعزو إليه الحقيقة التي تكون لجسمنا في نظر كل منا؛ إذ إن الجسم هو أكثر الأشياء حقيقة بالنسبة إلى كل منا. ولكنا إذا ما قمنا بتحليل لحقيقة هذا الجسم وأفعاله، خلاف كونه تمثلا، فلن نجد فيه سوى الإرادة؛ فبالإرادة تستنفد حقيقته. وإذن فليس في وسعنا أن نجد نوعا آخر من الحقيقة نعزوه إلى العالم المادي. فإذا قلنا إن العالم المادي يزيد على كونه مجرد تمثل لنا، فينبغي أن نقول إنه، إلى جانب كونه تمثلا؛ أعني في ذاته وفي أعماق طبيعته الباطنة، هو ما نهتدي إليه في أنفسنا مباشرة بوصفه إرادة.
الفصل السادس
مؤسس الوضعية
أوجست كونت (1798-1857م)
كان أوجست كونت أول فيلسوف كبير في القرن التاسع عشر لم تشتق أفكاره مباشرة من كانت. كما أنه أول مفكر غير ألماني نتحدث عنه في هذا الكتاب، وإن النظرة السطحية لتوحي بأن تفكيره يتعارض أشد التعارض مع الميتافيزيقا المثالية الجديدة لدى فشته وهيجل. غير أن ثمة أوجه شبه خفية عديدة بين كونت وبين معاصريه من الألمان . فرغم أن كونت ينادي برفض الميتافيزيقا رفضا باتا، فإنه لم يلجأ إلى النظر الفكري الخالص. ونستطيع أن نقول إن المعنى الذي يفهمه المثاليون من الميتافيزيقا هو، من وراء الاختلاف في المصطلح، معنى لا يبعد كثيرا عما كان كونت يقصده ب «الفلسفة الوضعية». وسوف تبدو أوجه الشبه هذه بين الفلسفتين أقل تعسفا إذا تذكرنا أن الميتافيزيقا ليست عند المثاليين «ما يعلو على الطبيعة»، وإنما هي الأيديولوجية الأساسية أو النظرة إلى العالم
weltanschauing ، وإذا أدركنا أيضا أن كونت لا يعد الفلسفة الوضعية جزءا من العلم التجريبي ذاته. والحق أن أخطر الاختلافات بين المثالية والوضعية هي في معظم الأحيان اختلافات أيديولوجية؛ فقد كان المثاليون محافظين من الوجهة الأيديولوجية، يسعون إلى الاحتفاظ بتلك القيم التي نظروا إليها على أنها هي القيم الأولى للتراث المسيحي، ولكن في صورة معدلة. غير أن الروح الدنيوية العنيفة التي اتسم بها عصر التنوير قد ظلت في هذه الأثناء حية، وظهر في العصر التالي فلاسفة كثيرون كانوا يعترضون حتى على التفسيرات المخففة التي حاول بها المثاليون تعديل النظرة المسيحية إلى العالم. وكان هناك فلاسفة كثيرون، وخاصة في فرنسا وإنجلترا، ظلوا يؤكدون ضرورة التخلي عن التراث على نحو أشد عنفا مما كان المثاليون على استعداد لقبوله، وحاولوا إيجاد أساس لأيديولوجية جديدة ذات طابع علمي، تحل تماما محل ما تبقى من نظرة العالم المسيحي في العصور الوسطى. وكان الهدف الذي يسعون إليه هو إيجاد حضارة إنسانية خالصة، ترتكز ارتكازا متينا على أساس من العلم الحديث، وتطهر مما في المثالية من غوامض متلاعبة بالألفاظ ومن تمويهات. وبين هؤلاء الفلاسفة يحتل أوجست كونت مكان الصدارة.
وأفضل سبيل إلى فهم وجهة نظر فلسفة كونت الوضعية هو مقارنتها بفلسفة كانت النقدية؛ فكانت لا يقل عن كونت معارضة للميتافيزيقا النظرية واللاهوت النظري. غير أنه لا ينكر أبدا أن الحديث عن أشياء في ذاتها لا يصل إليها الذهن العلمي يمكن، من وجه معين، أن يكون حديثا ذا معنى، كما أنه لا ينكر أن هناك أنواعا للنشاط العقلي غير تلك التي تطابق إجراءات العلم التجريبي. وبالاختصار فإن نقده للعقل لا يمثل اعتراضا أساسيا على الرأي التقليدي القائل إن النشاط العلمي لا يستنفد جميع أطراف حياة العقل؛ ففي رأيه أن للأخلاق والدين والفن أساسها العقلي، حتى لو لم يكن من الممكن وصف النتائج التي تحققها بأنها «معرفة».
أما كونت فيرفض الخروج عن نطاق العلم في سبيل تبريره نقديا بوصفه الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية؛ فمعيار المعقولية الوحيد عنده هو، منذ البداية، العلم، والأساس الوحيد لرفضه أن يعد اللاهوت أو الميتافيزيقا ميادين للمعرفة هو أن طرق البحث العلمية لا يمكن أن تبرر ادعاءاتها المعرفية. وبالاختصار فإن موقف كونت من العلم ليس نقديا، وإنما هو «وضعي»، والعالم الذي يصفه العلم هو العالم «الوحيد» ومنهجه هو منهج المعرفة ذاتها. وهذا لا يعني، كما سنرى، أن كونت يرفض الأخلاق أو الدين تماما، وإنما معناه أن من الواجب الكف عن تصور الأخلاق والدين على أنهما يتنافسان مع العلم في ميدانه الخاص، وأن عليهما الالتجاء إلى العلم في صدد أية ادعاءات علمية قد يضطران إلى القيام بها.
وطالما زعم نقاد كونت أن فلسفته مستعارة بأسرها. وهذا خطأ يتضح إذا ما قارناه بالسابقين عليه مثل لوك أو هيوم؛ فالتجريبيون الإنجليز يحاولون جميعا أن يبرروا تجريبيتهم بإظهار أن من الممكن تعقب «أصول» جميع أفكارنا إلى انطباعات للحس وانعكاسات على الفكر أو شعور. أما كونت فيرفض أي تبرير نفساني كهذا، ويكتفي بإعلان إصراره على عدم الاعتراف بإمكان تصديق أية عبارة ما لم تحققها مناهج العلم التجريبي. وبالاختصار فإن تجريبيته «وضعية» وهو يستخدمها صراحة وعلنا بوصفها أداة أيديولوجية للقضاء على كل المناهج غير العلمية في التفكير. وهدفه، من حيث هو فيلسوف، هو الدعوة إلى عقلية تأبى التفكير على نحو غير علمي، وترفض قضايا اللاهوت التقليدي والميتافيزيقا التقليدية لمجرد كونها غير علمية.
هذا الموقف الصارم الحازم يبدو بعيدا كل البعد عن فلسفة كانت المتأنية في نقدها، وعن المذهب الترنسندنتالي الرقيق اللهجة عند فشته وهيجل، وهو بالفعل بعيد عن هذه المذاهب في نواح عدة . غير أن كانت يرفض إمكان الميتافيزيقا النظرية بنفس القوة التي يرفضه بها كونت، ونتيجة معارضتهما للميتافيزيقا العقلية واللاهوت العقلي تتقارب في النهاية إلى حد بعيد. ولقد كانت فلسفة كونت مشابهة لفلسفة هيجل في تغلغل فكرة التطور فيها بعمق، وقانونه المشهور «للمراحل الثلاث» للتطور العقلي البشري يحمل طابعا هيجليا لا ينكر، كما أن كونت يستخدمه، على طريقة هيجل، وسيلة للقضاء بطريقة خفية بارعة على كل وجهات النظر السابقة عليه. ولكن هل القانون ذاته فرض تجريبي؟ لا ونعم؛ فهو ظاهريا لا يزيد على كونه وصفا تاريخيا لتطور الذهن البشري، ولكنه من وجهة نظر أعمق قانون للتقدم العقلي والحرية العقلية يفرض على نحو جامع الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه البشرية إذا ما استنارت تدريجيا. فكونت مثل هيجل، يقف من جميع الاتجاهات الفلسفية والدينية السابقة على اتجاهه الخاص موقف الوصي إلى حد ما. وهو مثل هيجل ينظر إليها على أنها «لحظات» لا مفر منها في التطور التاريخي للفكر البشري نحو بلوغ غايته النهائية في الفلسفة الوضعية. وفضلا عن ذلك فإن كونت يذكر بكل وضوح أن فلسفته لا تعلو على الاتجاهات الفكرية الأسبق والأدنى منها فحسب، بل تضم بين ثناياها كل ما له دلالة حقيقية فيها.
ويعترض كونت بشدة على التفكير الأسطوري، بقدر ما ينافس تقدم العلم أو يعترض سبيله، ويراه مميزا للدين التقليدي. ولكن عندما تتاح للمرء فرصة التسلح بالفلسفة الوضعية ضد الأوهام التي يولدها هذا النوع من التفكير، فمن الممكن عندئذ العودة إلى الأساطير الدينية لما قد تحتوي عليه من شعر أو إرشاد خلقي. بل إن الوضعي قد «يقبل»، بمعنى معين، معتقدات الكنيسة، وإن يكن هذا القبول لا يرتبط على الإطلاق، في نظره، بالاعتقاد العقلي، وعلى هذا النحو تتجمع ثانية في فلسفة كونت بعض المواقف المعقدة ذات الاتجاه المزدوج نحو المسيحية، التي نجدها لدى هيجل. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن من الممكن الاهتداء إلى هذه الاتجاهات المزدوجة في معظم المذاهب اللاهوتية «المتحررة» في وقتنا هذا.
ويرى كونت أن المرحلة الأولى، أو اللاهوتية للتطور، تتميز بعقلية تنظر إلى الأشياء الأخرى من خلال تشبيهات بالعقل البشري ذاته إلى حد بعيد. وتعزو بالتالي إلى الظواهر الطبيعية تلك المشاعر والرغبات التي تتميز بها استجابتنا نحن لها. ففي هذه المرحلة يتجه كل تفكير إلى بعث ما يشبه الحياة في الظواهر الطبيعية وتشبيهها بالإنسان، وينظر المرء إلى كل شيء من خلال مقولات الغرض والإرادة والروح، ويتصور أن وجود أي شيء يفسر تماما من خلال الغرض أو الروح الكامنة التي تعزى إليه. وهكذا فإن الصفة المميزة للوعي اللاهوتي هي عدم إدراكه لوجود تمييز قاطع بين السؤالين البادئين ب «كيف؟» و«لماذا؟» وبالتالي عدم تميزه بوضوح بين ما نسميه ب «التفسير» وبين «التبرير». وهكذا يتصور العالم، من وجهة النظر هذه، تصورا أسطوريا على أنه نظام روحي ينظر فيه إلى الأغراض الحيوية للأشياء على أنها في الوقت ذاته عوامل فعالة «تسبب» سلوك هذه الأشياء على النحو الذي تسلكه. وبعبارة أخرى في هذه المرحلة اتجاه إلى تشخيص كل الظواهر، والنظر إلى كل عملية كما لو كانت فعلا بشريا، فما يحدث ليس شيئا يحدث فحسب، بل هو شيء يفعل أو ينفعل به أو يتحقق.
والمرحلة اللاهوتية، كما يصفها كونت، أقسام فرعية هامة؛ فالمرحلة الأولى فيها هي المرحلة «الصنمية
fetishistic » التي ينظر فيها إلى الأشياء الطبيعية كما لو كانت حية لها مشاعر وأغراض خاصة بها. وفي المرحلة الثانية؛ أي مرحلة تعدد الآلهة، يحدث تبسيط تدريجي لهذا المذهب الحيوي الذي يقول أساسا بالكثرة. فهنا تتصور «الآلهة» على أنها قوى غير منظورة أو تكاد تكون غير منظورة، تتحكم في جميع أنواع الظواهر. وأخيرا تأتي مرحلة ثالثة أو توحيدية، يحدث فيها مزيد من الجمع بين القوى في صورة إله موحد، ينظر إليه على أنه خالق الكون بأسره، ومتحكم فيه، إما بطريق مباشر وإما بوسائط أدنى مرتبة منه وتأتمر بأمره.
والمرحلة الكبرى الثانية للتقدم العقلي هي تلك التي يطلق عليها كونت اسم المرحلة «الميتافيزيقية». وهنا يبدأ الاتجاه إلى إضفاء صفة الحياة على الأشياء في الاختفاء لأول مرة؛ فالميتافيزيقي لا ينظر إلى الطبيعة على أنها خلق إلهي لعناية إلهية، بل على أنها مبدأ أول أو علة أولى ينبغي افتراضها لتفسير النظام في الكون. ولا شك في أن بعض آثار الاتجاه إلى إضفاء صفة الحياة على الأشياء تظل باقية، غير أن فكرة الغرض أو الإرادة «ترق أو تلطف أو تغدو أثيرية»
etherialized ، على حد التعبير المألوف لدى أرنولد توينبي، حتى تعود أكثر من تجريد عقلي. فهنا لا يعود الأمر متعلقا بروح تبعث الحياة في كائن بعينه، وإنما، «بقوة» لا شخصية لا يمكن تحديد موقع فاعليتها في أي مكان من العالم الطبيعي. والاتجاه المميز للذهن الميتافيزيقي ليس إضفاء صفة الحياة على الطبيعة بقدر ما هو «تجسيم» الأفكار، وليس نسبة مشاعر إلى الرياح أو أغراض إلى البحر، بقدر ما هو إضفاء «حقيقة»
reality
ثابتة على التصور، معادلة لحقيقة عالم الصخور والكراسي والحشرات. وهكذا تبدأ «الماهيات» و«الميول» و«الإمكانيات» و«الطبائع» في تعمير الكون بوصفها كيانات لها قوامها الخاص، وتعزى إليها فاعلية علية لم تكن تنسب من قبل إلا إلى الأرواح. ويتصور الميتافيزيقيون وجود «لوجوس» أو «عقل» يتحكم في نظام العالم الطبيعي، بدلا من الآلهة غير المنظورة التي قال بها اللاهوتيون. وأقوى مميزات الميتافيزيقي هي أنه يجعل «العقل» مساويا «للعلة»، ويتصور بذلك أن في إمكانه عن طريق الاستدلال وحده أن يفسر علل الأشياء. فهو يقدم «براهين» استمدت بالاستنباط من حقائق معقولة واضحة بذاتها، على وجود موجود ضروري يسميه ب «الله»، ويعزو «الضرورة» التي يزعم أنها مميزة لاستدلاله، إلى الأشياء التي يتصور أنه قد استدل عليها.
وتأتي بداية النهاية بالنسبة إلى الميتافيزيقا عندما تنشب الخلافات الكبرى بين من يسمون ب «الواقعيين» و«الاسميين» حول مركز التصورات الكلية. هذه الخلافات ما زالت «ميتافيزيقية»؛ إذ يظل كلا الطرفين يعتقد أن التحليل المنطقي وحده كفيل بالبت في المسائل المتعلقة بالوجود. غير أن النظر إلى «حقيقة» الكليات، مستقلة عن الجزئيات التي تتصف بها، على أنها مشكلة، هو في ذاته دليل على الوهن التدريجي لقيود الميتافيزيقا ذاتها.
أما المرحلة الثالثة أو «الوضعية» فتأتي أخيرا عندما تترك كل هذه «المشاكل» جانبا بسبب عقمها ، ويظل العلم الوضعي هو وحده الذي يعترف به مصدرا للمعرفة البشرية. في هذه المرحلة لا يتصور «التفسير» إلا من خلال فروض أو قوانين تجريبية تصف العلاقات الثابتة القائمة بين فئات من الظواهر الملاحظة، وهنا لا يعترف «بارتباط على» غير التضايف القابل للتحقيق بين فئات من الظواهر، ويقتصر دور العقل على تتبع العلاقات المنطقية القائمة بين الفروض العلمية ذاتها.
والواقع أن وصف كونت لهذه المرحلة هو في حقيقة الأمر عرض لنظريته الخاصة في المعرفة، وهي نظرية ليست، رغم ذلك، «تجريبية» إلا بأعم معاني هذا اللفظ. فكل تفكير علمي يتعين عليه، في رأيه، أن يقبل اختبارات الملاحظة بوصفها اختبارات حاسمة في تحدد صحة أي فرض. غير أن العلم أكثر من مجرد إقرارات قائمة على الملاحظة، وإن علما كالفيزياء ليتسم، لا بحشد عدد كبير من الوقائع الجزئية، وإنما بصياغة فروض ونظريات عامة تربط هذه الوقائع بغيرها من الوقائع على نحو منظم. والعلم الصحيح لا يظهر إلا عندما يكشف التضايف بين الوقائع، وأهم من ذلك، عندما ينظر إلى الظواهر الفردية على أنها أفراد في فئات شاملة لظواهر مماثلة ترتبط في علاقات شبه قانونية متعلقة بتلازمها في الوجود أو تعاقبها مع أفراد الفئات الأخرى المماثلة. وعندما تكون العلاقات التي تصفها نظرية علمية معينة علاقات تلازم في الوجود، يطلق كونت على هذه النظرية اسم القانون «السكوني
static »، وعندما تكون علاقات تعاقب أو استمرار، يسمي القانون ب «القانون الحركي
dynamic ». ويرى كونت أن هذين النوعين من القوانين أساسيان للعلم، وليس لنا أن نؤثر أحدهما على الآخر على نحو نهائي. ولنضف إلى ذلك، في هذا الصدد، أن من الممكن تجنب قدر كبير من الجدل العقيم حول إمكان أو طبيعة ما يسمى بقوانين التطور التاريخي إذا ما استقر هذا التمييز البسيط دائما في الأذهان بوضوح. ولقد أظهر كونت في هذه المسألة، كما أظهر في مسائل أخرى متعددة، صفاء ذهنيا كان سابقا لزمانه إلى حد بعيد.
ويقبل كونت، بمعنى ما ، المثل الأعلى لوحدة العلم. ولكن يبدو أن فكرة وحدة العلم لم يكن لها في ذهنه المعنى الذي كان لها في أذهان بعض الفلاسفة الآخرين من ذوي العقليات العلمية. ويظهر موقف كونت بوضوح في آرائه الطريفة حول تصنيف العلوم، وهي بهذه المناسبة، مشكلة أتاحت لفلاسفة العلم في القرن التاسع عشر ممارسة إحدى رياضاتهم المنزلية (الداخلية) المحببة إلى نفوسهم. فكونت أولا يرفض رد العلوم بعضها إلى بعض، وهو يعارض أي تصنف يسعى إلى رد علم الاجتماع إلى علم الأحياء، أو علم الأحياء إلى الفيزياء، وهو يرى أن الفارق في نطاق قوانين العلوم أو عموميتها ليس إلا سببا جزئيا للاختلاف بين العلوم. وإنما يرجع هذا الاختلاف أيضا إلى أن التجربة تكشف عن أنماط متميزة شديدة التباين من الظواهر التي يحتاج تفسيرها، لهذا السبب، إلى مجموعة متباينة من التصورات المتميزة، وإلى كثرة من النظريات التي لا يمكن رد بعضها إلى بعض. وإذن فالوحدة الوحيدة للعلم، التي تدعو إليها فلسفة كونت، هي وحدة المنهج؛ أي اشتراك كل الباحثين العلميين في التزام المنطق واختبارات الملاحظة التجريبية. ولا يعترف كونت، ثانيا، بأن الفلسفة ذاتها علم أساسي هام، أعم من الفيزياء. تعد فروض العلوم الأقل عمومية بالنسبة إليه نتائج منطقية أو تطبيقات جزئية. ومن السمات ذات الدلالة الهامة في وضعية كونت أنه يرفض أي نوع من المادية، لا لأن المادية «ميتافيزيقية» فحسب، بل أيضا لأنها تشوه الفوارق الحيوية القابلة للملاحظة والقائمة بين أنواع الظواهر التي تعالجها العلوم الفيزيائية والبيولوجية والاجتماعية.
ومع ذلك فليس معنى هذا أن كونت كان على استعداد لتأييد ما أسماه الفلاسفة الألمان بالعلم الروحي
Geisteswissenschaft ، ولا سيما إذا كان هذا اللفظ يدل على مبحث يعيد صراحة إدخال المقولات الروحية في مجال العلم، أو يهيب بمعطيات «خاصة» مزعومة للتجربة، لا يتوصل إليها، من حيث المبدأ، إلا بالاستبطان، أو يستخدم أخيرا «منطقا» ديالكتيكيا خاصا يختلف عن المنطق المستخدم في العلوم الفيزيائية. وعلى العكس من ذلك يرفض كونت أن ينظر إلى الذهن البشري على أنه مجال وحيد للبحث لا تصل إليه طرق التحليل والملاحظة العامة المشتركة بين الذوات. وهو يرى أن هنالك أساسا علمين أساسيين للسلوك البشري؛ علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، وعلم الاجتماع. وفي رأي كونت أن أي علم ثالث يزعم أنه يعالج ظواهر (نفسية) خاصة إنما هو من قبيل الأسطورة المحض. وينبغي أن يضاف إلى ذلك هنا أن كونت نفسه قد نحت اللفظ، اللقيط: «
sociology »،
1 (علم الاجتماع) للدلالة على علم لم يكن موجودا بعد للمجتمع البشري، وهو العلم الذي اعتقد أن قوانينه هي وحدها الكفيلة بتفسير السلوك الاقتصادي والسياسي والأخلاقي للبشر. ويعترض كونت بشدة على أية نظرة تاريخية خالصة إلى دراسة العمليات التاريخية، وهو في هذا يتحالف مع معاصره الإنجليزي الأصغر سنا، جون ستيوارت مل، ضد مؤيدي ما يسمى بالمنهج التاريخي، الذين يزعمون أن دراسة التاريخ وحدها كفيلة بإتاحة المعرفة المؤدية إلى السلوك في الحياة. فالتاريخ في رأي كونت يمدنا بمجموعة من الملاحظات الجزئية التي لا تستطيع، على أحسن الفروض، إلا تقديم المعطيات الممهدة لتعميم النظريات الاجتماعية واختبارها، ولكنه لا يأتي بالنظريات ذاتها. ومن المحال في نظره توافر معرفة بحركية التاريخ ما لم تقم هذه المعرفة على علم للمجتمع.
وهناك صفة أخرى تتصف بها فلسفة كونت وينبغي علينا إيضاحها؛ فقد أخذ كونت في سنواته الأخيرة يزداد إيمانا بأن فلسفته تنطوي على أساس «لعقيدة جديدة للبشرية»، كانت هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي. فالأديان التقليدية تقتضي قبول معتقدات لاهوتية غير علمية، وتحول جهودنا عن مشاكل الرفاه الفردي والاجتماعي «في هذا العالم». وفي هذا كان كونت معارضا لها، وقد حاول أن يستعيض عنها بالمثل الأعلى الديني الجديد لبشرية تزداد استنارة بالتدريج، وتتفاني بغيرية في سبيل مبادئ الرعاية والحب. ولكن مما يؤسف له أن كونت لم يقنع بالدعوة إلى عقيدته الجديدة، وإنما اتجه أيضا إلى تحديد طقوس مفصلة لها، مما كان موضوعا لسخرية ناقديه. وفضلا عن ذلك فقد ازداد كونت في سنواته الأخيرة إيمانا بأنه النبي الحقيقي لدينه الجديد، وبأن عشيقته الشابة هي القديسة الحامية لهذا الدين، كما أنها رمزه. ولم يكن في هذا، بطبيعة الحال، ما يؤدي إلى إعلاء قيمته من حيث هو مفكر.
ولقد أصيب كونت في سنواته الأخيرة بما يشبه مرض البارانويا
2
وكشفت كتاباته الأخيرة عن قدر من اختلال التوازن الانفعالي أدى، لسوء الحظ، إلى إلقاء ظل من الغموض على كتاباته المبكرة الجلية. ولقد كان ذهن كونت، رغم كل مظاهر العظمة التي أضفاها على ذاته، من نتاج عصره، وكانت فلسفته الوضعية تمثل دون شك إحدى المعالم الرئيسية في تفكير القرن التاسع عشر. كما أنه كان أكثر بكثير من مجرد داعية محدود. الأفق للعلم؛ فقد كان يعتقد بوجوب احتلال المنهج العلمي مكان الصدارة في ميدان المعرفة، ولكنه لم يتصور لحظة واحدة أن اكتساب المعلومات العلمية هو الغاية الوحيدة للحياة البشرية. وكان يؤمن بوحدة العلم، ولكن بمعنى أن مناهج البحث العلمي واحدة فقط، ولم يكن ضمن برنامجه، من حيث هو مفكر وضعي، أن ينزل بالإنسان إلى مرتبة الشيء المادي فحسب. وفضلا عن ذلك فإنا لا نضطر في حالة كونت إلى أن نتردد لحظة لكي نفهم ما يقوله، مثلما نفعل في حالة فشته وهيجل. فهو في معظم الأحيان يتحدث حديثا مباشرا واضحا، بأقل قدر ممكن من الغموض، ولقد كانت له أخطاء خطيرة، غير أن من الممكن على الأقل تحديد موضعها. وبالاختصار فسوف يكتشف كل قارئ نزيه في أوجست كونت مفكرا يتسم بقدر كبير من العمق والأصالة، كان، مع كل أخطائه، هو الممهد لكثير من الاتجاهات التي ما زالت في عنفوان نشاطها بين الفلسفات التجريبية والطبيعية في عصرنا هذا. ولقد كان معظم مؤرخي فلسفة القرن التاسع عشر متجنين عليه، وإنه لمن دواعي اغتباطي، أنني حاولت، في هذه الصفحات القلائل، رد حقه إليه.
والنص التالي مقتطف من الفصل الأول من المجلد الأول من كتاب (فلسفة أوجست كونت الوضعية)،
3 ⋆
وفي هذا النص يشرح كونت هدف فلسفته، ويوضح طبيعة الفلسفة الوضعية وأهميتها. «إن الإيضاح العام لأي مذهب فلسفي قد يكون عرضا موجزا لمذهب يزمع وضعه، أو تلخيصا لمذهب موضوع بالفعل. وإذا كانت قيمة الأخير أعظم، فإن للأول مع ذلك قيمته، من حيث إنه يوضح خصائص الموضوع الذي سيعالج منذ البداية. ومما له أهمية خاصة، في حالة كهذه الحالة التي تقترح فيها دراسة موضوع متشعب لم تتضح معالمه قبل الآن، أن يحدد ميدان البحث بكل دقة ممكنة؛ ولهذا السبب سوف أعرض لمحة عن الدواعي التي أدت إلى قيام هذا البحث، والتي سوف تعرض خلاله بإسهاب تام.
ولكي نفهم القيمة الحقيقية للفلسفة الوضعية وطابعها، ينبغي علينا أن نلقي نظرة عامة موجزة على التطور التدريجي للذهن البشري، منظورا إليه من حيث هو كل؛ إذ لا يمكن فهم أية فكرة إلا من خلال تاريخها.
قانون التقدم البشري : تؤدي دراسة تطور العقل البشري في جميع الاتجاهات وفي كل العصور إلى كشف قانون أساسي هام، يخضع له هذا التطور بالضرورة، وتثبته، على أساس متين، وقائع تركيبنا وتجربتنا التاريخية. هذا القانون هو أن كلا من مفاهيمنا الرئيسية، وكل فرع لمعرفتنا، يمر على التوالي بثلاثة ظروف نظرية مختلفة؛ اللاهوتية، أو الخرافية، والميتافيزيقية أو التجريدية، والعلمية أو الوضعية. وبعبارة أخرى فالعقل البشري، بحكم طبيعته، يستخدم في تقدمه ثلاثة مناهج للتفلسف، يختلف طابعها اختلافا كبيرا، بل تتعارض تعارضا أساسيا؛ هي المنهج اللاهوتي، والميتافيزيقي، والوضعي. ومن هنا تظهر ثلاث فلسفات، أو ثلاثة نسق عامة من المفاهيم حول مجموعات الظواهر، كل منها يستبعد الآخرين؛ أولها هو نقطة البداية الضرورية للذهن البشري، وثالثها هو الحالة الثابتة المستقرة، أما الثاني فحالة انتقالية فحسب.
المرحلة الأولى : في الحالة اللاهوتية يفترض الذهن البشري، في بحثه عن الطبيعة الأساسية الأشياء، والعلل الأولى والغائية (أي أصلها والغرض منها)، أن كل الظواهر ناتجة عن الفعل المباشر لكائنات فوق الطبيعة.
المرحلة الثانية : وفي المرحلة الميتافيزيقية، التي لا تعدو أن تكون تعديلا للأولى، يفترض الذهن، بدلا من الكائنات فوق الطبيعة، قوى مجردة، وكيانات فعلية (أي تجريدات مشخصة) كامنة في كل الموجودات، وقادرة على إحداث جميع الظواهر. وليس ما يسمى بتفسير الظواهر في هذه المرحلة سوى إحالة كل منها إلى كيانه الخاص به.
المرحلة الثالثة : وفي المرحلة الأخيرة الوضعية يكشف الذهن عن البحث العقيم عن أفكار مطلقة، وعن أصل الكون وغايته، وعن علل الظواهر، وينصرف إلى دراسة قوانينها؛ أي علاقات التعاقب والتشابه الثابتة بينها. ووسيلة هذه المعرفة هي الاستدلال والملاحظة مجتمعين. والمعنى المفهوم هنا من الحديث عن تفسير الظواهر هو مجرد إثبات ارتباط بين الظواهر الفردية وبين وقائع عامة ما، يقل عددها تدريجيا كلما تقدم العلم.
الحد النهائي لكل مرحلة : يصل النظام اللاهوتي إلى أقصى كمال يستطيع بلوغه عندما يستبدل الفعل الإلهي لموجود واحد بالعمليات المتنوعة لآلهة عديدة كانت تتصور من قبل. وبالمثل يستبدل الناس في المرحلة الأخيرة من النظام الميتافيزيقي كيانا واحدا هائلا (هو الطبيعة)، من حيث هو علة لجميع الظواهر، بالكيانات الكثيرة التي افترضت في البداية. وعلى هذا النحو ذاته سيكون الكمال الأقصى للنظام الوضعي (إن كان لنا أن نأمل في مثل هذا الكمال)، هو تصوير جميع الظواهر على أنها أوجه جزئية لواقعة عامة واحدة، كالجاذبية مثلا.
وسوف نثبت فيما بعد أهمية تطبيق هذا القانون العام. وحسبنا الآن أن نشير إلى بعض أسبابه:
الأدلة على القانون، أدلة فعلية (واقعية) : لا بد أن يحمل كل علم وصل إلى المرحلة الوضعية الطابع الذي يدل على أنه مر بالمرحلتين الأخريين. فأيا كان هذا العلم، فلا بد أنه كان منذ وقت مضى مؤلفا من تجريدات ميتافيزيقية، كما نستطيع أن ندرك الآن. فإذا تعقبناه إلى وقت أسبق، وجدناه يتخذ طابع المفاهيم اللاهوتية. وسوف تصادفنا، أثناء البحث، فرص لا حصر لها، ندرك منها أن أكثر علومنا تقدما ما زال يحمل الطابع الواضح كل الوضوح للمرحلتين السابقتين اللتين مر بهما.
وإن في تقدم الذهن الفردي لمثلا، بل دليلا غير مباشر، على تقدم الذهن العام. فلما كانت نقطة بداية الفرد والنوع البشري واحدة، فإن مراحل ذهن الشخص الواحد تطابق عصور ذهن النوع البشري. وإن كلا منا ليدرك، إذا ما عاد بفكره إلى تاريخ حياته الخاص، أنه كان لاهوتيا في طفولته، ميتافيزيقيا في شبابه، وفيلسوفا طبيعيا في نضوجه. وفي وسع كل من بلغ سن النضج فينا أن يحقق هذا في نفسه.
أدلة نظرية : تؤيد هذا القانون أسباب نظرية إلى جانب ملاحظة الوقائع.
وأهم هذه الأسباب هو أن من الضروري أن توجد دائما نظرية ما نرد إليها وقائعنا، وأن من الأمور الواضحة الاستحالة، في الوقت ذاته، أن يكون الناس في بداية المعرفة البشرية قد كونوا نظريات من ملاحظة الوقائع. فقد أكدت كل العقول السليمة، منذ عصر بيكون، أنه لا يمكن قيام معرفة حقيقية سوى تلك المبنية على وقائع ملاحظة.
وهذا أمر لا جدال فيه، في مرحلتنا المتقدمة الحالية، ولكنا إذا ما عدنا القهقرى إلى المرحلة البدائية للمعرفة البشرية، فسنرى أن الأمر كان قطعا على خلاف هذا في ذلك الحين. فإذا كان صحيحا أن كل نظرية ينبغي أن تبنى على وقائع ملاحظة، فمن الصحيح بالقدر نفسه أن من المستحيل ملاحظة الوقائع دون الاسترشاد بنظرية ما. فبغير هذا الاسترشاد تكون وقائعنا مفككة عقيمة، ولا يكون في وسعنا الاحتفاظ بها، بل لا نستطيع إدراكها في معظم الأحيان.
وهكذا، فلولا المهرب الطبيعي الذي تتيحه المفاهيم اللاهوتية، لظل العقل البشري يدور في حلقة مفرغة، ما بين ضرورة ملاحظة الوقائع من أجل تكوين نظرية، وضرورة وجود نظرية من أجل إمكان ملاحظة الوقائع. وهذا هو السبب الأساسي للطابع اللاهوتي للفلسفة البدائية. ومما يؤكد هذه الضرورة، ملاءمة الفلسفة اللاهوتية لأقدم أبحاث العقل البشري ملاءمة تامة. ومن العجيب أن أصعب المشاكل؛ أعني مشاكل طبيعة الموجودات، وأصل الظواهر والغرض منها، كانت هي أول ما خطر على الأذهان في الحالة البدائية، على حين أن المشاكل التي كانت بالفعل قريبة المنال كانت تعد غير جديرة بالدراسة الجدية. والسبب واضح كل الوضوح؛ فالتجربة وحدها هي التي تعرفنا بنطاق قدرتنا، ولو لم يكن الناس قد بدءوا بتقدير مبالغ فيه لما يستطيعون عمله، لما فعلوا أبدا ما يمكنهم القيام به. وإن تكويننا ذاته ليقتضي هذا؛ ففي فترة كهذه لم يكن من الممكن أن يعير الناس أذنا صاغية لأية فلسفة وضعية تستهدف دراسة قوانين الظواهر، وتتصف أساسا بأنها تنهى العقل البشري عن تأمل تلك الأسرار الرفيعة التي يشرحها اللاهوت حتى أدق تفاصيلها بيسر جذاب. ويتضح هذا بجلاء إذا ما تأملنا، بطريقة عملية، طبيعة الأبحاث التي اهتم الناس بها في البداية؛ فمثل هذه البحوث تخلب اللب بقوة؛ إذ تقنع الإنسان بأن له سيطرة لا حد لها على العالم الخارجي - الذي هو عالم لا يستهدف سوى نفعنا، ويرتبط بحياتنا على شتى الأنحاء. ولقد أتاحت الفلسفة اللاهوتية، بعرضها هذا الرأي، تلك القوة الدافعة الضرورية لحث الذهن البشري على بذل الجهد الشاق الذي لا يتحقق دونه تقدم. وليس في وسعنا أن نتصور بوضوح طبيعة هذه المرحلة، بعد أن بلغ عقلنا من النضوج ما يتيح له خوض أبحاث علمية شاقة دون حاجة إلى قوة دافعة كتلك التي أثارت خيال المنجمين أو الكيميائيين القدامى. فلدينا ما يكفينا من الدوافع في أملنا أن نكشف قوانين الظواهر، بغية تأييد نظرية أو رفضها. ولكن لم يكن من الممكن أن يكون الأمر كذلك في الأيام الأولى، ونحن إنما ندين لأوهام التنجيم والكيمياء القديمة بتلك السلسلة الطويلة من الملاحظات والتجارب التي بني عليها علمنا الوضعي. وهذا ما أدركه كيبلر
4
في حالة الفلك، وبرتوليه
Berthollet
5
في حالة الكيمياء.
وهكذا كانت الفلسفة اللاهوتية، وهي فلسفة تلقائية، هي البداية والمنهج والمذهب المؤقت الوحيد الممكن، والذي أمكن أن تنمو الفلسفة الوضعية منه. ومن السهل بعد ذلك أن ندرك كيف كانت المناهج والمذاهب الميتافيزيقية التي أتاحت بالضرورة وسيلة الانتقال من إحدى المرحلتين إلى الأخرى.
فلم يكن في وسع الذهن البشري، وهو البطيء في تقدمه، أن يقفز دفعة واحدة من الفلسفة اللاهوتية إلى الفلسفة الوضعية؛ إذ إن بين الاثنين من التعارض الشديد ما حتم قيام مذهب فكري وسيط لإتاحة الانتقال من أحدهما إلى الآخر. والفائدة الوحيدة للأفكار الميتافيزيقية تنحصر في قيامها بهذه المهمة. وهكذا فإن الناس في تأملهم للظواهر يستبدلون بالتوجيه الصادر من كائن فوق الطبيعي كيانا مقابلا له. وربما اعتقد أن هذا الكيان مستمد من فعل فوق الطبيعي، ولكن الأيسر من ذلك صرف الانتباه عنه ، وتركيز الاهتمام في الوقائع ذاتها، حتى لا تعود القواعد الميتافيزيقية في النهاية سوى الأسماء التجريدية للظواهر. وليس من السهل أن نحدد طريقة أخرى غير هذه لانتقال أذهاننا من الأفكار فوق الطبيعية إلى الأفكار الطبيعية، ومن النظام اللاهوتي إلى النظام الوضعي.
وبعد أن حددنا على هذا النحو قانون التطور البشري، ينبغي أن نبحث في الطبيعة الحقة للفلسفة الوضعية.
طابع الفلسفة الوضعية : إن أول طابع الفلسفة الوضعية، كما رأينا من قبل، هو أنها تنظر إلى جميع الظواهر على أنها خاضعة لقوانين طبيعية لا تتغير. ولما كنا ندرك مدى عقم ما يسمى بالعلل، الأولى منها أو الغائية، في أي بحث، فإن مهمتنا هي السعي إلى كشف هذه القوانين بدقة، بغية اختصارها إلى أقل عدد ممكن. أما التأمل النظري للعلل فلا يؤدي إلى حل أية مشكلة متعلقة بالأصل والغرض. ومهمتنا الحقيقية هي أن نحلل بدقة ظروف الظواهر، ونجمع بينها عن طريق علاقات التعاقب والتشابه الطبيعية. وأفضل مثل على ذلك يتبدى في فكرة الجاذبية؛ فنحن نقول إنها تفسر الظواهر العامة للكون؛ لأنها تجمع كل الوقائع الفلكية الهائلة التنوع تحت باب واحد، وتكشف عن الاتجاه الدائم للذرات بعضها نحو البعض في تناسب طردي مع كتلها، وفي تناسب عكسي مع مربعات مسافاتها، على حين أن الواقعة مألوفة تماما لدينا، ونقول بالتالي إننا نعرفها؛ أعني وزن الأشياء على سطح الأرض. أما ما هو الوزن وما هي الجاذبية، فذلك أمر لا شأن لنا به؛ إذ هو ليس موضوعا للمعرفة على الإطلاق. وقد يمارس اللاهوتيون أو الميتافيزيقيون خيالهم حول هذه المسائل، ويحللونها، غير أن الفلسفة الوضعية ترفضها. وقد اقتصرت كل محاولة بذلت لتفسيرها على القول آخر الأمر، إن الجاذبية هي الوزن الكوني، وإن الوزن هو الجاذبية الأرضية؛ أي إن مجموعتي الظواهر واحدة، وتلك هي النقطة التي بدأ منها السؤال.
تاريخ الفلسفة الوضعية : قبل تحديد المرحلة التي بلغتها الفلسفة الوضعية، ينبغي أن يستقر في أذهاننا أن أنواع معارفنا المختلفة قد مرت بمراحل التطور الثلاث بسرعات متفاوتة، وأنها بالتالي لم تصل (إلى آخر المراحل) في وقت واحد. ويتوقف معدل التقدم على طبيعة المعرفة موضوع البحث، حتى إن هذه القاعدة تؤلف ملحقا لقانون التقدم الأساسي. فتبكير أية معرفة في بلوغ المرحلة الوضعية يتناسب تناسب طرديا مع عموميتها وبساطتها واستقلالها عن فروع المعرفة الأخرى. فعلم الفلك، الذي يتألف، قبل كل شيء، من وقائع تتصف بالعمومية والبساطة والاستقلال عن العلوم الأخرى، كان أول علم بلغ هذه المرحلة، وتلته الفيزياء الأرضية، ثم الكيمياء، وأخيرا علم وظائف الأعضاء.
ومن العسير تحديد تاريخ دقيق لهذا الانقلاب في العلم. ومن الممكن أن يقال عنه، كما يقال عن أي شيء آخر، إنه كان قائما على الدوام، ولا سيما منذ جهود أرسطو ومدرسة الإسكندرية، ثم منذ إدخال العرب للعلم الطبيعي إلى غرب أوروبا. أما إذا كان علينا أن نركز أنظارنا على فترة محددة بعينها، تعد نقطة تجمع، فلا بد أن تكون هي الفترة التي أدت فيها قواعد بيكون وأفكار ديكارت وكشوف جاليليو، منذ حوالي قرنين من الزمان، إلى إيقاظ الذهن البشري من سباته. ففي تلك الفترة قامت روح الفلسفة الوضعية تعارض المذاهب الخرافية والمدرسية التي كانت تشوه قبل ذلك الطابع الحقيقي لكل علم. ومنذ ذلك الوقت، أصبح تقدم الفلسفة الوضعية وتدهور المرحلتين الأخريين من الوضوح بحيث لا يشك ذهن عاقل، في وقتنا هذا، في أن الثورة صائرة حتى منتهاها، حين يدخل كل فرع للمعرفة، عاجلا أو آجلا، في نطاق الفلسفة الوضعية. هذا هدف لم يتحقق بعد؛ إذ إن بعض فروع المعرفة ما زال خارجا عن هذا النطاق، ولن تكتسب الفلسفة الوضعية طابع الشمول اللازم لإقامتها بصورة نهائية إلا إذا أصبحت كل العلوم داخلة في هذا النطاق.
فرع جديد للفلسفة الوضعية : لا بد أن القارئ قد لاحظ وجود حذف فيما ذكرته منذ قليل عن الأنواع الأربعة الرئيسية للظواهر الفلكية والفيزيائية والكيميائية والفسيولوجية؛ إذ لم أقل شيئا عن الظواهر الاجتماعية. ورغم ارتباط الظواهر الاجتماعية بالظواهر الفسيولوجية، فإنها تقتضي تصنيفا متميزا، نظرا إلى أهميتها وصعوبتها. فهي أكثر الظواهر فردية، وتعقدا، واعتمادا على كل الباقين ، ومن هنا وجب أن تكون آخرها، حتى لو لم تكن تصادفها أية عقبة خاصة؛ فهذا الفرع من العلم لم يدخل قبل الآن في مجال الفلسفة الوضعية. وما زالت المناهج اللاهوتية والميتافيزيقية، التي قضي عليها في الفروع الأخرى، تطبق حتى الآن في كل بحث للموضوعات الاجتماعية، سواء في طريقة البحث والمناقشة، وإن تكن أفضل العقول قد سئمت تماما تلك المنازعات الأزلية حول الحق الإلهي وسيادة الشعب. تلك هي الثغرة الكبرى، ومن الواضح أنها أيضا الوحيدة التي ينبغي ملؤها لإقامة الفلسفة الوضعية راسخة كاملة؛ ففي وقتنا هذا، الذي توصل فيه الذهن البشري إلى الفيزياء السماوية والأرضية، الميكانيكية والكيميائية، والفيزياء العضوية، النباتية والحيوانية - لم يبق إلا علم واحد لإكمال حلقات سلسلة علوم الملاحظة - وأعني به علم الفيزياء الاجتماعية. وهذا أهم هدف يحتاج الناس الآن إلى بلوغه، وهو أيضا الهدف الرئيسي الذي يسعى كتابنا هذا إلى تحقيقه.
الفيزياء الاجتماعية : من الحمق أن ندعي القدرة على الإتيان بهذا العلم الجديد على التو وفي صورته الكاملة؛ فهناك علوم أقدم منه، ما زالت أحوالها من حيث التقدم متفاوتة إلى حد بعيد. ولكننا سنبين أن نفس طابع الوضعية الذي تتسم به كل العلوم الأخرى، ينتمي إلى هذا العلم بدوره. وبانتهاء هذا العمل يكون المذهب الفلسفي للمحدثين قد اكتمل بالفعل؛ إذ لن تظل هناك ظاهرة لا تندرج بطبيعتها تحت واحدة من الفئات الخمس الكبرى. وعندما تصبح كل أفكارنا الرئيسية متجانسة، تكون دعائم المرحلة الوضعية قد استقرت تماما. ومن المحال أن يتغير طابعها هذا ثانية، وإن تكن ستظل على الدوام في تطور بإضافة معارف جديدة. وعندما تكتسب طابع الشمول الذي كان من قبل هو الميزة الوحيدة للنظامين السابقين، فسوف تحل محلهما بتفوقها الطبيعي، ولا تترك لهما إلا وجودا تاريخيا.
الهدف الثانوي لهذا الكتاب : أوضحنا من قبل الهدف الخاص لهذا الكتاب. أما هدفه الثانوي والعام فهو: دراسة ما حدث في العلوم؛ لكي نبين أنها ليست منفصلة في ماهيتها، وإنما هي كلها فروع لجذر واحد. ولو كنا قد اقتصرنا على الهدف الأول والخاص لهذا الكتاب، لكانت نتيجة بحثنا هي دراسة للفيزياء الاجتماعية فحسب. على حين أن القول بالهدف الثاني العام يجعلنا نقدم دراسة للفلسفة الوضعية، مستعرضين جميع العلوم الوضعية التي تكونت من قبل.
دراسة فلسفة العلوم : ليس الغرض من هذا الكتاب تقديم عرض للعلوم الطبيعية؛ فمثل هذا العرض إلى جانب كونه لا ينتهي، وكونه يقتضي إعدادا علميا لا يتوافر لأي شخص بمفرده، خارج عن نطاق هدفنا، الذي هو تتبع مجرى الفلسفة الوضعية، لا العلم الوضعي. وكل ما علينا هو أن ننظر إلى كل علم أساسي في صلته بالمذهب الوضعي في مجموعه، وفي الروح المميزة له؛ أي من حيث مناهجه ونتائجه الرئيسية.
والهدفان، مع تميز كل منهما عن الآخر، لا ينفصلان؛ إذ لا قيام، من جهة، لفلسفة وضعية دون أساس من العلم الاجتماعي، الذي لولاه لما كانت شاملة لكل شيء. وليس في وسعنا، من جهة أخرى، متابعة العلم الاجتماعي دون أن نكون قد تأهبنا لذلك بدراسة ظواهر أقل تعقيدا من الظواهر الاجتماعية، وتزودنا بمعرفة للقوانين والوقائع السابقة التي تؤثر في العلم الاجتماعي. ورغم أن العلوم الأساسية لا تتساوى في درجة أهميتها للأذهان العادية، فليس فيها ما يمكن تجاهله في بحث كهذا، وكلها في نظر الفلسفة ذات قيمة متساوية لرفاه الإنسان. وحتى تلك التي تبدو أقلها أهمية، لها قيمتها الخاصة؛ إما لاكتمال منهجها، وإما لأنها أساس ضروري للباقين جميعا.
مزايا الفلسفة الوضعية: الآن، وقد أوضحنا الروح العامة لهذه الدروس في الفلسفة الوضعية، فلنلق نظرة على المزايا الرئيسية التي يمكن استخلاصها لصالح التقدم البشري من دراسة هذه الفلسفة. ولنشر بوجه خاص إلى أربع من هذه المزايا:
الفلسفة الوضعية تلقي ضوءا على الوظيفة العقلية. تتمثل في دراسة الفلسفة الوضعية الوسيلة المعقولة الوحيدة لعرض القوانين المنطقية للذهن البشري، وهي القوانين التي كانت تلتمس من قبل بوسائل غير سليمة.
ولكي نوضح ما نعنيه بهذا، نشير إلى عبارة قالها السير «دي بلانفيل
de Blainville » في كتابه عن علم التشريح المقارن، وهي أن كل كائن إيجابي، وكل كائن حي بوجه خاص، يمكن أن ينظر إليه من ناحيتين؛ ناحية سكونية، وناحية حركية؛ أي من حيث هو خاضع لظروف أو من حيث هو فعال. ومن الجلي أن جميع الأفكار تندرج تحت واحدة من هاتين الفئتين. فلنطبق هذا التصنيف على الوظائف العقلية.
إذا ما نظرنا إلى هذه الوظائف من الناحية السكونية - أي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي تخضع لها في وجودها - لوجب علينا أن نحدد الظروف العضوية لهذه الحالة، وهو مبحث ينقلنا إلى مجال التشريح وعلم وظائف الأعضاء. أما إذا تأملنا الناحية الحركية، فسيكون علينا أن نكتفي بدراسة ممارسة القوى العقلية للجنس البشري ونتائجها، وهي دراسة لا تزيد ولا تنقص عن الموضوع العام للفلسفة الوضعية. وبالاختصار، فعلينا أن ننظر إلى جميع النظريات العلمية على أنها وقائع منطقية هامة بنفس مقدار هذه النظريات. وعندئذ لا يكون علينا، لكي نصل إلى معرفة القوانين المنطقية، إلا أن نقوم بملاحظة دقيقة لهذه الوقائع. ولما كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر العقلية، فسوف يؤدي هذا إلى استبعاد علم النفس المزيف، الذي هو المرحلة الأخيرة للاهوت. ذلك لأن علم النفس هذا يزعم لنفسه القدرة على تحقيق كشف قوانين الذهن البشري بتأمله في ذاته؛ أي بفصله عن العلل والمعلولات. ومثل هذه المحاولة، التي تنطوي على تحد للدراسة الفيسيولوجية لأعضائنا العقلية، وخروج على مناهج البحث العقلي، لا يمكن أن تنجح في أيامنا هذه.
إن الفلسفة الوضعية، التي ظلت في صعود منذ أيام بيكون، قد اكتسبت الآن مكانة بلغت من العلو حدا جعل الميتافيزيقيين أنفسهم يدعون أنهم يبنون علمهم المزعوم على ملاحظة للوقائع؛ فهم يتحدثون عن وقائع ظاهرة وباطنة، ويزعمون أن الأخيرة هي موضوع بحثهم. وما أشبه هذا بالقول إن الإبصار يفسر بطبع الأشياء المضيئة لصورها على حدقة العين! وهو زعم يرد عليه علماء وظائف الأعضاء بقولهم إنه لا بد عندئذ من عين أخرى ترى الصورة. وعلى هذا النحو ذاته قد يلاحظ الذهن جميع الظواهر ما عدا ظواهره الخاصة. وقد يقال إن في استطاعة عقل الإنسان ملاحظة انفعالاته؛ لأن مركز العقل بعيد، إلى حد ما، عن مركز الانفعالات في المخ، ولكن لا يمكن وجود ما يماثل الملاحظة العلمية للانفعالات إلا من الخارج؛ إذ إن ثورة الانفعالات تبعث الاضطراب في ملكات الملاحظة إلى حد ما. أما القيام بملاحظة عقلية للعمليات العقلية، فأمر أكثر من ذلك استحالة. فهنا يكون العضو الملاحظ والملاحظ واحدا، ولا يمكن أن يكون عمله طبيعيا خالصا. فلا بد لعقلنا، لكي يلاحظ، أن يكف عن نشاطه، غير أن هذا النشاط بعينه هو ما نود ملاحظته؛ فلو لم توقف هذا النشاط، لما استطعت أن تلاحظ، ولو أوقفته لما وجدت شيئا تلاحظه. وإن نتائج هذا المنهج لتتناسب مع مقدار امتناعه؛ فبعد ألفي عام من البحث النفساني لم توضع قضية واحدة يرضى عنها أتباع هذا العلم، بل إنهم لينقسمون حتى يومنا هذا إلى مدارس متعددة، ما زالت تختلف على المبادئ الأولى لمبحثها. ويبدو أن هذه الملاحظة الباطنة تؤدي إلى نظريات تبلغ في كثرتها مبلغ عدد الملاحظين. ومن العبث أن نتساءل عن كشف واحد، عظيم أو ضئيل، تم من خلال هذا المنهج.
ولقد أدى الباحثون النفسانيون بعض الخير إذ أبقوا على فاعلية أذهاننا، في وقت لم يكن أمام ملكاتنا أن تفعل فيه ما هو أفضل من ذلك، وربما كانوا قد أضافوا شيئا إلى ذخيرتنا من المعرفة. وإذا كانوا قد فعلوا ذلك فإنما كان هذا بفضل ممارسة المنهج الوضعي؛ أعني بملاحظة تقدم الذهن البشري في ضوء العلم؛ أي بأن يكفوا مؤقتا عن أن يكونوا باحثين نفسانيين.
وإن الرأي الذي قلنا به الآن فيما يتعلق بالعلم المنطقي ليتجلى بوضوح أعظم إذا ما تأملنا الفن المنطقي.
فالمنهج الوضعي لا يمكن الحكم عليه إلا مطبقا. ولا يمكن تأمله في ذاته، بمعزل عن العمل الذي يطبق عليه. وعلى أية حال فمثل هذا التأمل لن يكون إلا دراسة مجدبة، لا تنتج شيئا في العقل الذي يبدد وقته فيها. وقد نتحدث ما شاء لنا الحديث عن المنهج، ونصفه بعبارات غاية في الدقة، ومع ذلك لا نكون قد عرفنا عنه نصف ما يعرفه ذلك الذي طبقه مرة واحدة على حالة واحدة من حالات البحث الفعلي، حتى لو لم تكن له أية غاية فلسفية. وهكذا فإن قراءة الباحثين النفسانيين لقواعد بيكون ومقالات ديكارت قد أدت بهم إلى الخلط بين أحلامهم وبين العلم الصحيح.
ورغم أنني لا أجزم بإمكان وضع منهج صحيح للبحث أوليا، على نحو مستقل عن الدراسة الفلسفية للعلوم، فمن الواضح أن أحدا لم يقم بهذه المحاولة بعد، وإننا لا نستطيع القيام بها الآن؛ فنحن لا نستطيع حتى الآن أن نفسر العمليات المنطقية الكبرى، بمعزل عن تطبيقاتها. ولو حدث أن أصبح هذا ممكنا، فسيظل من الضروري عندئذ، مثلما هو ضروري الآن، أن نكون عادات عقلية مفيدة بدراسة التطبيق المنظم للمناهج العلمية التي سنكون قد توصلنا إليها.
تلك إذن هي النتيجة الهامة الأولى للفلسفة الوضعية؛ الكشف، بالتجربة، عن القوانين التي يخضع لها العقل في البحث عن الحقيقة، وبالتالي معرفة القواعد العامة المناسبة لهذا الغرض.
إحياء التعليم: ثانيا: وللفلسفة الوضعية تأثير ثان لا يقل أهمية عن الأول، وإن تكن الحاجة إليه أشد إلحاحا؛ وأعني به إحياء التعليم.
فأفضل العقول تتفق على أن تعليمنا الأوروبي، الذي لا يزال لاهوتيا وميتافيزيقيا وأدبيا في أساسه، ينبغي أن يستبدل به تعليم وضعي، ملائم لعصرنا وحاجاتنا. بل إن حكومات هذه الأيام قد بدأت هي ذاتها في بذل محاولات لإيجاد تعليم وضعي، أو ساهمت بنصيب في مثل هذه المحاولات، وهذا دليل واضح على الشعور العام بما نحن في حاجة إليه. ومع ذلك، فمع تشجيعنا هذه الجهود إلى أقصى حد، ينبغي ألا نخفي عن أنفسنا أن كل ما بذل حتى الآن لا يفي بالغرض؛ فالتخصص الحالي الشديد في أبحاثنا، وما ينجم عنه من انفصال بين العلوم، يفسد تعليمنا. ومن الممكن أن يستمر في بحث الأوجه الخاصة للعلوم أولئك الذين تخصصوا في مثل هذه الأوجه، وهم أناس لا غنى لنا عنهم، وليس لنا أن نهملهم، ولكن ليس في وسع هؤلاء أنفسهم أن يجددوا نظامنا التعليمي، ولا بد لكي ينتفع منهم على الوجه الأكمل من أن يرتكزوا على أساس ذلك التعليم العام الذي هو نتيجة مباشرة للفلسفة الوضعية. •••
إعادة تنظيم المجتمع: رابعا: تكون الفلسفة الوضعية الأساس المتين الوحيد لإعادة التنظيم الاجتماعي التي ينبغي أن تعقب المرحلة الحرجة التي تمر بها الآن معظم الأمم المتمدينة.
ولا حاجة بنا إلى أن نثبت لكل من يقرأ هذا الكتاب أن الأفكار تحكم العالم، أو تلقي به في براثن الفوضى، أو بعبارة أخرى أن كل العمليات الاجتماعية ترتكز على آراء؛ فالتحليل الدقيق يثبت أن الأزمة السياسية والأخلاقية الكبرى التي تمر بها المجتمعات الآن ناشئة عن الفوضى العقلية. وعلى حين أن الاستقرار في المبادئ الأساسية هو الشرط الأول للنظام الاجتماعي الأصيل، فإنا نعاني خلافا أساسيا نستطيع أن نعده شاملا. وإلى أن يتسنى الاعتراف بعدد معين من الأفكار العامة على أنها نقطة التلاقي في المذهب الاجتماعي، ستظل الأمم في حاله ثورية، مهما وضعت لها من المسكنات، ولن تزيد نظمها على أن تكون مؤقتة. أما حين يتسنى الاتفاق الضروري على المبادئ الأولى، فسوف تظهر منها نظم مناسبة، دون اصطدام أو مقاومة؛ إذ سيكون الاتفاق وحده عاملا على القضاء على أسباب الاضطراب. وفي هذا الاتجاه ينبغي أن تتجه أنظار أولئك الذين يتطلعون إلى حالة طبيعية منظمة سوية للمجتمع.
ولا شك في أن الاضطراب القائم يفسره على أكمل وجه وجود الفلسفات المتضاربة الثلاث في آن واحد؛ أعني الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية. ففي وسع أي من هذه الفلسفات وحدها أن تضمن نوعا من النظام الاجتماعي، أما إذا وجدت الثلاث معا فمن المستحيل علينا أن نتفاهم على أية نقطة أساسية. فإذا صح هذا، فكل ما علينا هو أن نعرف أيا من هذه الفلسفات هي التي ينبغي، حسب طبيعة الأشياء، أن تسود، فإذا ما عرفنا ذلك، فلن يملك كل شخص، أيا ما كانت آراؤه السابقة، إلا أن يقر بانتصارها. وما إن ندرك طبيعة المشكلة حتى يغدو حلها قريب المنال؛ إذ إن كل الشواهد تشير إلى أن الفلسفة الوضعية هي التي سيكون مآلها إلى الانتصار؛ فهي وحدها التي ظلت في تقدم خلال قرون من الزمان، كانت الفلسفتان الأخريان خلالها في تدهور. وهذه حقيقة لا شك فيها، وقد يأسف لها البعض، ولكن ليس في وسع أحد أن يقضي عليها، وليس في وسعه بالتالي أن يتجاهلها إلا إذا انخدع بالتأملات الباطلة. ولقد أوشك هذا الانقلاب العام للذهن البشري أن يتم، وكل ما علينا هو أن نكمل الفلسفة الوضعية بإدخال الظواهر الاجتماعية ضمن مفهومها، ثم بالتوحيد بين الكل في مذهب واحد متجانس. وإن التفضيل الواضح الذي تبديه جميع الأذهان، من أرفعها إلى أبسطها، للمعرفة الوضعية على الأفكار الصوفية الغامضة، ليبشر بالقبول الذي ستلقاه هذه الفلسفة عندما تكتسب الصفة الوحيدة التي تفتقر إليها الآن؛ صفة العمومية اللازمة. فعندما تصبح كاملة، ستتحقق سيادتها تلقائيا، وستعيد إشاعة النظام في كل أرجاء المجتمع. والتعارض الوحيد القائم حاليا هو التعارض بين الفلسفتين اللاهوتية والميتافيزيقية؛ فهما تتنافسان على مهمة إعادة تنظيم المجتمع، غير أن هذا عمل يتجاوز كثيرا نطاق قدرة كل منهما. ولقد اقتصر تدخل الفلسفة الوضعية حتى الآن على اختبارهما، وهو اختبار لم تصمدا فيه على الإطلاق. والآن حان وقت القيام بعمل أكثر فعالية، دون تبديد لقوانا في جدل عقيم. حان وقت إتمام العمل العقلي الضخم الذي بدأه بيكون وديكارت وجاليليو، ببناء نظام من الأفكار الهامة التي ينبغي من الآن فصاعدا أن تسود الجنس البشري. وعلى هذا النحو يمكن أن يوضع حد للأزمة الثورية التي تمزق الأمم المتمدينة في العالم.
والآن، وقد ذكرنا هذه المزايا الأربع، ينبغي أن نتنبه إلى هذا التحذير.
لا أمل في الرد إلى قانون واحد:
ليس معنى دعوتنا إلى الجمع بين معارفنا المكتسبة كلها في نسق واحد متجانس، أننا نعتزم دراسة هذه المعارف الشديدة التنوع كما لو كانت صادرة عن مبدأ واحد، وخاضعة لقانون واحد؛ ففي المحاولات التي تبذل لتفسير كل الأشياء عن طريق قانون واحد من البطلان ما يدعونا إلى استبعاد أي زعم من هذا القبيل عن كتابنا هذا، وإن يكن سيتضح خلال فصوله مدى افتراء هذا الزعم. فعتادنا العقلي يبلغ من الهزال، كما يبلغ الكون من التعقد حدا لا يدع مجالا لأي أمل في أن يكون في مقدورنا المضي في الكمال العلمي حتى أقصى درجاته في البساطة. ويبدو فضلا عن ذلك، أن قيمة هذه النتيجة، على فرض بلوغها، قد بولغ فيها إلى حد بعيد.
وليس النظر إلى جميع الظواهر على أنها قابلة للرد إلى أصل واحد، ضروريا على الإطلاق لتكوين العلم بطريقة منظمة، ولا لإدراك النتائج الهائلة الماهرة التي نتوقعها من الفلسفة الوضعية. والوحدة الضرورية الوحيدة هي وحدة المنهج، وهي وحدة ثبتت دعائمها بالفعل إلى حد بعيد. أما المذهب ذاته فلا يتعين أن يكون واحدا، بل يكفي أن يكون متجانسا. وإذن فسوف ننظر في هذا الكتاب إلى مختلف فئات النظريات الوضعية من هاتين الزاويتين؛ وحدة المنهج وتجانس المذهب. ومع استهدافنا الغاية الفلسفية لكل العلوم؛ أعني الإقلال من عدد القوانين العامة اللازمة لتفسير الظواهر الطبيعية، فسوف ننظر إلى كل محاولة تبذل في أي وقت مقبل لردها جميعها إلى قانون واحد على أنها محاولة دعية مغرورة.
الفصل السابع
قديس المذهب الحر
جون ستيوارت مل (1803-1873م)
كان من أوائل الإنجليز الذين أدركوا أهمية فلسفة كونت، معاصره الأصغر سنا جون ستيوارت مل، ورغم أن مل قد شعر فيما بعد بالامتعاض وخيبة الأمل من جراء جنون العظمة والروح الدينية التي تجلت في كتابات كونت المتأخرة، فقد أدرك جيدا أن هناك قضايا فلسفية كثيرة يشتركان في الالتزام بها. ولقد نظر كونت إلى تعليقات مل المشجعة على أفكاره على أنها صادرة عن تلميذ إنجليزي سيساعد على إبلاغ رسالة الفلسفة الوضعية إلى الكافرين بها. ولكن تلك كانت نظرة كونت وحده؛ فلم يكن من طبيعة مل، لا في مزاجه ولا في اعتقاداته، أن يكون تلميذا لأحد أو مجرد داعية لأية فكرة. ومن المحال أن نتصور أنه بذل كل هذا الجهد في تحرير نفسه - بعد عناء شخصي شديد - من العقائد الجامدة لمذهب بنتام النفعي الذي تشرب بتعاليمه في شبابه على يد أبيه «جيمس مل»، لكي يتحول إلى عقيدة الإنسانية عند كونت. ذلك لأن تقديس كونت الصوفي للإنسانية قد اقترب إلى حد خطير من ذلك النوع من التجسيم الحيوي للتصورات، الذي عابه هو ذاته على الفكرة في المرحلتين اللاهوتية والميتافيزيقية. كما أن نظرة كونت إلى العلاقة بين الفرد والمجتمع، وهي النظرة التي تزايد اصطباغها بالصبغة العضوية تدريجيا، كانت ذات ملامح لا تختلف كثيرا عن مذهب الدولة عند فشته وهيجل. وما كان لمثل هذه الاتجاهات التي اتصف بها تفكير كونت المتأخر أن تجتذب مل الذي كانت المشكلة الرئيسية للحياة الاجتماعية بالقرن التاسع عشر هي بالنسبة إليه، الحرية الروحية والفكرية والاجتماعية للفرد. فقد تشبع مل، على العكس من كونت، بتلك العادات الذهنية المتأصلة في تراث المذهب التجريبي الإنجليزي، الذي كان هو ذاته آخر ممثل هام له - أعني العادات المرتبطة بالنظرة التفتيتية
atomistic
والنفسانية إلى الأمور. فقد كان من قبيل الأمور المسلم بها بالنسبة إليه أن ينظر إلى الذهن البشري، كما فعل لوك وهيوم من قبله، على أنه «حزمة» من الانطباعات والأفكار الجزئية. كما كان من الأمور المسلم بها أن ينظر إلى المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد لا تجمع بينهم إلا مصالح مشتركة ومسئوليات متبادلة. ولم يكن في وسعه أبدا، حتى عهد متأخر من حياته، أن ينظر إلى مشكلة الحرية البشرية في ضوء أنظمة مقررة. ولقد كان من المبادئ الأساسية الدائمة لتصنيف مل ذاته للعلوم الاجتماعية، أن قوانين الترابط والدوافع (
motivation ) هي أساس أي علم للمجتمع يسعى إلى فهم السلوك الاجتماعي للإنسان، وعلى ذلك فقد خالف كونت في اعتقاده بأن أية نظرية تسعى إلى تفسير أفعال البشر في مجموعها، تفترض مقدما نظرية نفسية في الطبيعة البشرية.
ولقد كانت الصفة الغالبة على مل طوال حياته، وفي جميع مؤلفاته، هي صفة المناضل الذي شن حملة لا تكل على شتى ألوان المذاهب الغيبية والتوكيدية واللاعقلية - التي حفل بها الفكر في القرن التاسع عشر. وكانت جميع شعاب فلسفته التي أسماها ب «فلسفة التجربة» موجهة ضد كل أنواع المطلق، سواء أتنكر هذا المطلق في ثوب قضايا واضحة بذاتها، أو حقائق متوارثة، أو أوامر مطلقة، أو حقوق طبيعية، أو بديهيات منطقية. ولقد فات الكثيرين من نقاد مل أن يدركوا حقيقة هامة، هي أن نظرياته المنطقية ونظريته في المعرفة، فضلا عن فلسفته الأخلاقية والسياسية، تستهدف كلها آخر الأمر نفس الغاية الأساسية. فمثلا كانت محاولة إيجاد أساس استقرائي بحت للمنطق الاستنباطي، هي ذاتها جزءا من حملته الضخمة على أصحاب المذهبين الحدسي والترنسندنتالي، الذين كانوا يستشهدون دائما بالطابع غير التجريبي للحقائق المنطقية والرياضية تأييدا لمذاهبهم الأولية والتوكيدية في مجال الدين والأخلاق والسياسة. وهكذا رأى مل أنه طالما أعفي المنطق، والرياضة، من الخضوع لاختبار التجربة، فسوف تظل هناك حجة يرتكز عليها، من حيث المبدأ، أولئك الذين يهيبون بالحدس والوضوح الذاتي والسلطة في المجالات الأخرى التي تؤثر في سعادة الإنسان. وقد خطا مل خطوة بطولية هي إنكار وجود تمييز بين الحقائق المنطقية والحقائق الواقعية، وهو التمييز الذي كان محور المذهب التجريبي المتطرف عند هيوم. ومع ذلك فقد كان هدفه الرئيسي من ذلك هو تبرير الرأي القائل، إن كل معرفة على إطلاقها ينبغي أن تقوم على التجربة وتختبر فيها، وهو رأي كان مل يؤمن بأنه ضروري لجعل روح المذهب الفلسفي الحر تسود على الرغم من خصومه.
ولقد كانت فلسفة مل تجريبية إلى حد التطرف، ولكن الأهم من ذلك بالنسبة إلى وجهة نظره هو ما يمكن أن نسميه بمذهب «اشتراط المعقولية
reasonablism »؛ أي اعتقاده بأنه ليس ثمة قضية، أيا كان نوعها، ينبغي أن تظل بمنأى عن النقد، وأن من الضروري أن نطلب أسبابا لأي قول يطلب منها قبوله، على أن تكون هذه أسبابا قادرة على «التحكم في العقل». وإن إعفاء قضايا معينة من مثل هذا الفحص والاختبار، لهو أصل كل مذهب مؤمن بالسلطة وكل مذهب مطلق، وهما في رأي مل أعظم مصدر ممكن علاجه لتعاسة البشر. والشرط الضروري للقضاء على هذه الشرور هو الامتناع عن النظر إلى أي اعتقاد، مهما كان عمق الإيمان به، على أنه معصوم؛ فنمو المعرفة والحكمة البشرية، التي يتوقف عليها، قبل غيرها، تقدم البشر ، هر محصل ذلك العدد الذي لا يحصى من ملاحظات الأفراد وتأملاتهم وانتقاداتهم وردودهم على الانتقادات. وطالما أعفيت أية قضية من شرط تقديم المبررات هذا؛ فإن هذا النمو يعاق إلى حد خطير، وتهدد قضية حرية الفكر بأسرها، وهي في نظر مل الحرية الأساسية.
وعلى ذلك فالدوافع الموجهة لكتاب «المنطق» عند مل، هي ذاتها تلك التي تتحكم في بحثه الرائع عن «الحرية
Liberty ». وإذا كان الأحرار في كل مكان لا يزالون يذكرونه بالتقدير؛ فذلك لأن فلسفته بأسرها، مهما كانت أخطاؤها، ربما كانت أعظم رمز عرفه القرن التاسع عشر للتحرر الروحي والاتزان الفكري. ورغم أنه لم يكن يستطيع أن يقرأ هيجل، كما ذكر في ترجمته الذاتية لحياته، دون أن يشعر بشيء من التقزز، فإنه لم يكن جامد الإحساس إزاء الأحاسيس الشاعرية والدينية التي حفلت معظم الكتابات الهامة في الفلسفات الرومانتيكية والترنسندنتالية لمعاصريه الإنجليزيين؛ كولردج
1
وكارليل.
2
ولم يفترق عنهما إلا في اللحظة التي تحولت فيها حماستهما الأصيلة إلى مذهب روحي غيبي لا يتمشى مع فلسفة التجربة.
ولقد كان السبب الفعلي الذي أطلق من أجله مل على فلسفته اسم «فلسفة التجربة
phil. of experience »، هو رغبته في تمييزها من المذهب التجريبي
empiricism
في صورته العامية المجهولة، التي يؤدي بها عدم الاعتراف بأية قضية لا تؤيدها التجربة الحسية تأييدا مباشرا حاسما، إلى رفض الميتافيزيقا الترنسندنتالية والأديان المنزلة، بل إلى رفض العلم ذاته. ففي رأي مل أن على جميع القضايا أن تنجح في اختبار التجربة. ولكن ليست كل القضايا الصحيحة بمنبئة عن تجربة مباشرة. ولقد كان مل، مثل كونت، يدرك تماما أن العلم لا يمكن قيامه دون فروض ونظريات، فضلا عن الملاحظات، وأنه، مع وجوب اختبار الفروض الموثوق بها عن طريق الملاحظة، فإن هذه الفروض ليست مجرد تكديس لمادة الملاحظة. كما كان من السمات البارزة لنظريته في المعرفة أن الملاحظات الخام، التي تحدث خبط عشواء، وتنقل دون اختبار نقدي، لم تكن لها في نظره، من حيث البرهان، إلا قيمة ضئيلة. ولهذا السبب فإن «دروس التاريخ» لا تكون أساسا كافيا لإدارة الشئون السياسية ، كما دأب مل على تذكير «ماكولي
Macaulay »
3
وغيره من الممثلين المحافظين للمدرسة التاريخية. ولقد كان من الأغراض الرئيسية «لقوانين الاستقراء» المشهورة عند مل، إيجاد منهج لانتقاء الأدلة على الارتباطات المشتركة التي تبنى عليها القوانين العلمية. وقد أدرك مل المغالطة في القضية القائلة: «بعد هذا، وإذن فبسبب هذا
post hoc, ergo propter hoc » (أي إن الظاهرة التي تسبق ظاهرة أخرى هي سببها)، وكان يدرك تماما أن للتجريب أهمية حاسمة في الاختبار العلمي للنظريات. وقد ذكر مل أن الارتباطات الحقيقية في الطبيعة لا توجد دائما على السطح الخارجي للتجربة. ولا يمكن إقامة ارتباطات علية سليمة إلا عن طريق انتقاء دقيق وتنويع مستقل للمجموعة المعقدة من الظروف السابقة والنتائج اللاحقة التي تتوارى عن الملاحظة العلية. أما المظاهر غير المنتقاة، وضمنها مظاهر الارتباط المشترك (التضايف)، فهي خداعة إلى حد بعيد. وينبغي أن يكون من مهام المنطق الاستقرائي إيجاد أسلوب سليم لتنقيتها.
ومن المحال أن نعالج تفاصيل نظرية المنطق الاستقرائي في مثل هذا الحيز الضيق، وإنما ينبغي أن يقتصر بحثنا هنا على أهميتها الفلسفية الرئيسية، والمشاكل الفلسفية التي تثيرها.
لقد أدرك مل، كما قلنا، أن جميع الفروض والتنبؤات العلمية تتجاوز «الوقائع»؛ فليس العلم على الإطلاق مجرد سجل لما حدث في حالات فردية عديدة، وإنما يهتم العلم بالاطرادات العلية التي تصدق بانتظام على جميع أفراد فئة معينة. ومهمته هي أن ينتقل بدقة، وعلى نحو فيه شعور بالمسئولية، من التجربة الماضية إلى مستقبل لم يجرب بعد. فكيف إذن يمكن تبرير الإيمان بمثل هذه الاطرادات والتنبؤات العامة رغم أن ما تشتمل عليه يتجاوز دائما نطاق المعطيات المتوافرة؟ يجيب كانت، كما رأينا، عن هذا السؤال بقوله إن مبدأ العلية مبدأ أولي تركيبي للذهن البشري تفترضه مقدما جميع الكائنات العاقلة عندما تفكر في موضوعات المكان والزمان. غير أن مثل هذا الحل لم يكن في متناول يد مل، ومن ثم فقد اضطر إلى افتراض أن مبدأ اطراد الطبيعة، كما أسماه، هو ذاته قائم تماما على التجربة. وقد عبر هو ذاته عن هذه المسألة تعبيرا بلغ أقصى حدود الوضوح والدقة فقال: «علينا أن نلاحظ أولا أن في نفس القول الذي نعبر فيه عن كنه الاستقراء، مبدأ متضمنا، ومصادرة بشأن مجرى الطبيعة ونظام الكون، وأعني بهما أن في الطبيعة حالات يمكن أن تعد حالات متوازية، وأن ما يحدث مرة سيحدث إذا ما تشابهت الظروف بقدر كاف، مرة أخرى، وليس مرة أخرى فحسب، بل عددا من المرات يساوي عدد مرات تكرار الظروف نفسها. فإذا ما رجعنا إلى المجرى الفعلي للطبيعة، لوجدنا فيه ما يؤيد هذا الافتراض؛ فالكون بقدر ما نعلمه، مكون بحيث إن ما يصدق على أية حالة بعينها يصدق على جميع الحالات التي تتصف بأوصاف معينة، والصعوبة الوحيدة هي معرفة كنه هذه الأوصاف.»
غير أن المبدأ القائل إن مجرى الطبيعة مطرد، وإن يكن على ما يبدو هو المبدأ الأساسي للاستقراء، لا يفسر، في رأي مل، العملية الاستقرائية أو يبررها تبريرا مستقلا. إذ إن هذا المبدأ ذاته في حاجة إلى تبرير؛ لأنه كما يعتقد مل، لا يعدو أن يكون أعم فرض يمكن وضعه بشأن نظام الأشياء في الطبيعة. وفضلا عن ذلك فهو ليس أول استقراء لنا من التجربة، بل هو واحد من أواخر استقراءاتنا. ونحن لا نصل إليه إلا بعد القيام باستقراءات وتعميمات خاصة عديدة، تتوقف عليها صحة هذا المبدأ إلى حد بعيد. وهكذا يبدو، بالفعل، أن مل ينظر إلى قانون اطراد الطبيعة على أنه تعميم جامع من مرتبة ثانوية، يشهد بصحته المجموع الكامل للفروض المحدودة في مجال العلم ومجال التجربة اليومية. ومعنى ذلك أن القانون في أحسن الظروف، فرض استقرائي يقتضي، ويتلقى بالفعل، أدلة لا حصر لها تتجمع لديه من التعميمات الأضيق نطاقا للعلوم الخاصة والتجربة المعتادة. ولكن كيف إذن يكون فيه «ضمان» لهذه الأخيرة؟ ألسنا نصادف ها هنا دورا واضحا، ومحاولة عقيمة من المرء لحمل ذاته من أربطة حذائه الاستقرائية؟
هكذا، على الأقل، قال معظم نقاد مل، فإذا كان الضمان الوحيد للقضية القائلة إن مجرى الطبيعة مطرد، هو تلك التعميمات الأقل مرتبة التي استخلصت قبل ذلك من التجربة ، فكيف يتسنى لهذه القضية بدورها أن يكون فيها ضمان لهذه التعميمات؟ وهكذا تظل مشكلة الاستقراء الكامنة قائمة؛ فما الذي يبرر أي استقراء من التجربة، سواء أكانت مقيدة أم غير مقيدة؟ يرى نقاد مل أنه لا يأتي بأي جواب على هذا السؤال. كما أنه لم يكلف نفسه عناء توجيه السؤال الأهم، وأعني به إن كان مبدأ العلية الشاملة بالفعل فرضا على الإطلاق؛ أي إن كان ما يؤكده قانونا للطبيعة يصف ارتباطات تجمع بين فئات من الظواهر. والواقع أن هذا السؤال الملح، الذي ربما كان قد أدى، ب «مل» إلى التفكير طويلا لو كان قد حلل بعمق «مقال
Treatise » هيوم، أو «نقد
Critique » كانت، هو النتيجة الجدية التي تؤدي إليها تحليلاتهما للعلية. ولو كان الجواب عليه سلبا، لكان من الجائز أن ترد «مشكلة الاستقراء» بأسرها إلى مشكلة تتعلق بصياغة شروط الصحة التي نكون نحن أنفسنا، بوصفنا باحثين، على استعداد لقبولها في سعينا إلى تبرير أفكارنا بشأن عالم الظواهر. ولو فسرت هذه الشروط على هذا النحو، لكانت مهمتها هي تحديد ما نعده شروطا للمعقولية في مجال البحث الواقعي، ولو اتخذنا وجهة النظر هذه لما كان للأسئلة المتعلقة بصحة هذه الشروط ذاتها مجال؛ إذ ليس ثمة محكمة أعلى للعقل، يتسنى لنا تقديم استئناف معقول إليها. وعندئذ يكون الشك فيها أشبه بالشك في وجوب فعلنا الخير في مجال الأخلاق.
فإذا ظل أحد يشك فيها رغم هذا، فلا سبيل إلى التعامل معه إلا باتباع طريقة مل نفسه، في محاولته الرد على أولئك الذين جهروا بالشك في مبدأ المنفعة. فالمطلوب في هذه الحالة الأخيرة ليس هو البرهان، وإنما هو الدراسة الذاتية وإيضاح الالتزامات الكامنة للمرء بوصفه كائنا بشريا. وكما يقول مل «فليست المبادئ الأولى قابلة للبرهنة، وإن يكن من الممكن دعمها بمعنى ما. ولكن يبدو أن من المفيد، قبل دعمها على هذا النحو، أن نتساءل عن نوع الدعم الذي قد يعتقد أنها تقتضيه. ولو كان مل قد فكر في هذه المسألة في صدد مشكلة المعرفة بنفس دقته في التفكير فيها بالنسبة إلى مشكلة السلوك، لكان من الجائز أن يدرك أن المسألة الأساسية في الحالتين مسألة دوافع
motivation ، وأن العلاج الوحيد في الحالتين علاج عملي. وفي هذه المسألة، قد يكتشف الفيلسوف التجريبي أن في وسعه أن يستفيد شيئا، في معرض الدفاع عن العقل، من عدوه اللدود، فشته.
وهناك وجه آخر هام لفلسفة التجربة عند مل، لم نأت على ذكره بعد. وفي هذا الوجه يقتفي عن قرب أثر سلفيه باركلي وهيوم. فقد كان الهدف الأكبر لهذين الفيلسوفين معا، هو أن يأتيا بتفسير لملكات الذهن البشري وعتاده لا ينطوي على ما يتجاوز معطيات الإدراك الحسي والشعور ومبادئ الترابط «الطبيعية» التي تنظم بها «مادة» الإحساس والشعور، بحيث تتحول إلى الأفكار والمعتقدات التي نكون بها صورة عالمنا الذي نعيش فيه. وتبعا لهذا الرأي، لا يتمثل في الخيال شيء لا يكون موجودا من قبل، بطريق مباشر أو غير مباشر، في التجربة الحسية، ولا يكون الخيال ذاته سوى استعداد أفكارنا لتكوين ارتباطات مع أفكار أخرى. وهكذا لا يتألف ما نتصوره عالما طبيعيا، في أساسه، إلا من اطرادات ثابتة معينة بين فئات من الإحساسات، ولا يكون ما نراه شيئا ماديا، آخر الأمر، إلا «إمكانية معقدة للإحساس». وتبعا لهذا الرأي، الذي يطلق عليه أحيانا اسم «مذهب الظواهر
phenomenalism »، تكون كل قضية متعلقة بالواقع قابلة من حيث المبدأ للرد إلى مجموعة من القضايا المتعلقة بانطباعات حسية واقعة أو ممكنة. كما أن كل رد، تبعا لهذا الرأي، ينبغي أن يشير إلى نوع من أنواع الإحساس قابل بالقوة للتجربة. وليس ما نسميه ب «المادة» سوى نسق واحد للاطرادات بين الإحساسات، على حين أن ما نسميه ب «الذهن» نسق آخر لها. وعلى ذلك فنحن حين نتحدث عن الذهن البشري، لا نتحدث عن جوهر لا مادي يكمن من وراء عالم الحس، وإنما، نتحدث، كما قال هيوم، عن «حزمة من الانطباعات» فحسب. ولكن من الضروري ألا تفهم كلمة «انطباعات» على أنها تعني شيئا لا يوجد إلا في «الذهن»؛ إذ إن الذهن ذاته، حسب الفرض، كلمة خاوية لا تشير إلا إلى تنظيم معين لانطباعاتنا ذاتها. فالتمييز بين «المظهر» و«الحقيقة »، هو - إذا جاز التعبير - تمييز داخلي لا يسري إلا على مجال التجربة الممكنة ذاتها.
والهدف الكامن لفلسفة مل هو دائما أخلاقي بالمعنى العام للكلمة؛ فهذه الفلسفة ترمي إلى الإتيان بنظرة عامة إلى المعرفة البشرية وعالم الطبيعة، تكون لها أكبر منفعة في سلوكنا في الحياة. وهكذا تظهر فلسفة التجربة، بمنطقها الاستقرائي ومذهبها في الظواهر، على أنها تمثل قبل كل شيء مدخلا تمهيديا إلى الفلسفة النفعية في الحياة، التي ورثها مل عن جريمي بنتام، والتي أعاد التعبير عنها، بعد إدخال تعديلاته الخاصة، في بحثيه الشهيرين؛ «مذهب المنفعة
Utilitarianism »، و«الحرية
Liberty ».
ولقد أساء نقاد مل فهم «برهان» مل المزعوم على مذهب المنفعة؛ فقد كان مل يدرك بكل وضوح التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ أي بين الأقوال المعبرة عن الواقع، والأحكام التي تشير إلى ما ينبغي عمله. ويشرح مل بوضوح تام في كتابه «المنطق» - وهو كتاب أغفله الكثيرون من نقاد فلسفته الأخلاقية - فوضع التفرقة الأساسية الممكنة بين العلم والأخلاق، التي يصفها على نحو له دلالته بأنها «فن». فلم يكن في ذهنه خلط خطير حول التمييز بين المرغوب فيه والجدير بأن يكون مرغوبا فيه، كما لم يتوهم أبدا إمكان استنباط علم للأخلاق من القوانين النفسية أو الاجتماعية للسلوك البشري. فمل، مثل بنتام، يرى أن من الواجب الحكم على الأفعال بنتائجها، غير أن من الواجب أن يفرض العلم تلك النتائج التي ينبغي تفصيلها. وفضلا عن ذلك فإن مبدأ المنفعة الذي ينص على أن الأفعال لا تكون قويمة إلا بقدر ما تؤدي إلى السعادة العامة، أو إلى أعظم سعادة لأعظم عدد من الناس، هو مبدأ سلوكي، وليس تعريفا نوضح فيه الوظيفة المنطقية لكلمة «القويم». وبالاختصار، فقد كان مذهب المنفعة عند مل، كما كانت عند بنتام، أسلوبا للحياة، لا نظرية في اللغة المستخدمة في الأخلاق. وعلى هذا النحو فسرها في القرن التاسع عشر معظم خصومها، فضلا عن أنصارها.
وإذن فالأخلاق هي، أو ينبغي أن تكون، فن السعادة الفردية والاجتماعية. ومل يفهم كلمة السعادة أو الرفاه من خلال فكرة الإرضاء المنسجم لرغبات الفرد. والواقع أن بين نظرة مل «الشاملة
generic » إلى السعادة، وبين نظرة أرسطو إليها، عناصر مشتركة كثيرة، والفارق الرئيسي هو أن مل يؤمن بأن للبيئة تأثيرا أعظم، ويرى أن الطبيعة البشرية ذاتها أكثر قابلية للتغير. وإذا كانت النزعة الإنسانية لدى اليونانيين القدماء قد صادفت ثناء حارا لكونها مذهبا أخلاقيا رحبا ينظر فيه إلى سعادة الإنسان على نحو يعمل فيه حساب كامل لجميع رغبات الإنسان وقدراته، فإن نظرة مل إلى السعادة لا تقل عن ذلك رحابة، وإن يكن موضع التأكيد فيها قد اختلف إلى حد ما، فهو مقتنع بأن الإنسان حيوان اجتماعي مثلما أنه حيوان عاقل، وبأن قدرا كبيرا من سعادته يتوقف على إرضاء نزعاته الاجتماعية ومشاعره المتجهة إلى الآخرين. وقد اتهمت بعض الصور الأقدم عهدا لمذهب اللذة
hedonism
بأنها ذات اتجاه أناني، وربما كان هذا يصدق على الأبيقورية، ولكن ليس من العدل توجيه اتهام كهذا إلى مذهب المنفعة كما عبر عنه مل؛ فهو يرى أن الحياة التي تتركز حول التماس اللذة الشخصية تؤدي إلى ضياع للذات لا يقل عن الضياع الذي يؤدي إليه أي نمط آخر للسلوك لا ينتظم النطاق الكامل للمشاعر البشرية.
ويرى مل أنه ليست ثمة مشكلة خطيرة تتعلق بإيجاد باعث لمبدأ المنفعة؛ فهذا الباعث موجود بالفعل، من حيث المبدأ، في الصور الأبسط للتعاطف البشري أو المشاركة الوجدانية. والمشكلة الأخلاقية الرئيسية هي، على العكس من ذلك، مشكلة التفتح والتنور الذهني. فلو أحسن الناس فهم أنفسهم، ولم تلههم الأفكار الباطلة عن موقف الإنسان، التي بثتها في نفوسهم العقائد الباطلة والفلسفات الزائفة والحكومات الفاسدة، لكان التقدم الأخلاقي للبشر أقل تعثرا. وأهم ما يلزم لتحقيق التنور الذهني في الوقت الحالي هو، في رأي مل، الحرية
Liberty ؛ فالعامل الاجتماعي الرئيسي الذي يعترض طريق السعادة الفردية والجماعية في الحياة الحديثة هو انتشار تدخل الأنظمة الرسمية وغير الرسمية في محاولة الفرد تنمية ذاته. ومن الأمور التي لا يتنبه إليها معظم نقاد مل، أنه يعترف بأن أية صورة للمجتمع المنظم لا بد أن تؤدي، بدرجة ما، إلى إحباط رغبة الفرد في أن يفعل كل ما يشاء؛ فذلك حقا من نوافل القول. وإنما المشكلة هي أن هذا الإحباط لم يعد، منذ زمن بعيد، يخدم السعادة العامة. فمن المعقول ومن الضروري، بلا جدال، أن تقيد حرية الفرد، على أن يقتصر ذلك على المدى الذي تكون فيه تلك القيود ضرورية لتنمية الآخرين لذواتهم.
وربما كان دفاع مل المتحمس والمعقد عن الحرية أقوى وأخصب دفاع ظهر عن المجتمع المفتوح
4
والمثل الأعلى للتنمية الذاتية الفردية. فالحرية في رأيه غاية ووسيلة معا، وهي شرط الرخاء العام وعنصر أساسي في السعادة الشخصية. وفضلا عن ذلك فدفاعه لا يقتصر على الحرية بوجه عام، وإنما هو يدافع عن حريات محددة لا بد منها لسير الحياة. فحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة، وحرية الانضمام إلى الجمعيات والكلام - وهي كلها أمور ينطوي عليها المثل الأعلى «للحرية» كما تصوره مل - هي في رأيه أسمى ما يمكن أن يمنحه المجتمع المنظم من الهبات. والمقياس الوحيد لتمدين أي مجتمع وقدرته على التقدم هو، في رأي مل، مدى تحقق هذه الحريات فيه.
ولقد أدرك مل - ربما خيرا من أي مفكر آخر من أصحاب المذهب الحر في القرن التاسع عشر - أن الديمقراطية والعلم الفني التطبيقي ليسا بلسما يشفي كل العلل بطريقة آلية؛ ففي كل نظام بشري يوجد دائما اتجاه نحو التمسك بالسنن القائمة وإطاعتها دون مناقشة. وليست الديمقراطية ولا العلم المنظم بمنأى عن هذه الاتجاهات. والوسيلة الوحيدة للقضاء على تأثيرها هي التوسيع الدائم لنطاق الحرية الفردية، والنقد الذي تتيحه الحرية. والواقع أن مل كان أكثر فلاسفة عصره احتراما للعلم ومناهجه. ولكنه لم يتأثر قط بإغراء فكرة التخطيط العلمي الواسع النطاق، الذي تتولاه صفوة مثقفة للمجتمع. بل إن تقدم المعرفة، الذي هو شرط التقدم الاجتماعي، لا يكون في رأيه ممكنا إلا في مجتمع لا يحال فيه بين أي شخص، مهما كان بسيطا، وبين المساهمة بدور فعلي في ذخيرتنا الشحيحة من المعرفة البشرية. فالسلطة تولد التعصب دائما، والتعصب مهما كانت «سلامته »، هو على الدوام من علائم المجتمع المغلق الذي بلغ آخر حدود القدرة على إصلاح ذاته وإنهاضها. فإذا كانت السلطة لازمة أيضا لإقرار القانون والنظام، كما يعلم مل، فلا بد أيضا أن تشعر على الدوام بأنها مقيدة ومسئولة، بفضل النقد الحر لأناس ذوي نفوس مطمئنة.
وأيا ما كانت الأخطاء التفصيلية لفلسفة مل، فإنها ما زالت حتى اليوم نقطة البداية في تفكير معظم المؤمنين بالحرية، حول المجتمع الصالح والحياة الصالحة. وإن الكثيرين ممن لم يقتنعوا بحلوله للمشاكل المنطقية والمعرفية التي بحثها، ليشيدوا بفضله ويعتزون به. ولقد أطلق عليه اسم «قديس المذهب العقلي»، غير أن مذهبه العقلي - إن كان مذهبه عقليا فحسب - بعيد كل البعد عن ذلك المذهب العقلي الذي قال به أسلافه في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وإني لأوثر أن أرى فيه «قديسا لمذهب الحرية»، احتفظ بالمثل الأعلى للمعقولية حيا في عصر الأيديولوجية، دون أن تصل معقوليته أبدا إلى حد الإفراط أو تتصف بالغرور. ومثل هذا المثل الأعلى ليس من ذلك النوع الذي يسهل المبالغة في قيمته، وهو لا يلقى استجابة لدى معظم الباحثين وراء اليقين. غير أنه هو العلامة المميزة للذهن المتمدين، وقبوله على نطاق عام هو الميزة للمجتمع المتمدين.
والمقتطفات الآتية مختارة من بحث لمل بعنوان «الطبيعة
Nature ».
نشرته ابنة زوجته بعد وفاته، بوصفه أول بحث من ثلاثة أبحاث عن الدين، والاثنان الآخران هما «منفعة الدين
The Utility of Religion »، «والمذاهب الألوهية
Theism ».
5 ⋆
وأيا ما كان حكمنا على المقالين الآخرين، فإن مقال «الطبيعة» يمثل بلا جدال تفكير مل الناضج المتأني فيما بحثه من الموضوعات. (النص) «وإذن فالطبيعة، في أبسط معانيها، هي اسم جامع لكل الوقائع، الفعلية منها والممكنة. أو (بتعبير أدق) هي اسم لذلك الحال
mode
الذي تحدث فيه كل الأشياء، والذي لا نعرفه إلا جزئيا؛ ذلك لأن الكلمة لا تدل على التفاصيل الكثيرة للظواهر بقدر ما تدل على المفهوم الذي يمكن أن يكونه ذهن لديه معرفة كاملة بها، عن طريقتها في الوجود بوصفها كلا ذهنيا، وهو مفهوم يرمي العلم إلى الوصول إليه عن طريق خطوات متعاقبة من التعميم للتجربة.
ذلك، إذن، هو التعريف الصحيح للفظ الطبيعة. غير أن التعريف لا ينطبق إلا على واحد فقط من المعاني المتعددة لهذا اللفظ.
فمن الواضح أنه لا ينطبق على بعض الأحوال التي يشيع فيها استخدام اللفظ؛ فهو مثلا يتعارض تماما مع التعبير الشائع الذي يقال فيه، الطبيعة مقابل الفن (أو الصنعة)، والطبيعي مقابل الصناعي. ففي المعنى الذي عرضناه لكلمة الطبيعة، وهو المعنى العلمي الصحيح، يكون الفن (أو الصنعة) طبيعة، شأنه شأن أي شيء آخر، ويكون كل شيء صناعي طبيعيا؛ إذ ليست للفن قوة مستقلة خاصة به، وما هو إلا استخدام قوى الطبيعة لغاية ما؛ فالظواهر التي تنتجها فاعلية الإنسان، مثلها مثل تلك التي تكون، من وجهة نظرنا، تلقائيا، تتوقف على خصائص القوى الأولية، أو الجواهر الأولية ومركباتها، ولو اجتمعت قوى الجنس البشري بأكمله لما استطاعت أن تخلق صفة جديدة للمادة بوجه عام، أو لأي نوع من أنواعها. وكل ما يمكننا هو أن ننتفع لأغراضنا الخاصة، مما نجده من الخصائص.
وهكذا يبدو أن علينا الاعتراف بمعنيين رئيسيين على الأقل لكلمة الطبيعة؛ فالطبيعة، بأحد المعنيين، هي كل القوى الموجودة في العالم الخارجي أو الداخلي، وكل ما يحدث بفعل هذه القوى. وهي بالمعنى الآخر، ليست كل ما يحدث، وإنما كل ما يحدث دون تدخل الإنسان، أو دون تدخله الإرادي المقصود. وهذا التمييز لا يستنفد كل المعاني المختلفة للفظ، ولكنه مفتاح لتلك المعاني التي تتوقف عليها نتائج هامة.
فإذا كان هذان هما المعنيان الرئيسيان لكلمة الطبيعة، ففي أيهما، أو في أي معنى إذن، تقال الكلمة عندما تستخدم هي ومشتقاتها للدلالة على أفكار الإطراء والاستحسان بل والإلزام الخلقي؟ •••
أمن الضروري أن نرى في هذه التعبيرات معنى جديدا متميزا لكلمة الطبيعة؟ أم إن من الممكن ربطها، في أية وحدة معقولة، بأي من المعنيين السابقين؟ قد يبدو لأول وهلة أنه لا مناص لنا من الاعتراف بوجود اختلاف آخر في معنى اللفظ، فكل الأبحاث تنصب إما على ما هو كائن، أو على ما ينبغي أن يكون ؛ فالعلم والتاريخ ينتميان إلى القسم الأول، والفن والأخلاق والسياسة تنتمي إلى الثاني.
غير أن المعنيين اللذين أوضحناهما أولا لكلمة الطبيعة، يتفقان في الإشارة إلى ما هو كائن فحسب؛ ففي المعنى الأول تكون الطبيعة اسما لكل ما يوجد بذاته، دون تدخل بشري إرادي. غير أنه يبدو أن استخدام لفظ الطبيعة بوصفه مصطلحا في الأخلاق يكشف عن معنى ثالث، لا تدل فيه الطبيعة على ما هو كائن، وإنما على ما ينبغي أن يكون، أو على قاعدة أو معيار ما ينبغي أن يكون. غير أن قليلا من التفكير كفيل بإيضاح أن هذه ليست حالة اختلاف في المعنى، وأنه ليس ثمة معنى ثالث للكلمة ها هنا. فأولئك الذين يقولون بالطبيعة معيارا للسلوك، لا يقصدون القول بقضية لفظية (لغوية) فحسب؛ أي إنهم لا يعنون أن المعيار، أيا كان، ينبغي أن يسمى بالطبيعة، وإنما يعتقدون أنهم يقدمون بعض المعلومات عما يكونه معيار السلوك بالفعل؛ أي إن القائلين بوجوب سلوكنا وفقا للطبيعة لا يعنون فقط قضية الهوية القائلة إننا ينبغي أن نفعل ما ينبغي أن نفعل، وإنما يعتقدون أن لفظ الطبيعة يمدنا بمعيار خارجي لما ينبغي أن نفعله. وإذا كانوا يختارون قاعدة لما ينبغي أن يكون، من كلمة تدل في معناها الصحيح على ما هو كائن، فإنهم يفعلون ذلك لأن لديهم فكرة، واضحة كانت أم غامضة، مؤداها أن ما هو كائن هو قاعدة ما ينبغي أن يكون ومعياره.
وهدفنا من هذا المقال هو دراسة هذه الفكرة؛ فالمقال يعتزم البحث في حقيقة المذاهب التي تتخذ من الطبيعة مقياسا للصواب والخطأ، وللخير والشر، أو التي تعزو فضلا وتبدي استحسانا، على أي نحو أو بأية درجة، لاتباع الطبيعة أو محاكاتها أو إطاعتها. ولقد كان البحث السابق الخاص بمعنى الألفاظ مقدمة لا غناء عنها لهذا البحث؛ فاللغة، إن جاز هذا التعبير، هي جو البحث الفلسفي، الذي ينبغي أن يصبح أكثر صفاء قبل أن يتسنى مشاهدة أي شيء من خلاله في شكله ووضعه الصحيح. ومن الضروري في هذه الحالة أن نحتاط من اختلاف آخر في المعنى، ضلل أحيانا، على وضوحه، عقولا بعضها راجح، ويحسن الإلمام به على حدة قبل المضي قدما في البحث. فليس ثمة كلمة ألصق ارتباطا بلفظ الطبيعة من كلمة القانون. ولهذه الكلمة الأخيرة معنيان متلازمان، تدل في أحدهما على جزء محدد مما ينبغي أن يكون؛ فحين نتحدث عن قانون الجاذبية، وقوانين الحركة الثلاثة، وقانون النسب المحددة في التفاعلات الكيميائية، والقوانين الحيوية للكائنات العضوية، نعني أجزاء مما هو كائن. أما عندما نتحدث عن القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون الشرف، وقانون الصدق، وقانون العدل، فإنا نعني أجزاء مما ينبغي أن يكون، أو من افتراضات شخص ما أو مشاعره أو أوامره بشأن ما ينبغي أن يكون. فأما النوع الأول من القوانين، كقوانين الحركة والجاذبية، فما هو إلا الاطرادات الملاحظة في حدوث الظواهر؛ منها اطرادات تتعلق بالسابق واللاحق، ومنها اطرادات تتعلق بالتلازم في الحدوث. تلك هي القوانين المقصودة من كلمة «قوانين الطبيعة» في العلم، بل وفي الحديث المعتاد. أما القوانين بالمعنى الآخر فهي قوانين البلاد، أو قانون الأمم، أو القوانين الأخلاقية، وهي قوانين يقحم بينها المشرعون والمتفقهون، كما لاحظنا من قبل، شيئا يعتقدون أن من الصحيح تسميته بقانون الطبيعة.
وعندما يقال صراحة أو ضمنا إن من الواجب الاتفاق مع الطبيعة أو قوانينها، فهل يكون المقصود بالطبيعة هنا، الطبيعة بالمعنى الأول؛ أي كل ما هو كائن؛ أي قوى الأشياء كلها وخصائصها؟ من الواضح أنه لا حاجة بهذا المعنى إلى توصية للفعل وفقا للطبيعة، ما دامت هي ما لا يملك أحد إلا أن يفعله، سواء أصاب في فعله أم أخطأ. فليس ثمة طريقة للسلوك لا تتفق مع الطبيعة بمعناها هذا، وهذا يسري بنفس القدر على كل طرق السلوك؛ فكل سلوك إنما هو ممارسة قوة طبيعية ما، وتأثيراته أيا كان نوعها، هي بدورها ظواهر طبيعية، تنتجها قوى وخصائص بعض الأشياء الطبيعية، وتتبع فيها بكل دقة واحدا أو أكثر من قوانين الطبيعة. وإنه لمن الممتنع أن نطلب إلى الناس أن يسلكوا وفقا لقوانين الطبيعة، في الوقت الذي لا يملكون فيه من القوة إلا ما منحتهم إياه الطبيعة، وفي الوقت الذي يستحيل فيه عليهم ماديا أن يفعلوا أقل شيء إلا من خلال واحد من قوانين الطبيعة. والأمر الذي يلزم أن يوضح لهم، هو تحديد تلك القوانين الطبيعية التي ينبغي عليهم أن يطبقوها في حالة محددة.
ومع ذلك، فرغم أن من الأمور العقيمة أن تدعو الناس إلى أن يفعلوا ما لا يملكون إلا أن يفعلوه، ورغم أن من الممتنع أن تضع للسلوك القويم قاعدة تتفق تماما مع ما يسري على السلوك المنحرف؛ فقد يكون من الممكن وضع قاعدة عاقلة للسلوك على أساس العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين السلوك وبين قوانين الطبيعة بأوسع معنى لهذه الكلمة. فصحيح أن المرء يطيع بالضرورة قوانين الطبيعة، أو بعبارة أخرى صفات الأشياء، ولكنه لا يسترشد بها بالضرورة. ورغم أن كل سلوك متفق مع قوانين الطبيعة، فليس كل سلوك قائما على معرفة بها، وموجها على نحو عاقل إلى بلوغ أهدافه عن طريقها. ورغم أننا لا نستطيع أن نحرر أنفسنا من قوانين الطبيعة في مجموعها؛ ففي وسعنا التهرب من أي قانون بعينه من قوانين الطبيعة، إذا ما استطعنا أن نبتعد بأنفسنا عن الظروف التي يسري فيها هذا القانون. ورغم أننا لا نفعل شيئا إلا من خلال قوانين الطبيعة، ففي وسعنا استخدام قانون مقابل الآخر. وكما يقول بيكون في كلمته المأثورة؛ ففي وسعنا إطاعة الطبيعة على نحو نسيطر به عليها. فكل تغيير في الظروف يغير، إلى حد كثير أو قليل، قوانين الطبيعة التي نسلك بمقتضاها، وفي كل اختيار نقوم به للغايات أو الوسائل، نخضع أنفسنا إلى حد قليل أو كثير لمجموعة من قوانين الطبيعة دون غيرها. وعلى ذلك فلو غيرنا الدعوة العقيمة إلى اتباع الطبيعة، إلى قاعدة لدراسة الطبيعة، وإلى معرفة خصائص الأشياء التي يتعين علينا التعامل معها والاهتمام بها، بقدر ما يتسنى لهذه الخصائص أن تساعد على تحقيق هدف معين أو تعوقه ، فعندئذ يكون قد توصلنا إلى المبدأ الأولي لكل فعل عاقل، أو على الأصح إلى تعريف الفعل العاقل ذاته، ولا ريب عندي في أن هناك فكرة باطنة عن هذا المبدأ الصحيح في أذهان الكثيرين ممن يقولون بالمبدأ الفارغ المشابه له سطحيا؛ فهم يدركون أن الفارق الأساسي بين السلوك الحكيم والأهوج ينحصر في الاهتمام أو عدم الاهتمام بتلك القوانين الخاصة للطبيعة، والتي تتوقف عليها نتيجة هامة ما. وهم يعتقدون أن الشخص الذي يهتم بقانون للطبيعة، كما يصوغ سلوكه وفقا له، يمكن أن يقال عنه إنه يطيعه، على حين أن الشخص الذي يهمله عمليا، ويسلك كما لو لم يكن لمثل هذا القانون وجود، يمكن أن يقال عنه إنه يوصيه. وفاتهم أن ما يسمى عصيانا لقانون للطبيعة إنما هو إطاعة لقانون آخر، وربما لنفس القانون.
ولكن مهما كان مقدار ما يدين به مذهب «اتباع الطبيعة
Naturam sequi » في سلطته وتأثيره للخلط القائم بينه وبين الدعوة المعقولة إلى مراعاة الطبيعة
Naturam observare ، فإن أنصار هذا المذهب والداعين إليه يعنون به قطعا شيئا يتجاوز هذه الدعوة كثيرا. فاكتساب معرفة بخصائص الأشياء، والانتفاع من هذه المعرفة في الاسترشاد بها، هو قاعدة من قواعد الفطنة (
prudence ) ترمي إلى تكييف الوسائل مع الغايات، وإلى تحقيقي رغباتنا ومقاصدنا أيا كانت. غير أن مبدأ إطاعة الطبيعة، أو الاتفاق مع الطبيعة، لا يعد من مبادئ الفطنة أو الحكمة فحسب، وإنما يعد أيضا مبدأ أخلاقيا، بل إنه في نظر من يتحدثون عن «الحق الطبيعي
jus natural »، يعد قانونا جديرا بالتطبيق في المحاكم، وبالتنفيذ عن طريق الجزاءات؛ فالفعل القويم ينبغي أن يعني شيئا يزيد ويختلف عن مجرد الفعل العاقل، ومع ذلك فمن المستحيل ربط أية قاعدة تتجاوز هذه الأخيرة، بكلمة الطبيعة في معناها الواسع الأقرب إلى روح الفلسفة. وإذن فلنجرب معناها الآخر؛ أي ذلك الذي تتميز فيه الطبيعة من الفن أو الصنعة، وتدل، لا على المجرى الكامل للظواهر التي تقع تحت أنظارنا، وإنما على مجراها التلقائي فحسب.
فلننظر إذن إن كان في وسعنا أن نعزو أي معنى إلى القاعدة العملية المزعومة الخاصة باتباع الطبيعة، في هذا المعنى الثاني للكلمة، الذي تدل فيه على ما حدث دون تدخل بشري؛ فهل المجرى التلقائي للأشياء إذا ما تركت وشأنها في الطبيعة، مفهومة بهذا المعنى، هو القاعدة التي ينبغي اتباعها عند محاولة تسخير الأشياء لمنفعتنا؟ من الواضح على التو أن القاعدة بهذا المعنى ليست فقط عقيمة وخالية من المعنى، كما هي حالها في المعنى الآخر، بل إن امتناعها وتناقضها الذاتي واضحان. ففي حين أن سلوك الإنسان لا مفر له من الاتفاق مع الطبيعة بأحد معنيي اللفظ، فإن الهدف والقصد من السلوك هو تغيير الطبيعة بالمعنى الثاني وتحسينها. وإذا كان المجرى الطبيعي للأشياء سليما ومرضيا تماما، فإن مجرد السلوك يكون تدخلا لا جدوى منه، يؤدي حتما إلى زيادة الأمور سوءا طالما أنه لا يستطيع تحسينها. أو أنه لو أمكن تبرير الفعل على الإطلاق، فسيكون ذلك في حالة الإطاعة المباشرة للغرائز فحسب، طالما أنه قد يكون من الممكن حسبان هذه جزءا من النظام التلقائي للطبيعة، وعندئذ يكون أي سلوك يصدر عن روية وغرض، خرقا لهذا النظام الكامل. فإن لم يكن الصناعي
artificial
أفضل من الطبيعي، فإلى أية غاية تسير كل صنائع الحياة وفنونها؟ عندئذ يكون الحفر، والحرث، والبناء، وارتداء الملابس، خرقا مباشرا للدعوة إلى اتباع الطبيعة. •••
إن كل مديح يزجى إلى المدنية أو الفن أو العقل المبتكر، إنما هو في الآن نفسه ذم للطبيعة، واعتراف بالنقص الذي يتعين على الإنسان، تحقيقا لرسالته وبلوغا لكماله، أن يسعى على الدوام إلى إصلاحه أو تقويمه.
ولقد أدى الشعور بأن كل ما يفعله الإنسان لتحسين حاله هو في الآن نفسه كبت وإحباط للنظام التلقائي للطبيعة، أدى هذا الشعور في كل الأزمان إلى إلقاء ظل من الشك الديني في مبدأ الأمر على المحاولات الجديدة المبتكرة لتحسين هذه الحال؛ إذ نظر إلى هذه المحاولات على أن فيها تحديا، وربما إهانة، للكائنات ذات القدرة (أو إلى الموجود القادر على كل شيء، عندما حل التوحيد محل تعدد الألوهية)، التي يفترض أنها تسيطر على مختلف ظواهر الكون ، والتي كان ينظر إلى مجرى الطبيعة على أنه تعبير عن إرادتها. وهكذا كان من السهل أن تبدو أية محاولة لتسخير الظواهر الطبيعية من أجل راحة البشر، تدخلا في تحكم هذه الكائنات العليا، ورغم أنه كان من المستحيل الاحتفاظ بالحياة - ناهيك بإعلائها - دون تدخل دائم من هذا النوع، فقد كان كل تدخل جديد يقترن حتما بالرعب والرعدة، حتى تثبت التجربة أن من الممكن ممارسته دون جلب نقمة الآلهة. ومع ذلك فما زالت هناك فكرة غامضة مؤداها أنه رغم أن السيطرة على هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك أمر مستحب، فإن النظام العام للطبيعة إنما هو أنموذج لنا نحتذيه، وإننا مع ممارستنا لقدر، قل أو كثر، من الحرية في التفاصيل، ينبغي علينا أن نسترشد في سلوكنا عامة بروح السلوك الطبيعي واتجاهه العام. وإن هذه أمور من صنع الله، ومن ثم فهي كاملة، وإن الإنسان لا يستطيع منافسة كمالها المعجز، وإن أكثر ما يستطيع به أن يظهر قدرته وتقواه، هو أن يحاول الإتيان بمثيل لها، مهما كان نقص المحاولة. وإنه إذا لم تكن إرادة الخالق تتبدى في نظام الطبيعة التلقائي كله، فإنها تتبدى على الأقل، بمعنى خاص، في أجزاء خاصة منه، تختار وفقا لهوى المتحدث، وتكون بالنسبة إليه أشبه بإشارات الطريق تدل على الاتجاه الذي قصد من الأشياء عامة، وبالتالي من أفعالنا الإرادية، أن تسير فيه. هذا النوع من الآراء، وإن يكن المجرى المضاد للحياة يكبته في الظروف المعتادة، يظل على استعداد للانطلاق كلما صمت العرف، ولم تجد الهواجس الكامنة في الذهن شيئا يعارضها سوى العقل، وهكذا نجد أهل البلاغة يستشهدون على الدوام بمثل هذه الآراء، فتكون النتيجة هي أنه إذا لم يقتنع الخصوم، فسوف تطمئن على الأقل نفوس أولئك الذين يعتنقون من الآراء ما يرغب أهل البلاغة في نشره.
فإذا كانت هذه الفكرة القائلة بمحاكاة أساليب العناية الإلهية كما تتبدى في الطبيعة، لا تجد إلا في أحوال نادرة تعبيرا صريحا مباشرا عنها بوصفها قاعدة للسلوك تنطبق بشكل عام، فإنها أيضا لا تجد من يناقضها إلا في أحوال نادرة. وهكذا تجد من يصادفونها في طريقهم يفضلون الالتفاف حول العقبة بدلا من مهاجمتها؛ إذ إنهم هم أنفسهم ليسوا في كثير من الأحيان متحررين من هذا الرأي، وهم على أية حال يخشون أن يجلبوا على أنفسهم تهمة الزندقة إذا ما قالوا شيئا قد يعد مزريا بآثار قدرة الخالق. وهكذا تجدهم في معظم الأحيان يحاولون أن يبينوا أن لديهم من الحق في الحجة الدينية مثل ما لخصومهم، وأنه إذا كان المسلك الذي يوصون به يبدو متعارضا مع بعض أساليب العناية الإلهية، فإنه في جزء آخر منه يتفق معها على نحو أفضل مما تتفق عليه معها مزاعم خصومهم، وفي مثل هذه الطريقة في معالجة المغالطات الأولية الكبرى، يؤدي تقدم الفهم إلى محو أخطاء معينة، على حين تظل أسباب الخطأ على ما هي عليه، ولا ينالها من أي نزاع إلا أقل سوء. ومع ذلك فإن السلسلة الطويلة من هذه الانتصارات الجزئية تؤدي إلى تراكم السوابق التي يمكن الاستعانة بها ضد هذه الأفكار السابقة الراسخة، والتي تعطينا أملا متزايدا في أن يجيء اليوم الذي يضطر فيه الرأي الباطل، بعد أن كثرت مرات تراجعه، إلى التسليم دون قيد ولا شرط. إذ إنه مهما بدت تلك القضية جارحة لشعور المتدينين، فمن واجبهم أن يقبلوا دون مواربة مواجهة الحقيقة الصريحة القائلة إن نظام الطبيعة، بقدر ما تظل بمنأى عن تدخل الإنسان، له صفات يستحيل معها أن يكون كائن عادل رحيم قد صنعها بقصد أن يجعل مخلوقاته العاقلة تتخذ منها مثلا يحتذى. فإذا كانت الطبيعة كلها من صنع مثل هذا الكائن، ولم تشترك في صنعها كائنات لها صفات مختلفة كل الاختلافات، فلا يمكن إلا أن تكون عملا ترك ناقصا عن عمد، يتعين على الإنسان، في مجاله المحدود، أن يمارس العدل والرحمة في تقويمه. والواقع أن أفضل الناس كانوا يرون دائما أن جوهر الدين هو في أن يجعل أسمى واجب للإنسان على الأرض إصلاح ذاته، ولكنهم جميعا، باستثناء المترهبنين السلبيين، قد أضافوا إلى ذلك، في قرارة أنفسهم (وإن لم يكونوا في معظم الأحيان على استعداد للجهر بذلك بنفس القدر من الوضوح) واجبا دينيا آخر هو إصلاح العالم، لا في جزئه البشري فحسب، بل في جزئه المادي أيضا؛ أي إصلاح الطبيعة المادية. •••
هذا العرض الموجز يكفي كل الكفاية لإثبات أن للإنسان نفس الواجب بالنسبة إلى طبيعته الخاصة وبالنسبة إلى طبيعة كل الأشياء الأخرى؛ ألا وهو أن يصلحها، لا أن يتبعها. ومع ذلك فإن بعض الناس، الذين لا يحاولون أن ينكروا وجوب إخضاع الغريزة للعقل، يذعنون للطبيعة إلى حد أنهم يقولون إن من الواجب أن يترك لكل ميل طبيعي مجال عمل ما، ومنفذا لإشباعه، فهم يقولون إن كل الرغبات الطبيعية لا بد قد غرزت في النفس لغرض ما، ويمضون في هذه الحجة إلى حد أنهم كثيرا ما يقولون إن كل رغبة، يفترض أن الشعور بها أمر طبيعي، لا بد أن يكون لها في نظام الكون مجال مقابل لإشباعها، وذلك بقدر ما يعتقد الكثيرون (مثلا) أن الرغبة في إطالة الحياة إلى أجل غير محدد هي ذاتها دليل كاف على حقيقة الحياة الأخرى.
وفي رأيي إن كل هذه المحاولات الرامية إلى كشف مقاصد العناية الإلهية بالتفصيل من أجل إعانة هذه العناية على تحقيق هذه المقاصد بعد الاهتداء إليها، هي محاولات ممتنعة من أساسها؛ فأولئك الذين يستنتجون من دلائل معينة أن العناية الإلهية تقصد هذا الأمر أو ذاك، إما أن يعتقدوا أن في استطاعة الخالق فعل ما يريد، أو أن هذا ليس في استطاعته. فإذا أخذنا بالفرض الأول، وقلنا إن العناية الإلهية قادرة على كل شيء، لكانت العناية الإلهية تقصد كل ما هو حادث، وكون الشيء حادثا يثبت أن العناية الإلهية قد قصدته. فإن كان الأمر كذلك، فإن كل ما يستطيع الإنسان عمله مقدر من العناية الإلهية من قبل، وما هو إلا تحقيق لمقاصدها. أما إذا لم تكن العناية الإلهية تقصد كل ما يحدث، وإنما تقصد الخير فقط، وهو الرأي الأقرب إلى نفوس المتدينين، فإن في وسع الإنسان عندئذ أن يساعد مقاصد العناية الإلهية بقدرته وأفعاله الإرادية، ولكنه لا يستطيع أن يعرف هذه المقاصد إلا بالبحث فيما يؤدي إلى تحقيق الخير العميم، إلا فيما يميل الإنسان إليه بطبيعته؛ إذ إنه لما كان من المحتم أن تتصف القدرة الإلهية، في هذا المعنى، بالقصور، نتيجة لما يعترضها من عقبات غامضة وإن تكن كأداء، فمن ذا الذي يعرف أنه كان من الممكن خلق الإنسان دون رغبات لن تشبع أبدا، بل ولا ينبغي أن تشبع على الإطلاق؟ إن الميول التي وهبت للإنسان، وكذلك أية قوى أخرى مما يشاهده في الطبيعة، قد لا تكون تعبيرا عن الإرادة الإلهية، وإنما قد تكون هي الأغلال التي تعوق الفعل الحر لهذه الإرادة. فإذا ما استرشدنا بها في توجيه سلوكنا، فقد نقع في فخ نصبه لنا العدو. والواقع أن الافتراض القائل إن كل ما يتسنى للخير اللامتناهي، أن يرغبه، يحدث بالفعل في هذا الكون، أو أن علينا على الأقل ألا نقول أو نفترض أبدا أنه لا يحدث، مثل هذا الافتراض لا يليق إلا بمن يؤدي بهم الخوف الذليل إلى التوسل بالأكاذيب إلى كائن يدعون أنه لا يخدع، وأن نقمته تحل على كل زور وبهتان.
أما الافتراض الخاص القائل إن الميول الطبيعية، وكل النزعات التي تبلغ من الشمول والتلقائية حدا يتيح إدراجها في باب الغرائز، لا بد أن توجد لغايات طيبة، وأن كل ما ينبغي أن نفعله إزاءها هو أن ننظمها، لا أن نقمعها. أما هذا الافتراض فإنه يصدق بالطبع على معظمها؛ إذ إنه ما كان يتسنى للنوع البشري أن يستمر في الوجود ما لم تكن معظم ميوله متجهة إلى أمور لازمة أو مفيدة لبقائه. ولكن ينبغي - ما لم تحدد الغرائز بعدد قليل جدا - أن نعترف بأن لدينا أيضا غرائز فاسدة يجب أن تستهدف التربية، لا تنظيمها، وإنما استئصالها، أو على الأصح إخمادها بعدم الاستعمال (وهو أمر يمكن تحقيقه حتى بالنسبة إلى الغرائز).
ولكن حتى لو صح أن لكل ميل أولي في الطبيعة البشرية جانبه الصالح، وأن من الممكن بالتدريب الصناعي الكافي أن نجعل نفعه يفوق ضرره، فما أقل ما نستخلصه من هذا ، إذا كان من المعترف به على أية حال أنه لولا هذا التدريب لأدت كل هذه الميول، حتى الضرورية منها لبقائنا، إلى ملء العالم بؤسا، وإحالة حياة الإنسان إلى نسخة مكبرة لتلك الصورة القبيحة من العنف والإرهاب الذي يتمثل في بقية عالم الحيوان، إلا ما استأنسه وهذبه منه الإنسان. ولو شاء أولئك الذين تخيلوا في أنفسهم القدرة على استشفاف مقاصد الخالق في خلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، لرأوا في ذلك دليلا يثبت صحة النتيجة التي يتهربون منها. فلو كان ثمة أي مظهر لمقصد خاص في الخلق، لكان من أوضح الأمور المقصودة أن يقضي جزء كبير من الحيوانات حياته في تعذيب والتهام غيره من الحيوانات. وإذا لم نكن مضطرين إلى الاعتقاد بأن خلق الحيوان من عمل الشيطان، فذلك لأنه لا يتعين علينا افتراض أن هذا الخلق من عمل كائن لا متناهي القدرة. أما لو قلنا إن قاعدة السلوك المطبقة في هذه الحالة هي محاكاة الإرادة الإلهية كما تتمثل في الطبيعة، فإن أشنع فظائع الأشرار من الناس تجد لها عندئذ كل مبرر في المقصد المزعوم للعناية الإلهية، القاضي بأن يلتهم القوي الضعيف في كل أرجاء الطبيعة الحية. •••
إن الاتفاق مع الطبيعة لا يرتبط قط بالخير والشر. ومن المحال أن يتسنى إدخال الفكرة على نحو ملائم في الأبحاث الأخلاقية، إلا في مسألة درجات الإثم
degrees of culpability ، وذلك على نحو جزئي عارض ... فكون الشيء غير طبيعي، بأي معنى يمكن أن تفهم به هذه الكلمة، ليس على الإطلاق سببا يجعله مذموما؛ إذ إن أشد الأفعال إجراما ليست، بالنسبة إلى كائن كالإنسان، أبعد عن الطبيعة من معظم الفضائل. •••
ومن المفيد هنا أن نوجز في كلمات قليلة أهم نتائج هذا البحث:
فلكلمة الطبيعة معنيان رئيسيان؛ فهي إما أن تدل على نظام الأشياء كاملا، ومعه مجموع خصائصها، أو على الأشياء كما تكون إذا لم يتدخل فيها الإنسان.
والمذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة عقيم بالنسبة إلى المعنى الأول؛ إذ ليس للإنسان قدرة أن يفعل أي شيء سوى اتباع الطبيعة، وكل أفعاله تتم من خلال واحد أو أكثر من القوانين المادية أو الذهنية للطبيعة، وتطيع هذه القوانين.
أما بالمعنى الثاني، فإن المذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة، أو اتخاذه من المجرى التلقائي للأشياء أنموذجا لأفعاله الإرادية، لا يقل عن ذلك افتقارا إلى المعقولية والأخلاقية.
فهو يفتقر إلى المعقولية لأن كل فعل إنساني، أيا كان، قوامه تغيير المجرى التلقائي للطبيعة، وكل فعل مفيد قوامه إصلاح هذا المجرى.
وهو يفتقر إلى الأخلاقية؛ إذ إنه لما كان مجرى الظواهر الطبيعية زاخرا بكل ما يبعث على التقزز والنفور إذا ما ارتكبه الإنسان، فإن من يحاول محاكاة المجرى الطبيعي للأشياء في أفعاله يغدو في نظر الجميع وبإقرارهم أشر الناس جميعا.
إن من المحال أن يكون الهدف الوحيد، أو حتى الهدف الرئيسي، لنظام الطبيعة، منظورا إليه في سياقه الكامل، هو صالح الكائنات البشرية أو الكائنات الحاسة الأخرى. وكل ما يجلبه لهم من خير إنما هو ثمرة جهودهم الخاصة. وكل ما يبدو في الطبيعة دليلا على مقصد خير، يثبت أن القدرة التي يتسلح بها هذا الخير محدودة، وواجب الإنسان هو أن يتعاون مع القوى الخيرة، لا بمحاكاة مجرى الطبيعة، بل بالسعي الدائم إلى تقويمه، وإلى التقريب المتزايد بين ذلك الجزء الذي نستطيع السيطرة عليه منها، وبين المثل الأعلى للعدل والخير.
الفصل الثامن
نبي التطور
هربرت سبنسر (1820-1903م)
ظلت النظرة التطورية إلى دراسة الظواهر العضوية، حتى عهد قريب نسبيا، تسيطر لا على علوم الحياة فحسب، بل على علوم الإنسان أيضا. وقد كان لوجهة النظر هذه تأثير عميق كذلك في مجرى التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر؛ ولذا تعين علينا أن نقول في هذه الصفحات شيئا عن نظريات تشارلس دارون؛ ذلك لأن موقع هذه النظريات من الفلسفات العلمية في القرن التاسع عشر، يشبه إلى حد معين موقع النظريات الفلكية والفيزيائية لكبرنك وكيلر وجاليليو ونيوتن من التأملات الفلسفية في العصر السابق.
ولم يكن دارون هو أول من قال بمفهوم التطور، ولكنه كان أول من جعل لنظرية التطور العلمي أساسا علميا، وكان مؤلفاه العظيمان: «أصل الأنواع»، و«السلالة المؤدية إلى الإنسان
The Descent of Man »، هما اللذان رفعا في نهاية الأمر راية المنهج التطوري. ولم يكن دارون ذاته فيلسوفا، وإنما اكتفي بأن ترك غيره يستخلص النتائج الفلسفية لفروضه العلمية. ولقد كانت الأفكار الرئيسية في نظريته معروفة منذ وقت بعيد. ومن أمثلة هذه الأفكار، الصراع من أجل الحياة، وقابلية الأنواع للتغير، والانتقاء الطبيعي، وتوارث الصفات المساعدة على الاستمرار البيولوجي، وتسلسل الإنسان من نوع أدنى منه من الحيوانات الراقية. وكان دور دارون هو جمع كل هذه الأفكار في نظرية موحدة كانت تهدف إلى تفسير تطور كل الكائنات الحية من خلال علل طبيعية.
ولم يكن دارون يقصد من «الصراع من أجل الحياة» نظرية غائية تنسب إلى كل الكائنات العضوية غرضا أو إرادة للحياة، وإنما كان ذلك في نظره تعبيرا مجازيا لا يقصد منه إلا الإشارة إلى الحقائق الملاحظة التي تدل على أن كل حياة تعتمد دوما على البيئة الطبيعية، وعلى أن الأشياء الحية تتجه في مثل هذه البيئة إلى التنافس من أجل البقاء. وفضلا عن ذلك فالصراع من أجل الحياة إنما هو وجه واحد فقط من أوجه ظاهرة عضوية عامة، هي التكيف العضوي مع بيئة تتضمن ظروفا مادية متغيرة، وكذلك تكيفا متنافسا للأنواع. أما «الانتقاء الطبيعي» فلم يقصد منه دارون إلا الطريقة التي تشجع بها البيئة في مجموعها صفات معينة، وتحبط صفات أخرى، بحيث تحفظ التغيرات النوعية المؤدية إلى البقاء، بينما تختفي تلك التي تعرض البقاء للخطر.
أما الشعار المشهور «البقاء للأصلح»، فلم يقل به دارون، وإنما قال به هربرت سبنسر. فلقد كان دارون ذاته حريصا على تجنب أية نتائج أخلاقية مزعومة لنظرياته، ولم يكن مما سعى دارون ذاته إلى إثباته ذلك الرأي الشائع المنسوب إلى من يسمون ب «الداروينيين الاجتماعيين»، والقائل إن الأقدر على البقاء هم الذين يستحقون البقاء. كذلك كان دارون حريصا كل الحرص على التزام حدود فرضه؛ فهو لم يدع لنفسه القدرة على تفسير أصل الحياة ذاتها، ولم يقل إنه يعرف بدقة أسباب تلك التنوعات التي تكون هي العامل الأصلي في تحديد مختلف الأنواع العضوية. ولقد رفض تلك النتيجة التي حاول البعض استخلاصها من نظريته، ألا وهي أن الأنواع «العليا» أفضل تكيفا مع بيئتها من الأنواع «الدنيا». وكانت مهمة معاصره هربرت سبنسر هي أن يستخلص النتائج الفلسفية الرئيسية للنظرية التطورية؛ فعلى يديه تحولت تلك النظرية إلى مركب ضخم للمعرفة البشرية، له فلسفته الخاصة في الكونيات والأخلاق والسياسة.
ولا يكفي لتحديد موقع فلسفة سبنسر أن نبحث في صلاته بدارون، بل ينبغي أيضا أن نضع هذه الفلسفة مقابل الفلسفات السابقة عليها، ولا سيما فلسفة هيجل وكونت؛ فقد وضع كل من هيجل وكونت نظريات عن مسار التاريخ، غير أن اهتمامهما كان منصبا في المحل الأول على مسار الأفكار والنظم البشرية. ولم يبد أي منهما اهتماما جديا بالمسائل الكونية، كما لم يبذل أي منهما محاولة جدية لوضع قوانين شاملة لمسار التاريخ، لا تنطبق على تقدم الأفكار والنظم البشرية فحسب، وإنما تنطبق أيضا على الحياة في مجموعها، بل على الكون المادي بأسره. والواقع أن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر قبل سبنسر، لم يكونوا يكترثون بالمسائل الكونية التي طالما اهتم بها الفلاسفة في القرن السابع عشر. وكانت النظرية التطورية هي التي حفزت مرة أخرى خيال الفلاسفة إلى الانطلاق بحرية خلال الكون في مجموعه، وإلى وضع نظرة شاملة إلى العالم من خلال مفهوم المسار التطوري.
ويشير التقابل بين سبنسر وكونت بكل وضوح إلى طريقتين مختلفتين أثر بهما العلم الحديث في الفلسفة؛ ففي نظر كونت، وكذلك معظم الوضعيين، كان أهم ما في العلم من الوجهة الفلسفية هو المنهج، وكما رأينا من قبل، فقد كانت الوحدة الوحيدة للعلم، التي دافع عنها كونت، هي وحدة المنهج.
أما سبنسر، الذي وصف نفسه بأنه فيلسوف علمي أيضا، فقد كان موقفه من العلم مختلفا؛ فهو يرى، مثل كونت، أن المنهج العلمي هو، بمعنى واسع، المنهج الوحيد للمعرفة البشرية. وبين فلسفته وبين الوضعية والتجريبية أوجه شبه كثيرة ، غير أن ما أعجبه في العالم لم يكن منهجه فحسب، وإنما صورة العالم ومركز الإنسان فيه كما توحي بهما الفروض الأساسية في العلوم الفيزيائية وفي العلوم البيولوجية على وجه أخص. وربما كانت «فلسفته التركيبية» منظورا إليها في مجموعها، أعظم جهد بذله واحد من فلاسفة القرن التاسع عشر لتنظيم وتشكيل المعرفة العلمية الموجودة في عصره في مركب فكري ضخم يسعى إلى تقديم وصف شامل للعالم الطبيعي بأسره.
وإذن ففلسفة سبنسر تتصف أساسا بالنزعة الطبيعية والمادية، لا بالنزعة الوضعية. وهي تنتمي في هذا الصدد إلى التراث المادي الضخم للفيلسوفين لوكريتيوس
1
وهز،
2
أكثر مما تنتمي إلى التراث المعرفي البحت للتجريبيين والوضعيين كما يمثلهم كونت ومل. والفارق الأساسي بين سبنسر وسابقيه في التراث المادي هو أن الأخيرين، في مجموعهم، قد اتخذوا لتعميماتهم أنموذجا من الشيء المادي (الفيزيائي)، بينما استخدم سبنسر علم الحياة التطوري مفتاحا لتعميماته الميتافيزيقية.
ومما له دلالته أن سبنسر يستهل كتابه «مذهب في الفلسفة التركيبية
System of Synthetic Philosophy » ببحث نقدي لحدود المعرفة البشرية والعلاقات بين العلم والدين. ويتسم هذا البحث بطابع توفيقي واضح، كذلك يتجلى فيه الطابع التلفيقي الذي يجعل من العسير إلى حد ما تحديد موقع فلسفة سبنسر من التيارات الرئيسية للفكر في القرن التاسع عشر. فهو، مثل كانت، يرى أن كل معرفة وضعية تقتصر على الظواهر كما تبدو في المكان والزمان، ولكنه، مثل كانت أيضا، لا يقصر «العالم الحقيقي
reality » على ما يبدو أو ما يمكن أن يبدو لحواسنا؛ فهو يتحدث أيضا عن حقيقة خارجية مستقلة يسميها «بما لا يعرف
The Unknowable »، وفي رأيه أن من الممكن التوصل آخر الأمر إلى التوفيق بين الفلسفة والدين عندما يعترف العلماء وفلاسفة العلم بأن مناهج العلم الوضعي لا تنفذ إلى الأغوار العميقة للوجود، وعندما يكف دعاة الدين عن محاولة تفسير وجود الأشياء عن طريق «كائن» لا نستطيع أن نعرف طبيعته. ويعتقد سبنسر أن رأيه هذا يظهر ضمنا في التطور التاريخي للدين من عبادة الأصنام
fetishism
إلى القول بتعدد الآلهة
polytheism ، ثم إلى الأديان الموحدة الأرقى، التي ترى أن أية محاولة من الإنسان لمعرفة الله أو وصفه بصفات بشرية كالإرادة والعقل والشخصية هي أشنع تجديف. ويرى سنبسر أن الماهية الباطنة للدين لا شأن لها بالأوصاف الخاصة بطبيعة الله أو علاقته والعالم أو بتاريخ البشر، وإنما هي تنحصر في الاعتراف بالسر الكامن في الوجود، وفي شعور الإنسان بالخشوع أمام ذلك السر.
ومن الممكن أن يقال إن سبنسر حين ذكر أن الدين يختص ب «اللامعروف» الغامض، لم يكن يقول، أو على الأقل لم يكن يقول بالضرورة، إن الدين يختص ب «كيان» حدث أننا لا نستطيع أن نعرفه، وإنما قال إنه لا يصح أن يختص ب «المعروفات» على الإطلاق، وأن اهتمامه «بما هو موجود» مركز في اتجاه مختلف تماما. وفي هذا المعنى لا يكون الدين على الإطلاق علما بدائيا فاشلا يعجز بطبيعته عن تحقيق هدفه، وإنما يكون شيئا يختلف عن ذلك كل الاختلاف، تعثر خلال التاريخ، لسوء حظه، في مشاكل تفسيرية لا شأن له بها، وينبغي من الآن فصاعدا أن يتخلى عنها إذا شاء أن يؤدي مهمته التي يختص بها.
ولم يكن دارون هو المفكر الذي استوحاه سبنسر في ميتافيزيقاه التطورية، وإنما استوحى الفيلسوف المثالي الألماني «شلنج
Scheling »؛ فقد رأى هذا الأخير أن عالم الحياة العضوية يكشف عن مسار نحو المزيد من التنوع والتنظيم والتفرد. وبدا أن أفكار شلنج النظرية قد وجدت ما يؤيدها في أبحاث عالم الأجنة «فون باير
K. E. von Baer » الذي تقدم بالفرض القائل إن التغيرات التركيبية الحادثة في نمو كل الأجنة تكشف عن تطور تدريجي من أشكال لا محددة متجانسة إلى أشكال أكثر تحددا وأقل تجانسا. وقد بدا من الواضح في نظر سبنسر أن هذا التطور ينبغي ألا يقتصر على صور الحياة وحدها، وإنما يمكن أن يعزى أيضا إلى العمليات غير العضوية بدورها، وحاول دعم رأيه ذي الطابع الأعم بأمثلة متعددة مستمدة من العلوم الطبيعية.
غير أن سبنسر كان يعتقد أن لعملية المسار التطوري الشامل هذه وجها آخر بالإضافة إلى ذلك؛ فهناك اتجاه آخر يعوض تأثير عملية التنوع أو التفاضل، هو اتجاه إلى التكامل، وإلى إعادة تشكيل العمليات المتفاضلة بالتدريج في مجموعات كلية جديدة ذات طابع أشمل. فهو يرى أن التعقد والتفرد المتزايد للأنواع العضوية، الذي يبلغ مداه في الإنسان، يعوضه اتجاه آخر في الحياة البشرية نحو التكامل المتزايد للسلوك عن طريق العقل. كما أن التنوع أو التفاضل التطوري الذي يتمثل على المستوى الاجتماعي في التقسيم المتزايد للعمل البشري، يعوضه، كلما تقدمت المجتمعات، ذلك التكامل التدريجي للأفراد في تجمعات بشرية أشمل وأوثق في ترابطها العضوي. فإذا كان هذا كله يدخل في باب الميتافيزيقا، فإنه على أية حال من قبيل المتافيزيقا ذات الاتجاه التجريبي، التي تبنى بطبيعتها على أدلة مستمدة من العلوم التجريبية. وهي تبدو، من وجهة نظر معينة، أشبه بقصة نجاح كبرى في ميدان الكونيات، وتوجد مبررات للنظرة الذائعة إلى سبنسر على أنه مجرد رسول يدعو إلى ذلك الوهم الهائل الذي عرف به القرن التاسع عشر، ألا وهو «التقدم». وما أسهل أن نتصور ناقدا معاديا يطلق على تفسيره لفلسفة سبنسر عنوان «من الفوضى الشاملة إلى الكون المنظم، أو إنجيل التقدم الشامل». غير أن في مثل هذا التفسير إجحافا؛ فسبنسر كان يماثل معظم زملائه من مفكري العصر الفيكتوري في أنه لم يغفل ما للمسار التطوري للتاريخ من أوجه منفرة. ولقد أدرك جيدا أن التغير عملية تحلل مثلما هو عملية تطور، وعملية تفكك مثلما هو عملية تكامل. وفي هذا لم يكن سبنسر وحيدا؛ فيبدو أن جميع فلاسفة الارتقاء والتطور والتقدم، الذين ينظرون إلى الحياة والنظم البشرية من خلال صورة التاريخ لا الأزل، يأتي عليهم وقت ينادون بنفس نغمة العرضية والتحولية والصراع الكامل في كل ما هو إنساني. فمن وراء التباهي والتفاؤل الظاهريين، والوثوق الساذج، الذي نضفيه عادة على العقلية الفكتورية، يوجد دائما شيء قريب جدا من الخوف، وهذا أمر لا ينبغي أن يعجب له أحد؛ إذ إن الصورة الرائعة للمسار التطوري هي أيضا صورة للصراع العنيف من أجل البقاء.
ولقد تأثر سبنسر ودارون معا بمالتوس،
3
الذي تحوي نظريته عن السكان، إذا ما قرئت على نحو معين، نبوءة مخيفة عن مستقبل الجنس البشري. ففي رأي سينسر أن ضغط السكان، الذي يسبق على الدوام زيادة موارد العيش، هو «السبب القريب للتقدم»؛ إذ يرغم الناس على تعمير أراض جديدة، وعلى التخلي عن عادات القنص الوحشية، وتعلم حرف تربية الحيوانات والزراعة، وتحسين أساليب الإنتاج، واتخاذ المواقف «الأخلاقية» التي تحفظ الأمن والنظام الجماعي. ومع ذلك فإن السؤال الملح هو ما إذا كان التقدم التدريجي قادرا، بصفة دائمة، على تعويض أثر الاشتداد التدريجي لصراع الفرد في سبيل البقاء، وهو الصراع المتولد عن الزيادة المستمرة في السكان. وعلى أية حال فإن نظرية سبنسر القائلة بمسار شبه دائري، لا توحي بإجابة تفاؤلية صريحة.
وفي وسع فلسفة سبنسر أن تدعي على الأقل بأن عيوبها مقترنة بمزايا معينة، فإذا بدت تلك الفلسفة «متصنعة»، بالمعنى المجازي، فإنها تكشف أيضا عن الاهتمام الجدي الأكبر للفيلسوف، بالتنظيم المنهجي. والواقع أن من أروع سمات فلسفة سبنسر محاولته المنهجية لتطبيق نظريته العامة في المسار التطوري، وإثبات خصبها بطريق غير مباشر، في ميداني النظرية الاجتماعية والأخلاق. فهنا أيضا نجد سبنسر يقوم بدوره المميز، دور الوسيط بين وجهتي نظر متعارضتين؛ ولذلك فإنه يقف في هذه المجالات موقفا وسطا إلى حد ما، بين النزعة النفسية والفردية المتحررة عند مل، والنزعة الجماعية والاجتماعية عند كونت وهيجل.
ويقترح سبنسر قانونا ذا مراحل ثلاث للتطور الاجتماعي، مثله في ذلك مثل كونت، وإن كان قد أدخل تعديلات طريفة خاصة به؛ في المرحلة الأولى لا توجد أنماط أو طبقات اجتماعية محدودة المعالم، وإنما تكون المجتمعات ما زالت صغيرة، ويكون نمط التنظيم الاجتماعي متجانسا وغير متنوع نسبيا، حيث يؤدي كل فرد أو كل أسرة كل شيء لنفسه أو لنفسها. والمرحلة الثانية ذات طابع «عسكري»، تكون الحكومة فيها فائقة التركيز وملكية في العادة، ويكون العرف صارما والفروق الطبقية واضحة والعقيدة متسلطة. وأخيرا تأتي مرحلة تتميز بها المجتمعات الصناعية الحديثة، يتزايد فيها تقسيم العمل، ويزداد الاهتمام بالتجارة والإنتاج، ويتضاءل دور الحكومات المركزية، وتضعف بالتدريج النظم الاجتماعية التقليدية المتسلطة. وقد رأى سبنسر أن حضارة إنجلترا في القرن التاسع عشر تقترب تدريجيا من هذا النظام، بما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي سريع، ومن تجارة حرة عالمية، ونظم سياسية واجتماعية متزايدة التحرر، تحدد فيها العلاقات البشرية بالاتفاق أو التعاقد، لا بالمركز الموروث أو الوظيفة.
وعلى حين أن مل قد ازداد ميلا إلى الاشتراكية في السنوات الأخيرة من عمله، فإن سبنسر لم ينظر إلى الاشتراكية على أنها هي التطور التالي للمجتمع، الذي سيخلف ديمقراطية النظام الحر والاقتصادي الفردي، وإنما رأى فيها ناتجا فرعيا للنمط العسكري الإقطاعي للمجتمع. ولم يدهشه على الإطلاق أن يرى في ألمانيا زعيما ذا نزعة استبدادية شخصية مثل بسمارك يحبذ نوعا من اشتراكية الدولة؛ فالاشتراكية في رأيه تخلق مجتمعا كمجتمع النمل والنحل، يتم فيه آخر الأمر حشد جهود الأفراد وتعبئتها على نحو تام الاطراد. وقد تنبأ، ببصيرة نفاذة، بأن البيروقراطية في المجتمع المصطبغ بالصبغة الاشتراكية ستؤدي إلى نوع جديد من الأرستقراطية، أقوى من أي نوع ظهر من قبل، تضطر فيه الجماهير إلى العمل في سبيلها على الدوام ودون جزاء حقيقي.
4
وقد سخر الكثيرون في عصر اتسم بالممارسة العملية للماركسية، فضلا عن التفكير النظري فيها، من نظرية سبنسر المضادة للماركسية في أصل الاشتراكية وطبيعتها، ووصفت بأنها «غير تاريخية» أو برجوازية فحسب. غير أن وجهات النظر تتغير، ومن الممكن افتراض أن أعداء الماركسية سيكتشفون من جديد في سبنسر مفكرا ذا قدرة فائقة على التنبؤ، وطبيبا شخص التطورات التالية للحضارة الغربية ببراعة.
ولم تكن عيوب مجتمع القرن التاسع عشر لتفوت سبنسر، ولكن من الصفات المميزة لسبنسر، شأنه في ذلك شأن معظم الأذهان المصقولة الأصيلة، أنه كان يبني تفكيره على أساس «الدرجات»؛ فهو لم يكن محافظا، ولم يكن ثوريا، وإنما كان من أنصار التدرج، فرأى أن الانتقال من أية مرحلة للمجتمع إلى أخرى ينطوي على فترة من المسار التطوري. وفضلا عن ذلك فإنه يترك المجال مفتوحا لحدوث تطور أخلاقي يعلو على تلك الجنة الضئيلة الشأن، التي وعدت بها الديمقراطية الصناعية في القرن التاسع عشر، وهو يرى أن من الضروري، لكي نتصور ما سيكون عليه هذا التطور، أن ننتقل من علم الاجتماع والتاريخ إلى علم الأخلاق؛ فكل قانون أخلاقي مرتبط بنظام اجتماعي معين، وهو حتما يستهدف حفظ وإنهاض نوع الحياة الموجود في ظل هذا النظام الخاص. وعلى ذلك فإن قانونه الخاص يرمي إلى تحقيق أعظم امتلاء ممكن للحياة كما يتصورها ممثل مستنير للمجتمع الذي عاش هو ذاته فيه. ومن المحتم على كل نشاط أخلاقي في هذا المجتمع أن يكون شاملا تكامليا، متجها إلى السعادة العامة. أما في المجتمع الفاضل، الذي هو إسقاط مثالي لميول وأمان موجودة بالفعل، فإن الواجبات الإلزامية تخلي مكانها بالتدريج لغيرية حرة متعاطفة، لا ترتكز على «الضمير» الذي قال به كانت، أو على الشعور بالواجب، وإنما على دوافع غيرية تلقائية ترضينا على الفور.
ولكن من سوء الحظ، كما يدرك سبنسر، أن المجتمع الفاضل لم يوجد بعد؛ فالغيرية، في ظل الأوضاع الحالية، ما زالت واهنة تفتقر إلى الانتشار. وفي رأيه أن التقدم الأخلاقي لن يتحقق إلا بازدياد تقدم النظام الاجتماعي في مجموعه. ولقد كانت واقعية سبنسر، في مذهبه الأخلاقي، مرتبطة بالنزعتين التطورية والبيئية عنده؛ فالسلوك الأخلاقي، شأنه شأن أي نوع آخر من السلوك، هو نوع من التكيف، تتحكم فيه الظروف الخاصة التي يجد فيها الفرد نفسه وجميع الأفراد مندمجين، طوعا أو كرها، في الصراع من أجل العيش. وتتوقف مدى استجابتهم للصراع على الوضع الاجتماعي الذي يتحتم عليهم أن يسلكوا فيه بوصفهم كائنات عضوية مكيفة اجتماعيا، أكثر مما يتوقف على «دوافع» تجريدية معينة كالأنانية أو الحب. فالغيرية، من حيث هي صورة فعلية للسلوك الاجتماعي، لا تكون ممكنة إلا في مجتمع تلزمه الغيرية ليضمن بقاءه. وهكذا يكون ما يعنيه سبنسر بالفعل هو أننا لا نقترب من المجتمع الفاضل إلا إذا ازداد كمال التوافق بين مصالح الفرد الشخصية وبين التزاماته الاجتماعية، أو تضمن سعيه وراء سعادته الشخصية تحقيق مواقفه المتجهة إلى الغير؛ أي مواقفه «الأخلاقية».
ولا يسعني، في ختام هذه الملاحظات الخاصة بفلسفة سبنسر، إلا أن أوجه كلمة فيها ثناء متحفظ، وربما كانت فيها نبوءة أيضا؛ فعندما نقارن مذهبه، في عمومه، بالمذاهب الفلسفية المفرطة الادعاء في القرن التاسع عشر، نجدها أكثر اتزانا وجدية من معظم هذه الفلسفات. صحيح أن أخطاءه كانت كثيرة، ولكنها لم تكن راجعة إلى افتقار إلى الاجتهاد، أو إلى أي تجاهل متعمد للوقائع، أو اجتهاد في تعقبها، وتلك فضيلة عظيمة الشأن. وإذا كان سبنسر قد تعجل في التعميم أكثر مما ينبغي، فقد كان ذلك على الأقل تعميما من وقائع ملاحظة، ومن الممكن تصحيح أخطائه بنفس عملية الملاحظة والتعميم الاستقرائي. ولكن هذا لا يمكن أن يقال على كثير من معاصريه. ولقد كان أسلوب سبنسر في الكتابة مفرطا في واقعيته وجموده، ولكن إذا كانت كلماته ثقيلة غير شاعرية، فإن لخياله الذي اصطبغ في أساسه بصبغة كونية وتاريخية، نواحيه الشعرية الخاصة، وهكذا كان هو بطريقته الثقيلة الخاصة، الشاعر الفلسفي لمسرحية التطور الهزلية الجادة. وعلى أية حال فإن للقارئ العادي أن يقرأ فلسفته حسب معانيها الظاهرة، لا بوصفها أسطورية خفية يكمن معناها الأساسي في موضع آخر. فللمرء أن يقبل عليه أو يعرض عنه، ولكنه على الأقل سيعلم في معظم الأحيان ما هو مقبل عليه أو معرض عنه. والمشكلة هي أنه، مع كثرة ما يوجه إليه من انتقاد، قليلا ما يقرأ. ولو كان يقرأ، لارتفعت أسهمه الفلسفية في رأيي إلى حد ما؛ فسبنسر على خلاف هيجل، مفكر بلا أسرار. ولكن إذا لم تكن فلسفته غامضة على الإطلاق، فإنه أقوى من بعض نقاده شعورا بالسر الكامن الذي ينبض به قلب الوجود. وأنا على العموم، رغم تحفظاتي الكثيرة، أماثل سانتايانا في أنني «من معسكر سبنسر».
أما نبوءتي فهي أن الاهتمام بسبنسر سيبعث مرة أخرى. فإذا كان عصره قد بالغ في قيمته، فإن عصرنا قد قلل من قدره. والواقع أن مثله العليا لا تختلف أساسا عن مثل ذلك النصف من العالم، الذي يسمي نفسه، بشيء من البلاهة، باسم «العالم الحر». وفي وقت كهذا يكون لعقلية سبنسر المعتدلة، بما فيها من جمود وصرامة، مزاياها العديدة.
والنص التالي مقتطف من الفصل الأخير (الفصل الرابع والعشرين) لكتاب سبنسر «المبادئ الأولى
First
»
5 ⋆
وفي هذا النص يذكر سبنسر القضايا الأساسية لفلسفته التطورية، ويستخلص ما يرى أنه أهم مضموناتها. «... تنطوي المعرفة المتسقة على أكثر من إيجاد الارتباطات، فعلينا ألا نقنع برؤية كل مجموعة صغيرة من الحقائق تحتل مكانها وسط مجموعة أكبر منها، وبرؤية المجموعات الكبرى تتسق فيما بينها، وإنما الواجب أن نبتعد مسافة ما، فننظر إلى التركيب العام من بعد تغيب فيه التفاصيل الصغيرة عن الأنظار، لنلاحظ طابعه العام.
فهدفنا في هذا الفصل يتجاوز نطاق تلخيص ما سبق، بل يتجاوز نطاق العرض المنظم له؛ إذ إننا سنجد أن الحقائق العامة التي توصلنا إليها من قبل تكشف في مجموعها، من نواح معينة، عن وحدة لم نلاحظها من قبل.
وهناك أيضا سبب خاص لملاحظة الطريقة التي تترابط بها مختلف الأقسام والفروع التي عرضنا فيها وجهة نظرنا، ذلك هو أن النظرية العامة التي عرضناها تجد لها ها هنا مثلا أخيرا يؤيدها.
فالجمع بين التعميمات التي عرضناها من قبل متفرقة، في صورة تامة التكامل، يزودنا بمثل آخر لعملية التطور، وفيه دعم آخر للنسيج العام لنتائجنا.
القسم 185 : وهنا نجد أننا قد عدنا، دون توقع، إلى تلك الحقيقة التي بدأنا بها، والتي ينبغي أن يستهل بها تلخيصنا هذا؛ إذ إن هذا النوع المتكامل للمعرفة هو، بغض النظر عن نظرية التطور، الصورة التي رأينا أنها هي أعلى الصور.
فعندما تساءلنا عن كنه الفلسفة، وعندما قارنا مختلف آراء الناس في الفلسفة؛ رغبة في الاهتداء إلى العنصر المشترك بينها بعد حذف العناصر المختلف عليها، وجدنا فيها كلها ذلك الرأي الضمني القائل إن الفلسفة معرفة تامة التوحيد. فبغض النظر عن كل نظام خاص من المعرفة الموحدة، وعن المناهج المقترحة التي يفترض أن التوحيد يتم بها، وجدنا في كل حالة اعتقادا بأن التوحيد ممكن، وبأن غاية الفلسفة هي الوصول إليه.
وبعد أن توصلنا إلى هذه النتيجة، نظرنا في المعطيات التي ينبغي أن تبدأ بها الفلسفة، فوجدنا أن القضايا الأساسية؛ أي القضايا التي لا تستنبط من قضايا أخرى أكثر منها أولية، لا تحدد إلا إذا بينا أن كل النتائج التي نبلغها على أساس افتراض هذه القضايا متوافقة تماما، وهكذا بدأنا بالمقدمة القائلة إن هذه القضايا ستظل تفترض حتى تثبت على هذا النحو، فاستمددنا معطياتنا من العناصر المكونة لعقلنا، والتي يستحيل دونها أن تستمر العمليات العقلية التي ينطوي عليها التفلسف.
وبعد تحديد هذه القضايا الخاصة، انتقلنا إلى بعض الحقائق الأولية؛ «عدم فناء المادة»، و«استمرار الحركة»، و«دوام القوة»، وهي حقائق تعد الأخيرة منها هي الأساسية، والأخريان مشتقتين. ولما كان قد تبين لنا من قبل أن تجاربنا المتعلقة بالمادة والحركة ترتد إلى تجارب متعلقة بالقوة، فقد اتضح لنا أيضا أن الحقيقتين القائلتين إن المادة والحركة لا تتغيران كما، إنما هما نتيجتان متضمنتان في الحقيقة القائلة إن القوة لا تتغير كما. وانتهينا إلى أن هذه هي الحقيقة التي يتعين إثبات جميع الحقائق الأخرى بالاشتقاق منها.
وكانت أولى الحقائق التي تبين أنها تثبت على هذا النحو هي «دوام العلاقات بين القوى»، وقد وجدنا أن هذه الحقيقة، التي تسمى عادة ب «اطراد القانون
Uniformity of Law »، وهي نتيجة ضرورية للحقيقة القائلة إن القوة لا تنشأ من العدم أو تتحول إلى العدم.
وكان الاستنباط الثاني هو أن القوى التي تبدو مفقودة تتحول إلى ما يعادلها من القوى الأخرى، أو على العكس من ذلك، أن القوى التي تظهر بعد أن لم تكن ظاهرة، هي نتيجة اختفاء قوى معادلة كانت موجودة من قبل. وقد وجدنا أمثلة لهذه الحقائق في حركات الأجرام السماوية، وفي التغيرات الحادثة على سطح الأرض، وفي جميع الأفعال العضوية وفوق العضوية.
وقد بينا أيضا أن الأمر كذلك في القانون القائل إن كل شيء يتحرك في الاتجاه الأقل مقاومة، أو الأقوى جذبا، أو حاصلهما. وبينا أن الأمر كذلك في جميع أنواع الحركات، من حركات النجوم حتى حركات الشحنات العصبية والرياح التجارية، وأن فكرة دوام القوة تحتم أن يكون الأمر كذلك. •••
القسم 186 : وقد تبين لنا أن هذه الحقائق التي تصدق على الموجودات في عمومها، هي من النوع اللازم لتكوين ما نميزه باسم الفلسفة. ولكنا أدركنا عند بحثنا ، أنها بصورتها هذه لا تكون فلسفة، وأن الفلسفة لا تتكون بوساطة أي عدد من مثل هذه الحقائق التي يعرف كل منها على حدة؛ فكل من هذه الحقائق يعبر عن قانون عامل واحد ما، تنتج بوساطته الظواهر كما نمارسها، أو تعبر، على أحسن الفروض، عن قانون تضافر عاملين. غير أن معرفة عناصر عملية ما، غير معرفة الطريقة التي تتجمع بها هذه العناصر لإحداث هذه العملية. والشيء الوحيد الذي يمكنه توحيد المعرفة هو قانون تضافر العوامل؛ أي القانون الذي يعبر في آن واحد عن مجموعة السوابق ومجموعة اللواحق التي تتمثل في كل ظاهرة من حيث هي كل.
كما انتهينا إلى نتيجة أخرى هي أن الفلسفة، كما نفهمها، ينبغي ألا تقتصر على توحيد التغيرات المتمثلة في ظواهر عينية منفردة فحسب، كما ينبغي ألا تقف عند حد توحيد التغيرات المتمثلة في فئات منفردة من الظواهر العينية، بل ينبغي أن توحد التغيرات المتمثلة في جميع الظواهر العينية. فإذا كان قانون عمل كل عامل يصح على الكون بأسره، فلا بد أن يكون الحال كذلك في القانون الجامع بين هذه القوانين. وعلى ذلك فإن أعلى توحيد تسعى إليه الفلسفة ينبغي أن يكون في فهم الكون من حيث هو مطابق لهذا القانون الجامع.
وعندما نظرنا إلى الأمر من زاوية أكثر عينية، رأينا أن القانون الذي نسعى إليه لا بد أن يكون قانون إعادة التوزيع الدائمة للمادة والحركة؛ فكل مما يحدث من تغيرات، ابتداء من تلك التي تغير ببطء تركيب مجرتنا الفلكية، حتى تلك التي تكون تحللا كيميائيا، هي تغيرات في المواقع النسبية للأجزاء المكونة، وهي كلها تتضمن بالضرورة ظهور تنظيم جديد للحركة مقترن بتنظيم جديد للمادة، ويترتب على ذلك أنه لا بد من وجود قانون لإعادة التوزيع المتلازمة للمادة والحركة، وهو قانون يسري على كل تغير، ولا بد، لكونه عاملا على توحيد جميع التغيرات، أن يكون هو أساس الفلسفة.
وعندما بدأنا في البحث عن هذا القانون الشامل لإعادة التوزيع، تأملنا مشكلة الفلسفة من وجهة نظر أخرى، ورأينا أن حلها لا يمكن إلا أن يكون على النحو الموضح. وقد بينا أن أية فلسفة تبلغ الحد المنشود من الاكتمال لا بد أن تصوغ السلسلة الكاملة للتغيرات التي تمر بها الموجودات فرادى وجماعات عند انتقالها من غير المدرك إلى المدرك، وكذلك من المدرك إلى غير المدرك. ولو بدأت الفلسفة تفسيرها بموجودات لها بالفعل صور عينية، أو انتهت وما زالت لهذه الموجودات صور عينية، لكان المعنى الواضح لذلك هو أن لهذه الموجودات سوابق ماضية أو تطورات مقبلة أو كليهما معا، وأن تلك الفلسفة لم تقدم تفسيرا لهذه السوابق أو التطورات. وهكذا رأينا أن ذلك يستتبع ضرورة كون الصيغة التي ننشدها، والتي تنطبق على الموجودات وهي فرادى مثلما تنطبق عليها مجتمعة، قابلة للانطباق على التاريخ الكامل لكل منها والتاريخ الكامل لها كلها. هكذا ينبغي أن تكون الصورة المثلى للفلسفة، مهما كان الواقع بعيدا عن تحقيقها.
بهذه الأفكار ازددنا اقترابا من الصبغة المطلوبة؛ ذلك لأنه إن كان يتعين على هذه الصيغة أن تعبر عن التقدم الكامل من غير المدرك إلى المدرك، ومن المدرك إلى غير المدرك، وإن كان يتعين عليها أن تعبر عن إعادة التوزيع المستمرة للمادة والحركة، فلا مناص بالطبع من أن تكون صيغة تحدد العمليات المتضادة للتركز والانتشار
diffusion
في المادة والحركة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون تعبيرا عن الحقيقة القائلة إن تركز المادة ينطوي على انتشار للحركة، وإن امتصاص الحركة ينطوي بعكس ذلك على انتشار للمادة.
وهكذا تبين لنا أن ذلك هو قانون الدورة الكاملة للتغيرات التي يمر بها كل موجود. وقد رأينا فضلا عن ذلك أن هذا القانون، إلى جانب انطباقه على التاريخ الكامل لكل موجود، ينطبق أيضا على كل من تفاصيل ذلك التاريخ؛ فالعمليتان تحدثان في كل لحظة، ولكن هناك دائما نتيجة تفاضلية لصالح العملية الأولى أو الثانية. ولا بد أن يؤدي كل تغيير، حتى لو كان مجرد تبدل لمواضع الأجزاء، إلى إحداث هذه العملية أو تلك.
ولكن رغم أن التعريف الذي أوردناه للتطور والتحمل
Evolution & Dissolution ، وهما الاسمان اللذان نطلقهما على هذين التحولين المتضادين، يحدد طابعهما العام تحديدا صحيحا، فإن هذا التعريف ما زال ناقصا، أو على الأصح فإن تعريف التحلل كاف، بينما تعريف التطور غير كاف على الإطلاق؛ فالتطور دائما تكامل للمادة وانتشار للحركة، ولكنه في كل الحالات تقريبا لا يقتصر على ذلك؛ إذ إن إعادة التوزيع الأولية للمادة والحركة تقترن بإعادات توزيع ثانوية.
وقد ميزنا بين النوعين المختلفين للتطور، الناجمين على هذا النحو، فأسمينا أحدهما بالتطور البسيط والآخر بالتطور المركب، ثم انتقلنا إلى بحث الظروف التي تحدث فيها إعادات التوزيع الثانوية التي تجعل التطور مركبا، فوجدنا أن المجموع المتركز الذي يفقد بسرعة ما ينطوي عليه من حركة أو يتكامل بسرعة، لا يتكشف إلا عن تطور بسيط، ولكن بقدر ما يؤدي كبره، أو التركيب الخاص لمكوناته، إلى إعاقة انتشار حركته، فإن أجزاءه، مع مرورها بإعادة التوزيع الأولية التي تسفر عن تكامل، تمر بإعادات ثانوية تؤدي إلى درجات متباينة من التعقد.
القسم 187 : ومن هذا الفهم للتطور والتحلل، من حيث هما يؤلفان معا العملية الكاملة التي تمر بها الأشياء، وكذلك من هذا الفهم للتطور من حيث هو ينقسم إلى بسيط ومركب، انتقلنا إلى بحث قانون التطور كما يتمثل في جميع صور الموجودات في عمومها وتفاصيلها.
ولم نقتصر على تعقب تكامل المادة وما يقترن به من تبدد للحركة، في الكل الذي يكونه كل موجود على حدة، بل تعقبناه أيضا في الأجزاء التي ينقسم إليها كل موجود كامل؛ في المجموعة الشمسية بأسرها، وكذلك في كل كوكب وتابع، كان وما زال يتمثل تركز تدريجي. وفي كل كائن عضوي يقترن ذلك الاندماج العام للمواد المتفرقة، المؤدي إلى النمو، باندماجات محلية، تكون ما نسميه بالأعضاء. وعلى حين تتبدى في كل مجتمع العملية التجميعية
aggregative process
من خلال زيادة مجموع سكانه، فإنها تتبدى فيه أيضا من خلال تركز هؤلاء السكان في أجزاء معينة من أرضه. وفي كل الحالات يقترن بهذا التكامل المباشر تكامل غير مباشر تصبح بفضله الأجزاء معتمدة ببعضها على البعض.
ومن إعادة التوزيع الأولية هذه انتقلنا إلى الكلام عن إعادات التوزيع الثانوية، فتساءلنا عن الطريقة التي يتم بها تكوين أجزاء خلال تكوين الكل. وتبين أن هناك عادة انتقالا من التجانس إلى اللاتجانس، مقترنا بالانتقال من الانتشار إلى التركيز؛ ففي الوقت الذي اتخذت فيه المادة المكونة للنظام الشمسي صورة أكثف، تحولت من الوحدة إلى تنوع التوزيع. وقد اقترن تيبس الأرض بتقدم من الوحدة النسبية للصورة
6
إلى التنوع الشديد. كما أن كل نبات وحيوان، في تحوله من بذرة إلى كتلة ضخمة نسبيا، يتحول أيضا من البسيط إلى المركب. وكل زيادة في عدد أفراد المجتمع وتركزهم تقترن بزيادة في تغاير التنظيم السياسي والمهني لهذا المجتمع. ومثل هذا يصدق على كل النواتج فوق العضوية، كاللغة والعلم والفن والأدب.
غير أنا رأينا أن إعادات التوزيع الثانوية هذه لا تجد لها، على هذا النحو، تعبيرا كاملا. فعلى حين أن الأجزاء التي ينحل إليها أي كل تزداد اختلافا بعضها عن البعض، فإنها تزداد في الوقت ذاته تميزا.
وعلى ذلك فإن نتيجة إعادات التوزيع الثانوية هي تحويل تجانس غير واضح المعالم إلى لا تجانس واضح المعالم. وقد ظهرت لنا هذه الصفة الأخرى في جميع أنواع التجمعات المتطورة أيضا. ومع ذلك فقد اتضح من البحث اللاحق أن وضوح المعالم المتزايد الذي يقترن باللاتجانس المتزايد ليس سمة مستقلة، وإنما يأتي نتيجة للتكامل الذي يزداد في كل من الأجزاء المتفاضلة،
7
مع تزايده في الشكل الذي تكونه هذه الأجزاء.
كذلك أشرنا إلى أن هذا التنظيم للمادة يقترن، في كل التطورات، سواء منها غير العضوية وفوق العضوية، بتغير مواز في تنظيم الحركة المحتواة؛ أي إن كل زيادة في التعقد التركيبي تنطوي على زيادة مقابلة في التعقد الوظيفي. وبينا أن اندماج الجزئيات في كتل، يقترن باندماج لحركة الجزئيات في حركة الكتل، وأنه بمثل السرعة التي يحدث بها تنوع في أحجام التجمعات وأشكالها وعلاقاتها بالقوى الحادثة، يحدث أيضا تنوع في حركاتها.
ولما كان التحول الذي اهتدينا إليه ها هنا على وجهين منفصلين لا يعدو في ذاته أن يكون تحولا واحدا ، فقد تحتم توحيد هذين الوجهين المنفصلين في مفهوم واحد، والنظر إلى إعادة التوزيع الأولية وإعادات التوزيع الثانوية على أنها تعمل في آن واحد على حدوث نتائجها المختلفة؛ ففي كل حالة نجد أن التحول من البساطة غير الواضحة إلى التعقد الواضح المتميز، في توزيع المادة والحركة معا، يحدث مع تركز المادة وفقدان حركتها الداخلية، ومن هنا فإن إعادة توزيع المادة وحركتها المحصورة فيها، تتم من تنظيم منتشر ومطرد ولا محدد نسبيا، إلى تنظيم مركز كثير الصور ومحدد نسبيا.
القسم 188 : وهنا نصل إلى إحدى الإضافات التي ينبغي إلحاقها برأينا العام ونحن في معرض تلخيصه. فهنا آن أوان إدراك وجود درجة من الوحدة في الاستقراءات السابقة تزيد على ما لاحظناه فيها أثناء عرضنا لها.
لقد نظرنا حتى الآن إلى قانون التطور على أنه يصدق على كل نوع من الموجودات على حدة، غير أن عرض الاستقراء على هذا النحو يجعله يفتقر إلى ذلك الاكتمال الذي يكتسبه عندما ننظر إلى مختلف أنواع الموجودات هذه على أنها تكون بأسرها كلا طبيعيا واحدا. فعندما ننظر إلى التطور على أنه ينقسم إلى تطور فلكي، وجيولوجي، وبيولوجي، ونفساني، واجتماعي ... إلخ، قد يبدو أن انطباق قانون واحد للتحول على كل هذه التقسيمات إنما هو من قبيل المصادفة إلى حد ما. ولكنا إذا ما أدركنا أن هذه التقسيمات ليست إلا تجمعات مصطلح عليها، أجريت تيسيرا لتنظيم المعرفة واكتسابها، وإذا تذكرنا أن الموجودات المختلفة التي تتعلق بها هذه التقسيمات كل على حدة، إنما هي أجزاء مكونة من كون واحد، لتبين لنا على التو أنه ليس ثمة أنواع متعددة من التطور لها سمات معينة مشتركة، وإنما هناك تطور واحد يسري على كل شيء وعلى نحو واحد. ولقد لاحظنا مرارا أنه في الوقت الذي يتطور فيه أي كل، يحدث على الدوام تطور الأجزاء التي ينقسم إليها هذا الكل. ولكننا لم نلاحظ أن هذا يسري بنفس القدر على مجموع الأشياء، وهو المجموع المؤلف من أجزاء، من أعظمها إلى أصغرها. ونحن نعلم أنه في الوقت الذي يتزايد فيه كبر تجمع مترابط ماديا، كجسم الإنسان، ويكتسب شكله العام بالتدريج، يحدث نفس الأمر لكل من أعضائه، وأنه في الوقت الذي ينمو فيه كل عضو ويصبح مختلفا عن الآخرين، يحدث تفاضل وتكامل في أنسجته وأوعيته المكونة له؛ وأنه حتى مكونات هذه المكونات تتزايد كل على حدة، وتتحول إلى تركيبات يزداد لا تجانسها وضوحا. ولكنا لم نلاحظ بما فيه الكفاية أنه في الوقت الذي يتطور فيه كل فرد، يتطور كذلك المجتمع الذي هو وحدة ضئيلة الشأن فيه، وأنه في الوقت الذي يتحول فيه مجموع السكان الذين يكونون مجتمعا إلى التكامل ويصبح لا تجانسهم أوضح، فإن المجموع الكلي، وهو الأرض، يواصل تكامله وتفاضله، وأنه في الوقت الذي تتحول فيه الأرض، التي لا تزيد في كتلتها عن جزء من المليون من النظام الشمسي إلى تركيب أكثر تركزا، يسير النظام الشمسي ذاته على نفس النمط.
فإذا فهمنا التطور على هذا النحو، فسنجد أنه واحد لا من حيث المبدأ فقط، بل من حيث الواقع أيضا؛ فليس ثمة تحولات كثيرة تتم على نمط متشابه، وإنما هناك تحول واحد يسري على نحو شامل، في كل الحالات التي لا يكون فيها التحول المضاد موجودا. وفي كل مكان، كبيرا كان أم صغيرا، تكتسب فيه المادة التي تشغله فردية ملموسة أو قابلية للتمييز عن المواد الأخرى، يكون ثمة تطور حادث، أو على الأصح، يكون اكتساب هذه الفردية الملموسة بداية للتطور. وهذا يصح بغض النظر عن حجم المجموع وبغض النظر عن احتوائه على مجموعات أخرى.
القسم 189 : وبعد أن قمنا بهذه الاستقراءات التي تثبت في مجموعها قانون التطور، وجدنا أنها، طالما ظلت استقراءات، لا تكون ذلك الكل الذي ينطبق عليه اسم الفلسفة، بل إن الانتقال الذي أوردناه منذ قليل لهذه الاستقراءات من الاتفاق إلى الهوية، لا يكفي لإيجاد الوحدة المنشودة؛ إذ لا بد لتوحيد الحقائق التي توصلنا إليها على هذا النحو مع الحقائق الأخرى من أن تكون ، كما لاحظنا في ذلك الحين، مستنبطة من مبدأ دوام القوة. ولذا فإن الخطوة التالية كانت بيان السبب الذي من أجله يكون من الضروري حدوث التحول الذي يظهره لنا التطور، مع كون القوة دائمة.
وكانت أولى النتائج التي انتهينا إليها هي أن أي تجمع متجانس لا بد أن يفقد تجانسه، عن طريق تعرض أجزائه بطريقة غير متساوية للقوى الحادثة، وأن التجمع الناقص التجانس لا بد أن يتحول إلى آخر منعدم التجانس تماما. وقد أشرنا إلى أن قيام القوى المتباينة، والقوى التي تمارس في ظروف متباينة، بإيجاد تركيبات متباينة، يتمثل في التطور الفلكي، وأن التعديلات التي تسري على هذا الكون، كبيرها وصغيرها، يتمثل فيها كلها ارتباط متشابه للسبب بالنتيجة. وقد تجلى في التغيرات المبكرة للجراثيم العضوية دليل آخر على أن تغاير التركيب ينجم عن تغاير العلاقات بالعوامل المحيطة، وهو دليل يدعمه ما يطرأ على أفراد النوع الواحد من تنوع فرعي حين تختلف بيئاتهم. ورأينا أن التضاد السياسي والمهني الذي ينشأ بين أجزاء المجتمعات، يعد دليلا آخر على المبدأ ذاته. ووجدنا أن عدم الاستقرار الذي يتميز به دائما ما هو متجانس نسبيا، يسري أيضا على كل من الأجزاء المميزة التي يتحول إليها الكل، بحيث يزداد اللاتجانس على الدوام.
وقد كشفت خطوة أخرى في البحث عن سبب ثانوي لتزايد تنوع الصور؛ فكل جزء متفاضل ليس مركزا لتفاضلات أخرى فحسب، بل إنه أيضا يخلق مزيدا من التفاضلات؛ إذ إن نموه على نحو مخالف للأجزاء الأخرى يجعله مركزا لردود أفعال مختلفة للقوى الحادثة، وبهذا تؤدي إضافته لقوى عاملة متباينة، إلى تباين التأثيرات الناتجة. وقد تبين أن من الممكن تتبع تعديد التأثيرات هذا في كل شيء في الطبيعة في الأفعال - وردود الأفعال - التي تحدث في جميع أرجاء النظام الشمسي، وفي التعقدات الجيولوجية التي لا تتوقف أبدا، وفي التغيرات الكامنة التي تنتجها المؤثرات الجديدة في الكائنات العضوية، وفي كثرة الأفكار والمشاعر التي تولدها انطباعات واحدة، وفي النتائج الدائمة التشعب التي يحدثها كل مؤثر زائد يضاف إلى المجتمع، وقد أضفنا إلى ذلك نتيجة هي أن كثرة المؤثرات تسير في متوالية هندسية مع سير اللاتجانس.
ولكي نفسر التغيرات التركيبية التي تكون التطور تفسيرا كاملا، بقي علينا إيجاد سبب لذلك التميز المتزايد الوضوح بين الأجزاء، الذي يقترن بحدوث فروق بينها. وقد تبين لنا أن هذا السبب هو انفصال الوحدات المختلفة بفعل قوى قادرة على تحريكها، ووجدنا أنه عندما تؤدي قوى حادثة متغايرة إلى جعل أجزاء تجمع ما، متغايرة في طبائع وحداتها المكونة، يظهر بالضرورة ميل إلى انفصال الوحدات المتباينة كل عن الأخرى، وتكدس الوحدات المتشابهة. وتبين أن سبب وضوح معالم التكاملات المحلية التي تقترن بتفاضلات محلية، يتمثل بدوره في جميع أنواع التطور؛ في تكوين الأجرام السماوية، وتشكيل القشرة الأرضية والتعديلات العضوية، وإيجاد تمييزات ذهنية، ونشوء انقسامات اجتماعية.
وأخيرا، فقد أجبنا على السؤال عما إذا كان لهذه العمليات أي حد بأنها لا بد أن تنتهي إلى التوازن؛ فذلك الانقسام والانقسام الفرعي المستمر للقوى، الذي يغير ما هو وحيد الصورة إلى شيء كثير الصور، وما هو كثير الصور إلى شيء أكثر صورا، هو عملية تنتشر بها القوى دواما. وانتشارها هذا، الذي يستمر طالما ظلت هناك قوى لا توازنها قوى أخرى، لا بد أن ينتهي إلى السكون. وبينا أنه عندما تحدث عدة حركات سويا، كما هي الحال في التجمعات المختلفة الأنواع، فإن التبدد الأول للحركات الأصغر والتي تلقى مقاومة أشد، يوجد توازنات متحركة من أنواع مختلفة، فيكون بذلك مراحل انتقالية في الطريق إلى التوازن التام. وقد كشف لنا البحث التالي على أن هذا السبب ذاته يجعل لهذه التوازنات المتحركة قدرات معينة على حفظ ذاتها، ويتضح ذلك في تعادل الانحرافات وفي التكيف مع الظروف الجديدة. وقد تعقبنا هذا المبدأ العام المتعلق بالتوازن، كما فعلنا في المبادئ العامة السابقة، في جميع صور التطور - الفلكي منه والجيولوجي والبيولوجي والذهني والاجتماعي. وكان استنتاجنا النهائي هو أن المرحلة الأخيرة للتوازن في العالم العضوي، وهي المرحلة التي تستقر فيها أشد حالات كثرة الصور تطرفا، وكذلك يستقر أعقد توازن متحرك، لا بد أن تكون مرحلة تنطوي على أعلى حالات البشرية. •••
القسم 190 : وأخيرا انتقلنا إلى تأمل عملية التحلل كما تتمثل في جميع أرجاء الطبيعة، وهي العملية المكملة للتطور، والتي تقضي، في وقت واحد أو في آخر، على ما تم بفعل التطور.
فقد رأينا أن التحلل لا بد أن يحل بمضي الزمن.
فهو في المجاميع
aggregates
غير المستقرة، يحل فور توقف التطور، وفي المجاميع الثابتة المحيطة بنا، يحل بعد توقف التطور بفترات قد تطول ولكنها تبلغ في النهاية، بل إنه لا بد أن يحل حتى في أكبر المجاميع التي تكون هذه كلها أجزاء منها - أي في الأرض من حيث هي كل - بل لقد وجدنا من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن التجمعات المحلية لتلك الكتل الأكبر حجما بكثير، والتي نعرفها باسم النجوم، ستتحلل بمضي الوقت. والسؤال الذي يظل دون جواب هو ما إذا كان نظامنا النجمي في مجموعه سيلقى نفس المصير بعد وقت لا يتصوره الخيال المتناهي. ومع استنتاجنا أن التحلل يعقب التطور في أجزاء عديدة من الكون المنظور، وأن التطور في جميع هذه المجالات سيبدأ من جديد، فإن مسألة وجود تعاقب منتظم بين التطور والتحلل في مجموع الأشياء هي مسألة ينبغي تركها دون جواب؛ لأنها تعلو على فهم العقل البشري.
أما إذا كنا ميالين إلى الاعتقاد بأن ما يحدث للأجزاء سيحدث بمضي الوقت للكل، فإن هذا يؤدي بنا إلى الرأي القائل بوجود تطورات دارت في ماض سحيق وتطورات ستدور في مستقبل بعيد، وعندئذ لا يعود في وسعنا أن نتأمل العالم المنظور على أنه ذو بداية أو نهاية محددة، أو على أنه منعزل، وإنما يصبح متحدا بكل الموجودات السابقة واللاحقة، وتسري على القوة المتمثلة في الكون نفس ما يسري على المكان والزمان، من حيث إنها لا تقبل أي تحدد في الفكر.
القسم 191 : ويتفق هذا الرأي مع النتيجة التي وصلنا إليها في الجزء الأول، الذي تناولنا فيه العلاقة بين القابل للمعرفة وغير القابل للمعرفة.
فقد بينا في ذلك الجزء، من خلال تحليل الأفكار الدينية والعلمية معا، أنه مع استحالة معرفة العلة التي تحدث تأثيرات في الوعي، فإن وجود «علة » لهذه التأثيرات هو من معطيات الوعي. والإيمان ب «قوة» تعلو على المعرفة هو ذلك العنصر الأساسي في الدين، الذي يبقى من وراء كل تغيرات صوره. وقد ثبت أن هذا الإيمان القاهر هو بالمثل ما يبنى عليه كل علم دقيق. وهذه بدورها هي النتيجة التي تؤدي بنا إليها تلك النظرة التركيبية الشاملة التي نقدمها الآن؛ فالاعتراف بقوة دائمة، تتغير مظاهرها أبدا ولكن لا تتغير كميتها في كل وقت مضى وكل وقت مقبل، هو في اعتقادنا الأساس الوحيد لإمكان كل تفسير عيني، وهو في نهاية الأمر ما يوحد كل التفسيرات العينية.
ومن الواضح أن كل بحث علمي أو ميتافيزيقي أو لاهوتي كان، ولا يزال، يسير نحو الوصول إلى نتيجة كهذه. ويظهر هذا التقدم بوضوح في تبلور النظرات التعددية إلى الآلهة في نظرة موحدة، وتحول النظرة الموحدة بالتدريج إلى صورة تزداد شمولا، يندمج فيها العلو التشخيصي في الكمون الكوني، كذلك يظهر في تواري النظريات القديمة عن «الماهيات» و«الإمكانيات» و«الفضائل الخفية» ... إلخ، وفي التخلي عن مذاهب ك «المثل الأفلاطونية» و«الانسجام المقدر»، وما شابهها، وفي الاتجاه إلى التوحيد بين «الوجود» كما يتمثل في الوعي، وبين «الوجود» كما يتحدد على نحو آخر خارج الوعي، بل إنه لأوضح من ذلك في تقدم العلم، الذي كان منذ البداية يعمل على جمع وقائع متفرقة في قوانين، والتوحيد بين قوانين خاصة في قوانين أعم، وبذلك يصل إلى قوانين تزداد عمومية بالتدريج، إلى أن أصبح تصور القوانين الكلية الشاملة مألوفا لدينا.
ولما كان التوحيد هو الصفة المميزة لتطور جميع أنواع الفكر، ولما كان من حقنا أن نستنتج أنه سيتم التوصل إلى الوحدة بمضي الوقت، فإنا نجد في ذلك تأييدا آخر للنتيجة التي توصلنا إليها؛ إذ إن الوحدة التي وصلنا إليها ينبغي أن تكون هي الوحيدة التي يتجه إليها التفكير المتطور، ما لم تكن هناك وحدة أخرى أعلى منها. •••
القسم 193 : فإذا قبلت هذه الاستنتاجات - أي إذا ووفق على أن الظواهر التي تحدث في كل مكان هي أجزاء لعملية التطور العامة، إلا حيثما تكون هناك أجزاء لعملية التحلل العكسية - فعندئذ يكون لنا أن نستنتج أن جميع الظواهر لا تفسر تفسيرا كاملا إلا إذا أدركناها بوصفها أجزاء من هذه العمليات ومن هذا يتلو أن الحد النهائي الذي تتقدم إليه المعرفة لا يبلغ إلا عندما تطبق صيغ هذه العمليات على نحو يؤدي إلى تفسيرات الظواهر في عمومها. غير أن هذا مثل أعلى لا بد أن يظل الواقع على الدوام عاجزا عن بلوغه.
ذلك لأنه، مع اعترافنا بأن جميع تغيرات الظواهر قد تكون نتائج مباشرة أو غير مباشرة لبقاء القوة، فلا يمكن الإتيان بدليل على ذلك إلا جزئيا. وما التقدم العلمي إلا تقدم في هذا التكيف للفكر مع الأشياء، الذي رأيناه واقعا، ولا بد أن يستمر في الوقوع، وإن لم يكن يصل في أي وقت إلى ما يقرب من الكمال. ومع ذلك، فرغم أن العلم لا يصل أبدا إلى هذه الصورة، ورغم أنه لن يستطيع الاقتراب منها، ولو من بعيد، إلا بعد زمن طويل جدا، فإن من الممكن، حتى في وقتنا الحالي، تحقيق الكثير في سبيل هذا التقريب.
ومن الطبيعي أن ما يمكن عمله الآن لا يمكن أن يتم على يد أي فرد واحد بعينه؛ فليس ثمة شخص واحد يملك المعلومات الموسوعية اللازمة للتنظيم الصحيح للمعلومات، حتى تلك التي سبق إثباتها. ومع ذلك، فلما كان كل تنظيم، بعد أن يبدأ بخطوط عامة خافتة غامضة، يتم عن طريق تعديلات وإضافات متعاقبة، فقد يتحقق النفع من أية محاولة (مهما كانت بساطتها) لجمع الحقائق المتراكمة حاليا - أو على الأصح فئات معينة منها - فيما يشبه النسق المنظم.
الفصل التاسع
الديالكتيك والمادية
كارل ماركس (1818-1883م)
وفريدرش إنجلز (1820-1895م)
1 ⋆
يمكن النظر إلى فلسفة ماركس وإنجلز، من الوجهة التاريخية، على أنها نتاج مشترك للديالكتيك الهيجلي، والمادية، والتجريبية. غير أن التصنيفات التاريخية يمكن أن تكون مضللة في الفلسفة، كما هي الحال في بقية المجالات؛ فالعناصر الأصيلة أو الجذابة في تفكير ماركس وإنجلز لا تظهر بوضوح في هذا الوصف، وإنما تضيع منه تماما تلك الصفة التي جعلت الماركسية رمزا للأيديولوجية الثورية في عصرنا؛ أعني صفة الخروج القاطع المتعمد على كل التقاليد الاجتماعية الكبرى للحضارة الغربية. كما أن هذا الوصف لا يوضح الفارق الرئيسي في المنظور بين ماركس والفلاسفة الذين سبق بحثهم في هذا الكتاب. فرغم كل ما اقتبسه ماركس منهم، فإنه خالفهم جميعا على نحو أشد مما خالف به أي منهم الباقين.
إن الخلافات الرئيسية بين المثاليين والوضعيين، كما فسرتها، لا تتعلق بمسائل الواقع، وإنما بمسائل المنهج والقيمة. وقد ظلت هذه الخلافات دائما منحصرة في حدود معينة؛ فنحن لا نجد مثلا أن واحدا من المثاليين كفشته وهيجل، أو الوضعيين مثل كونت، أو أنصار مذهب الحرية مثل مل، أو الطبيعيين التطوريين كسبنسر، لا نجد أن واحدا من هؤلاء قد عد نفسه ثائرا اجتماعيا أو مرتدا عن التراث الحضاري الكامن الذي ظهرت فيه فلسفاتهم ونمت، وإنما كانوا قادة ومصلحين حاولوا فقط أن يوضحوا التراث وينقوه ويعدلوه، ولم يكن في نيتهم أبدا أن ينشقوا عليه نهائيا. ولقد كانوا بلا شك مندمجين في أزمة العقل التي اشتدت تدريجيا، والتي بسطت ظلها على جميع الفلسفات منذ كانت. ومع ذلك فما زال من الممكن النظر إلى الخلافات الفلسفية بين المثاليين والوضعيين، على خطورتها، على أنها مراحل لمناقشة برلمانية مستمرة بين فئتين مهذبتين إلى حد غير قليل؛ إحداهما محافظة والأخرى تناصر مذهب الحرية، في الوقت الذي يلتزم فيه الجميع، بدرجات متفاوتة، النظم المتطورة السائدة في العالم المسيحي البرجوازي. وفضلا عن ذلك فقد كانت تلك مناقشة ظلت فيها الخطوط الفاصلة بين الأحزاب واضحة المعالم، وظل النظام الحربي، في المسائل الكبرى على الأقل، محفوظا إلى حد كبير. أما عندما نأتي إلى ماركس، وإلى نيتشه وكيركجورد في الفصلين المقبلين، فإنا نجد هذه الخطوط تصبح غامضة، ويبدأ ظهور تقابل فلسفي من نوع أشد وأجرأ، فلم يكن واحد من هؤلاء الفلاسفة ليقنع بتغيير التراث، بل حاول كل منهم، على طريقته الخاصة، أن يهدمه. ولم يكن ما سعوا إليه، من حيث هم فلاسفة، هو مجرد الاعتداء إلى مسلك جديد للأفكار، أو نقد جديد للعقل، وإنما شيء يقرب من خلق نوع جديد من الإنسان. وإن كتاباتهم تختلف، شكلا وموضوعا، عن كتابات السابقين عليهم إلى حد جعل كثيرا من المؤرخين المحافظين لا يعترفون بأنهم كانوا فلاسفة على الإطلاق. ومع ذلك فإن مذاهبهم، لا النظريات «المحترمة» لمعاصريهم الأشد تمسكا بالتقاليد، هي التي كان لها أكبر الأثر (سواء أكان هذا الأثر مفيدا أم ضارا) في التفكير الفعلي لعصرنا الحالي.
ولقد بدا من الواضح في نظر ماركس ونيتشه وكيركجورد، وعدد آخر قليل من المفكرين، أن من المستحيل إيجاد أي مركب أو توافق حضاري بين المسيحية والعلم الوضعي والمذهب السياسي التحرري. ولم يكن هدفهم هو التمسك بمبادئ المعقولية، وإنما كان هو الخلاص أو النجاح. وهكذا قال ماركس إن المشكلة الفلسفية ليست فهم العالم وإنما تغييره. وكان لفظ «الحقيقة» ذاته في نظر نيتشه مدعاة للسخرية، فحيثما لا تنفع الحقيقة يلجأ نيتشه صراحة إلى الأكذوبة الرفيعة. ومع ذلك فإن رأيه يساء فهمه عادة؛ فهو لم يكن يعترض على الحقيقة ذاتها، وإنما على الافتراضات الفلسفية الجريئة المتعلقة بموضوعية المعايير التقليدية للمعقولية وشمولها؛ فالمعايير من أي نوع، إما أن تقبل اختيارا من أجل غاية معينة، أو أن يسلم بها سلبيا نتيجة لخوف أو تعود؛ فالأسئلة الفلسفية الهامة ليست، بالنسبة إلى نيتشه، هي تلك التي تماثل أسئلة من نوع: «ما هو الحقيقي؟» أو «ما هو المعقول؟» أو «ما هو الخير؟» وإنما هي أسئلة من نوع: «ماذا أريد أن أفعل؟» «وماذا أريد أن أصبح؟» ويتسم كيركجورد بنفس القدر من العناد؛ فهو يدير ظهره، بكل بساطة، للمذاهب اللاهوتية «العقلية» في تراثنا. وفي رأيه أن هذه ليست إلا محاولات متعددة غير مسيحية لصبغ فكرة المسيح بصبغة عقلية، وبالتالي فهي طرق متعددة، بنفس المقدار، للتوفيق بين معناها الذاتي الباطن وبين مقتضيات العالم الدنيوي الغريبة عن هذه الفكرة. وفي رأيه أن استحالة التوفيق بين فكرة الحياة المسيحية وبين مقتضيات النظم التاريخية التي جعلها هيجل مساوية «للروح الموضوعية» أو «العقل»، لا تقل عن استحالة مساواة الحرية الروحية بالضرورة التاريخية. ولقد كان خروجه عن المعقولية اللاهوتية في الوقت ذاته خروجا جريئا على النظم الراسخة للحياة البرجوازية في القرن التاسع عشر، ولم يكن أقل في جرأته وقطعيته من خروج ماركس أو نيتشه عليها.
ولقد قام الثلاثة جميعا بمحاولات جريئة للتعبير عن محنة الإنسان المغترب روحيا واجتماعيا في العصر الحديث؛ ولذلك فإن المهام الفلسفية لماركس ونيتشه وكيركجورد لا تتصف بأنها نظرية إلا عرضا. ولم يكن هدفهم بأقل من إيضاح معالم أسلوب جديد للحياة يفي بمقتضيات أولئك الذين يرفضون الاعتراف بأن ما أطلق عليه ماتيو أرنولد
2
اسم «هذا المرض الغريب الحياة الحديثة»، هو فعل إلهي أو قدر محتم على العقل. فهل كان هؤلاء أنبياء أم مجانين؟ هذا سؤال ستظل الإجابة عليه غير مؤكدة.
ولقد كان ماركس ذاته أكثر الثلاثة معقولية. ويتجلى هذا أولا في اهتمامه بمشكلة المنهج، غير أن منهج ماركس هو أيضا مصدر من أكبر الصعوبات التي تمثلها الماركسية في نظر المؤرخ الفكري؛ فمن بين صفات ماركس، التي لا يمل أنصاره من تكرارها، أنه كان عالما اجتماعيا جديا كان لنظريته في التطور التاريخي تأثير لا حد له في النظريات الاجتماعية التالية. وهم يؤكدون أنه لم يكن مجرد مفكر ديالكتيكي، مثل هيجل، ينسج بطريقة أولية قضايا وقضايا مضادة تفرض مقدما المجرى الذي ينبغي أن يسير فيه التاريخ البشري. وهذا صحيح إلى حد ما؛ فقد كان من ضمن أهداف ماديته التاريخية إيجاد إطار لنظرية قابلة للتحقيق في الأسباب الفعلية المؤدية إلى التطور الاجتماعي. ولم يقتصر ماركس وإنجلز على توجيه انتقادهم الشديد إلى هيجل المثالي، بل وجهاه أيضا إلى فويرباخ
3
المادي، وذلك على أساس أن فلسفتي التاريخ عند هيجل وفويرباخ كانتا مفرطتين في الطموح والغموض، ومفرطتين في عدم اهتمامهما بالأسباب والنتائج الاجتماعية القابلة للملاحظة.
ومع ذلك فإن ماركس كان أكثر من مجرد عالم ينسج نظريات للتطور التاريخي، بل كان أيضا مفكرا أخلاقيا ونسبيا؛ فهو قد استخدم نظريته في التاريخ، ليس فقط لإيضاح ما حدث، ولا حتى للتكهن بما قد يحدث في ظروف تاريخية معينة، بل أيضا للتنبؤ بالمصير النهائي للبشر في مجموعهم؛ فالثروة البروليتارية وظهور المجتمع اللاطبقي بمضي الزمن هي بالنسبة إليه نتائج ضرورية للتناقضات الكامنة في الاقتصاد الرأسمالي، وهي نتائج ليست فقط مرجحة الظهور إذا ما توافرت ظروف تجريبية معينة، بل إنها ضرورية الظهور، أو هي - حسب مقصده الحقيقي الباطن - واجبة الظهور. فمن الواجب، في نظر ماركس كما في نظر هيجل، أن يقرأ التاريخ البشري على أنه تطور ضروري ينتقل فيه كل نظام اجتماعي حتما إلى ضده. ولقد كانت نظرته الديالكتيكية إلى التغير - كما هي الحال أيضا لدى هيجل - أقرب إلى القاعدة الصارمة للتحليل الذي يرمي إلى أن يفرض على كل تفكير صحيح أو «معقول» عن التاريخ طابعا ديالكتيكيا واضحا منها إلى التعميم الاستقرائي. وهكذا يندمج العلم والأخلاق والبحث في المصائر
eschatology
في ذهن ماركس، وربما بطريقة لا شعورية، على نحو يمكن أن يعد نظيرا حديثا لما تتصف به العقلية الإنجيلية من مزج قديم بين التاريخ والأخلاقيات والنبوءة. وأية محاولة لإيجاد فصل قاطع بين هذه العناصر كفيلة بحرمان الماركسية من طابعها الصوفي الخاص، ومن جاذبيتها الهائلة من حيث هي أيديولوجية كاملة.
ومن الطبيعي أن ماركس، من الوجهة الشكلية، معارض للدين، وأن فلسفته في التاريخ ترتكز على ميتافيزيقا مضادة للروحية أو مادية. ومع ذلك فإن ماديته تختلف بشدة، في اتجاهها فضلا عن مذهبها، عن نظريات الماديين والطبيعيين السابقين عليه، فمن الملاحظ أولا أن أبحاث الماديين الأوليين، مثل ديمقريطس، كانت تهتم إلى حد بعيد بطبيعة العالم المادي، على حين أن الاهتمام الأول عند ماركس كان منصبا على الإنسان والمجتمع، ولقد نظر الأولون إلى التغير على أنه مسألة حركة أو تغيير في المكان فحسب، متجاهلين تلك التغيرات الكيفية التي كانت أساسية في نظرية ماركس في التطور التاريخي، بل إن نظرتهم الآلية، وبالتالي اللاتاريخية (من وجهة نظر ماركس) إلى التغير، قد حالت بينهم وبين إدراك أن التاريخ عملية غير متكررة، تحدث فيها، في مراحل حاسمة معينة، تغيرات أساسية لا نظير لها في الأسس المادية للتنظيم الاجتماعي.
ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن كثيرا من الماديين القدامى، الذين رأوا أنه لا جديد بالفعل تحت الشمس، كانوا من المسالمين الذين دعوا إلى أخلاق شخصية قوامها الاستسلام والتأمل. أما ماركس فكان داعية متطرفا إلى العمل الإيجابي، لا يستطيع لهذا السبب نفسه أن يقبل أية ميتافيزيقا تبدو قاضية على الأمل في حدوث تحسن أساسي في الظروف المادية لحياة الإنسان. وبعبارة أخرى، فقد كان عليه أن يأخذ التاريخ مأخذ الجد، مدفوعا بنفس الرغبة الشديدة إلى تملكته في الانفصال الحاسم عنه. وأخيرا فقد قال الماديون السابقون عليه بنظرية ذرية في المادة اقترنت في أغلب الأحيان - كما في حالة هبز - بنظرية اجتماعية مماثلة، ترى أن المجتمع مجرد مجموعة من الأفراد لا تتحكم في علاقاتهم بعضهم ببعض إلا قراراتهم أو مصالحهم الفردية. وتبعا لهذا الرأي تتم جميع التنظيمات الاجتماعية على أساس تعاقدي، بحيث ينطوي أي خرق للعقد الاجتماعي على تحلل عاجل للمجتمع ذاته. أما نظرية ماركس الاجتماعية فتقضي بتفسير السلوك الاجتماعي «الهام» للأفراد، لا من خلال القرارات الشخصية المبنية على الاهتمام العقلي بالمصالح الخاصة، وإنما من خلال الأدوار التي يقوم بها هؤلاء الأفراد من حيث هم ينتمون إلى طبقة اقتصادية معينة، وهي أدوار محددة اجتماعيا. ولقد كانت الحالة الطبيعية للبشر في نظر هبز هي حالة «حرب الكل ضد الكل»، وهي حالة لا يزيلها إلا تنصيب حاكم كامل السلطة. أما في نظر ماركس، فإن الصراع هو حقا قانون الحياة البشرية، غير أن نظرته إلى دراسة المجتمع من خلال نظمه العامة جعلته يرى أن الصراع الأساسي اجتماعي، وأن الصورة الأساسية للصراع الاجتماعي هي حرب الطبقات؛ لذلك كان من الضروري ألا ينطوي أي مذهب مادي يكون مقبولا لديه، على استبعاد لإمكانية النظرة الجدية إلى القضية القائلة إن المجتمع يزيد على مجرد مجموعة من الذرات البشرية، التي لا تربطها سويا إلا اتفاقات من صنعها هي.
ولقد وجد ماركس في فلسفة التاريخ عند هيجل إطارا يصلح، «إذا ما قلب رأسا على عقب»، لإيجاد جميع الأسس اللازمة في نظره لأية مادية تاريخية أصيلة. على أنه لم يستطع أن يقبل تفسير هيجل للتاريخ، الذي كان في نهاية الأمر تفسيرا مثاليا، يبدو على الأقل أنه يعزو إلى الأفكار والمثل وحدها قوة متحكمة في التغير الاجتماعي. ففي رأي ماركس أن كل تغير اجتماعي هام إنما هو تغير في الطرق المادية للإنتاج الاقتصادي. ومع ذلك فإن تحليل هيجل الفعلي للتطورات الاجتماعية يلتزم دائما حدود النظم الاجتماعية ذاتها، ونادرا ما كان يرتكب ما يعده ماركس الخطأ الأصيل في الفلسفة الاجتماعية، ألا وهو تفسير دور الفرد في المجتمع على أنه يرتبط فقط بذوقه واختياره الشخصي. فهيجل كان مثاليا، غير أنه كان مثاليا موضوعيا مطلقا، وقد أتاح له هذا الاحتفاظ بمسحة من الروحية في الوقت الذي استبعد فيه عمليا، وبطريقة منظمة، تأثير الأغراض الشخصية في تحديد مجرى التطور الاجتماعي. غير أن الأمر الذي كان له تأثير بالغ في ذهن ماركس هو إمكانية إعادة تفسير الديالكتيك. ولم يعبأ ماركس بميل هيجل إلى الخلط بين التناقض المنطقي والتضاد أو التعارض المادي؛ إذ كان ماركس أقل احتفالا بخصائص المنطق الصوري من هيجل ذاته. وقد لا تكون هناك قيمة للقانون الديالكتيكي الخاص بالقضية ونقيضها، من حيث هو نظرية للاستدلال المنطقي، ولكن هذا القانون أمد ماركس بأداة لا نظير لها لكشف خيوط التطور التاريخي؛ فهو حين فسر هذا القانون «ماديا» بدلا من أن يعده مجرد قانون للفكر، قد كشف لأول مرة عن طريقة عمل الديالكتيك في العالم الواقعي. ولقد كان استخدام هيجل ذاته للديالكتيك يبدو دائما اعتباطيا، لا لشيء إلا لأنه لم يكن يملك الأساس المادي الغني اللازم للقول بوجود ارتباط علي بين القضية ونقيضها، أو بين النقيض والمركب الناشئ. وهكذا كان ماركس يهدف لأول مرة من إعادة تفسير هذا القانون إلى إعطائه معنى محددا قد ينفع في أغراض التفسير العلي الجاد والتنبؤ.
وهكذا سعى ماركس، بجمعه بين الديالكتيك التاريخي عند هيجل وبين المادية، إلى تحويل المادية ذاتها من التفكير الميكانيكي النظري إلى فلسفة للتطور الاجتماعي، وكذلك إلى تحويل الديالكتيك من قانون للفكر يبدو اعتباطيا، إلى قانون فعلي للعلية التاريخية. وربما كان استخدام ماركس للفظ «الديالكتيك» قد أفقد اللفظ أي ارتباط باق بينه وبين معناه الأصلي. غير أن هذه في الواقع مسألة ألفاظ. ورغم أن لفظ «المادة» في أهم معانيه لم يعد عند ماركس يستخدم للدلالة على أساس أو جوهر كامن، وإنما على «المواد
materials » الملاحظة التي يعمل بها الناس ويبذلون عليها طاقتهم. فإن هذا يعبر مرة أخرى عن تحول في اهتمام ماركس من حيث هو مفكر أيديولوجي. وأهم ما في الأمر هو أن الأيديولوجية المسماة ب «المادية الديالكتيكية» - بغض النظر عن صحة التسمية - قد استحوذت على مخيلة الناس إلى حد لم يقدر عليه أي مذهب منذ عهد المسيح.
وطالما ردد ماركس احتجاجه القائل إن استخدامه للديالكتيك كان علميا فحسب. وينبغي أن ننبه في الوقت ذاته إلى أن الديالكتيك، كما وصفه هيجل، كان يتميز بسمات أعجب بها ماركس كثيرا. ومن هذه السمات، تلك المعقولية الكامنة التي عزاها هيجل إليه؛ فقد استطاع هيجل - وربما كان في ذلك متلاعبا بمعنيين للفظ «المعقول» - أن يؤكد أن أية عملية معقولية ينبغي أن تكون مفهومة وصحيحة في الوقت ذاته. ونظرا إلى أن «المفهومية» و«الصحة» متأصلتان في معنى المعقولية ذاتها، فقد استطاع أن يستخدم اللفظ للتعبير عن الإطراء اللاشخصي في نفس عملية تأكيد الطابع المعقول أو الخاضع للقانون في أي تطور اجتماعي. ولقد كان لهذا، من الناحية الأيديولوجية، ميزة كبرى هي إعفاء هيجل من ضرورة التعبير عن موافقته الخاصة على الديالكتيك في صورة حكم قيمة صريح.
وقد استخدم ماركس نفسه، وربما دون أن يدري بالضبط ما فعل، هذا الجانب المعياري في أساسه للديالكتيك الهيجلي في أغراضه الأيديولوجية الخاصة التي كانت مختلفة كل الاختلاف. غير أن هذا الازدواج في معنى كلمة «المعقول» هو الذي أتاح له الاحتفاظ بسمة النزاهة العلمية الرفيعة، دون أن يحرم نفسه مزايا لغة المديح اللاشخصي. وبفضله استطاع أن يترك الديالكتيك يشير إلى وجهه الأخلاقي الخاص دون أن يقحم عليه أي حكم ذاتي ، يفترض أنه دخيل، متعلق بالخير أو الشر.
وهكذا كانت فكرة التقدم منسوجة ببراعة في ثنايا الديالكتيك ذاته، وعلى هذا النحو كان تفسير ماركس المادي للتاريخ ينطوي، دون أي تأكيد خاص من ناحيته، على النتيجة الضمنية التي لم يعبر عنها، رغم كونها أساسية، وهي أن التطور الثوري للمجتمع هو دائما حركة خاضعة للقانون، تتجه إلى الأحسن. غير أن الديالكتيك كان يتسم بصفة أخرى أعجب بها ماركس، ألا وهي صفة «الضرورة»، فلعله كان يكفي، في نظر ماركس العالم، أن يقتصر المرء على إيضاح شروط التغير الاجتماعي. أما من حيث هو مفكر أيديولوجي، فقد كان من الضروري جدا لتحقيق أغراضه أن يتمكن من وصف رقصة التاريخ الكبرى الثلاثية الإيقاع بأنها «ضرورية» أو «حتمية». ولا جدال في أن من واجب كل من توافرت لهم النية الطيبة أن يقبلوا عن طيب خاطر أي تطور معقول، ولكن إذا كان هذا التطور حتميا أيضا كما وصف ماركس النصر النهائي للبروليتاريا، فعندئذ تصبح مقاومته منعدمة الجدوى. والمسألة العملية الوحيدة، في نظر أنصار ماركس، هي مسألة التوقيت. فلن يستطيع أي شيء أن يؤجل تغيرا تاريخيا ضروريا إلى الأبد. غير أن الديالكتيك لا يشير إلا إلى اتجاه للتغير، لا إلى جدول تقويمي للحوادث المقبلة؛ ولذلك ينبغي أن تفعل المنظمات الثورية كالحزب الشيوعي شيئا للتعجيل بالغاية المحتومة المنشودة؛ أي المجتمع اللاطبقي.
وكثيرا ما أكد نقاد ماركس أن منطق نظريته ليس بمنأى عن النقد.
فقيل إن مناداته بالحتمية جعلته لا يترك مجالا للحرية، وبذلك تصبح الدعوة الأيديولوجية ذاتها عديمة الجدوى. ويبدو لي أن نقاد ماركس لم يدركوا، في هذه المسألة، أن لفظ «المحتوم»، كما استخدمه ماركس، هو في المحل الأول للفظ يقصد منه تشجيع البعض وبث اليأس في نفوس البعض الآخر؛ فهو لا ينتمي إلى لغة الأوصاف العلمية، وإنما إلى لغة الصراع الأيديولوجي. ووظيفته التنبؤية هي أن يوقظ في عمال العالم الشعور برسالتهم التاريخية بوصفهم محرري البشر، أو هذا على الأقل هو الرد الذي كان ماركس خليقا بأن يدلي به عندما يتحدث من وجهة نظر أكثر واقعية.
وما زال أمامنا أن نلاحظ نتيجة أخرى لتفسير ماركس للتاريخ؛ فالتطورات في الفكر الديني أو الفلسفي أو السياسي هي في نظر ماركس نواتج عرضية، في الأساس، للتغيرات في أساليب الإنتاج والتنظيم المادي. وهنا كان هدفه الفعلي هو أن يقلب تفسير هيجل المثالي للتاريخ، بحيث يتسنى للمرة الأولى فهم «التركيب الظاهر
superstructure » الفكري المثالي على حقيقته، من حيث هو نتيجته للتغيرات الأساسية في النظام الاجتماعي، لا سبب متحكم فيها. وكان من نتيجة هذا القلب أن ماركس نظر إلى التقدم، لا من خلال النمو الذاتي الروحي أو «الحرية»، وإنما من خلال تحسين الأوضاع الاقتصادية الكامنة للحياة الاجتماعية. وهكذا رأى ماركس أن تحسين أحوال الإنسان يبدأ بحل لمشكلة الفقر حتى لو لم يكن ينتهي بها. وهو يرى أن خلاص الإنسان، وشفاءه من عزلته ومن بؤسه أيضا، إنما يكمن أساسا في التصدي الجماعي لهذه المشكلة، ومن هنا قال: «إن تشريح المجتمع المدني ينبغي أن يلتمس في الاقتصاد السياسي.» ولعله كان خليقا بأن يضيف أن الحال كذلك أيضا في تشريح التقدم البشري.
ولقد كانت نزعة ماركس الجماعية ناتجة، إلى حد بعيد، عن تتلمذه الأول في المدرسة الهيجلية؛ فهو منذ البداية قد نظر إلى خلاص البشر، مثلما نظر إلى السلوك البشري ذاته، من خلال المجتمع. على أن الإنسان ليس حيوانا اجتماعيا لأن لديه غريزة الإخاء، وإنما لأنه قد كيف على التفكير والسلوك بوصفه عضوا في طبقة اجتماعية؛ فتلك الدوافع التي يملكها الفرد والتي تتعلق بالذات أو بالغير، تعبر عن نفسها دائما من خلال مسالك تحكمت فيها البيئة الاجتماعية التي يخضع لها. ولقد نسب كارل بوبر
Karl Popper
في كتابه القيم «المجتمع المفتوح وأعداؤه» إلى ماركس فضلا هو كونه أول من قرر ما يسميه ب «الاستقلال الذاتي لعلم الاجتماع». وهذا في رأيي غير صحيح؛ فرغم أن فلسفة هيجل في التاريخ كانت ذات نزعة روحية، فإنها قد صيغت أيضا في عبارات كانت في أساسها منتمية إلى مجال علم الاجتماع أكثر مما هي منتمية إلى مجال علم النفس. ومنه تعلم ماركس التفكير في السلوك البشري من خلال أدوار تفرضها النظم الاجتماعية ذاتها. كذلك تخطئ قضية بوبر في ناحية أخرى؛ إذ إن أوجست كونت، كما رأينا، قد أكد قبل ذلك بأوضح العبارات أن قوانين علم الاجتماع لا ترد إلى القوانين النفسية للطبيعة البشرية. ومع ذلك ففي وسعنا أن نتفق مع بوبر إلى حد معين، فنقول إن ماركس قد ساهم بأكثر مما ساهم به أي فيلسوف آخر في القرن التاسع عشر في إشاعة فكرة الاستقلال الذاتي لعلم الاجتماع، وأن تأثيره، لا تأثير كونت أو هيجل، هو الذي كان له أكبر الأثر في محاربة النزعة النفسية الكامنة في معظم النظريات الاجتماعية السابقة. ولنضف إلى ذلك أن نظرية كنظرية ماركس، لا تتعارض مع نوع من الفردية الأخلاقية. وينبغي أن نقرر، إحقاقا للحق، أن تصور ماركس للمجتمع الفاضل كان، على خلاف هيجل أو كونت، تصورا فوضويا؛ فالمجتمع الفاضل أو اللاطبقي لا يمكن في نظره أن ينشأ دون تدابير جماعية، غير أن الغاية القصوى لهذه التدابير ولكل النظم ليست حفظ كائن عضوي اجتماعي هائل، وإنما سعادة أفراد الناس. وهنا لا يمكن أن يعد ماركس، كما هي الحال بالنسبة إلى هيجل، من الممهدين للفاشية.
كذلك ينبغي أن نلاحظ أن فلسفة ماركس المادية لا يمكن أن تعد، بالفعل، منطوية على نظرية أنانية في الطبيعة البشرية، فماركس من أنصار فكرة تأثير البيئة، وهو يرى، من وجهة نظره الخاصة، أنه إذا كان معظم الناس قد عاشوا حتى الآن بحد السيف، فذلك ليس راجعا إلى نزعة عدوانية غريزية فيهم، وإنما هو راجع إلى أن ظروف البيئة الاجتماعية تحتم عليهم السلوك بطريقة عدوانية. والرأسمالية، لا شهوة القوة، هي التي تولد النزعة الاستعمارية والحرب في نظر ماركس. وبالمثل ليس الفساد الفطري في الإنسان هو سبب جشع الرأسماليين، بل إن السبب هو روح السلب والنهب التي يثيرها نظام الربح. ولقد قال فولتير إن الناس لم يكونوا دائما ذئابا، وإنما أصبحوا ذئابا. أما ماركس فرأى أن مهمته هي إيضاح سبب ذلك، ولكنه رأى أيضا أن مهمته هي أن ينبئ الناس بالوسائل التي قد تؤدي بهم إلى الكف عن سلوك مسلك الذئاب.
4
وأول المقتطفات التي سنوردها هو مؤلف ماركس: «قضايا حول فويرباخ». وقد كتبت «القضايا» سنة 1845م، ونشرت لأول مرة بوصفها ملحقا في طبعة 1888م لكتاب إنجلز «لودفج فويرباخ». أما النص الثاني فمأخوذ من الجزء الأول من كتاب إنجلز: «ضد دورنج
Anti-Dübring »
5
ويحوي الكتاب الأخير، الذي كان آخر ما كتبه إنجلز بالتعاون مع ماركس، عرضا ربما كان أفضل عرض عام للتفسير المادي للتاريخ. وفيه يهاجم إنجلز المادية غير الديالكتيكية التي شاعت عندئذ بفضل كتابات دورنج، الذي كان محاضرا للاقتصاد في جامعة برلين، وأصبح الآن شخصا منسيا. (النص)
أولا:
إن العيب الرئيسي في كل مذهب مادي ظهر حتى الآن - وضمن هذه المذاهب مذهب فويرباخ - هو أن الموضوع، أو الواقع، أو المحسوس لا ينظر إليه إلا في صورة موضوع التأمل، لا بوصفه نشاطا حسيا بشريا، أو سلوكا عمليا؛ أي ليس من الوجهة الذاتية. والذي حدث هو أن المثالية أكدت الوجه الإيجابي، معارضة بذلك المادية، غير أنها لم تؤكد ذلك إلا بطريقة مجردة؛ إذ إن المثالية بطبيعة الحال لا تعرف الفاعلية الحسية الحقيقية بما هي كذلك. ولقد أراد فويرباخ تأكيد وجود موضوعات حسية، مميزة واقعيا من الموضوعات الفكرية، غير أنه لم ينظر إلى الفاعلية البشرية ذاتها على أنها فاعلية من خلال الموضوعات. وهكذا نراه في «ماهية المسيحية» يرى أن الموقف النظري هو الموقف الإنساني الأصيل الوحيد، على حين أنه لا ينظر إلى الجانب العملي، ولا يقرره، إلا من خلال صورته اليهودية القذرة، من حيث هو «مظهر». ومن هنا فإنه إدراك أهمية الفاعلية «الثورية»، العملية والنقدية.
ثانيا:
إن مسألة إمكان نسبة الحقيقة الموضوعية إلى التفكير البشري ليست مسألة نظرية، وإنما مسألة عملية؛ ففي ميدان العمل ينبغي أن يثبت الإنسان الحقيقة؛ أي صحة تفكيره «وقوته وانطباقه على هذا العالم». أما الخلاف حول حقيقة التفكير أو عدم حقيقته، منفصلا عن المجال العملي، فما هو إلا خلاف مدرسي.
ثالثا:
إن المذهب المادي القائل إن الناس نواتج للظروف والتربية، وأن تغير الناس بالتالي ناجم عن تغيير الظروف والتربية، يغفل أن الظروف لا تتغير إلا عن طريق الناس، وأن المربي ذاته ينبغي أن يربى، ومن هنا فإن هذا المذهب ينتهي بالضرورة إلى تقسيم المجتمع قسمين، يتعالى أحدهما على المجتمع (كما هي الحال لدى روبرت أوين مثلا).
ولا يمكن تصور اقتران تغير الظروف بالنشاط البشري، وفهمه فهما معقولا، إلا بوصفه سلوكا عمليا ثوريا.
رابعا:
يتخذ فويرباخ نقطة بدايته من واقعة خروج الذات عن حدودها في الدين (
religious self-alienation )، وازدواج العالم إلى عالم ديني خيالي وآخر حقيقي. ومهمته في مؤلفاته تنحصر في تفكيك العالم الديني وإرجاعه إلى أساسه الدنيوي. ولكنه يغفل أنه بعد أن يتم هذا العمل، تظل المهمة الرئيسية باقية؛ إذ إن كون الأساس الدنيوي يرفع ذاته فوق ذاته، ويستقر في السحب بوصفه عالما مستقلا، هو ظاهرة لا تفسر إلا على أساس الانشقاق الذاتي والتناقض الداخلي في هذا الأساس الدنيوي. وعلى ذلك فمن الواجب أولا فهم هذا الأساس الدنيوي في تناقضه، ثم إحداث انقلاب ثوري فيه عمليا بالقضاء على التناقض. مثال ذلك أنه عندما يتضح أن العائلة الأرضية هي سر العائلة المقدسة، فمن الواجب عندئذ نقد الأولى نظريا وإدخال تغيير أساسي فيها عمليا.
خامسا:
يؤدي عدم اكتفاء فويرباخ بالتفكير المجرد إلى التجائه إلى التأمل الحسي، ولكنه لا يدرك الحساسية من حيث هي نشاط عملي، وحسي بشري.
سادسا:
يرد فويرباخ الماهية الدينية إلى الماهية البشرية، غير أن الماهية البشرية ليست كيانا مجردا كامنا في كل فرد على حدة، وإنما هي في حقيقتها مجموع العلاقات الاجتماعية.
وعلى ذلك فإن فويرباخ، الذي لا يحاول نقد هذه الماهية الحقيقية اضطر إلى: (1)
استخلاص الشعور الديني بالتجريد من العملية التاريخية، وتثبيته، على أنه شيء في ذاته، والتسليم مقدما بوجود فرد بشري مجرد - منعزل. (2)
وبالتالي فهو لا يستطيع أن يفهم الماهية البشرية إلا على أنها «جنس»، وعلى أنها تعميم باطن أخرس يقتصر على الجمع بطريقة طبيعية بين الأفراد العديدين.
سابعا:
وبناء على ذلك لا يدرك فويرباخ أن «الشعور الديني» هو ذاته ناتج اجتماعي، وأن الفرد المجرد الذي يملكه ينتمي في الواقع إلى شكل خاص من أشكال المجتمع.
ثامنا:
الحياة الاجتماعية في أساسها عملية، وكل الأسرار التي تضلل التفكير النظري وتدفعه إلى الصوفية تجد حلها العقلي في مجال العمل البشري، وفي فهم هذا المجال العملي.
تاسعا:
إن القمة التي تصل إليها المادية التأملية؛ أي المادية التي لا تدرك الحساسية بوصفها فاعلية عملية، هي تصور أفراد منعزلين في «مجتمع مدني».
عاشرا:
إذا كانت المادية القديمة ترتكز على «المجتمع المدني»، فالمادية الجديدة ترتكز على المجتمع البشري أو البشرية المندمجة في مجتمع.
حادي عشر:
لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم على أنحاء عدة، غير أن المهم في الأمر هو تغييره.»
ضد دورنج
التصنيف - الأولية
Apriorism
لا يمكن أن تتعلق القوالب المنطقية إلا بأشكال الفكر، ولكن موضوع بحثنا هنا ليس إلا أشكال الوجود، والعالم الخارجي، وهذه الأشكال لا يمكن أن يخلقها الفكر ويستمدها من ذاته، وإنما من العالم الخارجي فقط. غير أن هذا يؤدي إلى قلب العلاقة بأسرها رأسا على عقب؛ فالمبادئ ليست نقطة بداية البحث، وإنما نتيجته النهائية، وهي لا تطبق على الطبيعة والتاريخ البشري، وإنما تجرد منهما، وليست الطبيعة وعالم البشر هما اللذان يتفقان مع هذه المبادئ، بل إن المبادئ لا تصح إلا بقدر ما تتفق مع الطبيعة والتاريخ. هذه هي النظرة المادية الوحيدة إلى المسألة، أما نظرة السيد دورنج فهي مثالية، تجعل الأشياء واقفة على رءوسها تماما، وتصوغ العالم الحقيقي من أفكار ومن قوالب أو إطارات أو مقولات توجد في مكان ما قبل العالم منذ الأزل، فهو في ذلك مثل هيجل تماما.
مثل هذه النتيجة تتلو من القول، على مثال المذهب الطبيعي تماما، بأن «الوعي» و«الاستدلال» أشياء معطاة، وأشياء قائمة منذ البداية، في مقابل الوجود والطبيعة. ولو كان الأمر كذلك، لكان من الأمور التي تدعو إلى العجب الشديد أن يوجد مثل هذا التناظر بين الوعي والطبيعة، والفكر والوجود وقوانين الفكر وقوانين الطبيعة. ولكن لو أثير السؤال الآخر: ما هو الفكر والوعي إذن، ومن أين أتيا؟ لوضح أنهما ناتجان للمخ البشري، وأن الإنسان ذاته ناتج للطبيعة، تطور في بيئته ومعها، ومن هنا فمن الواضح بذاته أنه لما كانت نواتج المخ البشري في نهاية الأمر نواتج للطبيعة أيضا، فإنها لا تناقض بقية الطبيعة وإنما تناظرها.
فإذا استخلصنا القوالب التي تسري على العالم، لا من أذهاننا، وإنما من العالم الواقعي بتوسط أذهاننا فحسب، فلن نحتاج إلى فلسفة لهذا الغرض، وإنما إلى المعرفة الوضعية للعالم وما يحدث فيه، وما تمدنا به هذه المعرفة ليس بدوره فلسفة، وإنما علم وضعي.
وفضلا عن ذلك، فإذا لم يعد ثمة داع لأية فلسفة من هذا النوع الخالص، فلن يعود هناك داع أيضا لأي مذهب، بل لأي مذهب طبيعي في الفلسفة؛ فإدراك الارتباط المتبادل المنظم بين ظواهر الطبيعة يؤدي بالعلم إلى إثبات وجود مثل هذا الارتباط المتبادل المنظم في جميع المجالات، من حيث أوجهها العامة وتفاصيلها. ولكن من المستحيل علينا، وسيظل من المستحيل دائما، الإتيان بتعبير علمي صحيح شامل عن هذا الارتباط المتبادل، وصياغة صورة فكرية دقيقة لنظام العالم الذي نعيش فيه. ولو أمكن في أي وقت من تطور البشر الوصول إلى نسق نهائي كامل للارتباطات المتبادلة في العالم - المادي والذهني والتاريخي أيضا - لكان معنى ذلك أن المعرفة البشرية قد بلغت منتهاها، ولتوقف التطور التاريخي منذ اللحظة التي يصبح فيها المجتمع متوافقا مع هذا النسق، وهي فكرة ممتنعة، ولغو محض؛ فكل صورة ذهنية للنظام العالمي تحد موضوعيا وستظل تحد، بالمرحلة التاريخية التي تمر بها، وذاتيا بالتركيب المادي والذهني لصانعها.
الفلسفة الطبيعية: تركيب الكون والفيزياء والكيمياء
لقد تحدث الماديون قبل دورنج عن المادة والحركة، أما هو فيرد الحركة إلى القوة الميكانيكية بوصفها صورتها الأساسية المزعومة، وبذلك يصبح من المستحيل عليه فهم الارتباط الحقيقي بين المادة والحركة، وهو الارتباط الذي كان بالفعل غامضا لدى جميع الماديين السابقين عليه. ومع ذلك فالأمر بسيط إلى حد بعيد؛ فالحركة هي طريقة وجود المادة، إذ لم توجد، ولا يمكن أن توجد في أي مكان، مادة بلا حركة. فهناك حركة الفضاء الكوني، والحركة الآلية للكتل الصغرى الموجودة على مختلف الأجرام السماوية، وحركة الدقائق التي تتخذ شكل حرارة أو تيارات كهربية أو مغناطيسية، أو تفاعل أو تحلل كيميائي، أو حياة عضوية، هذه كلها حركات تسري واحدة منها، أو كثرة منها في آن واحد، على كل ذرة مادية في الكون. وكل سكون، وكل توازن، إنما هو نسبي فحسب، ولا معنى له إلا بالنسبة إلى صورة محددة ما للحركة؛ فالمادة بلا حركة، كالحركة بلا مادة، أمر يستحيل تصوره، ولذلك فالحركة لا تقبل السكون والفساد، شأنها في ذلك شأن المادة ذاتها. وكما قالت من قبل إحدى الفلسفات (فلسفة ديكارت)، فإن كمية الحركة الموجودة في العالم تظل دائما على ما هي عليه، وإذن فالحركة لا تخلق، وإنما يمكن أن تنقل فقط، وعندما تنقل الحركة في جسم إلى آخر، فإنها تعد موجبة من حيث هي تنقل ذاتها، وتكون علة للحركة، بقدر ما تكون هذه الأخيرة منقولة؛ أي سالبة. وهذه الحركة الموجبة هي ما نسميه ب «القوة»، بينما السالبة هي «مظهر القوة»، ومن هذا يظهر بكل وضوح أن القوة مساوية لمظاهرها؛ لأن نفس الحركة هي التي تظهر في كليهما في واقع الأمر.
وعلى ذلك فإن القول بحالة ساكنة للمادة هو فكرة من أسخف الأفكار وأكثرها امتناعا، وهو خيال هذياني محض. ومن الضروري للوصول إلى فكرة كهذه، تصور التوازن الميكانيكي النسبي (وهو حالة يمكن بالفعل أن يمر بها أي جسم على الأرض) على أنه سكون مطلق، ثم مد هذه الفكرة إلى الكون بأسره. ولا شك أن مما ييسر ذلك إرجاع الحركة الكونية إلى قوة ميكانيكية محض، كما أن قصر الحركة على القوة الميكانيكية المحض له ميزة أخرى، هي إمكان تصور القوة على أنها ساكنة ومتوقفة؛ أي على أنها قد شلت مؤقتا. أما عندما يكون نقل الحركة عملية معقدة إلى حد ما، تنطوي على عدد من النقاط الوسطى، كما يحدث في كثير من الأحيان، فعندئذ يصبح من الممكن إرجاء النقل الفعلي إلى أية لحظة نشاء، عن طريق حذف الحلقة الأخيرة في السلسلة.
فمن الممكن إذن أن نتصور أن المادة في حالتها الساكنة المماثلة لذاتها كانت محملة بالقوة، ويبدو أن هذا هو ما يعنيه دورنج بوحدة المادة والقوة الميكانيكية، إن كان يعني بذلك شيئا على الإطلاق. على أن هذه الفكرة باطلة؛ لأنها تتناول حالة هي بطبيعتها نسبية، وبالتالي لا تنطبق إلا على جزء واحد من المادة في الوقت الواحد، فتنقلها إلى الكون وكأنها مطلقة. وقد يكون لنا أن نلف وندور ما شاء لنا اللف والدوران، ولكننا سنعود دائما، إذا اتبعنا طريق دورنج، إلى إصبع الله. •••
إن صاحبنا الميتافيزيقي هذا ليجد في القول بأن مقياس الحركة إنما يكون في ضدها، وهو السكون، عظمة في حلقه وعلقما في لسانه، فهذا بالفعل تناقض صارخ، وكل تناقض هو في رأي دورنج لغو فارغ. ومع ذلك فمن الصحيح أن الحجر المعلق، كالبندقية المحشوة، يمثل كمية محددة من الحركة الميكانيكية، وأن هذه الكمية تقاس بدقة بوساطة وزنه وبعده عن الأرض، وأن الحركة الميكانيكية يمكن أن تستخدم على أنحاء شتى حسبما نشاء؛ أي في سقوطها المباشر، أو انزلاقها على سطح مائل، أو في إدارة أسطوانة. فإمكان التعبير عن الحركة من خلال ضدها؛ أي السكون، لا ينطوي على أية صعوبة على الإطلاق من وجهة النظر الديالكتيكية. وما التناقض بأسره، بالنسبة إلى الفلسفة الديالكتيكية، إلا شيء نسبي، فليس ثمة شيء اسمه السكون المطلق، والتوازن غير المشروط. بل إن كل حركة مفردة تسعى إلى التوازن، والحركة من حيث هي كل تضع حدا للتوازن. وعلى ذلك فعندما يحدث السكون والتوازن، فإنهما يكونان نتيجة لحركة أوقفت، ومن الواضح أن هذه الحركة قابلة للقياس في نتيجتها، ويمكن أن يعبر عنها من خلال هذه النتيجة، وأن تستخلص منها ثانية بصورة أو بأخرى. غير أن دورنج لا يمكنه أن يريح نفسه بقبول هذا العرض البسيط للمسألة؛ فإخلاصه للميتافيزيقا يجعله يبدأ بحفر هوة لا قرار لها، ولا وجود لها في الواقع، بين الحركة والتوازن، ثم يدهشه بعد ذلك أنه لا يستطيع الاهتداء إلى أي جسر يعبر به هذه الهوة التي صنعها بنفسه. وإنه لحري به، والحال هذه، أن يمتطي صهوة جواده الميتافيزيقي الهزيل،
6
ويتعقب «الشيء في ذاته» الكانتي، إذ إن هذا، ولا شيء غيره، هو الذي يختبئ من وراء ذلك الجسر الذي لا يمكن الاهتداء إليه.
الديالكتيك: الكم والكيف
من الصحيح أننا طالما كنا ننظر إلى الأشياء على أنها ساكنة لا حياة فيها، وعلى أن كلا منها قائم بذاته بجوار الآخر ومن بعده، فلن يعترضنا فيها أي تناقض. حقا إننا سنجد بعض الصفات التي يكون منها ما هو مشترك بينها، ومنها ما هو متباين، بل متناقض، بين الواحد والآخر، غير أن هذه الصفات تكون عندئذ موزعة بين أشياء مختلفة، وبذلك لا تنطوي على تناقض. وفي حدود هذا المجال يمكننا أن نظل نسترشد بالطريقة الميتافيزيقية المعتادة في التفكير. ولكن الوضع يختلف تماما حالما نتأمل الأشياء في حركتها، وتغيرها، وحياتها، وتأثيرها المتبادل بعضها في البعض؛ ففي هذه الحالة نصادف التناقض على التو. بل إن الحركة ذاتها تناقض؛ فأبسط تغيير ميكانيكي للمكان لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق جسم يكون في نفس الآن في مكان ما، وفي مكان آخر معا، ويكون موجودا وغير موجود في المكان الواحد. وما الحركة ذاتها، إلا تأكيد مستمر لهذا التناقض، ورفع له في الوقت ذاته.
فإذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان ينطوي على تناقض، فإن هذا يصدق بالأحرى على الصور الأعلى لحركة المادة، ولا سيما الحياة العضوية ونموها. ولقد رأينا من قبل أن قوام الحياة إنما هو أن يكون الشيء الحي ذاته وشيئا آخر في كل لحظة. فالحياة إذن تناقض بدورها، وهي تناقض يتمثل في الأشياء والعمليات ذاتها، ويؤكد ذاته، ويرفع ذاته على الدوام، وحالما يتوقف التناقض، تنتهي الحياة ذاتها، ويقبل الموت. وقد رأينا كذلك أننا لا نستطيع تجنب التناقض في مجال الفكر أيضا، وأن التناقض الموجود بين قدرة الإنسان على المعرفة، وهي محدودة بطبيعتها، وبين تحققها الفعلي في الناس، الذين تحد من معرفتهم الظروف الخارجية، وكذلك قدراتهم العقلية الخاصة، يرفع عن طريق ما نعده، في رأينا على الأقل، ومن وجهة نظر عملية، تعاقبا لا نهاية له للأجيال التي تسير في تقدمها إلى ما لا نهاية.
وقد انتهى ماركس في ص336،
7
بعد تحليله السابق لرأس المال والقيمة الفائضة الثابتين والمتغيرين، إلى النتيجة الآتية: «ليس كل مبلغ من المال، أو من القيمة، قابلا للتحويل كما نشاء إلى رأسمال، بل إنه لا بد لإحداث هذا التحويل من افتراض وجود حد أدنى معين من المال، أو من القيمة التداولية، بين يدي مالك المال أو السلع».
وهو يضرب بعد ذلك مثلا بحالة عامل في أي فرع من الصناعة، يعمل ثماني ساعات لنفسه - أي في إنتاجه لقيمة أجره - ويعمل الساعات الأربع التالية لصاحب رأس المال، في إنتاج قيمة فائضة، تنساب فورا إلى جيب صاحب رأس المال. في هذه الحالة يكون على صاحب رأس المال أن يملك كمية من القيمة تكفي لتمكينه من إمداد عاملين بالمواد الخام وأدوات العمل والأجور، لكي يستطيع أن يحصل كل يوم على كمية من القيمة الفائضة تمكنه من أن يعيش عليها في نفس مستوى عامليه على الأقل. ولما كان هدف الإنتاج الرأسمالي ليس مجرد العيش الضروري، وإنما زيادة الثروة، فإن صاحبنا هذا لن يكون بعامليه رأسماليا. ولكي يعيش على مستوى أفضل مرتين من العامل العادي، ويخصص نصف القيمة الفائضة الناتجة ليستخدمها رأسمال، فعليه أن يوظف ثمانية عمال؛ أي إن عليه أن يملك أربعة أمثال القيمة المذكورة من قبل. وبعد هذا فقط، ومن خلال شروح أخرى أوضح بها ماركس وأثبت أنه ليست كل كمية صغيرة من القيمة كافية للتحول إلى رأسمال، وإنما يتفاوت الحد الأدنى اللازم تبعا لكل مرحلة في التطور ولكل فرع في الصناعة. بعد هذا فقط يلاحظ ماركس أنه «هنا» كما في العلم الطبيعي، تحقق صحة القانون الذي اهتدى إليه هيجل (في كتابه «المنطق»)، والقائل إن التغير الكمي وحده يتحول بعد نقطة معينة إلى فروق كيفية.»
الفصل العاشر
الخلاص بلا مخلص
فريدرش نيتشه (1844-1900م)
لو كان قد أجري استفتاء بين الفلاسفة المحترفين قبل الحرب العالمية الثانية عما حققه فردريش نيتشه، لانعقد الاتفاق على الأرجح، في البلدان الناطقة بالإنجليزية على الأقل، على أنه «فيلسوف أدبي» رائع، ولكنه يفتقر إلى الشعور بالمسئولية، وينبغي ألا يفرط المرء في أخذ أفكاره المثيرة مأخذ الجد. وقد أعرب «سانتيانا» عن الرأي السائد عندما تحدث في كتابه «الأناتية» (
Egotism ) في الفلسفة الألمانية، عن «البلاهة العبقرية» وعن «التجديف الصبياني» عند نيتشه. ولخص برتراند رسل، في كتاب متأخر إلى حد ما، هذا الرأي بقوله إن نيتشه «لم يخترع نظريات جديدة، بالمعنى الدقيق، في ميدان الأنطولوجيا (مبحث الوجود)، وتنحصر أهميته في ميدان الأخلاق أولا، وبوصفه ناقدا تاريخيا دقيقا ثانيا.» وفيما يتعلق بتأثير نيتشه يضيف إلى ذلك أن أتباعه «كان لهم وقتهم، ولكن لنا أن نأمل في أن تكون النهاية مقتربة بسرعة.»
وقد ثبت في هذه الحالة أن قدرة رسل على التنبؤ كانت ضعيفة إلى أبعد حد، ولكنه أثار بطريقة ضمنية سؤالا يتغلغل في أعماق المشكلة المتعلقة بمعنى فلسفة نيتشه: فمن هم أتباعه الحقيقيون؟ لقد كان الاتجاه السائد وقتا ما هو النظر إليه على أنه قد استبق الأيديولوجيات اللاعقلية الممجدة للقوة، والتي بلغت قمتها في الفاشية والنازية. وقد اعترف موسوليني صراحة بإعجابه بنيتشه، كما أن الكثيرين قد تنبهوا إلى وجود أوجه شبه، سطحية على الأقل بين انقلاب القيم عند نيتشه، بما يتسم به من طابع مضاد بعنف للتحررية والديمقراطية، وبين عقيدة القوة والمصير النازية. ورغم ما كان لهذه الارتباطات السيئة من تأثير مدمر في سمعة نيتشه، فليس من الممكن استبعادها والاستخفاف بها بسهولة؛ فكلمات نيتشه، إن لم تكن أفكاره، حافلة بالقسوة، وبغضه الواضح «للقطيع» أشد مرارة من بغض «سوفت
Swift » له. ولا شك في أن هناك نيتشه آخر، لا يظهر بوضوح، يميز بين عدو المسيح وعدو المسيحية، وكان خليقا بلا شك بأن يشمئز من قسوة النازية، أو على الأقل من سوقيتها. غير أن امتداحه «للفضائل» العسكرية كان صادقا، وهجومه المندفع على «حزب الإنسانية» يتردد مرارا في كل مكان من مؤلفاته.
ومع كل هذا فإن لفلسفة نيتشه أوجها عديدة تتعارض بوضوح مع النازية، ومن المستحيل أن يعد مسئولا عن جميع الآثام التي ارتكبت باسمه؛ فهو قطعا لم يكن من المعجبين، ب «الروح» الألمانية أو القومية الألمانية. ورغم أنه كان من أنصار السلطة المفروضة،
1
فقد عارض عقيدة تسلط الدولة، وكان ينظر إلى نفسه دائما على أنه «أوروبي صالح»، على عكس معظم معاصريه من الألمان. وكان يبغض «أخلاق العبيد»، التي اعتقد أن أصلها يرجع إلى الشعب اليهودي. ولكن هذا هو الأساس الحقيقي لكراهيته المزعومة للسامية. وكان يعجب كثيرا ب «الرجال العظماء» مثل نابليون، ولكن السبب الرئيسي لهذا الإعجاب هو أنه كان يرى فيه رمزا رومانتيكيا للوثوق الباطن من الذات، ولحرية العمل الخارجية، في عصر كان فيه الوثوق والحرية يتزايدان استحالة. وفضلا عن ذلك فإني مقتنع بأن مثله الأعلى «الإنسان الأرقى»، هو أقرب إلى الفنان المبدع أو النبي الديني منه إلى باني الإمبراطوريات.
وقد ظهرت منذ الحرب العالمية الأخيرة موجة أخرى من الاهتمام بفلسفة نيتشه، صدرت من جهات أكثر عطفا عليه. ومنذ ظهور الوجودية أصبح من الشائع تمجيده، هو وكيركجورد، بوصفه واحدا من أهم الممهدين لهذه الفلسفة المفرطة في نزعتها الفردية. وهكذا ينمو الآن اتجاه أقوى ميلا إلى تفكير نيتشه. وقد أخذت وجهة النظر هذه تستعيض عن الصورة التي كانت مرسومة له، وهي صورة آكل النار الذي يفتقر إلى النضج والتوازن، والذي استخدم قلمه بديلا لسيف عجز عن حمله، بصورة أخرى يظهر فيها منعزلا مغتربا، يشغل سخف حياة الإنسان كل تفكيره، ويشعر على نحو أعمق من أي من معاصريه بأنه يعيش «في نهاية العالم». وهنا أيضا يطلب إلينا أن نعده أول فيلسوف، منذ هيوم، أدرك «في قرارة نفسه» عدم وجود ارتباطات ضرورية بين الأمور المنتمية إلى مجال الواقع، وواجه بحسه وعقله الحقيقة القائلة إن الوجود حافل بالسخف والامتناع.
وقد كثر الحديث في هذه الأيام عن قدرة نيتشه في ميدان «علم النفس المتعمق»؛ فقد اعترف نيتشه، مثل شوبنهور، الذي كان له تأثير عظيم في تفكيره، بمدى ضآلة الدور الذي يقوم به الاختيار الواعي والتفكير الواقعي في تحديد الأفعال البشرية. كما أدرك مدى تحكم تجارب الخيبة والقلق العميقة الغور، والتي لا يشعر بها الفرد عادة، في اتجاهاته الأيديولوجية، الدينية منها والسياسة. وعرف نيتشه، على نحو أفضل كثيرا من أي مفكر سبقه، تلك الطرق التي لا تعد ولا تحصى، التي يمكن بها استخدام الرموز الانفعالية في التحكم في الاتجاهات البشرية وتسييرها. بل إنه كان أكثر فلاسفة القرن التاسع عشر إدراكا للخطر الكامن في حياة العقل، وللأقنعة الرمزية الهائلة العدد التي يمكن أن يرتديها اللاعقل. وإذا بدا أحيانا أنه يقع في حب كشوفه الخاصة، ويجد لذة غير مألوفة في إبداء احتقاره لمخلوق يمكن أن تخدعه انفعالاته على أنحاء شتى إلى هذا الحد، فإنه إنما يكشف في سلوكه عن بعض الصفات التي قد تساعدنا فلسفته ذاتها على فهمها؛ فالواقع أن نيتشه ذاته كان ضحية تعسة لبعض من تلك العلل النفسية والاجتماعية التي فعل هو ذاته الكثير للكشف عنها. والعجيب في الأمر أنه، مع مرضه، قد استطاع الغوص إلى مثل هذا العمق من وراء الأقنعة التي يستخدمها الناس لإخفاء وحدتهم وخيبتهم.
ولم ينجح نيتشه أبدا في وضع مذهب فلسفي؛ ولذا يبدو أن من الخطأ في نظري أن نحاول وصف فلسفته المعقدة الغامضة بالطريقة المعتادة، وعلى ذلك فسوف أتبع طريقة مختلفة إلى حد ما في تحديد معالم هذه الفلسفة؛ فسوف أبدأ بإجراء عدد من المقارنات بين نيتشه وبين الفلاسفة الآخرين الذين بحثناهم، حتى أوضح بعضا من السمات البارزة لطريقة تفكيره، ثم أخلص من ذلك إلى بعض الملاحظات العامة حول موقعه الفلسفي التاريخي.
ولنبدأ أولا بمقارنته بهيجل؛ ففي كلتا الحالتين نجد الأسلوب دالا على الفيلسوف. ولو أجرينا مقارنة سطحية، لبدا أنهما على طرفي نقيض. فإذا كانت هناك كلمة واحدة تصف أسلوب هيجل، فهي أنه «معتم»؛ إذ رفض مذهب ديكارت في «الأفكار الواضحة والمتميزة»، ولم يثق بقدرة اللغة المعتادة على التعبير عن أفكاره، فكتب بطريقة ثقيلة مركزة، محملة بالمصطلحات وبالعبارات الوصفية التي كثيرا ما تعقد أفكاره دون أن تلقي عليها مع ذلك مزيدا من الضوء. أما نيتشه، فيكتب بطريقة تختلف تماما عن طريقة «الفيلسوف المدرسي»؛ فهو أستاذ في استخدام اللغة المعتادة للتعبير عن كل ما يريد قوله. وهو يتحدث بأسلوب صادق غير متكلف، وفي فقرات منفصلة، وتحتشد مؤلفاته باستعارات وتشبيهات رائعة يبدو أن دلالتها تزداد، بطريقة غامضة، كلما أمعن المرء تفكيره فيها. وهو، مثل هيجل، أستاذ في التهكم والمعارضة. ولكن إذا كانت معانيه الكامنة بدورها بعيدة المنال، فإن الوجه الظاهر من نثره، على خلاف هيجل، واضح إلى أبعد حد. وحيثما يتحدث هيجل بطريقة لا شخصية و«موضوعية» إلى حد يكاد يكون مضحكا، فيخفي ذاته من وراء قناع من المعرفة التاريخية الشاملة، نجد نيتشه يتحدث دائما عن نفسه ويمجد ذاتيته. ولقد كان «حسه التاريخي» مرهفا بقدر ما كان حس هيجل على الأقل، ولكنه اتصف بميزة استثنائية لم تتوافر لهيجل، وهي تطبيق هذا الحس التاريخي على نفسه؛ فهو لا ينسى أبدا، ولا يدع قراءه ينسون موقعه التاريخي المتأرجح الغامض. وهو أيضا يدرك بوضوح نقط الضعف في الحس التاريخي، كميله مثلا إلى الاستعاضة عن الاختيار والمسئولية الأخلاقيين بنوع من التمثيل الخيالي للأفعال الماضية، وهروبه من المصير الوجودي للحياة البشرية، وانحلاله. وأخيرا، فإن نيتشه، على خلاف هيجل، ليس فيلسوفا فحسب، بل إن كتابه «هكذا تكلم زرادشت» من أعظم الأشعار الفلسفية في الأدب الغربي.
ولقد كان موقف نيتشه المعقد من المسيحية والمسيح حافلا بالتضارب مثله في ذلك مثل هيجل؛ فقد تمكن هيجل، كما رأينا، من القيام بنوع من التوفيق الروحي مع المسيحية عن طريق تفسيره التاريخي والرمزي الخاص لها. أما نيتشه فلم يكن في ذهنه مكان لروحية هيجل شبه المسيحية. حقا إن هيجل قال إن «الله قد مات»، ولكن نيتشه كان يؤمن بذلك؛ فإلحاده كان عقليا وعاطفيا؛ فليس الله غير موجود فحسب، بل إنه قد مات. وهكذا يتساءل زرادشت بلسانه : «إن كان ثمة آلهة، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلها؟ لذلك، فليس ثمة آلهة.» غير أن رفض نيتشه للمسيحية لا يستتبع إنكار وجود الله فحسب، وإنما هو يعارض بعنف المسيحية التاريخية، التي يعتقد أنها عممت أخلاق العبيد الموروثة عن اليهود، ووقفت في جميع المراحل حجر عثرة في وجه التنوير العقلي والحرية الروحية.
ولقد قيل إن نيتشه لم يعد نفسه معاديا للمسيح بقدر ما عد نفسه معاديا للمسيحية، وإن عدوه الحقيقي هو بولس، الذي جعل من سيده معلما، وأحال أساطيره الطريفة إلى لاهوت منظم. وهكذا قيل إن ما كان نيتشه يعترض عليه بحق، هي أخلاق الخدمة الداعية إلى الطبية، والتواضع الكاذب والإحسان اللذان يتوجان بوصفهما أعلى الفضائل المسيحية؛ فهي مليئة بالمتناقضات الغريبة، وتنادي بأن خلاص البشر لا يتحقق إلا بالعزوف والتضحية والعذاب. وهنا يبدو نيتشه في صورة شخص يقسو لكي يكون رحيما، ولا هدف له إلا طرد تجار المال والمنافقين من المعبد، وقتل أفعوانات التكاسل الروحي، والتهاون، والجري السوقي وراء اللذة، كما فعل المسيح ذاته. بل إن في وسعنا أن نمضي خطوة أخرى أبعد من ذلك، ونصف فكرة العود الأبدي، التي قال بها نيتشه، بأنها لا تعدو أن تكون تحويرا طفيف الاختلاف لفكرتي التجسد والبعث المسيحيتين.
هذا كله ممكن، ولكنه لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار بغض نيتشه للمسيحية وجميع ثمارها الروحية. ولست أعتقد أن معارضة نيتشه للمسيحية كانت أخلاقية فحسب، كما قال برتراند رسل. إنها أخلاقية قطعا، ولكنها تتجاوز ذلك بكثير؛ فمن وراء حملته على أخلاق الحب الأخوي، ومن وراء عدم إيمانه بالمسيح بوصفه مخلصا، يكمن عدم إيمانه، من حيث هو فيلسوف، بوجود إله متجسد يدخل، على نحو يحتشد بالتناقض، في مجرى التاريخ، ويتدخل في مصائر البشر ويتحكم فيها، ويضمن للناس بعث أجسادهم في الآخرة. وهنا أيضا يقول زرادشت: «إني لأبتهل إليكم، أيها الأخوة، أن تظلوا مخلصين للأرض، وألا تصدقوا من يحدثكم عن آمال تعلو على الأرض! إنهم ينفثون السم، سواء أكانوا يعلمون ذلك أم لا يعلمونه.»
كذلك قد يساعد إجراء بعض المقارنات بينه وبين ماركس في تحديد موقع فلسفته؛ فكلاهما يؤمن بالمذهب الطبيعي، وكلاهما يألو على نفسه، إلى حد معين، أن يفسر العالم الطبيعي وموقع الإنسان في الطبيعة تفسيرا علميا. ولقد كاد نيتشه أن يكون، مثل ماركس، رومانتيكيا رغم أنفه، وهو يشبه ماركس في احتقاره للتفكير الغيبي اللاعقلي، ولجهالة العصور الوسطى، وللابتعاد عن التنوير، وهي كلها صفات لبعض أوجه رومانتيكية القرن التاسع عشر. غير أنه يدرك بوضوح تام، كما أدرك ماركس، مدى التغير الذي لحق مصير الإنسان في القرن التاسع عشر منذ «الأيام الجميلة الغابرة»، أيام موتسارت وفولتير وهيوم. ورغم حنينه إلى عصر التنوير، فإنه يدرك أن مثل ذلك العصر لا يمكن أن تكون مثله هو. وهو يشعر بالمرارة نتيجة لإدراكه ذلك. وهكذا أضفى عليه الحس التاريخي شعورا بالأسى أعمق مما كان لدى ماركس، بل لدى هيجل نفسه؛ فرغم روح الظفر الفياضة التي يتصف بها زرادشت، فإن نيتشه لم يشارك ماركس تأكيده الجاد القائل إن التطور التاريخي للبشر، رغم كل ما فيه من منازعات دموية وضياع، إنما هو مسار قهري نحو المجتمع الفاضل.
ولقد كان نيتشه أصدق تنبؤا بكثير من ماركس؛ فقد تكهن بظهور جيل جديد من الطغاة، الذين سيستغلون، بشيء من الهزء، مخاوف الجماهير وافتقارها إلى الأمان؛ لكي يوجهوهم كيفما شاءوا عن طريق أساطير اجتماعية محكمة. كما تنبأ، ببصيرة نادرة، بأن المثل الأعلى الذي رسمه هيجل للدولة سينحدر إلى مثل أعلى لدولة سوقية تمجد الثراء، ولا هدف لها إلا الحرب «ثم الحرب».
2
ولكنه يعد الاشتراكية مجرد تطور آخر الأخلاق القطيع الديمقراطية النفعية، وهي الأخلاق التي يعدها أول نتيجة دنيوية للمسيح. «ومن الطريف أن نقارن بينه وبين هربرت سبنسر في رأيه هذا في الاشتراكية»؛ فالاشتراكية في رأي نيتشه ليست مذهبا تحرريا مجددا على الإطلاق، بل إنها تدعو إلى المزيد مما هو موجود فحسب. وهو يرى أن ما هو مطلوب ليس مجرد إعادة تنظيم لوسائل الإنتاج أو إصلاح عام للأشكال السياسية الديمقراطية القائلة بمذهب الحرية، وإنما هو إعادة تقويم شاملة للقيم، ترفض صراحة أخلاق خدمة الغير بأسرها، وهي الأخلاق التي ترتكز عليها الاشتراكية ومذهب الحرية معا.
ويشترك نيتشه مع ماركس في كثير من آرائه حول الشرور المتأصلة في الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة، غير أن تشخيصه وعلاجه كانا معا مختلفين تمام الاختلاف؛ فمن الملاحظ أولا أن التفكير بطريقة مادية، من خلال الأساليب الاقتصادية للإنتاج، والصراع المنظم بين الطبقات، كان غريبا عن ذهن نيتشه إلى حد بعيد. وهو لا يؤمن على الإطلاق بالفضيلة الكامنة في العمل الجماعي وفي الإخاء الاجتماعي. كما أنه لا يعبأ كثيرا بأي حل اقتصادي أو سياسي في أساسه لمشكلة حرية الإنسان وإبداعيته المفقودة. وربما كان نيتشه أكثر المفكرين كراهية لكل ما هو جماعي في تاريخ الفلسفة الحديثة. ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون الرمز المعتاد الذي أشار به إلى الجماهير هو «القطيع». والحق أن الخوف الذي ملأ قلبه من أن يطأه القطيع بأرجله، والرعب الانطوائي من أن تطغى عليه الحياة اللاشخصية الجماعية الحديثة، هو الذي يتخذ له رمزا عكسيا في دعوته إلى إرادة القوة؛ فالقوة ترمز عند نيتشه، كما ترمز عند اسبينوزا، إلى تقرير المرء لمصيره. وهي تعني بالنسبة إليه أن تفعل، وتكون قادرا على أن تفعل ما تريد، لا ما تعده طبقة معينة أو نظام معين أو إرادة عامة «خيرا» لك؛ ففي رأي نيتشه أنه طالما ظل الفرد غارقا في نسيج من الطقوس الجماعية والقواعد الاجتماعية اللاشخصية الرتيبة، فإن أي تدخل في النظام السياسي أو الاقتصادي يترك المصير الأساسي للحياة الحديثة كما هو، دون أن يمسه، مهما أدت تلك الطقوس والقواعد إلى ما يسمى ب «الرخاء» العام.
ولقد كان «مل» من الفلاسفة الذين كان نيتشه يحب دائما إبداء عدائه لهم؛ فقد احتقر نيتشه فلسفة المنفعة التي أسماها ب «فلسفة الخنازير»، وكان هذا المذهب في نظره دعوة تتسم بالحرص الممزوج بالجبن إلى تحقيق منافع مادية جماعية، لا تصلح إلا لمجتمع من أصحاب الحوانيت العمليين، وذلك طبقا لتصوره للبريطانيين. وقد أطلق على مل اسم «الغبي» وجهر باشمئزازه من «سوقية ذلك الرجل»، ولكن الواقع أن اختلاف نيتشه عن مل كان أقل مما تصور؛ فقد اشتركا معا في ميلهما إلى النزعة الطبيعية، وإلى العلم في حدود معينة. ولم يكن هناك اختلاف كبير بين موقفيهما من الكنيسة وأخلاقها العزوفية المتعلقة بعالم آخر. ولم يكن مل يقل عن نيتشه سخطا على ما تجلبه النظم الديمقراطية الاجتماعية والسياسية من نتائج تبدو محتومة فيها ضعة وإملال واطراد. كما أن مشكلة تحرر الإنسان في العالم الحديث لم تكن تقف، في رأي مل أيضا، عند حد مسألة الحريات المدنية، بل كانت تعني عنده، كما كانت تعني عند نيتشه، قدرة الفرد على إكمال ذاته، وتحقيق أعلى قدراته من حيث هو إنسان. ويبدو لي أن لغتهما، لا معناها الأساسي، هي التي كانت مختلفة تماما. وفضلا عن ذلك فإن كراهية نيتشه الأرستقراطية للمعايير الكمية الخالصة للكمال، لها ما يقابلها عند مل في تفضيله لفكرة «الحكام العدول»، بوصفهم معيارا مستقلا للقيمة.
ولكن، رغم اشتراكهما في الرغبة في إنقاذ ما أطلق عليه «مانيو أرنولد
Matthew Arnold » اسم «البقية الاستثنائية»، فإن هذا يقابله عند مل، وليس عند نيتشه، تعاطف عميق مع القطيع؛ ولذلك لم يشعر مل بأي ميل إلى التخلي عن ولائه للمثل العليا الديمقراطية السياسية من أجل إنقاذ القيم الأرستقراطية، قيم الذوق، والجدارة الشخصية، والامتياز الفردي؛ فالمجتمع الفاضل ينبغي في رأيه أن يشمل الاثنين معا؛ ذلك لأنه إذا كانت الأخلاق عند مل أكثر إنسانية، فإن نيتشه أقوى شعورا بصعوبة التوفيق بين أخلاق الرخاء وبين أخلاق الكمال الذاتي للأفراد «الأرقى» أو «الحكام العدول». وكان يعتقد أن من الضروري القيام باختيار بين الأمرين اللذين حاول مل أن يجمع بينهما. ولا شك في أن قراره النهائي بينهما واضح تماما. ولعله كان خليقا بأن يقول إن الأخلاق عند مل؛ إذ تحاول الجمع بين رفاه المجموع وكمال الفرد، تغدو مزجا مختلطا عقيما بين مثل لا تقبل التوفيق بينها. أما بنتام فكان على أية حال خصما متسقا مع نفسه، وعلى استعداد تام لتحمل نتائج معاييره الكمية المحض ؛ فبنتام هو القائل إنه إذا كان في لعبة الكرة من اللذة قدر ما في الشعر، فإنها تعادله من حيث هو خير، وهذا كل ما في الأمر. ولا شك أن الرد الممكن لمل على ذلك هو أنه ليس ثمة تحقيق ذاتي دون حب، ولا سعادة عامة إذا كان فيها تجاهل للفروق الكيفية بين أنواع الخير البشري.
أما الصلات بين نيتشه وبين شوبنهور، فإنها أوضح ظهورا.
فقد كانت الاستعارة الرئيسية في فلسفة نيتشه، وهي إرادة القوة، تعديلا، من خلال دارون، لإرادة الحياة عند شوبنهور. والواقع أن نيتشه قد تصور «الصراع من أجل الوجود» على نحو أكثر حرفية مما تصوره دارون. فهذا الصراع في نظره مجهود مستمر، فيه تناحر ووحشية، لا من أجل الحياة فحسب، كما ظن شوبنهور، وإنما من أجل السبق أيضا. وفضلا عن ذلك فإن نظرة نيتشه إلى الإرادة كانت أقل ميتافيزيقية من نظرة شوبنهور إليها. فالإدارة عنده تتعلق بالفعل قبل كل شيء، وليست المسألة في نظر نيتشه مسألة إرادة «حرة»، وإنما مسألة إرادات أقوى وأضعف. ولقد حاول شوبنهور - وربما كان في ذلك غير متسق مع نفسه - أن يجعل الإرادة تنقلب على ذاتها، بحيث نظر إلى الحياة الصالحة على أنها حياة التأمل المتحرر من الإرادة. أما نيتشه، فقد أدرك ما في هذا الموقف من افتقار إلى الاتساق، ورأى أن من المسلم به كون الإرادة كامنة في كل حياة، وكونها باقية ما بقيت الحياة. ولذلك فالمسألة عنده لا يمكن أن تكون مسألة إنكار للإرادة أو تجاوز لها، وإنما السؤال الوحيد هو: أية إرادة هي التي ستسود؟ وهذه في رأيه مسألة قوة فحسب.
ومع ذلك، فهل كان الأمر كذلك حقا، حتى بالنسبة إليه؟ لقد قيل مرارا إن نيتشه، شأنه شأن جميع القائلين بالنزعة الطبيعية، يشوه التمييز بين ما هو موضوع للإرادة وما هو جدير بالرغبة فيه؛ أي الخير، وإنه ينتقل من واقعة وجود إرادة القوة، إن كانت فعلا موجودا، إلى تمجيدها، دون أي تبرير ظاهر لهذا الانتقال. وهذا صحيح شكليا، وهو يوقع نيتشه في نفس المأزق الذي وقع فيه السفسطائي ترازيماخوس في «جمهورية» أفلاطون؛ فهو يعترض على أخلاق العبيد المسيحية بأنها تكبل الأقوياء بالحديد. ولكن من هم الأقوياء في حقيقة الأمر؟ إن الأخلاق المسيحية والنظم الديمقراطية كما يصفها نيتشه، هي حيل تنظم بها إرادات الكثرة المتصفة بالضعف الفردي في إرادة جماعية عظمى تكبت الإرادات الأقوى لمن هم أرفع من هذه الكثرة. وهنا يبدو أن نيتشه يعترف، دون تنبه، بالحقيقة المرة للمبدأ القائل إن «الاتحاد قوة»، وهكذا قد يقول البعض إنه كان من واجبه، بوصفه محبا للقوة على الدوام، أن يعجب بالأخلاق المسيحية والمبادئ السياسية الديمقراطية أكثر من إعجابه بإنسانه الأرقى وبمثله العليا السياسية للصفوة الأرستقراطية. والواقع أن نيتشه يعجب بالقوة، ولكن عندما يملكها أناس أرقى فحسب، لا عندما يستخدمها القطيع ليقيد بها من هم أرقى منه.
وقد صنف نيتشه أحيانا بأنه دارويني اجتماعي، أحال الصراع من أجل الوجود إلى حكمة أخلاقية. ولكن الواقع أن فكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه لا تكون نظرية تطورية إلا إذا نظر إليها نظرة سطحية، فما تتنبأ به هذه الفكرة بالفعل ليس نوعا بيولوجيا جديدا، وإنما هو نوع جديد من الإنسان، يدرك قدرته الخاصة على العلاء على ذاته، ويطالب لنفسه ولكل الأناس الراقين من أمثاله بحق العلاء على أنفسهم وتحقيق ذواتهم. فمذهبه هو قبل كل شيء دعوة أخلاقية أو دينية إلى العمل، وهو ينطوي على مناشدة لذوي القدرات الرفيعة بأن يعلوا بالجهد الصارم والتضحية فوق مستوى تراثهم الحيواني من الاستجابات المنعكسة الغريزية، وتراثهم الاجتماعي من الخضوع للنظم السائدة بطريقة رتيبة كطريقة القطعان. وبالاختصار، فنيتشه لم يكن يهتم جديا بالمسألة العلمية المتعلقة بإمكان حدوث تطور لنوع جديد من بعد نوعنا «الآدمي العاقل»، وإنما كان يهتم بالإمكانيات الروحية لهذا «الآدمي العاقل» ذاته.
وأعتقد أن من الإجحاف أن نقول إن نيتشه، الذي كان أبوه قسيسا، قد ظل طوال حياته واعظا غير متخصص يسير في الطريق البروتستانتي التقليدي للفردية غير الخاضعة للنظم السائدة. على أن العقيدة التي يعظ بها هي في أساسها إمكان الخلاص الفردي دون مخلص. وإنا لنلاحظ، بين المثقفين المستنيرين الذين يتعين عليهم، في عصر علمي، أن ينظروا إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، أن الأركان الأساسية للأسطورة المسيحية لا تعود لديهم قابلة للتصديق، وأن هذه الأسطورة، كما ينبغي أن يعترف دعاة المسيحية «المتحررة» صراحة، قد فقدت أخيرا قوتها المخلصة. أما أولئك الذين يسعون، مثل هيجل، إلى الاحتفاظ بالفضل الإلهي المخلص في المسيحية، مجردا من جذوره في الإيمان والأمل البشري الدافق، فهم إنما يخدعون أنفسهم؛ وكل ما يصلون إليه هو إرجاء ظهور الإلحاد النزيه.
وليس معنى ذلك أن نيتشه، حين كف عن أن يكون مسيحيا، قد تمكن آليا من أن يطرح عن عاتقه الحاجات التي دعمت أسطورة البعث لدى عدد لا يحصى من الناس. فالمسألة هي: كيف يتسنى تلبية هذه الحاجات في إطار نظرة إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، لا تستطيع أن تنسب إلى الأسطورة المسيحية فضل التنبؤ، ولا فضل النبوءة الرمزية؟ لقد ظن نيتشه أنه اهتدى إلى الجواب في مذهب قديم هو العود الأبدي. ولقد رأينا كيف لمح هربرت سبنسر من بعيد إلى هذه الفكرة في نظريته شبه الدائرية للتكامل والتحلل التطوريين، غير أن سبنسر لم يستخدمها دينيا. أما في حالة نيتشه، فقد كانت الفكرة في أساسها تصورا دينيا للخلود الفردي؛ ففي رأيه أن كل فرد يمر في كل لحظة بدورة من الفاعلية أبدية العود، وإذن ففي كل شيء يفعله الفرد أو يمارسه، يكون هذا الفرد ذاته حاضرا أبدا. فما يهم الشخص الفردي، من وجهة نظر نيتشه، ليس الخلود اللاشخصي الذي يتمثل في الشهرة أو التأثير في حياة الناس الذين لم يولدوا بعد، وإنما خلوده الشخصي هو ذاته، وهو لا يقنع بأن أناسا سيحيون حياة مماثلة لحياته في المستقبل، أو بأن آخرين سيتمكنون، بفضل جهوده، من الإيمان بأعز القيم لديه، وإنما يطلب أن يظل وعيه هو ذاته مستمرا على الدوام بطريقة ما. فإذا كانت النظرة إلى العالم ذات نزعة طبيعية، فمن المحال تلبية هذه الحاجة إلا عن طريق مذهب للعود الأبدي تعود فيه من جديد، مرات لا متناهية، دورة الحياة ذاتها.
فإذا ما سألت عن الأدلة التي يقدمها نيتشه لمثل هذه النظرية، كان الجواب، لا شيء.
3
غير أن النظر إلى المسألة على هذا النحو فيه إغفال لحقيقة الفكرة؛ إذ إنها لم تكن في الواقع نظرية على الإطلاق، وإنما وسيلة لإشباع حاجة نيتشه العارمة إلى أن يكون. وفضلها هو أنها تجعل من كل لحظة في حياة الإنسان، لا مجرد تجربة عابرة، وإنما ذا أهمية مطلقة أبدية.
والمختارات الآتية مأخوذة من الفصل الأول من كتاب «ما وراء الخير والشر»
4 ⋆
وعنوان الفصل: «تغرض الفلاسفة»: (1) «لكم ثارت في أذهاننا من الأسئلة بفضل الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، تلك الرغبة التي تغرينا على أداء عديد من المهام الخطرة، وذلك الصدق المشهور الذي تحدث عنه الفلاسفة حتى اليوم بالتبجيل! ما أكثر هذه الأسئلة الغريبة، المحيرة، التي تغدو هي ذاتها موضوعا للشك والتساؤل! إن القصة لطويلة حقا، ومع ذلك يبدو أنها لم تكد تبدأ. فهل يستغرب أحد، بعد ذلك، أن نشعر آخر الأمر بالريبة، وينفد صبرنا، وندير ظهرنا متأففين؟ وأن «أبا الهول» هذا يعلمنا أخيرا أن نوجه نحن أنفسنا أسئلة؟ فمن هو الذي يوجه إلينا الأسئلة هنا؟ وما هي بالفعل هذه «الرغبة في الوصول إلى الحقيقة» فينا؟ الحق أننا وقفنا وقفة طويلة عند مسألة أصل هذه الرغبة، حتى وصلنا أخيرا إلى توقف مطلق إزاء سؤال أهم حتى من السابق؛ فقد تساءلنا عن قيمة هذه الرغبة؛ ذلك لأننا نسلم بأننا نريد الحقيقة، فلماذا لا نفضل اللاحقيقة؟ واللايقين؟ بل الجهل؟ لقد مثلت أمامنا مشكلة قيمة الحقيقة، أم إننا نحن الذين جعلنا أنفسنا نمثل أمام المشكلة؟ أينا أوديب هنا؟ وأينا أبو الهول؟ يبدو أن ثمة لقاء هنا بين الأسئلة وعلامات الاستفهام. وهل يصدق أحد أنه يبدو لنا أخيرا كأن المشكلة لم تبحث من قبل قط، وكأننا أول من أدركها ولمحها، وخاطر بإثارتها؛ ذلك لأن في إثارتها مخاطرة ربما كانت أشد المخاطر.» (2) «كيف يمكن أن يظهر أي شيء من ضده ؟ الحقيقة من البطلان مثلا؟ أو الرغبة في الوصول إلى الحقيقة من الرغبة في الخداع؟ أو الصنيع الكريم من الأنانية؟ أو التبصر النقي الوضاء لدى الحكيم من الجشع والطمع؟ إن هذا التولد والظهور مستحيل، وكل من يحلم به أبله وأسوأ من الأبله؛ فلا بد أن يكون للأشياء الأعلى قيمة أصل آخر، أصل خاص بها، ومن المحال أن يكون أصلها في هذا العالم العابر، المليء بالمغريات والبطلان، والتفاهة، هذا المعترك الذي يختلط فيه الخداع بالجشع. وإنما لا بد أن يكون أصلها بين ثنايا «الوجود»، وفيما ليس عابرا، في الإله الخفي، في «الشيء في ذاته». هناك، لا في أي شيء آخر، ينبغي أن يكون أصلها.» هذا النوع من الاستدلال يكشف عن التغرض المميز الذي يمكن عن طريقه التعرف على جميع الميتافيزيقيين في كل العصور، وهذا النوع من التقسيم هو أساس كل أساليبهم المنطقية، وعن طريق «اعتقادهم» هذا، يكرسون أنفسهم «لمعرفتهم»، لشيء يطلقون عليه في النهاية، بكل وقار، اسم «الحقيقة». فالاعتقاد الأساسي لدى الميتافيزيقيين هو الاعتقاد بتقابل القيم. ولم يدر أبدا بخلد أحدهم، حتى أذكاهم عقلا، أن يشك هنا، وهو يخطو هذه الخطوة الأولى (مع أن الشك في الخطوة الأولى ضروري إلى أبعد حد)، رغم أنهم قد آلوا على أنفسهم «أن يشكوا في كل شيء
de omnibus dubitandum ». ذلك لأن للمرء أن يشك أولا في وجود التقابل بأسره، وثانيا في أن التقييمات والقيم المتقابلة الشائعة، التي باركها الميتافيزيقيون، قد لا تكون إلا تقديرات سطحية، ومنظورات مؤقتة، فضلا عن كونها منظورات من ركن معين، وربما من أسفل؛ أي «منظورات ضفدعية» إذا جاز لي أن أقتبس هذا التعبير الشائع بين الرسامين، فرغم كل ما يعزى إلى الحقيقي
True ، والإيجابي، والغيري، من القيمة، فقد يكون من الجائز أن نعزو قيمة أهم، بالنسبة إلى الحياة عامة، إلى التظاهر والرغبة في الخداع والأنانية والجشع. بل ربما كان ما يضفي على هذه الأشياء الخيرة المحترمة قيمتها، إنما هو كونها متصلة ومربوطة ومنسوجة، على نحو خفي، بهذه الأشياء الشريرة التي تبدو مضادة لها، بل في كونها هي ذاتها هذه الأشياء المضادة. ربما! ولكن من ذا الذي يود أن يشغل نفسه بمثل هذه «الربمات» الخطيرة! إن مثل هذا البحث لا بد أن ينتظر ظهور نوع جديد من الفلاسفة، ستكون له أذواق وميول أخرى، عكس الأذواق والميول السائدة، فلاسفة «ربما» الخطيرة، بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وإني لجاد تماما إذ أقول إني أرى هؤلاء الفلاسفة الجدد آخذين في الظهور. (3) وإني لأقول لنفسي الآن، بعد أن نظرت إلى الفلاسفة مليا وبإمعان، وقرأت ما بين سطورهم وقتا طويلا، إن الجزء الأكبر من التفكير الواعي ينبغي أن يعد من الوظائف الغريزية، وإن هذا يصدق حتى على التفكير الفلسفي، فعلى المرء أن يتعلم هنا من جديد، مثلما يتعلم من جديد عن الوراثة و«الفطرية». وكما أن لحظة الميلاد لا تلقي إلا انتباها ضئيلا في عملية الوراثة بأسرها، وفي استمرارها، فكذلك لا يوجه إلا اهتمام ضئيل إلى التقابل بين «حالة الوعي» وبين ما هو غريزي. والواقع أن الجزء الأكبر من التفكير الواعي للفيلسوف يتأثر سرا بغرائزه، ويدفع رغما منه في مسارات محددة. ومع وراء كل منطق، وكل سيادة ظاهرية مطلقة في حركة هذا المنطق، توجد تقييمات، أو بعبارة أوضح، مطالب فسيولوجية؛ لحفظ نوع محدد من الحياة. (4) إن بطلان أي رأي ليس في رأينا اعتراضا يوجه إليه، وربما كان هذا أغرب ما في لغتنا الجديدة وقعا على الأذان؛ فالمسألة هي: إلى أي حد يعد الرأي مؤديا إلى تقدم الحياة، وحفظها، وحفظ النوع، وربما إكثار النوع؟ وإنا لنميل بكل قوة إلى القول بأن أكثر الآراء بطلانا (وهي الآراء التي تنتمي إليها الأحكام الأولية التركيبية) هي أكثرها ضرورة لنا، وأنه دون اعتراف بالأساطير المنطقية، ودون مقارنة بعالم الواقع بعالم متخيل كله، هو عالم المطلق والثبات، ودون تزييف دائم للعالم عن طريق الأعداد - دون هذا كله لم يكن الإنسان يستطيع أن يعيش - وأن التخلي عن الآراء الباطلة إنما هو تخل عن الحياة، وإنكار لها. فإدراك أن اللاحقيقة شرط للحياة، هذه قطعا إهانة خطيرة للأفكار التقليدية عن القيمة، وأية فلسفة تجرؤ على ذلك، تكون بهذا وحده قد اتخذت لنفسها موقعا بمعزل عن الخير والشر. (5) إن ما يؤدي إلى نظرة الآخرين إلى الفلسفة على نحو تمتزج فيه الريبة بالسخرية، ليس الاهتداء الشائع إلى مدى سذاجتهم - ومدى وقوعهم بسهولة في الخطأ، وضلالهم عن الطريق؛ أي بالاختصار، مدى طفوليتهم - وإنما هو افتقارهم إلى الأمانة في معاملاتهم، في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم جهرا، وقد انتفضوا غيرة على الفضيلة، إذا ما لمح أحد إلى مشكلة صدقهم ولو من أبعد طرف، فهم جميعا يحاولون إيهامنا بأن آراءهم الحقيقية قد كشفت وبلغت عن طريق التطور الذاتي لديالكتيك جامد، خالص، منزه مترفع (على عكس الصوفية بجميع أنواعهم، الذين يتحدثون على نحو أصدق وأكثر حمقا عن «الإلهام»)، مع أن الذي يحدث في الواقع هو أنهم يدافعون بحجج يفتشون عنها فيما بعد، عن قضية أو فكرة أو «إيحاء» مغرض، يمثل عادة خلاصة رغباتهم مجردة مصفاة؛ فهم جميعا محامون لا يريدون أن ينظر إليهم بما هم كذلك، وكذلك مدافعون بارعون بوجه عام، عن تغرضاتهم، التي يسمونها «حقائق»، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك الضمير الحي الذي يسمح لهم بالاعتراف بهذا لأنفسهم في شجاعة، وأبعد ما يكونون عن الذوق السليم أو عن الإقدام الذي يجعلهم يسمحون للآخرين بإدراك ذلك، ربما على سبيل تحذير صديق أو عدو، أو في معرض الإفصاح عن دخائل نفوسهم في مرح وسخرية من ذاتهم. وإن منظر نفاق كانت، الذي يتصف بالجمود والترفع في آن واحد، وهو المنظر الذي يغرينا به على السير وراءه في أزقة الديالكتيك المؤدية (أو على الأصح المضللة) إلى «أمره المطلق»؛ ليبعث الابتسام على شفاه المشاكسين من أمثالنا، الذين يجدون مسلاة طريفة في الكشف عن الحيل اللئيمة لفلاسفة الأخلاق ووعاظها القدماء. والأدهى من ذلك هو الاحتيال باسم الصورة الرياضية التي خلعها اسبينوزا على فلسفته ووضعها من وراء قناع مخيف - أو، لكي نترجم لفظ «الفلسفة» ترجمة أنصف وأصرح، لنقل «حبه لحكمته هو» - حتى يبعث بذلك الرعب على التو في قلب المهاجم الذي يدور بخلده أن يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الصبية المصونة، ربة الحكمة الأسطورية. فيا للجبن الشخصي والشعور بالضعف الذاتي الذي يكشف عنه هذا القناع الذي أخفى به ذلك المعتزل المريض وجهه! (6) ولقد اتضح لي بالتدريج قوام كل فلسفة عظيمة ظهرت حتى الآن؛ أعني كونها اعترافا لمبدعها، ونوعا من ترجمته الذاتية لحياته على نحو لا إرادي ولا شعوري، وأن المقصد الأخلاقي (أو اللاأخلاقي) في كل فلسفة، كان هو النواة الأساسية التي نما منها النبات بأسره.
والواقع أن من الأصوب (ومن الأحكم) أن يتساءل المرء أولا، إذا شاء أن يفهم كيف توصل الفيلسوف إلى أعقد تعبيراته الميتافيزيقية: «ما هي الأخلاق التي يهدف (أو يهدفون) إليها؟» وعلى ذلك، فلست أومن بأن أصل الفلسفة «ميل طبيعي إلى المعرفة»، بل إن ها هنا، كما في كل شيء آخر، ميل طبيعي آخر، استخدم المعرفة (والمعرفة الباطلة!) أداة. ولكن كل من يتأمل الميول الطبيعية الأساسية للإنسان بغية تحديد المدى الذي ربما كانت قد قامت فيه بدور الأرواح الخفية الملهمة (أو الشياطين والجن)، سيجد أنها كلها قد مارست الفلسفة في وقت أو آخر، وأن كلا منها كان على أتم استعداد لينظر إلى ذاته على أنه الغاية القصوى للوجود، والحاكم الشرعي لكل الميول الطبيعية الأخرى؛ ذلك لأن كل ميل طبيعي ينزع بطبيعته إلى السيطرة، وعلى هذا الأساس يحاول أن يتفلسف. ومن المؤكد أن الأمر، في حالة الباحثين ورجال العلم الحقيقيين، قد يكون على خلاف ذلك أو «أفضل» من ذلك إذا شئت؛ ففي هذه الحالة قد يكون هناك فعلا شيء يمكن أن يعد «ميلا طبيعيا إلى المعرفة»؛ أي نوعا من الساعة الدقاقة الصغيرة المستقلة، التي تعمل بجد لهذا الغرض إذا ما ملئت جيدا، دون أن يكون لبقية الميول الطبيعية المتعلقة بالبحث العلمي أي دور ملموس فيها. ف «اهتمام» الباحث العلمي إذن يسير عموما في اتجاهات مخالفة تماما؛ في الأسرة، أو في جمع المال، أو في السياسة. والواقع أنه لا تكاد تكون ثمة أهمية لنقطة البحث التي توضع فيها هذه الآلة الصغيرة، أو لكون الباحث الشاب المليء بالأمل سيصبح فقيها لغويا متبحرا، أو إخصائيا في الفطريات، أو كيميائيا ؛ فهو لا يتصف بكونه قد أصبح هذا أو ذاك. أما في حالة الفيلسوف، فليس ثمة شيء لا شخصي على الإطلاق، والأهم من هذا كله أن مذهبه الأخلاقي يشهد بكل دقة ووضوح على طبيعته؛ أي على العلاقة التي ترتبط بها أعمق ميوله الطبيعية بعضها ببعض. ••• (13) ينبغي على علماء النفس أن يفكروا مليا قبل أن يؤكدوا أن غريزة حفظ الذات هي الغريزة الأساسية لدى كل كائن عضوي؛ فالكائن الحي يسعى قبل كل شيء إلى إطلاق قوته، والحياة ذاتها إنما هي إرادة قوة، أما حفظ الذات فليس إلا واحدا من أكثر النتائج غير المباشرة شيوعا لهذه الإرادة. وبالاختصار، فلنحذر هنا، كما في كل موضع آخر، من المبادئ الغائبة المزيفة - ومنها غريزة حفظ الذات (التي ندين بها لعدم اتساق اسبينوزا). هذا ما يقتضيه المنهج، الذي ينبغي أن يكون اقتصادا في المبادئ قبل كل شيء. ••• (16) ما زال هناك من الناس من يلاحظون أنفسهم في سذاجة فيؤمنون بوجود «يقينيات مباشرة»، مثل «أنا أفكر»، أو كما تعبر عنها أوهام شوبنهور: «أنا أريد»، وكأن المعرفة هنا قد أمسكت بزمام موضوعها، وأدركت أنه لا يعدو أن يكون «شيئا في ذاته» دون أن يحدث أي تزييف، لا من جانب الذات ولا من جانب الموضوع. ومع ذلك فها أنا ذا أكرر للمرة المائة أن «اليقين المباشر»، وكذلك «المعرفة المطلقة» و«الشيء في ذاته» تتضمن تناقضا في الألفاظ، وعلينا بالفعل أن نتحرر من المعاني المضللة لهذه الألفاظ! وقد يظن الناس من جانبهم أن المعرفة هي إدراك كل الأمور المتعلقة بالأشياء، ولكن ينبغي أن يقول الفيلسوف لذاته: «عندما أحلل العملية التي تعبر عنها عبارة «أنا أفكر»، سأجد سلسلة كاملة من التأكيدات الجزئية، سيكون إثباتها الجدلي عسيرا، وربما مستحيلا؛ مثال ذلك أني أنا الذي يفكر، وأنه ينبغي أن يوجد بالضرورة شيء يفكر، وأن التفكير نشاط وعملية يقوم بها كائن ينظر إليه على أنه علة ، وأن هناك «أنا
ego ». وأخيرا، أنه قد تم بالفعل تحديد المقصود عن، من التفكير، وأنني أعرف ما هو التفكير؛ ذلك لأني إذا لم أكن بالفعل قد قررت في نفسي ما هو التفكير، فبأي مقياس أستطيع أن أقرر إن كان ما يحدث ليس «إرادة» أو شعورا؟ والاختصار فإن التأكيد القائل «أنا أفكر» يفترض أنني «أقارن» حالتي في اللحظة الراهنة بحالات أخرى لي أعرفها، حتى أقرر ما هي، وبناء على هذا الارتباط الراجع ب «معرفة» أخرى، فليس لهذه العبارة على أية حال أي يقين مباشر بالنسبة إلي.» وهكذا يجد الفيلسوف، بدلا من «اليقين المباشر» الذي قد يؤمن الناس به في هذه الحالة الخاصة، سلسلة من الأسئلة الميتافيزيقية ماثلة أمامه، وهي أسئلة صادقة موجهة فعلا إلى عقله، مثل: «من أين أتتني فكرة «التفكير»؟ ولم أومن بالعلة والمعلول؟ ومن أين لي حق التحدث عن «أنا»، بل عن «الأنا» بوصفه علة، وأخيرا عن «الأنا» بوصفه علة للتفكير؟ «أما من يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة الميتافيزيقية فورا، وبالإهابة بنوع من الإدراك الحدسي، كمن يقول «أنا أفكر، وأعلم أن هذا على الأقل صحيح وفعلي ومؤكد»، فسيقابل بابتسامة وعلامتي استفهام من فيلسوف اليوم. وربما قال له ذلك الفيلسوف: «سيدي، ليس من المحتمل ألا تكون مخطئا، ولكن لم كان يتعين أن يكون هذه هي الحقيقة؟» (17) أما عن أوهام المناطقة، فلن أمل أبدا تأكيد حقيقة بسيطة محكمة، تعترف بها هذه الأذهان الساذجة رغما منها؛ وأعني بها أن الفكرة تأتي عندما تشاء «هي»، لا عندما أشاء «أنا»؛ فالمرء يفكر، غير أن كون هذا «المرء» هو «الأنا
ego » القديم المشهور، إنما هو، على أحسن الظروف، مجرد فرض، وتأكيد، وهو قطعا ليس «يقينا مباشرا». بل إن عبارة «المرء يفكر» هذه مسرفة أكثر مما ينبغي؛ فحتى كلمة «المرء» هذه تنطوي على تفسير للعملية، ولا تنتمي إلى العملية ذاتها، فهنا يسير الاستدلال وفقا للصيغة النحوية المألوفة: «إن التفكير فعل، وكل فعل يحتاج إلى فاعل؟ إذن ...» وعلى نحو قريب جدا من ذلك بحث المذهب الذري القديم عن شيء إلى جانب «القوة» العاملة؛ أي عن الجزيء المادي الذي تكمن فيه هذه القوة وتعمل بدءا منه، وهو الذرة. غير أن الأذهان الأشد صرامة قد عرفت أخيرا كيف تسلك من غير هذا «الباقي الأرضي»، وربما استطعنا يوما ما أن نعود أنفسنا، حتى من وجهة نظر المنطقي، على أن نسلك من غير كلمة «المرء» الصغيرة هذه (التي تشكل بها «الأنا
ego » القديم المحترم بعد أن تهذب وانصقل). (18) ومن المؤكد أن قابلية النظرية للتفنيد من العوامل التي تجعلها محببة إلى النفس؛ ففي هذا تجذب الأذهان الأشد عمقا. ويبدو لي أن نظرية «الإرادة الحرة» التي فندت مئات المرات، تدين بدوامها إلى هذه الجاذبية وحدها؛ إذ يظهر دائما شخص يشعر في نفسه بالقوة التي تجعله يفندها. (19) ولقد اعتاد الفلاسفة التحدث عن الإرادة وكأنها شيء مألوف تماما، بل لقد حاول شوبنهور إيهامنا أن الإرادة هي وحدها ما نعرفه بحق، وبطريقة مطلقة كاملة، بدون أي استنباط أو إضافة. ولكن يبدو لي على الدوام أن شوبنهور لم يفعل في هذه الحالة أيضا سوى ما اعتاد الفلاسفة أن يفعلوه - أي يبدو أنه آمن «بوهم شائع» وبالغ فيه؛ فالإرادة تبدو لي في المحل الأول، شيئا معقدا، شيئا لا وحدة فيه إلا بالاسم - والواقع أن الأوهام الشائعة، التي غلبت التحوطات غير الكافية للفلاسفة في كل العصور، لا تكمن إلا في أسماء. وإذن، فلنكن من الآن فصاعدا أشد حذرا، ولنخالف طريقة الفلاسفة، ولنقل إن في كل إرادة، أولا، عددا كبيرا من الأحاسيس، وأعني بها الإحساس بالظرف «الذي نبتعد عنه»، والإحساس بالظرف «الذي نتجه إليه»، والإحساس بهذا «الخروج» و«الابتعاد» ذاته، يضاف إلى ذلك، إحساس عضلي مصاحب، يبدأ عمله، حتى لو لم نحرك «ذراعينا ورجلينا» بقوة العادة، بمجرد أن «نريد» شيئا. وعلى ذلك، فكما أن الإحساسات (وأنواعا كثيرة منها بالفعل) ينبغي أن ينظر إليها على أنها مكونات الإرادة، فمن الواجب أن ينظر إلى التفكير، ثانيا، على هذا النحو ذاته. ففي كل فعل للإرادة، فكرة غالبة. وعلينا أن نكف عن تصور إمكان فصل هذه الفكرة عن «الإرادة»، وكأن الإرادة ستظل عندئذ مكتوفة الأيدي! وثالثا، فليست الإرادة ظاهرة مركبة تتألف من إحساسات وتفكير فحسب، بل إنها قبل كل شيء انفعال، بل هي انفعال الأمر والسيطرة، فما يسمى ب «حرية الإرادة»، هو أساسا انفعال الغلبة على من يتعين عليه أن يطيع: «أنا حر، وعليه هو أن يطيع» - فهذا الشعور كامن في كل إرادة، وكذلك الحال في تركيز الانتباه، والنظرة الجادة التي تستقر على شيء واحد لا تحيد عنه، والحكم غير المشروط بأن «هذا ولا شيء غيره ضروري الآن»، واليقين الباطن بأن فروض الطاعة ستقدم - وكل أمر آخر ينتمي إلى حالة الأمر المسيطر، فمن يريد يأمر ويسيطر على شيء في نفسه يقدم إليه فروض الطاعة، أو يعتقد أنه سيقدم إليه فروض الطاعة، ولكن، فلنتأمل الآن أغرب ما في الإرادة، تلك الظاهرة العظيمة التعقيد، التي لا يطلق عليها الناس إلا اسما واحدا، فبقدر ما نكون في الظروف المعينة آمرين ومطيعين في آن واحد، وبقدر ما نعرف، بوصفنا الطرف المطيع، أحاسيس الإرغام والإكراه والضغط والمقاومة والحركة، التي تبدأ عادة بعد فعل الإرادة مباشرة، وبقدر ما نعتاد، من جهة أخرى، أن نتجاهل هذه الثنائية، ونخدع أنفسنا حيالها باستخدام اللفظ المركب «أنا». بهذا القدر أصبحت هناك سلسلة كاملة من الاستنتاجات المخطئة، وبالتالي من الأحكام الباطلة عن الإرادة ذاتها، ترتبط بفعل الإرادة، إلى حد أن من يريد يعتقد اعتقادا راسخا بأن عملية الإرادة كافية للفعل. ولما كان ما يحدث في معظم الحالات هو أننا لا نمارس الإرادة إلا عندما يكون تأثير الأمر - وبالتالي الطاعة، وبالتالي الفعل - متوقعا، فقد عبر المظهر عن ذاته بالإحساس بأن هناك ضرورة علية، وبالاختصار، أصبح من يريد يؤمن بقدر غير قليل من اليقين بأن الإرادة والفعل أمر واحد على نحو ما، فيعزو نجاح عملية الإرادة والقدرة على تنفيذها إلى الإرادة ذاتها، وبذلك يتمتع بمزيد من الشعور بالقوة، المصاحب لكل نجاح؛ ف «حرية الإرادة» هي التعبير عن الحالة المعقدة لاغتباط الشخص الذي يمارس عملية الإرادة، ويأمر ويرى في نفسه منفذا للأمر في آن واحد؛ أي يتمتع أيضا بالانتصار، على العقوبات، ولكن يعتقد بينه وبين نفسه أن إرادته الخاصة هي التي تغلبت على هذه العقبات بالفعل. ••• (21) إن عبارة «علة ذاته
Causa sui » هي أفضل تناقض ذاتي ظهر حتى اليوم، وهي نوع من خرق المنطق ومن الخروج على طبيعة الأشياء، غير أن الغرور المسرف للإنسان قد جعله يشغل نفسه بعمق، وعلى نحو مخيف بهذا الجنون المطبق؛ فالرغبة في «حرية الإرادة»، بالمعنى التفضيلي، الميتافيزيقي، كما تتملك عقول الكثيرين من أنصاف المتعلمين حتى وقتنا الحالي للأسف الشديد، والرغبة في تحمل المرء للمسئولية النهائية الكاملة عن أفعاله، وفي إعفاء الله، والعالم، والأسلاف، والصدفة، والمجتمع منها، لا تنطوي على أقل من كون المرء «علة لذاته» بهذا المعنى عينه، وفي أن يجذب نفسه من شعره إلى الوجود من هوة العدم، بجرأة لا تدانيها جرأة «مونشهاوزن
Munchhausen ».
5
فإذا تمكن أحد على هذا النحو من الاهتداء إلى الحماقة الكبرى التي تنطوي عليها فكرة «حرية الإرادة» التي ترتد إلى استخدام باطل للعلة والمعلول، فعلى المرء ألا يخطئ بتجسيد «العلة» و«المعلول» ماديا، كما يفعل الفلاسفة الطبيعيون (وكل من يلف لفهم بالتفكير من خلال المذهب الطبيعي في وقتنا هذا)، تبعا للخطأ الميكانيكي السائد، الذي يجعل العلة تضغط وتدفع حتى «تحدث» غايتها. وعلى المرء ألا يستخدم «العلة» و«المعلول» إلا بوصفهما تصورات؛ أي ألفاظا مبتدعة مصطلح عليها بقصد الإشارة والفهم المتبادل، لا بقصد التفسير. فليس في «الوجود في ذاته» شيء من «الارتباط العلي» أو من «الضرورة» أو من «انعدام الحرية النفسية»، وهنا لا يتلو المعلول من العلة، ولا يسري «القانون». وإنما نحن وحدنا الذين ابتدعنا العلة، والتعاقب، والتأثير المتبادل، والنسبية، والإكراه، والعدد، والقانون، والحرية، والدوافع، والغرض، وعندما نفسر عالم الرموز هذا، ونمزج بينه وبين الأشياء، وكأنه «موجود في ذاته»، فإنما نسلك مرة أخرى كما كنا نسلك دائما بطريقة أسطورية. «فانعدام حرية الإرادة أسطورة، أما في الحياة الحقيقية فليس ثمة إلا إرادات قوية وضعيفة. والواقع أن المفكر عندما يرى في كل «ارتباط علي»، و«ضرورة نفسية » شيئا من الاضطرار، والعوز، والخنوع، والاضطهاد، وانعدام الحرية، يكاد يكشف بذلك عن أعراض لما هو مفتقر إليه؛ فشعور المرء بأحاسيس كهذه شيء يدعو إلى الريبة؛ إذ إنه يكشف بها عن دخيلة نفسه، وإذا كانت ملاحظتي صحيحة، فإن «انعدام حرية الإرادة» يعد، على وجه العموم، مشكلة من وجهتي نظر متعارضتين تماما، ولكن على نحو شخصي عميق دائما؛ فالبعض لا يود أن يتخلى عن «مسئوليته» وإيمانه بنفسه، وحقه الشخصي في مزاياه هو، بأي ثمن (وإلى هذه الفئة تنتمي الأجناس المغرورة). والبعض الآخر لا يود، على عكس ذلك، أن يكون مسئولا عن أي شيء، أو أن يلام على أي شيء، ويسعى، بسبب احتقار ذاتي باطن، إلى الهروب من المعركة، أيا ما كان الأمر. فالأخيرون، عندما يؤلفون كتابا، يعتادون حاليا أن ينحازوا إلى صف المجرمين؛ فالتنكر المحبب إلى نفوسهم هو نوع من التعاطف الاشتراكي. والواقع أن قدرية ضعفاء الإرادة تجمل نفسها على نحو يدعو إلى الدهشة عندما تظهر بمظهر «عقيدة العذاب البشري»؛ فهذا هو «ذوقها الطيب». (22) ولتعذروني يا علماء الفيزياء إذا قلت، بوصفي عالما قديما في اللغة لا يستطيع الإقلاع عن عادة سيئة هي وضع إصبعه على طرق التفسير الفاسدة، إن عبارة «اتفاق الطبيعة مع القانون»، التي تتحدثون عنها بكل هذا الفخر، لا وجود لها إلا بفضل تفسيركم وسوء ثقافتكم اللغوية؛ فهي ليست أمرا واقعا، وليست «نصا»، وما هي إلا تكيف بشري ساذج، وتشويه للمعنى، تستطيعون به أن ترضوا إلى حد بعيد الغرائز الديمقراطية في نفس الإنسان الحديث! فالمساواة أمام القانون شاملة - والطبيعة لا تختلف عنا في هذا الصدد، وليست أفضل منا - وهو مثل رائع لدافع دفين، يتوارى من ورائه مرة أخرى ذلك العداء السوقي لكل ما هو مميز ومسيطر، وكل ما يستحق بالتالي أن يعد إلحادا، بمعنى آخر أعمق للكلمة. «فلا إله، ولا سيد» - ذلك أيضا هو ما تريدون، وعلى ذلك «فليحيا القانون الطبيعي!» - أليس الأمر كذلك؟ ولكن هذا، كما قلنا، تفسير، وليس نصا، وقد يأتي شخص يستطيع، بمقاصد وطرق تفكير مضادة، أن يرى في «الطبيعة» ذاتها، وفي الظواهر ذاتها، مجرد تنفيذ مستبد غاشم لمطالب القوة؛ أعني مفسرا يضع أمام أعينكم الطابع المطرد المطلق لكل «إرادة قوة» على نحو يجعل كل لفظ، بل لفظ «الاستبداد» ذاته، يبدو غير ملائم، أو منطويا على إضعاف وتخفيف من حدة الاستعارة؛ أي يبدو إنسانيا أكثر مما ينبغي، وينتهي به الأمر مع ذلك إلى تأكيد نفس ما تؤكدونه عن هذا العالم؛ أعني أن له مجرى ضروري «يمكن حسابه»، ولكن ليس لأن القوانين تنطبق عليه، بل لأن هذه القوانين منعدمة تماما، ولأن كل قوة تحدث تأثيراتها النهائية في كل لحظة. فلو سلمنا بأن هذا بدوره لا يعدو أن يكون تفسيرا - وهل ستتحمسون إلى حد توجيه هذا الاعتراض؟ - فما زال هذا في نظري أفضل. (23) لقد ظل علم النفس حتى اليوم يتغاضى عن التحامل والجبن الأخلاقي، ولم يجرؤ على اقتحام أعماقه، وبقدر ما يكون من حق المرء أن يدرك فيما كتب حتى اليوم، دليلا على ما ظل حتى اليوم مطويا في ثنايا السكوت، فيبدو أن أحدا لم يتنبه حتى اليوم، كما تنبهت أنا، إلى فكرة علم النفس، بوصفه وصفا لتغير إرادة القوة وعرضا منظما لتطورها؛ ذلك لأن قوة التحاملات الأخلاقية قد تغلغلت بعمق في أبعد نواحي العالم العقلي، ذلك العالم الذي يبدو أشد موضوعية ونزاهة، وأثرت فيه بوضوح تأثيرا ضارا عائقا مموها مضللا. وعلى كل مذهب نفساني فسيولوجي سليم أن يواجه العداوة اللاشعورية في قلب الباحث؛ فهذا «القلب» هو خصمه؛ فحتى المذهب القائل بأن الدوافع «الخيرة» و«الشريرة» تتحكم بعضها في البعض تحكما متبادلا، يولد (بوصفه لا أخلاقية مهذبة) استياء ونفورا في أي ضمير ما زال يتصف بالقوة والشهامة، فما بالك بمذهب يستمد كل الدوافع الخيرة من دوافع شريرة؟ أما إذا نظر شخص إلى انفعالات الكراهية والحسد والطمع وحب السيطرة ذاتها على أنها انفعالات تتحكم في الحياة، وعلى أنها عوامل لا بد أساسا من وجودها من أجل استمرار المجرى العام للحياة (وبالتالي عوامل ينبغي تشجيعها إذا شئنا تشجيع الحياة ذاتها على التطور)، فإنه سيقاسي من نظرته هذه إلى الأشياء كما يقاسي من دوار البحر. ومع ذلك فهذا الفرض ليس أغرب الفروض وأكثرها إيلاما في هذا الميدان الواسع، الذي لم يكد يطرق من قبل، للمعرفة الخطرة، والحق أن هناك مئات من الأسباب المعقولة التي تحتم على كل من يستطيع الامتناع عن طرق هذا الميدان أن يفعل ذلك! ومن جهة أخرى، فإذا وجه امرؤ شراعه في هذا الاتجاه، فعليه أن يقبض عليه بكل ما يملك من قوة، وأن يفتح عينيه ويثبت قبضته على الدفة! فنحن هنا إنما نبحر فوق الأخلاق مباشرة، ونحن إنما نسحق، وربما ندمر، ما تبقى من أخلاقيتنا إذ نجسر على القيام برحلتنا هنا. ولكن فيم يهمنا ذلك؟! لقد تفتح أمامنا عالم للتأمل لم يتكشف مثله للرحالة والمغامرين الجسورين، وعلى الأقل فسوف يكون من حق عالم النفس الذي يقوم بهذه التضحية - وهي ليست «تضحية العقل»، بل عكسها - أن يطالب مقابل ذلك بالعودة إلى الاعتراف بعلم النفس تاجا للعلوم، توجه كلها لخدمته وتزويده بما يريد. فها هنا يسير علم النفس مرة أخرى في الطريق المؤدي إلى المشاكل الأساسية.
الفصل الحادي عشر
ظهور الوجودية
سورين كيركجورد (1803-1855م)
لم يظهر في إنجلترا أو الولايات المتحدة أي اهتمام جدي بكيركجورد من حيث هو فيلسوف إلا منذ الحرب العالمية الثانية، عندما تنبه الجميع، حتى المجلات الإخبارية الأسبوعية، إلى مذهب جديد غريب في الفلسفة الأوروبية اسمه «الوجودية». بل إن تواريخ الفلسفة المعتمدة لا تذكره حتى اليوم إلا لماما، وعندما تذكره، فإنها لا تشير أبدا إلى أنه ربما كان واحدا من «عظماء» الفلسفة في القرن التاسع عشر. وما زال الجدل دائرا حول المزايا الكامنة لأفكار كيركجورد الفلسفية، غير أن أحدا لم يعد يستطيع إنكار أهميته التاريخية؛ إذ إن كتاباته كانت بمثابة الطليعة لحركة من أقوى الحركات الفلسفية أثرا في عصرنا.
ولقد كان هذا من الأسباب التي جعلتني أرى من الضروري إدراجه في هذا الكتاب، وإن يكن هناك سبب آخر هو أنه مظهر لصورة أخرى اتخذتها أزمة العقل منذ عصر كانت.
ولقد كان كيركجورد من أشد الكتاب قدرة على المخادعة في عصر كان يلائمه جدا إطلاق اسم عصر الغموض عليه . وكانت كتاباته أصعب حتى من كتابات نيتشه ذاتها، من حيث إمكان عرضها وتحليلها بطريقة منهجية منظمة. وليس معنى ذلك أن كيركجورد يفتقر إلى البراعة الأدبية، بل لقد كان، بعكس ذلك، مغرما إلى أبعد حد بتجميل أسلوبه، وهو قطعا من أعظم الساخرين العقليين في تاريخ الأدب الحديث؛ ففي وسعه إذا شاء أن يكون ناقدا فلسفيا عميقا، كما حدث حين وجه ديالكتيكية المضاد المدمر ضد هيجل، ولكنه عادة لا يدلي بحجج لدعم رأيه على الإطلاق، وإنما يعرض رأيه فحسب. وكما قال لي حديثا فيلسوف بارز من أكسفورد، فإن كيركجورد ليس من أولئك الفلاسفة الذين يمكنك أن تمارس عليهم عملية صقل ذكائك. وهو في هذا الصدد أشبه بشاعر يقدم إلى قارئه عالما روحيا جديدا غريبا، يتعين عليك أن تحيا وتتنفس فيه مؤقتا إذا شئت أن تفهمه. وكيركجورد، مثل سقراط، هو أيضا نوع من «ذباب الدواب» الذي يظل يلسع قراءه حتى يؤدي العملية الأساسية للمعرفة الذاتية. ولكن المهمة الشاقة تقع على عاتقك أنت، أيها القارئ، وكل ما يفعله كيركجورد أو يحاول أن يفعله هو أن يصدمك بحيث تواجه حقيقة وجودك بوصفك كائنا واعيا. وبالاختصار فليس لدي كيركجورد مذهب يعرضه أو نظرية يدافع عنها، بقدر ما لديه من مسلك في الحياة وإحساس ومنظور يريد من قارئه أن يشاركه إياه إذا كان على استعداد لبذل الجهد اللازم.
وربما كان أول ما ينبغي أن يقال عن وجهة نظر كيركجورد - وإنها لوجهة نظر أكثر من كونها «فلسفة» بالمعنى التقليدي - هو أنه يشترك مع نيتشه في تقززه الشديد من العالم البرجوازي المريح، المنافق، التقدمي الذي عاش فيه. بل إن نيتشه ذاته لم يحمل على المسيحية التاريخية الموضوعة في قوالب منظمة بمرارة أشد مما حمل بها عليها كيركجورد، المؤمن بالمسيحية. ونظرا إلى ولائه الشديد للأناجيل، فقد حمل على الكنيسة القائمة بوصفها مجرد نظام رسمي محترم يقف في وجه هذا التقدم الروحي للفرد المسيحي. وهو يرفض تماما ادعاء الكنيسة أنها الخليفة الحقيقية لمسيحية الحواريين.
ولكن كيركجورد يحتفظ بأقوى حملاته لمحاولة هيجل تفسير التراث المسيحي وتبريره بطريقة عقلية مثالية؛ فهذا في رأيه، أوضح أعراض العلة العقلية التي تعانيها الفلسفة الحديثة. فهيجل لا يقدم إلينا إلها حيا، وإنما عرضا ديالكتيكيا تاريخيا للأسطورة المسيحية، مهمته الوحيدة هي تحديد الموقع الذي يرابط فيه الناس في مجرى التاريخ. ولم يكن الوعي التاريخي الذي طالما افتخر به هيجل، في نظر كيركجورد، وسيلة لزيادة المرء فهمه لموقفه الخاص بوصفه موجودا حيا، وإنما كان قبل كل شيء هروبا من هذا الموقف. وكما رأينا من قبل، فقد اعترض هيجل ذاته على صفة التجرد الباطلة المزعومة التي اتصف بها منطق أرسطو الشكلي التقليدي، واعتزم أن يستبدل به منطقا حقيقيا للفكر أو الوجود (وهما بالطبع يعنيان في نظره شيئا واحدا). وهكذا تصور أنه يستطيع بهذا المنطق الديالكتيكي وحده أن يكون لنفسه فكرة صحيحة عن حقيقة التغير. واعتقد أن الطريقة الوحيدة التي تتيح لنا إدراكا عينيا لطبيعة عملية ما، هي النظر إليها بطريقة ديالكتيكية من خلال شبكة للعلاقات التاريخية متزايدة الاتساع. أما من وجهة نظر كيركجورد، فإن كل ما قام به هيجل فعلا هو إدماج الوجود الخاص للفرد في ذلك التجريد الشامل لكل التجريدات؛ أي المطلق، الذي يضيع فيه نهائيا كل أثر باق للوجود العيني. ومما يدعو إلى السخرية حقا أن هيجل لا يترك لنا آخر الأمر إلا تلك المنطقية الشاملة
pan-logism
التي يتضح أن الحقيقة الوحيدة فيها هي الحركة اللاشخصية للديالكتيك ذاته. أما كيركجورد فيتحدث عن تفكيره على أنه «ديالكتيك كيفي»، ويعني بذلك ديالكتيكا يرفض أي ادعاء بتفسير الانتقال من قضية إلى نقيضها على أنه لحظة ضرورية في عملية تطور مستمرة. والواقع أن ديالكتيك كيركجورد لا شأن له على الإطلاق بالمنطق بمعناه المألوف. وهو، إذا جاز هذا التعبير، «منطق نفساني
psycho-logic » يسير في مجراه الخاص غير المحتوم نحو غايات بعيدة تماما عن الحقيقة العلمية. وقد تقول إن هذا المنطق النفساني مغرق في الغرابة . ورد كيركجورد على ذلك هو أن هذا في الحق فضله الأعظم؛ إذ إن الوجود ذاته مغرق في غرابته، ولا يمكن الوصول إليه ذاتيا إلا بوسائل ممتنعة هي التأمل الباطن والوعي الذاتي.
على أن معارضة كيركجورد لهيجل لا تقف عند حد مسائل الديالكتيك؛ ففي رأيه أن فلسفة القانون عند هيجل إنما هي إنجيل يصلح لإنسان آلي جامد فقد أي إحساس بذاته بوصفه شخصا، وقنع بالعيش سلبيا بوصفه مجرد موظف في الدولة والكنيسة والأسرة؛ ففي رأي كيركجورد أن كل ذلك الجانب الخاص «بالروح الموضوعية» في فلسفة هيجل إنما هو بناء شامخ من التضليل الأنتولوجي يصرف أنظار الناس عن مواجهة الحقيقة الوحيدة التي يتعين عليهم مواجهتها، وهي وجودهم الواعي الخاص؛ فالروح الموضوعية عند هيجل ليست إلا مخلوقا كونه ديالكتيكه، وشبحا للفكر لا شأن له بما هو موجود وحي.
وفي رأي كيركجورد أن الحقيقة
reality
لا يتوصل إليها بتداول التصورات، وإنما بالتجربة المباشرة وحدها. ولقد كان كانت، بطريقته الخاصة، على حق؛ «فالوجود
existence »
1
ليس محمولا. ومن المحال أن يدرك المرء معنى كونه موجودا إلا بطريقة الإشارة، وبحدس مباشر لذاته.
ولقد رأى كيركجورد أن وعي المرء بوجوده يغدو أقوى ما يكون في فترات التوتر الداخلي الشديد، عندما يتجاوز القلق مرحلة الانشغال المحلي بغايات خاصة، ويصبح كليا أو «ميتافيزيقيا» إن جاز هذا التعبير. هذا القلق الكلي، غير المتعلق بموضوع محدد، لا ينشأ إلا عندما يكف المرء عن الانشغال بمشكلة الوصول إلى نتائج خاصة أو الاحتفاظ بما لديه، وعندما تغدو كل مسألة الوصول إلى نتائج أمرا لا أهمية له، ويهدد نهج حياة المرء كله بالخطر، عندئذ فقط يدرك المرء حقا المعنى الحقيقي ل «وجوده». ومن العبث أن توجه إلى كيركجورد في هذا الصدد تهمة النزعة المرضية؛ فإن رده الوحيد هو أن يهز كتفيه غير عابئ ويقول: «ولو!» فهو لا يحاول إثبات نقطة ما، وإنما يحاول التعبير عن موقف يعتقد أن له أعظم الأهمية بالنسبة إلى الشيء الوحيد الذي يستحق الاهتمام، وهو الخلاص الفردي.
وينبغي أن نشير في هذا الصدد إلى أن ولوع كيركجورد بالحياة الشاذة للوعي - وهو بهذه المناسبة ولوع يشاركه إياه فيلسوف أمريكي «سليم العقل» إلى أبعد حد، هو وليم جيمس - هو أيضا من الصفات المميزة لعدد من كبار الروائيين والشعراء في القرنين التاسع عشر والعشرين. والواقع أن كل من تلمس طريقه في عالم روايات دستويفسكي الغريب المحموم، أو فتنته ونفرته في آن واحد تلك الروايات الميتافيزيقية التي كتبها فرانتس كافكا،
2
يكون قد أعد نفسه أفضل إعداد أدبي ممكن لفهم مؤلفات لكير كجورد مثل؛ «مرض الموت»
Sickness unto Death
و«تصور القلق»
The Concept of Dread . ومع ذلك فإن اهتمام كيركجورد، ب «العقلية المتأزمة» ليس أدبيا أو نفسيا، وإنما هو اهتمام ميتافيزيقي وديني؛ إذ إنه يرى أن الوسيلة الوحيدة إلى معرفة ما يعنيه وجود المرء أو عدم وجوده إنما هي قضاء ليال حالكة للنفس كهذه.
على أن لكلمة «ما يعنيه» في الجملة الأخيرة دلالة مزدوجة؛ فهي قد توحي، إذا قرأتها على نحو ما، بأن كيركجورد يهتم أساسا بالدفاع عن نظرية معينة بشأن معنى «الوجود
existence » ومعرفته، وهي نظرية لا تختلف كثيرا عن نظرية كانت. غير أن ثمة طريقة أخرى لفهم كلمة «ما يعنيه» في هذا الصدد، طريقة أقرب في اعتقادي إلى اهتمام كيركجورد الأساسي من حيث هو فيلسوف، وتبعا لهذه الطريقة يكون هدفه الأساسي هو القول إن المرء لا يدرك مغزى وجوده الخاص إلا في حالات الأزمة الانفعالية العنيفة، عندما يواجه خطر انعدامه، لا من حيث إن هذا الانعدام مجرد إمكانية، بل من حيث هو حقيقة واقعة. وعندئذ فقط يقرر المرء أخيرا أن يعيش أو يموت، أن يكون أو لا يكون وبالاختصار، فإن ما يهم كيركجورد هو دلالة الحياة، أكثر من كونه معنى «الوجود»، وإذا كانت لمذهبه نتائج أنتولوجية أيضا، فإن هذه تكون نوعا من الأنتولوجيا ينتهي آخر الأمر إلى موقف عملي لا نظري. وعندما تصل الفلسفة إلى هذه النقطة، تكون قد انتقلت إلى أقصى طرف بعيد عن العلم، ولا تعود أسئلتها متعلقة على الإطلاق بمعرفة ما هو موجود، بأي معنى معتاد لهذه العبارة.
والواقع أن نفور كيركجورد من اللاهوت والميتافيزيقا العقليين بلغ حدا قد يجعل البعض يعتقدون أنه ينكر فعلا قدرة العقل والفلسفة ذاتها. كما ظلت تفهم منذ عهد سقراط، على حل أية مشكلة روحية أساسية للتجربة البشرية. وقد يبدو من وجهة النظر هذه أن كيركجورد ينكر فعلا مجرد إمكان التفلسف. بل إن المرء قد يستنتج من ذلك أنه قد وصل إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها الوضعيون أنفسهم، وإن يكن قد سلك طريقا مخالفا تماما؛ فكلا الفريقين يأتينا بفلسفة ترمي إلى القضاء على كل فلسفة.
ومع ذلك فإن كيركجورد، كالوضعيين، هو فيلسوف؛ ذلك لأن نقد العقل، كما بين كانت ذاته، هو عمل فلسفي لا غناء عنه، مهما كانت نتائجه. والواقع أن محاربة كيركجورد للعقلية، إذا ما نظر إليها من زاوية معينة، إنما هي صورة متطرفة لرد الفعل الرومانتيكي المستمر على المعقولية. كذلك يمكن النظر إليها على أنها مظهر متأخر لتراث إيماني مضاد للعقل، ظهر منذ القدم في اللاهوت المسيحية، وتنتمي إليه أسماء لامعة كأسماء «ترتوليان
Tertulian »
3
والقديس أوغسطين
4
وباسكال؛
5
فجميع هؤلاء الكتاب يرون أن أهمية الحياة الدينية ليست في قدرتها على تقديم إجابات عن الأسئلة التي قد يظل العالم الدائب يوجهها خلال بحثه لأسباب الظواهر الطبيعية، وإنما هي تنحصر في نوع من الالتزامات أو العهود الإيمانية فوق العقلية، تصدر استجابة لشكوك من نوع مخالف تماما. إذ إن كيركجورد، شأنه شأن جميع الإيمانيين، يرى أن الأسئلة الدينية الأساسية لا تقبل إجابات عقلية. ولكن لا شك في أن هذا راجع إلى أن الأسئلة الدينية لا تثار نتيجة لشيء يمكن أن يسمى رغبة في اكتساب المعلومات، بأي معنى معتاد لهذه العبارة. فليس ما تستهدفه هو الفهم، وإنما هي تستهدف شيئا يتجاوز الفهم؛ أعني الخلاص. وليس للخلاص من سبيل إلا العهد الإيماني.
ويكشف كيركجورد عن موقعه التاريخي على نحو آخر، حين يستخدم فكرة «التطور
development ». على أن هدفه ليس وضع قوانين للتطور التاريخي، كما فعل هيجل وماركس، وإنما كان مهتما بما يمكن تسميته «بتطور أشكال التقدم الروحي». وفي رأيه أن لهذا التطور مراحل ثلاث، على نحو قد يذكرنا بأوجست كونت، ولكن بينما نظر كونت إلى قانونه الخاص بالمراحل الثلاث على أنه ينطبق على التطور العقلي للفرد والجنس، فإن فكرة كيركجورد لا تتعلق إلا بالتطور الروحي للنفس البشرية من الوعي الحسي
aesthetic
إلى الأخلاقي، ثم إلى الديني. وقد يوحي هذا، لأول وهلة، بأنه بينما ينظر كونت إلى رجل العلم على أنه أعلى مرحلة للتطور البشري، فإن كيركجورد يرى أن رجل الدين يمثل أعلى المراحل. غير أن المظاهر هنا خداعة إلى حد ما، والمقارنة ذاتها مضللة إلى أبعد حد؛ فكونت وكيركجورد لم يكونا في الواقع يتحدثان عن التقدم من منظور واحد في نظريتهما عن المراحل الثلاث. ويتضح ذلك إذا تذكرنا أن كونت لا يوحد بين اللاهوت والدين، وأنه ينظر إلى العالم الكامل على أنه ملتزم أيضا بالعقيدة الوضعية للبشرية. وبالاختصار، فإن كونت لا يرى تعارضا بين العلم والدين، وإنما التعارض في رأيه يقوم بين الطريقة اللاهوتية لتصور عالم الواقع والتفكير فيه. أما كيركجورد فلا يتحدث عن التفكير العلمي بوصفه واحدا من هذه المراحل. والتطور الذي يصفه ليس تقدما من العلم إلى الدين، وإنما من الفن
6
والأخلاق إلى الدين. وبالاختصار فكيركجورد لا يهتم بذلك النوع من التطور العقلي الذي يصفه كونت في نظرية المراحل الثلاث، وإنما يهتم بمسائل القيمة ومشكلتي معرفة الذات والعلاء على الذات.
وليس هدفي هنا أن ألمح إلى أن من السهل التوفيق بين وضعية كونت ووجودية كيركجورد، وإنما أقول إن التقابل بينهما لا يمكن أن يوصف عن حق بأنه التقابل بين العلم والدين؛ فكيركجورد لم يكن يدخل مع العلم في منازعات شديدة، طالما أن هذا يظل ملتزما مكانه بوصفه نظاما ونسقا فكريا، كما أن كونت لم يدخل مع الدين في منازعات، طالما أنه يترك مجال المعرفة البشرية للعلم. وفضلا عن ذلك، فإن اشتراكهما في معارضة اللاهوت والميتافيزيقا العقليتين، وفي الاعتقاد بأن مسائل الوجود لا يمكن أن تحل بالعقل وحده، يكشف عن تقارب تاريخي عميق يحسن بالوضعيين والوجوديين المحدثين أن يتدبروا أمره ؛ فقد يساعد الاعتراف بهذا التقارب، مع كل ما بينهما من اختلاف في الهدف المنهجي، على تضييق الثغرة التي تبدو سحيقة بين الفلسفة التحليلية المعاصرة في إنجلترا والولايات المتحدة وبين الميتافيزيقا الوجودية في فرنسا وألمانيا.
ولم ينظر كيركجورد إلى تقدم الإنسان الروحي على أنه مظهر ضروري للتطور التاريخي الذاتي للروح المطلقة، كما فعل هيجل، بل رأى فيه تطورا شخصيا حرا تماما، يجوز للمرء أن يمر به أو لا يمر، حسبما يشاء. فنظرة هيجل إلى الحرية باطلة تماما، من وجهة نظر كيركجورد؛ إذ ينبغي على كل شخص في رأيه أن يقرر لنفسه إن كان سيرتقي من مجال التأمل الحسي
aesthetic
إلى مجال المسئولية الأخلاقية والفعل الأخلاقي، ثم يرقى من هذا المجال الأخير إلى مرتبة الإيمان الديني. غير أن ما يدعو إليه كيركجورد، كما أفهمه، ليس تصوفا؛ فمرحلة الحياة الدينية التي يؤكدها ليست اتحادا صوفيا بالله أو تأملا صوفيا له، وإنما هي إيمان وعقيدة إيجابية. فالله عنده يظل عاليا تماما، وهو يعز على الحدس مثلما يعز على الفهم النظري أو العقل. وعلى هذا النحو يتبدى لنا كيركجورد سائرا في الطريق الرئيسي للبروتستانتية اللوثرية. وعلى هذا النحو أيضا يتبدى لنا ابنا بارا لعصر الأيديولوجية، الذي لم يكن عصر أمل، وإنما عصر قرار وتأكيد وإيمان.
ولنختم حديثنا بهذه الكلمة الأخيرة: فكيركجورد، مثل نيتشه، ينكر أية إمكانية للحل الجماعي أو الاجتماعي للمشاكل الروحية للحياة البشرية؛ ف «الطريق» الذي يدعو إليه طريق منعزل، متفرد، ينبغي أن يختاره كل إنسان ويسير فيه بنفسه. وهو أيضا يرفض المثل الأعلى الإنساني النفعي للخير المشترك الذي يمكن تحقيقه إلى حد ما بالبحث العقلي والعمل الاجتماعي المشترك، وفي هذا يشترك مع نيتشه، وإن يكن الهدف مختلفا إلى حد ما. وإنما ينحصر الفرق بينهما في أن كيركجورد قد فقد تماما تلك الثقة التي لم يفقدها نيتشه مثله، في المثل الأعلى لمملكة أرضية يتحقق فيها التطور الذاتي للإنسان في هذا العالم؛ فهو يدعو الناس من وجهة نظره الخاصة، إلى الرجوع إلى الإيمان المفقود بإله آبائهم ، غير أن هذا إيمان لا شأن له، من حيث مقصده على الأقل، بالمسيحية التاريخية وبكنائسها، البروتستانتية منها والكاثوليكية. ولكن ما هو «معنى» ذلك بالفعل؟
إن المختارات الآتية مأخوذة من كتاب ربما كان أهم مؤلفات كيركجورد الفلسفية، وهو قطعا أكثرها اتساقا، وأعني به «حاشية ختامية غير علمية
Concluding Unscientific
».
7 ⋆
فالنص الأول مأخوذ من الفصل الثاني. وعنوانه: «الحقيقة الذاتية، الباطنية، الحقيقة هي الذاتية». والنص الثاني من الفصل الثالث، وعنوانه: «الذاتية الحقيقية أو الأخلاقية، المفكر الذاتي». «لو تمكن فرد موجود من تجاوز ذاته حقا، لكانت الحقيقة بالنسبة إليه شيئا نهائيا تاما، ولكن أين هي النقطة التي يكون فيها خارجا عن ذاته؟ إن عبارة «أنا هو أنا
I am I »، هي نقطة رياضية لا وجود لها، ومن ثم فلا شيء يحول بين كل شخص وبين اتخاذ وجهة النظر هذه؛ فليس ثمة شيء يحول دون ذلك. فالفرد الخاص لا يستطيع إلا مؤقتا أن يدرك وجوديا وحدة اللامتناهي والمتناهي، التي تتجاوز هذا الوجود. وهذه الوحدة تتحقق في لحظة الانفعال
passion . ولقد فعلت الفلسفة الحديثة كل ما في وسعها لمحاولة مساعدة الفرد على تجاوز ذاته موضوعيا، وهي مهمة مستحيلة تماما؛ فالوجود يمارس تأثيره المقيد، ولو لم يكن فلاسفة اليوم قد أصبحوا مجرد ملفقين في خدمة تفكير شاذ والاهتمام به، لأدركوا منذ عهد بعيد أن الانتحار هو التفسير العملي الوحيد المحتمل لهذه المحاولة. غير أن الفلسفة الحديثة الملفقة تنظر إلى الانفعال بازدراء، ومع ذلك فالانفعال قمة الوجود بالنسبة إلى فرد موجود، ونحن جميعا أفراد موجودون؛ ففي الانفعال تصبح الذات الموجودة لا نهائية في أزلية التمثل الخيالي، ومع ذلك تكون هذه الذات نفسها بأوضح معاني الكلمة في الآن ذاته. أما «أنا هو أنا» الخيالية، فليست هوية بين اللامتناهي والمتناهي؛ إذ ليس هذا ولا ذاك حقيقيا، إنه لقاء خيالي في السحب، وتعانق غير مثمر، كما أن علاقة الذات الفردية بهذا السراب لا توضح أبدا.
إن كل معرفة أساسية تتعلق بالوجود، أو بعبارة أخرى إن كل معرفة، لها علاقة أساسية بالوجود هي معرفة أساسية. وكل معرفة لا تربط ذاتها داخليا بالوجود، في انعكاس الحياة الباطنة، هي من حيث الماهية، معرفة عرضية، ودرجاتها ونطاقها لا قيمة لهما من حيث الماهية. وكون المعرفة الأساسية ترتبط بالوجود ارتباطا أساسيا، لا يعني الوحدة المشار إليها من قبل، التي يفترضها التفكير المجرد بين الفكر والوجود، كما أنها لا تعني، موضوعيا، أن المعرفة تطابق شيئا موجودا بوصفه موضوعا لها. وإنما تعني أن للمعرفة علاقة بالعارف، الذي هو أساسا فرد موجود، وأن كل معرفة أساسية، لهذا السبب ترتبط ارتباطا أساسيا بالوجود؛ فالمعرفة الأخلاقية، والمعرفة الأخلاقية الدينية، هي وحدها التي ترتبط ارتباطا أساسيا بوجود العارف.
والتوسط
mediation
سراب، مثل «أنا هو أنا»؛ فمن وجهة النظرة المجردة يكون كل شي موجودا، ولا ينتقل شيء إلى الوجود. وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون للتوسط مكان في التفكير المجرد؛ لأنه يفترض الحركة. حقا إن المعرفة الموضوعية قد تتخذ من الوجود موضوعا لها، ولكن لما كانت الذات العارفة فردا موجودا، وسائرا في عملية الصيرورة نظرا إلى كونه موجودا؛ فعلى الفلسفة أن توضح أولا كيف ترتبط ذات خاصة موجودة بمعرفة للتوسط، وعليها أن توضح ما تكونه هذه الذات في هذه اللحظة، إن لم تكن تكاد تكون شاردة. وأين هي، إن لم تكن في القمر؟ إن هناك من يتحدث على الدوام، ويكرر الحديث، عن التوسط. فهل التوسط إذن إنسان، كما ظن، بيتر ديكن
Deacon «أن لفظ مطبوع
Imprimatur » إنسان؟ وكيف يتحول الكائن البشري إلى شيء من هذا النوع؟ هل هذا الشرف، وهذا الموضوع الفلسفي العظيم، ثمرة دراسة، أم إن الحاكم يعينه، كما هي الحال في منصب إمام الجامع أو حارس القبور؟ جرب أن توجه أسئلة بسيطة كهذه الأسئلة التي يوجهها إنسان عادي يسره أن يصبح «توسطا» إذا أمكن أن يتم ذلك على نحو مشروع حلال، لا بطريقة «واحد اتنين جلا جلا»، أو بنسيان أنه هو ذاته كائن بشري موجود، ووجوده بالتالي أساسي بالنسبة إليه، ووجوده الأخلاقي الديني هو غاية ما يصبو إليه. إن الفيلسوف النظري قد يجد أن من فساد الذوق توجيه أسئلة كهذه . غير أن من المهم ألا يوجه النزاع في الاتجاه الخاطئ، وبالتالي ألا نبدأ بطريقة موضوعية شاذة لنناقش الأسباب المؤدية إلى الاعتراف بالتوسط، والأسباب المؤدية إلى إنكاره، وإنما أن نتمسك بما يعنيه كون المرء كائنا بشريا.
وسأوضح الآن، محاولا إظهار الفرق بين طريقة التفكير الموضوعي وطريقة التفكير الذاتي، كيف يشق التفكير الذاتي طريقه داخليا إلى العالم الباطن. إن باطنية الذات الموجودة تبلغ قمتها في الانفعال، والحقيقة المناظرة للانفعال في الذات تتحول إلى امتناع منطقي. وكون الحقيقة تتحول إلى امتناع منطقي هو أمر متأصل في كونها ذات صلة بذات موجودة. وهكذا فإن كل طرف هنا يناظر الآخر، فإذا نسي المرء أنه ذات موجودة، فإن انفعاله يضيع ولا تعود الحقيقة امتناعا منطقيا، وتصبح الذات العارفة كيانا خياليا أكثر من كونها كائنا بشريا، وتغدو الحقيقة موضوعا خياليا لمعرفة هذا الكائن الخيالي.
فعندما تثار مسألة الحقيقة على نحو موضوعي، يتوجه التفكير موضوعيا إلى الحقيقة، بوصفها موضوعا يرتبط به العارف. غير أن التفكير لا يتركز على العلاقة، وإنما على مسألة كون الحقيقة هي ما يرتبط به العارف. فإذا كان الموضوع الذي يرتبط به هو الحقيقة فحسب، فعندئذ تعد الذات مالكة للحقيقة. أما عندما تثار مسألة الحقيقة ذاتيا، فإن التفكير يوجه ذاتيا إلى طبيعة علاقة الفرد، فإذا كانت طريقة هذه العلاقة هي الحقيقة، فإن الفرد يعد مالكا للحقيقة حتى لو كان في ذلك مرتبطا باللاحقيقة.
8 ⋆
ولنضرب لذلك مثلا بمعرفة الله؛ فمن الناحية الموضوعية، يوجه التفكير إلى مشكلة كون هذا الموضوع هو الإله الحقيقي، أما من الناحية الذاتية، فإنه يوجه إلى مسألة كون الفرد متصلا بشيء على نحو يجعل اتصاله هذا اتصالا بإله في واقع الأمر؛ ففي أي جانب إذن توجد الحقيقة؟ ألا يجوز لنا أن نلجأ إلى الوساطة، فنقول إنها لا توجد في هذا الجانب ولا ذاك، وإنما في وسط بين الاثنين؟ هذا كلام رائع، بشرط أن نتمكن من إيضاح كيف يستطيع الفرد الموجود أن يكون في حالة توسط؛ فلكي يكون أي شيء في حاله توسط لا بد أن يكون منتهيا، على حين أن الفرد الموجود في حالة صيرورة. وكما أن الفرد الموجود لا يستطيع أن يكون في مكانين في آن واحد، فكذلك لا يستطيع أن يكون هوية بين ذات وموضوع. وعندما يكون أقرب ما يمكن إلى الوجود في مكانين في آن واحد، يكون في حالة انفعال غير أن الانفعال وقتي، والانفعال كذلك أرفع تعبير عن الذاتية.
وهكذا فإن الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الموضوعي، يسير في جميع مراحل عملية التقريب التي يكون هدفه فيها الكشف عن الله بطريقة موضوعية. غير أن هذا مستحيل تماما؛ لأن الله ذات، ومن ثم لا يوجد إلا بالنسبة إلى الذاتية في حياتها الباطنة. أما الفرد الموجود الذي يختار اتباع الطريق الذاتي، فإنه يدرك على الفور كل الصعوبة الديالكتيكية التي ينطوي عليها الاضطرار إلى استغراق وقت ما، وربما وقت طويل، من أجل الاهتداء إلى الله موضوعيا، وهو يحس بهذه الصعوبة الديالكتيكية بكل ما تبعثه من ألم؛ لأن كل لحظة لا يصل فيها إلى الله، إنما هي لحظة ضائعة.
9 ⋆
في هذه اللحظة بعينها يكون قد وصل إلى الله، لا بفضل أي تأمل موضوعي، وإنما بفضل الانفعال اللانهائي لعالمه الباطن. أما الباحث الموضوعي فلا تحيره تلك الصعوبات الديالكتيكية التي ينطوي عليها تخصيص فترة بحث كاملة للاهتداء إلى الله؛ إذ إن الباحث قد يموت غدا، وإذا عاش فلن يكاد يستطيع أن ينظر إلى الله على أنه شيء يؤخذ إذا تبين أنه مريح؛ إذ إن الله ليس إلا ما يسعى إليه المرء بأي ثمن، وهذا هو ما يكون في فهم الانفعال العلاقة الباطنة الحقيقية بالله.
في هذه المرحلة العظيمة الصعوبة من الوجهة الديالكتيكية، ينحرف الطريق بكل من يعرف معنى التفكير، والتفكير وجوديا، وهو أمر مختلف تماما عن الجلوس إلى منضدة والكتابة عما لم يفعله المرء قط، ومختلف تماما عن الدعوة إلى «الشك في كل شيء
de omnibus dubitandum ، والتصرف وجوديا بطريقة فيها من التصديق الساذج ما لدى أكثر الناس تقيدا بعالم الحس. ها هنا ينحرف الطريق، ويتضح التغير في أنه على حين أن المعرفة الموضوعية تسير بتؤدة في طريق «التقريب» الطويل، دون أن يعوقها اندفاع الانفعال، فإن المعرفة الذاتية تعد كل إبطاء خطرا مميتا، وترى أن القرار ذو أهمية عظمى، وملح إلحاحا شديدا إلى حد يبدو معه كأن الفرصة قد فاتت بالفعل.
فإذا كان علينا أن نواجه مشكلة تحديد الجانب الذي تكون فيه حقيقة أعظم، وهل هو جانب من يلتمس الإله الحق موضوعيا، ويتعقب الحقيقة التقريبية لفكرة الله، أم جانب من يتملكه انفعال لا نهائي بحاجته إلى الله، فيشعر باهتمام لا نهائي بعلاقته بالله في الحقيقة (إذ إن كون المرء في كلا الجانبين معا بقدر متساو، هو كما لاحظنا من قبل مستحيل على فرد موجود، وما هو إلا الخداع البراق لعبارة أنا، هو أنا التقليدي). أما هذا فسؤال لا يمكن أن يشك في الإجابة من لم يؤد العلم إلى تثبيط عزيمته. فإذا ما توجه شخص يعيش وسط العالم المسيحي إلى بيت الله الحقيقي، ولديه في معرفته فكرة صحيحة عن الله، وصلى، ولكنه صلى بروح زائغة، وإذا ما صلى شخص يعيش في مجتمع وثني بكل انفعال اللامتناهي، وإن تكن عيناه مرتكزتين على صورة وثن؛ ففي أيهما تكون الحقيقة أعظم؟ إن أحدهما يصلي حقيقة لله وإن يكن يعبد وثنا، والآخر يصلي باطلا لله الحقيقي، ومن ثم فهو الذي يعبد الوثن. •••
إن الاهتمام الموضوعي ينصب على «ما» يقال، والاهتمام الذاتي ينصب على «كيف» يقال هذا. وهذا التمييز يسري حتى في العالم الحسي، ويجد تعبيرا محددا عنه في المبدأ القائل إن ما هو صحيح في ذاته قد يغدو باطلا إذا صدر عن هذا الشخص أو ذاك. وفي عصرنا هذا، تغدو لهذا التمييز أهمية خاصة إذ إننا إذا شئنا التعبير في جملة واحدة عن الفرق بين العصور القديمة وعصرنا، كان علينا بلا شك أن نقول: «في العصور القديمة كان فرد هنا وهناك هو وحده الذي يعرف الحقيقة، أما الآن فالكل يعرفونها، إلا أن امتلاكها في باطن النفس يتناسب عكسيا مع مدى انتشارها.»
10 ⋆
فمن الوجهة الحسية تكون الطريقة الكوميدية هي أفضل طريقة لتصور التناقض الذي ينطوي عليه تحول الحقيقة إلى بطلان إذا ما صدرت عن هذا الشخص أو ذاك، أما في المجال الأخلاقي الديني، فإن الاهتمام ينصب ثانية على «الكيف». ولكن ينبغي ألا يفهم هذا على أنه يشير إلى المسلك الخارجي أو التعبير أو ما شابه ذلك، وإنما هو يشير إلى العلاقة القائمة بين الفرد الموجود، في وجوده الخاص، وبين محتوى قوله؛ فالاهتمام لا ينصب من الوجهة الموضوعية إلا على محتوى الفكر، بينما هو ينصب من الوجهة الذاتية على الصدى الباطن. وهذا «الكيف» الباطن يصبح، عندما يبلغ أقصى مداه، الشوق إلى اللامتناهي، والشوق إلى اللامتناهي هو الحقيقة، غير أن الشوق إلى اللامتناهي هو بعينه الذاتية، وبهذا تصبح الذاتية هي الحقيقة. فمن الوجهة الموضوعية لا يوجد عزم لا متناه، ومن هنا فمن الملائم موضوعيا القضاء على الفرق بين الخير والشر، ومعه مبدأ التناقض، وكذلك الفارق اللامتناهي بين الصحيح والباطن، أما هذا العزم فلا وجود له إلا في الذاتية؛ ولهذا كان البحث عن الموضوعية وقوعا في الخطأ؛ فالشوق إلى اللامتناهي، لا محتواه، هو العامل الحاسم؛ إذ إن محتواه هو ذاته تماما. وعلى هذا النحو تكون الذاتية، و«الكيف» الذاتي، هي قوام الحقيقة.
غير أن «الكيف» الذي يرجع تأكيده ذاتيا على هذا النحو إلى أن الذات فرد موجود، يخضع أيضا لديالكتيك فيما يتعلق بالزمان؛ ففي لحظة القرار المنفعلة، عندما ينحرف الطريق بعيدا عن المعرفة الموضوعية يبدو كأن القرار اللانهائي قد تحقق على هذا النحو، ولكن الفرد الموجود، في الوقت ذاته، يجد نفسه في عالم الزمان، ويتحول «الكيف» الذاتي، إلى «توق»
striving ، وهو «توق» يتلقى قوته الدافعة وتجدده الدائم من الشوق الحاسم إلى اللامتناهي، ولكنه يظل مع ذلك «توقا».
وعندما تصبح الذاتية هي الحقيقة، ينبغي أن يتضمن تحديدها في شكل تصورات تعبيرا عن تضادها مع الموضوعية، وعلامة على المفرق الذي ينحرف فيه الطريق، ويكون هذا التعبير في الآن ذاته دليلا على توتر الباطنية الذاتية. وها هو ذا تعريف الحقيقة الذي نعنيه: إن اللايقين الموضوعي، الذي يتمسك به في عملية تملك لأكثر المشاعر الباطنة انفعالا، هو الحقيقة، وهو أسمى حقيقة يمكن أن يصل إليها الفرد الموجود؛ ففي النقطة التي ينحرف فيها الطريق (ومن المستحيل تحديد هذه النقطة موضوعيا؛ إذ إن المسألة متعلقة بالذاتية) تعطل المعرفة الموضوعية، فلا يكون لدى الذات، من الوجهة الموضوعية، سوى اللايقين، غير أن هذا هو بعينه ما يزيد توتر هذا الانفعال اللانهائي الذي يكون باطنيته؛ فالحقيقة هي بعينها تلك المخاطرة التي تختار اللايقين الموضوعي بانفعال الشوق إلى اللامتناهي. فأنا أتأمل نظام الطبيعة آملا الاهتداء إلى الله، فأرى القدرة على كل شيء والحكمة الكاملة، ولكني أرى أيضا أشياء أخرى كثيرة تعكر ذهني وتثير قلقي. ومحصل هذا كله هو اللايقين الموضوعي، غير أن هذا هو بعينه السبب الذي تصبح الباطنية من أجله بهذا القدر من الشدة؛ إذ إنها تضم هذا اللايقين الموضوعي بكل انفعالها المشتاق إلى اللامتناهي. أما في حالة القضية الرياضية فإن الموضوعية تكون موجودة، غير أن حقيقة مثل هذه القضية تغدو لهذا السبب حقيقة غير مكترثة
indifferent .
ولكن التعريف السابق للحقيقة هو تعبير معادل عن الإيمان؛ فلا إيمان بلا مخاطرة، وما الإيمان إلا التناقض بين الشوق اللامتناهي في باطنية الفرد وبين اللايقين، ولو كنت قادرا على إدراك الله موضوعيا، لما احتجت إلى الإيمان، ولكن لا بد لي من الإيمان لأنني بالفعل لا أستطيع إدراكه موضوعيا. وإذا شئت أن أحتفظ بإيماني فعلي أن أحرص دائما على التمسك باللايقين الموضوعي، حتى أظل في المياه العميقة، التي يزيد عمقها على سبعين ألف فرسخ، محتفظا بإيماني. •••
القسم الرابع: المفكر الذاتي؛ رسالته، وصورته، وأسلوبه. إذا ما استطاعت رحلة في عالم الفكر الخالص أن تقرر إن كان الشخص مفكرا أم لا، فإن المفكر الذاتي يستبعد آليا من الحساب. ولكن في استبعاده هذا استبعادا لكل مشكلة وجودية أيضا بحيث تطلق النتائج الأليمة لهذا صيحات تحذير خافتة تمتزج بصيحات التهليل التي استقبل بها الفكر المجرد الحديث «المذهب».
11
وهناك مثل قديم يقول إن البلاغة والتأثير
tentatio
والتأمل ، تصنع عالم اللاهوت. وبالمثل يحتاج المفكر الذاتي إلى الخيال والشعور، والديالكتيك في الباطنية الوجودية، مقترنة بالانفعال. ولكن أهم ما يحتاج إليه هو الانفعال؛ إذ يستحيل التفكير عن الوجود
existence ، وفي الوجود دون انفعال؛ فالوجود ينطوي على تناقض هائل، لا يتعين على المفكر الذاتي أن يجرد نفسه منه، وإن يكن يستطيع ذلك إذا شاء، وإنما تكون مهمته هي البقاء فيه. أما بالنسبة إلى ديالكتيك التاريخ العالمي، فإن الأفراد يتلاشون في الإنسانية؛ فأنت، وأنا، وأي فرد ذو وجود خاص، لا يمكن أن تظهر في أعين هذا الديالكتيك حتى لو اخترعت أحدث وأقوى أجهزة التكبير.
إن المفكر الذاتي ديالكتيكي يختص بما هو وجودي، ولديه انفعال الفكر اللازم للتمسك بالانفصال الكيفي. أما إذا طبق هذا الانفصال الكيفي على فراغ خاو، أو طبق على الفرد على نحو تجريدي محض، فإن الخطر هنا هي أن المرء قد يقول شيئا ذا أهمية هائلة، ويكون مصيبا فيما يقول، ولكنه مع ذلك - ويا للسخرية! - لا يقول شيئا على الإطلاق. ومن هنا فإن من الظواهر الجديرة بالملاحظة نفسانيا، أن الانفصال المطلق قد يستخدم بمنتهى الدهاء، لا لشيء إلا من أجل التضليل، فلو عوقبت كل جريمة بالإعدام، فلن تعود هناك آخر الأمر جريمة يعاقب عليها مطلقا. وكذلك الحال في الانفصال التام؛ فلو طبق بطريقة تجريدية، لأصبح نصا أخرس لا يمكن النطق به، أو إذا نطق به فلن يقول شيئا. أما المفكر الذاتي فيجد الانفصال المطلق في متناول يده، ومن ثم فهو يحرص عليه بانفعال المفكر، بوصفه لحظة وجودية أساسية، ولكنه يستبقيه بوصفه ملجأ أخيرا حاسما، حتى يحول دون رد كل شيء إلى مجرد فروق كمية، وهو يحتفظ به على سبيل الاحتياط، ولكن لا يطبقه على نحو يجعله يلجأ إليه بطريقة مجردة لكبت الوجود. ومن هنا فإن المفكر الذاتي يضيف إلى عتاده الانفعال الحسي والأخلاقي، الذي يضفيه عليه العينية اللازمة.
إن جميع المشاكل الوجودية مشاكل انفعالية؛ إذ إن الوجود عندها يتخلله الفكر
reflection ، يولد الانفعال. والتفكير في المشاكل الوجودية على نحو يترك فيه الانفعال جانبا، يعادل عدم التفكير فيها على الإطلاق؛ إذ يغفل أهم ما في الأمر، وهو أن الفكر ذاته موجود. غير أن المفكر الذاتي ليس شاعرا، وإن يكن من الجائز أن يكون شاعرا أيضا، وهو ليس باحثا أخلاقيا، وإن يكن من الجائز أن يكون ديالكتيكيا أيضا إنه فرد موجود أساسا، في حين أن وجود الشاعر ليس أساسيا بالنسبة إلى القصيدة، وكذلك وجود الباحث الأخلاقي بالنسبة إلى مذهبه، ووجود الديالكتيكي بالنسبة إلى فكره. إن المفكر الذاتي ليس رجل علم، وإنما هو فنان. والوجود
Existing
فن. والمفكر الذاتي حسي إلى الحد الذي يجعل لحياته محتوى حسيا، وأخلاقي إلى الحد الذي يكفي لتنظيمها، وديالكتيكي إلى الحد الذي يكفي لتفسيرها فكريا.
إن مهمة المفكر الذاتي هي فهم ذاته في وجوده؛ فالتفكير المجرد خليق بالتحدث عن الوجود، وبقوته الدافعة الكامنة، وإن يكن بتجريده من الوجود، ومن حالة الوجود يقضي على الصعوبة والتناقض. أما المفكر الذاتي فهو فرد موجود ومفكر في آن واحد، وهو لا يجرد من التناقض ومن الوجود، وإنما يعيش فيهما وهو يفكر في نفس الوقت؛ ولذلك فعليه في كل تفكير له أن يذكر أنه فرد موجود. ولهذا السبب كان لديه دائما ما يكفي للتفكير فيه، وسرعان ما يطرح جانبا الإنسانية من حيث هي تصور مجرد، وكذلك تاريخ العالم؛ فحتى هذه البقاع الشاسعة، كالصين وفارس، إلخ، ليست شيئا بالنسبة إلى الوحش الجائع الذي تكونه العملية التاريخية، وسرعان ما يطرح جانبا التصور المجرد للإيمان، غير أن المفكر الذاتي الذي يظل في كل تفكير له ملازما لوجوده، سيجد في إيمانه موضوعا للتفكير لا ينضب معينه، وذلك عندما يحاول تتبع هذا الإيمان في منعطفاته مع كل الأحوال العديدة للحياة. وليس هذا التفكير الذاتي بالأمر الهين على الإطلاق؛ إذ إن التغلغل في الوجود أصعب الأمور عندما يتعين على المفكر أن يظل فيه؛ لأن تلك اللحظة يقتضي أعلى قرار يصدره المرء، ومع ذلك فهي لحظة عابرة في الأعوام السبعين الممكنة للحياة البشرية. •••
وعلى حين أن التفكير المجرد يسعى إلى فهم العيني بطريقة مجردة، فإن المفكر الذاتي على العكس من ذلك، يتعين عليه أن يفهم المجرد عينيا؛ فالفكر المجرد يتحول من الناس العينيين إلى النظر في الإنسان عامة، أما المفكر الذاتي فيسعى إلى فهم التحديد المجرد لكون المرء إنسانا من خلال هذا الكائن البشري الخاص الموجود. •••
وهناك معنى معين يتحدث فيه المفكر الذاتي بطريقة تماثل في تجردها طريقة المفكر المجرد؛ إذ إن الأخير يتحدث عن الإنسان بوجه عام وعن الذاتية بوجه عام، بينما يتحدث الأول عن الإنسان الواحد. غير أن هذا الكائن البشري الواحد كائن بشري موجود، وبذلك لا تكون الصعوبة قد ذللت.
كذلك فإن فهم المرء لذاته في وجوده هو قوام المبدأ المسيحي، سوى أن هذه «الذات» تتلقى عندما تقترن بالوجود تحديدا أكثر ثراء وعمقا بكثير، بل وأصعب من ذلك على الفهم؛ فالمؤمن مفكر ذاتي، والفارق في هذه الحالة، كما أوضحنا من قبل، لا يزيد على الفارق بين الإنسان البسيط والإنسان الحكيم البسيط، وهنا أيضا لا تكون «الذات» هي البشرية عامة، أو الذاتية عامة، التي يغدو فيها كل شيء هينا لأن الصعوبة تزول، وتنقل المهمة بأسرها إلى عالم الفكر المجرد بأشباحه الخيالية. وإن الصعوبة ها هنا لأعظم مما كانت لدى اليونانيين؛ لأن الموقف ينطوي على المزيد من المتناقضات؛ إذ يؤكد الوجود، بطريقة ممتنعة، على أنه هو الخطيئة، وتؤكد الأزلية، بطريقة ممتنعة، على أنها هي الله في الزمان؛ فقوام الصعوبة هو الوجود في مثل هذه المقولات، لا في تخلص الإنسان منها بالفكر المجرد؛ أي بالتفكير على نحو مجرد في صيرورة إلهية أزلية مثلا، وما شابه ذلك، وهي كلها أفكار تظهر بمجرد أن تزال الصعوبة، ونتيجة لذلك فإن وجود المؤمن ما زال أكثر انفعالية من وجود الفيلسوف اليوناني، الذي كان في حاجة إلى درجة كبيرة من الانفعال حتى بالنسبة إلى «عدم اكتراثه
etaraxy »؛ إذ إن الوجود الذي يؤكد بطريقة ممتعة يولد أقصى قدر من الانفعال.
إن في التجريد من الوجود إزالة الصعوبة، والبقاء في الوجود من أجل فهم شيء معين في لحظة ما، وشيء آخر في لحظة أخرى، لا يؤدي بالمرء إلى فهم ذاته. على أن فهم أعظم المتقابلات سويا، وفهم المرء لنفسه موجودا فيها، هو أمر عسير حقا. فليكتف كل امرئ بأن يلاحظ ذاته، ويرقب الطريقة التي يتحدث بها الناس، وسيدرك مدى ندرة الحالات التي تحققت فيها هذه المهمة بنجاح. •••
إن المفكر الذاتي لا يتمتع، رغم كل ما يبذله من جهود مضنية، إلا بثواب هزيل؛ فكلما ازدادت الفكرة الجماعية سيطرة حتى على الذهن العادي، ازدادت صعوبة انتقال المرء إلى أن يصبح كائنا بشريا خاصا موجودا بدلا من أن يفقد ذاته في الجنس الشامل، ويقول «نحن» و«عصرنا» و«القرن التاسع عشر». ونحن لا ننكر أن كون المرء كائنا بشريا خاصا موجودا فحسب، هو شيء ضئيل، ولكن هذا السبب عينه هو الذي يجعل عدم الاستخفاف به أمرا يقتضي استسلاما غير قليل. إذ ما قيمة الفرد وحده؟ إن عصرنا ليعلم حق العلم مبلغ ضآلة قيمته، ولكن ها هنا أيضا تكمن اللاأخلاقية الخاصة لهذا العصر؛ فلكل عصر عيبه المميز له. وأعتقد أن عيب عصرنا ليس في اللذة أو التهالك أو الحسية، وإنما في الاحتقار الانحلالي للإنسان الفرد بطريقة مبنية على نظرة شاملة إلى الوجود؛ فوسط كل ما نشعر به من فخر بما أنجزه العصر والقرن التاسع عشر، تسمع نغمة من الاحتقار المذموم للإنسان الفرد، ووسط كل الشعور بالأهمية الذاتية، الذي يتملك الجيل المعاصر، يتكشف إحساس باليأس من الكائن البشري. وعلى كل شيء أن يرتبط بحركة ما ليكون جزءا منها؛ فالناس مصرون على أن يفقدوا ذواتهم في المجموع الكلي للأشياء، وفي تاريخ العالم، وكأن ثمة سحرا يفتنهم ويخدعهم، ولا أحد يريد أن يكون كائنا بشريا فرديا. وربما كان هذا مصدر المحاولات العديدة التي تبذل للاستمرار في التمسك بهيجل، حتى من أناس توصلوا إلى إدراك الطابع المريب لفلسفته. والمسألة ها هنا إنما هي خوفهم من أنهم لو أصبحوا كائنات بشرية خاصة موجودة، فسوف يختفون دون أن يبقي لهم أثر، بحيث لا تستطيع أن تهتدي إليهم الصحافة اليومية ذاتها، ناهيك بالجرائد الناقدة، فما بالك بالفلاسفة التأمليين الغارقين في تاريخ العالم! إنهم يخشون بوصفهم كائنات بشرية خاصة، أن يطويهم وجود منسي أكثر انعزالا عن وجود الإنسان في الريف؛ ذلك لأن المرء لو تخلف عن ركاب هيجل فلن يستطيع حتى أن يجد من يبعث برسالة إلى عنوانه.
الفصل الثاني عشر
العودة إلى التنوير
إرنست ماخ (1838-1916م)
لم يساهم أي فيلسوف بحثنا، في هذا الكتاب، باستثناء كانت، بأي دور في العلم الفيزيائي، بل إن القليل منهم من كانت له معرفة دقيقة به؛ فاهتمام الفلاسفة بالعلم الطبيعي خلال جزء كبير من القرن التاسع عشر ظل خاملا إلى حد بعيد، على عكس الحال في «عصر العقل».
1
حقا إن التقدم ظل سريعا، غير أن معظم العلماء قد قنعوا بأداء عملهم بدلا من الكلام عنه. ومن أسباب ذلك أن التكيفات الفلسفية الأساسية مع النظرة العلمية الجديدة إلى العالم الطبيعي كانت قد تمت في الفترة السابقة. وفضلا عن ذلك فإن نجاح العلوم الطبيعية في تقديم أوصاف منظمة قابلة للتحقيق، قد بدد أية شكوك باقية بشأن صحة مناهج العلم، وذلك في ميدان الظواهر غير العضوية على الأقل، وإذ تم بالتدريج سريان فيزياء نيوتن في مجرى الحياة الثقافية الأوروبية، فإنه لم تظل هناك بعدئذ نقطة أساسية للخلاف بين العلم الفيزيائي والمجالات الرئيسية التقليدية لاهتمام المجتمع، بل إن الكنيسة، التي كانت دائما مفرطة في ترددها، قد بدأت أخيرا توفق بين أركان إيمانها وبين الصورة العلمية للعالم المادي. وظل ما تبقى من الجدل يدور حول تطبيق مناهج العلم الفيزيائي على مجالات الحياة والعقل والتاريخ.
ومع ذلك فإن الاهتمام الفلسفي بالعلوم الفيزيائية ومناهجها قد بعث من جديد قرب نهاية القرن التاسع عشر. وجاء هذا الاهتمام أول الأمر من العلماء أنفسهم، أكثر مما جاء من الفلاسفة المحترفين. وكان ذلك راجعا في المحل الأول إلى بدء ظهور أفكار أساسية جديدة في مجال الفيزياء والرياضيات، اقتضت قيام علماء الفيزياء والرياضيات بالتفكير أساسيا من جديد في طبيعة علومهم وعلاقة تصورات هذه العلوم بالتجربة (وبعالم الواقع). «فكانت» كان ينظر إلى الهندسة الإقليدية، بطريقة شبه يقينية، على أنها علم المكان الوحيد الشامل الضروري. ولكن لم يعد من الممكن، بعد ظهور الهندسات اللاإقليدية الانقلابية على يد ريمان
Riemann
ولوباتشفكي
Labachavski ، أن ينظر إلى الهندسة الخالصة على أنها علم لحقائق تركيبية أولية تتعلق بالظواهر المكانية المعطاة في التجربة، فما هو إذن موضوع الهندسة، وعلى أي شيء تصدق الهندسات اللابعدية الجديدة، إن كانت تصدق على شيء؟ كذلك أدت تطورات مماثلة في تعقدها وتعمقها، طرأت على النظرية الفيزيائية، إلى ظهور مشاكل تفسيرية مماثلة أمام العلماء والفلاسفة الذين ظلوا يتمسكون بالنظرية القائلة إن الفضيلة الكبرى للمنهج العلمي تنحصر قبل كل شيء في رفضه البات أن يعترف بتعبيرات لا تشير إلى موضوعات تجريبية.
ولقد كانت المشاكل معقدة وعسيرة، ولكن كان لا بد من الاهتداء إلى حل لها من أجل الاحتفاظ بمركز الفيزياء بوصفها علما تجريبيا، ومن أجل الإبقاء على مكانة علم الفيزياء بوصفه أنموذجا للمعرفة البشرية. وكانت الحاجة إلى مثل هذه الحلول أشد إلحاحا في ذلك العصر؛ لأن النظريات التجريبية في المعرفة، تلك النظريات التي ظل المنهج العلمي يرتكن إليها طويلا في تبرير إعادته بأنه هو الوسيلة الوحيدة لنقل التصديق العقلي، كانت هي ذاتها تتعرض لهجوم عنيف من مصادر أخرى؛ ذلك لأن الاضطراب المتزايد في صفوف العلماء أنفسهم قد عاد بالفائدة الجزيلة، ولم يعد بأية خسارة، على الفلاسفة المثاليين وحلفائهم في ميداني التاريخ والنظرية الاجتماعية، بل على علماء اللاهوت والثوريين السياسيين. فإذا كان هذا العلم المحبب إلى الروح الوضعية؛ أي الفيزياء ذاتها، لم يعد ينظر إليه على أنه علم تجريبي محض، فأي شيء إذن يستطيع أن يمنع «العلوم» الأخرى، التي تعترف بأنها غير تجريبية، من الادعاء بأنها تأتينا بنوع من المعرفة «عن العالم الحقيقي؟»
لقد رأى التجريبيون منذ عهد هيوم أن الصفة المميزة للعلم، التي تفرق بينه وبين اللاهوت المتعالي والميتافيزيقا تفرقة قاطعة، هي رفضه لأي تصور لا يمكن تعريفه بعبارات وألفاظ تشير إلى مكونات يمكن إدراكها في التجربة الحسية. ولكنه أصبح من الواضح الآن أن علم الفيزياء، الذي يعد مثلا أعلى للعلوم، يزداد هو ذاته إقبالا على استخدام تصورات لا يبدو أن من الممكن ردها على هذا النحو . ومع ذلك، فأية حجة يمكن أن تقدم في هذه الحالة ضد أولئك الفلاسفة الذين رأوا أن مجرد عدم قابلية أفكار مثل فكرة الله والحرية والخلود للتعريف التجريبي لا تؤلف اعتراضا جديا ضدها؟ وإذا كان علم الفيزياء العظيم يلجأ رغما عنه إلى مفهومات تتجاوز التجربة عندما يحاول تفسير الارتباطات بين ظواهر قابلة للملاحظة فحسب، ألا يكون العلم ذاته قد رضي بطريقة ضمنية عن التصورات اللاهوتية والتفسيرات الميتافيزيقية التي رفضها كونت وأتباعه باسم العلم الوضعي؟ وماذا نقول عن ادعاءات «مل» المتعلقة بفلسفة التجربة، إن كانت الفيزياء ذاتها، لا الرياضيات فحسب، قد أصبحت لا تكترث بمسألة وجود أساس تجريبي لنماذجها التصورية؟
في هذا الجو الحافل بالحيرة والاضطراب، أخذ العالم الفيزيائي والفيلسوف النمسوي «إرنست ماخ» على عاتقه مهمة الدفاع من جديد عن برنامج الوضعية ضد مهاجميها؛ فقد كان ماخ على ثقة من أنه إذا ما أريد الدفاع عن العلم بطريقة متسقة، بوصفه الصورة الوحيدة للتصديق العقلي، فمن الواجب أن يرود العلماء أنفسهم دائما على الامتناع عن استخدام ألفاظ ونظريات لا ترتبط بوقائع التجربة ارتباطا استنباطيا. ولذلك أقترح وصفة غذائية علاجية ثورية كفيلة بإرجاع العلوم الفيزيائية إلى وزنها الذي تستطيع فيه استئناف نشاطها بوصفها علوما تجريبية، وبذلك يزول عن جسم ذلك العلم الرفيع كل ما تراكم عليه من شحم التركيبات النظرية غير القابلة للتحقيق. على أنه لم يقترح ذلك باسم الفلسفة الوضعية، وإنما باسم العلم ذاته؛ فقد تحدث بوصفه عالما فيزيائيا يخاطب علماء فيزيائيين، لا بوصفه مجرد داعية فلسفي.
وفي رأي ماخ أن الهدف الوحيد للعلم هو وصف العلاقات القابلة للملاحظة بين الظواهر والتنبؤ بها. ولكن ما الذي ينبغي علينا أن نقبله بوصفه ظواهر؟ إن إدراكاتنا الحسية اليومية التلقائية تحتوي عناصر غريبة من التفسير الذاتي تتجاوز ما يمكن أن يقال إننا نراه أو نسمعه بالمعنى الدقيق. فمن غير الممكن الاعتماد على ما نسميه عادة ب «الملاحظة» في تقديم تصوير صادق للمعطيات الحسية التي هي أول وآخر كل تعميم وتنبؤ علمي؛ ولذلك كان يتعين على أية نظرية علمية في المعرفة أن تضع نظرية سليمة للظواهر، يحذف منها كل أثر للذاتية. وهكذا اعتقد ماخ؛ إذ لم يعترف ب «عناصر» المعرفة البشرية سوى الإحساسات ذاتها، ولم يتخذ أساسا للإشارة إلا من الألفاظ الدالة على هذه العناصر، إن من الممكن وضع اختبار حاسم للإدراك الصادق وللتمييز المعرفي بين التعبيرات ذات المعنى والتعبيرات غير ذات المعنى. ومع ذلك فقد أدرك أن العلم لا يستطيع المضي في طريقة دون استخدام بعض الألفاظ الأخرى غير الدالة على العناصر الحسية أو مركباتها. مثال ذلك أن العالم لا يستطيع أن يستغني عن «الكلمات الشيئية» أو عن تصورات كالعلة أو العدد. ومن رأي ماخ أن هذه التصورات كلها «تصورات مساعدة»؛ فهي لا تقبل في اللغة العلمية إلا بقدر ما تمكننا من التعبير بدقة واختصار عن تفسيرنا في الظواهر؛ فهذه التصورات أجهزة حاسية، إن جاز هذا التعبير، وليست ألفاظا تنطبق على الظواهر وتشرحها. وإذن فبقدر ما تتيح هذه الألفاظ تنظيم الفروض في إطار منظم، جامع، واضح، للنظرية العلمية، فإن ماخ على استعداد لقبول الأفكار المساعدة في اللغة العلمية، على أن يكون مفهوما بوضوح أن من الواجب ألا يظن أنها تدل على أي شيء ما لم يؤت بتعريفات تبين كيف يمكن ردها دون باق إلى مجموعات من الألفاظ الأخرى التي تشير مباشرة إلى عناصر حسية.
وإذن ففي نظرية المعرفة عند ماخ مبدآن منهجيان؛ أولهما، ويمكن تسميته التجريبية، يقول إن الإحساسات وحدها هي التي تمدنا بالمعطيات أو «المادة» الحقيقية للمعرفة. ويرى ماخ أن لهذا المبدأ نتيجة هامة، هي أن الألفاظ التي ينبغي استخدامها وتطبيقها ليست إلا تلك التي تسير، بطريق مباشر أو من خلال تعريفات، إلى الإحساسات. ومن الممكن أن نطلق على هذه النتيجة اسم «نتيجة المذهب الظاهري».
أما المبدأ الثاني، الذي يمكن تسميته بالمبدأ البرجماتي للاقتصاد في الفكر فيقضي بأن التصورات المساعدة يمكن أن تقبل في اللغة العلمية، ولكن لغرض واحد هو تنظيم الفروض في نسق محكم الترابط. وينبغي أن نعترف بأن هذين المبدأين يولدان نوعا من التوتر في تفكير ماخ. كما أنه لم ينجح في تقديم إيضاح لطبيعة الألفاظ المساعدة يكفل تفسير استخدامها على نحو لا يقضي منا افتراض أنها تشير إلى كيانات غامضة في عالم الواقع. ولقد كان ماخ يحتاج، من أجل إزالة هذا التوتر، وتفسير الوظيفة الرمزية في العلم للألفاظ غير المشيرة إلى موضوعات، إلى فلسفة للغة والمنطق أوسع نطاقا وأبعد غورا مما كان هو ذاته قادرا على الإتيان به. ولم يبدأ الوضعيون وحلفاؤهم البرجماتيون في تعويض هذا النقص إلا في القرن التالي.
ولقد كان ماخ، مثل كونت من قبله، واضع برنامج في المحل الأول؛ فأفكاره كانت كالبذور المولدة لغيرها، وكان لها تأثير بالغ في الفترة التالية لوفاته. غير أنه لم يقدم تحليلات لتصورات مساعدة خاصة توضح بالتفصيل طريقة عمل هذه التصورات في عملية «توفير التجارب».
وفضلا عن ذلك فإن نظريته نفسانية أكثر مما ينبغي، ولكن المطلوب ليس بيانا للقيمة النفسانية لهذه الأفكار، بقدر ما هو تفسير لوظائفنا المنطقية في اللغة. والأمر الذي كان ألزم من كل ما عداه هو تصور أوضح للرياضيات والمنطق ذاتهما. ولكن هذا لا يمكن الإتيان به إلا بعد إتمام تنظيم هذين العلمين وكشف الأسس المنطقية الخالصة للرياضيات. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن إيجاد تفسير صحيح للمعنى اللاإشاري
non-referential
للتصورات المساعدة في العلوم.
ولقد كانت أهداف نظرية المعرفة عند ماخ مضادة للذاتية تماما، وكانت كلها معارضة للمثالية الميتافيزيقية؛ ولهذا السبب كان من الطريف أن نلاحظ أن لينين، أنبغ تلاميذ ماركس، قد هاجم في كتابه «المادية والنقدية التجريبية»
Materialism and Empirio-Criticism
فلسفة ماخ بوصفها أحدث وأدق صورة للمذهب الذاتي وللمثالية، التي ظلت المادية الديالكتيكية تحاربها طوال ما يزيد على نصف قرن. ومع ذلك فللمرء أن يتساءل إن كان لينين قد أدرك تماما طبيعة المذاهب التي هاجمها. لقد كان من الذكاء بحيث رأى أنها تحمل تهديدا أساسيا لأية ميتافيزيقا أو فلسفة للتاريخ تدعي أنها عملية وديالكتيكية ومادية في آن واحد. ولكنه أخطأ إذ تصور أن نظرية الإحساس عند ماخ مجرد شكل دقيق معقد للمثالية الذاتية؛ فماخ لم ينظر على الإطلاق إلى ما أسماه ب «الإحساسات» على أنها كيانات ذهنية لا توجد إلا في الإدراك الحسي أو بوصفها موضوعات لذهن أو أنا ترنسندنتالي، وإنما كانت كل هذه المسائل «الميتافيزيقية» في رأيه لا معنى لها على الإطلاق. والواقع أن تصورات الذهن، والجسم، والمادية، هي ذاتها، إذا ما فهمت فهما صحيحا، ما أطلق عليه الفلاسفة التالون اسم «التركيبات المنطقية»؛ أي إنها قابلة تماما للتحليل إلى ألفاظ أخرى لا تشير إلا إلى مجموعات من الارتباطات بين عناصر التجربة. ومن وجهة النظر هذه يرتد ما يسمى ب «مشكلة الذهن والجسم» إلى مشكلة تحديد الارتباطات الخاصة ذات المرتبة العليا، التي تقوم بين هذه الارتباطات الدنيا، مرتبة الظواهر التي نطلق عليها اسما مختصرا جامعا هو «الظواهر الذهنية» أو «المادية». فليس للفيزياء ولعلم النفس معا إلا موضوع أساسي واحد؛ هو التجربة الحسية. والفرق بينهما ليس إلا فرقا في طرق كل منهما في تصنيف الظواهر، وفي الأنواع الخاصة للارتباطات التي تختص بها كل منهما.
والواقع أن للمسألة موضوع البحث هنا أهمية أساسية لبرنامج وحدة العلم الذي كان يعني الكثير بالنسبة إلى ماخ، كما كان يعني بالنسبة إلى كونت من قبله، فليس هناك، بالنسبة إلى هذا البرنامج، فروق منهجية أساسية بين العلوم الطبيعية وعلوم الحياة والذهن. كما لا تتسم الظواهر التي يعالجها علم الأحياء وعلم النفس بأية خصائص تجعلها في ذاتها غير قابلة للخضوع لمناهج التحقيق المشترك بين الذوات، المستخدمة في العلوم الفيزيائية. فنظرية ماخ في الإحساسات بوصفها العناصر الوحيدة للمعرفة، تتمشى تماما، في مقصدها على الأقل، مع ذلك النوع من المذهب السلوكي أو - كما يسمى أحيانا - المذهب الفيزيائي
الذي لا يعترف بأية كيانات عقلية «خاصة» على الإطلاق. ف «الذهن» في رأيه لا معنى له بمعزل عن متضايفات الإحساس التي يمكن أن يشير إليها، والإحساسات ذاتها كيانات محايدة يمكن أن تتضايف وتتضايف من جديد، على أنحاء لا حصر لها. وليس هناك ما يمنع على الإطلاق، من وجهة نظر ماخ، من أن يكون الإحساس الواحد «ماديا» و«ذهنيا » معا، أو من أن يكون أي إحساس بعينه قابلا من حيث المبدأ لأن يدركه أكثر من شخص واحد.
على أنه لا يمكن القول إن جميع النظريات التجريبية في المعرفة قد أنكرت على هذا النحو القاطع وجود فروق حتمية في المنهج، بين العلوم التي تتناول الموضوعات المادية وتلك التي تختص بالظواهر الذهنية؛ فمن الممكن منطقيا الاعتراف بأن كل معرفة تشير آخر الأمر إلى أجزاء من التجربة، وتظل مسألة كون جميع أنواع التجربة مشتركة بين الناس من حيث المبدأ أم لا، مسألة لم يبت فيها بصفة قاطعة. ولقد كان هناك في الواقع عدد غير قليل من الفلاسفة الذين عدوا أنفسهم تجريبيين، وظلوا مع ذلك يؤكدون أن هناك فئة معينة من المعطيات (يسميها هيوم «بانطباعات الانعكاس») لا يمكن أن تفهم إلا بنوع خاص من الملاحظة، يشار إليها بتعبيرات مختلفة؛ منها «الاستبطان» و«ملاحظة الذات» أو «الوعي بالذات»، ولا شك أن اعترافات كهذه كفيلة بالقضاء على برنامج كبرنامج ماخ؛ إذ إننا ما إن نعترف من حيث المبدأ بأن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى وقائع الانفعال والشعور والذاكرة هي أنواع خاصة معينة من الملاحظة، حتى ينهار المثل الأعلى لوحدة العلم بأسره في الحال. وفي هذه الحالة يكون من الضروري الاحتفاظ بمبدأ مثالي واحد على الأقل، هو المبدأ القائل إن هناك فارقا أساسيا في النوع بين علوم الطبيعة والسلوك، وتلك الأبحاث التي تتعلق أساسا بالحياة الباطنة.
وإذن، فليس يكفي، لتحقيق أهداف ماخ، أن يقال إن من الواجب ألا يقبل شيء بوصفه فرضا علميا ما لم يواجه اختبار الملاحظة؛ إذ ما الذي ينبغي أن نعده «ملاحظة»؟ وهل هناك نوع واحد أساسي للملاحظة فحسب، أم إن هناك أنواعا شتى؟ وهل بعض فئات الظواهر عام وبعضها الآخر خاص، أم إن جميع الظواهر قابلة، من حيث المبدأ على الأقل، للملاحظة بين ذوات مختلفة؟ تلك أسئلة كانت ملحة في عصر ماخ، وما زالت كذلك حتى يومنا هذا. كما أنه لا يكفي من وجهة نظر ماخ، أن يقال إن جميع الأسئلة المتعلقة بالارتباطات العلية بين الظواهر هي أسئلة خاصة بالارتباط القابل للملاحظة. فماذا يكون الحال لو لم يكن من الممكن في جميع الحالات تحقيق هذه الارتباطات بطريقة مشتركة بين الذوات؟ وإذا كانت بعض الظواهر المترابطة لا يتوصل إليها إلا فرد واحد، فيبدو أنه ليس ثمة أساس كاف للقول إن المناهج المستخدمة في العلوم الفيزيائية هي في أساسها تلك اللازمة لمعرفة الظواهر النفسانية.
وإذن فالهدف من مذهب ماخ مضاد أساسا للذاتية. ولنعبر عن فكرتنا بلغة «مل»، فنقول إنه لا توجد إمكانيات للإحساس لا يمكن، من حيث المبدأ، المشاركة فيها. وتبعا لهذا الرأي تكون العزلة راجعة إلى انفصال المرء عن رفاقه من الناس، لا إلى وجود إحساسات أو مشاعر في تجربته تمتنع بالضرورة على الآخرين.
وليس بين الفلاسفة بأجمعهم اتفاق حول كون هذه القضية الوضعية هي ذاتها «ميتافيزيقية»، أم إنها مجرد قاعدة من قواعد البحث أو المنهج. ولكن ليس لمسألة الأسماء أهمية كبرى، طالما أننا ندرك أن مبدأ اشتراك الإحساسات بين الذوات هو التزام أساسي ليس في ذاته قابلا للتحقيق بمناهج العلم. وكيف يكون قابلا للتحقيق وهو في قراره ادعاء بشأن الإجراءات والمثل العليا التي يختص بها العلم ذاته؟ غير أن هذا لا يغدو أمرا يؤخذ عليه، إذا أدركنا أن كل فلسفة، وكل ميتافيزيقا قبل كل شيء، ترتبط بالتزامات أو مواقف أساسية معينة لا تقبل البرهنة عليها لأنها سابقة على كل برهان.
والحق أن الأهداف الكامنة من وراء فلسفة ماخ واضحة تماما؛ ففي رأيه أن العلم، بوصفه النظام المتعلق بالمعرفة التراكمية، لم يحقق نجاحه الباهر إلا بفضل تمسكه الشديد، عمليا، بالمبدأ القائل إن الفرض لا يصح أن يقبل إلا إذا خضع لشروط قابلة للملاحظة المشتركة بين الذوات. ومجرد تأكيد سلطة هذا المبدأ، حتى باسم مذهب تجريبي أكثر تسامحا، يسمح بالاعتراف بالإحساسات الخاصة التي لا تعرف إلا بالاستبطان، يعني أنه قد أزيلت من الطريق عقبات أنصار الغيبيات، الذين يدعون بصحة قضايا لا يدعمها إلا التحامل أو الوحي أو سلطة أفراد معينين، ولا شك أن الاعتراف بهذه الأنواع من «المعرفة» ينطوي على نتائج أيديولوجية خطيرة.
ولقد أدرك ماخ بكل وضوح الدلالة الأيديولوجية الأساسية لالتزاماته الفلسفية الخاصة. ولعله من الملائم أن يختم كتاب كهذا، يبحث في خلافات أيديولوجية لها أعظم الأهمية في حياتنا، بمختارات من كتابات فيلسوف استطاع، عن إيمان صادق، أن يؤكد من جديد المثل الروحية العليا الكامنة في «عصر التنوير» ذاته؛ فقرب نهاية كتاب ماخ العظيم «علم الميكانيكا» نجد الفقرة الآتية: «يبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحا واسعا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجع كل منهم الآخر. والحق أن كل من تتبعوا جزئيا تجربة هذا التحرر الرائع للعقل البشري في أدبه سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر.» ولقد أدرك ماخ أن المثل العليا القيمة لعصر التنوير لم تواجه بالرفض من جانب الفلاسفة المعادين للوضعية فحسب، بل إنها أصبحت الآن مهددة من جانب العلماء أنفسهم، الذين قد يقوضونها دون أن يشعروا. ولقد سمعنا في الآونة الأخيرة وضعيين معاصرين يصيحون «عودا إلى ماخ» عندما أدركوا وجود انحرافات بين صفوفهم. ولكن المعنى الحقيقي لصيحتهم هذه، من وجهة نظر ماخ ذاته، هو «عودا إلى عصر التنوير».
ولقد أثيرت منذ عصر ماخ مجادلات خاصة حول صحة برنامج ماخ لتطهير العلم من شوائبه؛ فرأى عالم الفيزياء الكبير، ماكس بلانك، مثلا، أن مبدأ الاقتصاد الفكري عند ماخ يؤدي، إذا ما طبق تطبيقا عاما، إلى إعاقة تقدم العلم ذاته على نحو خطير؛ إذ يشل الخيال العلمي وإيمان العالم بعمله من حيث هو تصوير صادق للواقع. ورأى آخرون أن كرامة العلم بوصفه أرفع أداة لنقل المعرفة البشرية، ستختفي إذا ما نظر إلى نظريات العلم الطبيعي، عموما، على أنها لا تعدو أن تكون نظاما من الصيغ الشاملة المريحة للتنبؤ بحدوث الإحساسات، بل إنه ليبدو أن أينشتاين ذاته، مع إعجابه الشديد بماخ، قد عارض الوضعية أحيانا في سنواته المتأخرة لأسباب مماثلة.
ومع ذلك فهذه الاعتراضات نفسانية في أساسها، وهي لا تؤثر في قوة مركز برنامج ماخ من الوجهة الفلسفية. وهناك صعوبة أخطر، تتعلق بالوجه القائل بمذهب الظواهر في نظرية المعرفة عند ماخ. وتتضح هذه الصعوبة من الدفاع الآتي للأستاذ فيليب فرانك إزاء التأويلات الباطلة لمذهب ماخ: «فالمسألة ليست هي التعبير الفعلي عن جميع القضايا الفيزيائية بوصفها قضايا تعبر عن علاقات بين إدراكاتنا الحسية، وإنما المهم هو إثبات المبدأ القائل إن القضايا التي يمكن من حيث المبدأ التعبير عنها بوصفها قضايا تعبر عن علاقات بين إدراكاتنا هي وحدها القضايا التي تحمل معنى حقيقيا.» على أن هذا الدفاع غير كاف؛ فقد يتساءل المرء: ولماذا لا تكون المسألة هي القيام فعلا بما يقول المذهب إن من الممكن القيام به؟ وكيف ندرك أن للمبدأ معنى، إذا كان من المتفق عليه بوجه عام أن أحدا لم يأت بمثال واضح واحد ترجمت فيه القضايا المتعلقة بالأشياء المادية إلى قضايا أخرى عن العلاقات بين الإحساسات دون فقدان للمعنى؟ إن عددا كبيرا من الفلاسفة الذين يعطفون، في النواحي الأخرى، على فلسفة التجريبية العلمية، يؤمنون في الوقت الحالي بأن من المستحيل تماما تنفيذ نظرية ماخ «الظاهراتية
» في المعنى. والسبب الرئيسي لذلك يتعلق في رأيهم بالفروق المنطقية القاطعة بين القضايا الخاصة بالأشياء المادية وبين عمليات وتقارير التجربة المباشرة التي تستخدم لتأكيد هذه القضايا. ولكن حتى لو تعين علينا أن نتخلى عن هذا الجانب في مذهب ماخ، فإن هذا لا يعني، مع ذلك، أن من الواجب التخلي عن المبدأ الأساسي للتجريبية الوضعية؛ أعني المبدأ القائل إن الملاحظة المشتركة بين الذوات هي المعيار الأساسي الوحيد لجميع القضايا الواقعية؛ ذلك لأن هذا المبدأ لا يتعلق بإمكان ترجمة القضايا الواقعية (
factual ) إلى قضايا عن العلاقات بين الإدراكات الحسية، وإنما بالمسألة الأهم، الخاصة بطبيعة الدليل الذي يمكن الإتيان به لتأييد أي اعتقاد واقعي
factual . وليس التخلي عن هذا المبدأ بالأمر الهين؛ فعليه يتوقف، إلى حد غير قليل إمكان المعرفة التراكمية وتقدم العرفان، بل يتوقف عليه إلى حد بعيد إمكان قيام مجتمع من الأحرار الذين يتعايشون في عالم مشترك. وليس في هذه المسألة فارق كبير بين ماخ وبين كانت ذاته. وهكذا تكون قصتنا قد أتمت على هذا النحو دورة كاملة. •••
والمقتطفات الآتية مختارة من الفصل الرابع، وعنوانه: «التطور الشكلي لعلم الميكانيكا»، من كتاب ماخ «علم الميكانيكا».
2 ⋆ (6) «وهكذا فإن الفكرة القائلة إن اللاهوت والفيزياء فرعان متميزان للمعرفة قد استغرقت، منذ بوادرها الأولى لدى كوبرنيكس حتى صياغتها بشكل نهائي على يد «لاجرانج»،
3
قرابة قرنين من الزمان حتى أصبحت واضحة في أذهان الباحثين. وفي الوقت ذاته لا ينكر أحد أن هذه الحقيقة كانت دائما واضحة في أذهان أعمق العلماء، مثل نيوتن. فرغم تدين نيوتن العميق، فإنه لم يخلط أبدا بين اللاهوت وبين المسائل العلمية. صحيح أنه قد ختم كتابه في «البصريات»، الذي ظل ذهنه الواضح الباهر لامعا فيه حتى صفحاته الأخيرة، بصيحة توبة ذليلة عن غرور الأشياء الأرضية الفانية، غير أن أبحاثه المتخصصة في البصريات لا تحوي أثرا للاهوت، على عكس الحال في أبحاث ليبنتس. ومثل هذا يمكن أن يقال عن جاليليو وهيجنز
Huygens ،
4
فكتاباتهم تتفق اتفاقا شبه مطلق مع وجهة نظر لاجرانج، ويمكن أن تعد في هذا الصدد كتابات كلاسيكية. غير أن الآراء والميول العامة لعصر ما، ينبغي ألا يحكم عليها تبعا لأعظم أذهان ذلك العصر، وإنما لأذهان الأوساط فيه.
ولكي نفهم العملية التي نشرحها ها هنا، ينبغي أن ننظر في الأحوال العامة السائدة في تلك العصور؛ فمن الطبيعي أن ينظر الناس إلى الأشياء من وجهة نظر لاهوتية، في مرحلة للمدنية يكون الدين فيها هو المصدر الوحيد للتعليم، ويكون هو النظرية الوحيدة عن العالم، وأن يعتقدوا أن هذه النظرية هي السليمة في جميع ميادين البحث. ولو رجعنا بأذهاننا إلى العهد الذي كان فيه الناس يعزفون فيه على الأرغن بقبضة يدهم، ولا يستطيعون إجراء العمليات الحسابية إلا إذا كان أمامهم جدول الضرب، ويؤدون بأيديهم كثيرا من الأعمال التي يؤديها الناس اليوم بأدمغتهم، فلن يكون لنا أن نطلب من الناس في وقت كهذا أن يختبروا آراءهم ونظرياتهم بطريقة ناقدة. غير أن هذا التحامل الذهني قد اختفى ببطء وتدريجيا باتساع الأفق العقلي بفضل الكشوف والمخترعات الفنية والعلمية والجغرافية في القرن الخامس عشر والسادس عشر، وبكشف مجالات كان من المستحيل إحراز أي تقدم فيها في ظل النظرة القديمة إلى الأشياء، لا لشيء إلا لأن هذه النظرة قد تكونت قبل معرفة هذه المجالات. وسيظل من العسير دائما فهم حرية الفكر الهائلة التي ظهرت في حالات فردية في العصور الوسطى المتقدمة، بين الشعراء أولا ثم بين العلماء. فلا بد أن التنوير كان في تلك الأيام مبنيا على جهود قلة من الأذهان الخارجة تماما عن المألوف، ولم تكن تربطه بآراء جمهرة الناس إلا خيوط واهية إلى أبعد حد، أحرى ببلبلة هذه الآراء منها بتقويمها. ويبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحا واسعا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجع كل منهم الآخر. والحق أن كل من تتبعوا جزئيا تجربة هذا التحرر الرائع للعقل البشري في أدبه، سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر. (7) وإذن فقد تم التخلي عن وجهة النظر القديمة، ولم يعد تاريخها يتلمس الآن إلا في صورة المبادئ الميكانيكية. وستظل هذه الصورة غريبة عنا طالما أننا نجهل أصلها. وقد حلت بالتدريج محل النظرة اللاهوتية إلى الأشياء نظرة أخرى أشد صرامة، واقترنت هذه بكسب كبير في التنوير كما سنبين الآن بإيجاز.
فعندما نقول إن الضوء يسير في أقصر الطرق زمنا، ندرك في تعبير كهذا أمورا كثيرة، ولكنا لا نعرف حتى الآن لماذا يفضل الضوء أقصر الطرق زمنا. ولو قلنا إن السبب هو حكمة الخالق، لسددنا بذلك الطريق على كل معرفة تالية للظاهرة. وإنا لنعلم اليوم أن الضوء يسير في جميع الطرق، ولكن موجات الضوء تقوي بعضها بعضا في أقصر الطرق زمنا فحسب، بحيث لا تحدث نتيجة ملحوظة إلا في حالة هذه الطرق. وهكذا يبدو فقط أن الضوء يسير في أقصر الطرق زمنا. وبعد أن أزيحت الأفكار المغرضة السائدة حول هذه المسائل ، اكتشفت على الفور، إلى جانب الاقتصاد المفروض في سلوك الطبيعة، حالات ظهرت فيها أوضح أمثلة الإسراف فيها. ومن قبيل هذه الحالات، ما أشار إليه «ياكوبي
Jacobi »
5 «في صدد مبدأ الفعل الأدنى»
principle of least action
الذي قال به «أويلر
Euler ».
6
وإذن فكثير من الظواهر الطبيعية تبعث فينا اعتقادا بوجود الاقتصاد فيها، لا لشيء إلا لأنها لا تظهر للعيان إلا عندما يحدث عرضا تراكم اقتصادي للنتائج. وتلك هي نفس الفكرة التي قال بها دارون في ميدان الطبيعة العضوية، مطبقة هنا على مجال الطبيعة غير العضوية؛ فنحن نيسر بغريزتنا فهمنا للطبيعة بأن نطبق عليه الأفكار الاقتصادية المألوفة لدينا. •••
وهنا يكون للمرء كل الحق في أن يوجه السؤال الآتي:
إذا كانت وجهة النظر اللاهوتية التي أدت إلى وضع مبادئ الميكانيكا باطلة تماما، فكيف حدث أن جاءت هذه المبادئ ذاتها صحيحة في جميع النقط الأساسية؟ والجواب على ذلك يسير؛ فمن الملاحظ أولا أن وجهه النظر اللاهوتية لم تكن هي مصدر مضمونات المبادئ، وإنما حددت شكلها فحسب، أما المادة فقد استمدت من التجربة. وكان من الممكن أن يحدث تأثير مماثل لهذا بفضل أي نمط فكري سائد، كموقف تجاري من ذلك النوع الذي أثر، على الأرجح، في تفكير ستفنوس
Stevinus . وثانيا فإن النظرة اللاهوتية إلى الطبيعة ترجع في أصلها إلى محاولة للوصول إلى نظرة أشمل إلى العالم، وهي نفس المحاولة الكامنة من وراء العلم الفيزيائي. وعلى ذلك، فحتى لو سلمنا بأن الفلسفة الفيزيائية للاهوت مبحث عقيم، وعودة إلى مرتبة أدنى من الثقافة العلمية، فلن يتعين علينا مع ذلك أن نفند الأساس السليم الذي ظهرت منه، والذي لا يختلف عن أساس البحث للفيزيائي الصحيح. •••
إن القول بإرادة وعقل فعالين في الطبيعة ليس وقفا على عقيدة التوحيد المسيحية، بل إن الفكرة، على عكس ذلك، مألوفة تماما في العهد الوثني وعهد العبادات السحرية. غير أن الوثنية تجد هذه الإرادة وهذا العقل في الظواهر الفردية وحدها، في حين تلتمسهما عقائد التوحيد في «الكل». وفضلا عن ذلك فليس ثمة توحيد خالص؛ فالتوحيد اليهودي في الإنجيل لا يخلو من إيمان بالجن والشياطين والسحرة، والتوحيد المسيحي في العصور الوسطى أكثر من ذلك احتشادا بالأفكار الوثنية. (8) ولم يتمكن العلم الفيزيائي من التخلص من هذه الأفكار إلا ببطء شديد.
فمن الطبيعي أن تؤكد هذه الأفكار ذاتها بإصرار؛ فالتحليل العلمي والمعرفة التصورية لا يتناولان إلا قدرا ضئيلا جدا من تلك الدوافع العديدة التي تتحكم في الإنسان بقوة جبارة، والتي تغذيه وتحفظه وتنميه، دون معرفة أو رقابة من جانبه - تلك الدوافع التي تمثلت في العصور الوسطى مظاهر مرضية مفرطة لها. والطابع الأساسي لكل هذه الغرائز هو الشعور بوحدتنا مع الطبيعة ومماثلتنا لها، وهو شعور يمكن إسكاته أحيانا، ولكنه لا يقتلع أبدا بالاستغراق في المشاغل العقلية، وله قطعا أساس سليم، مهما كانت النتائج الدينية الممتنعة التي يؤدي إليها. (9) ولقد تصور «الموسوعيون»
7
الفرنسيون في القرن الثامن عشر أنهم ليسوا بعيدين عن الوصول إلى تفسير نهائي للعالم بمبادئ فيزيائية وميكانيكية، بل إن لابلاس قد تصور ذهنا قادرا على التنبؤ بتقدم الطبيعة حتى الأزل، لو أنه أدرك الكتل المادية ومواقعها أو سرعاتها الأصلية. ويحق لنا أن نلتمس العذر لهذا الإفراط المتفائل في تقدير مجال الأفكار الفيزيائية الميكانيكية الجديدة لدى مفكري القرن الثامن عشر. بل إنه في الحق لأمل منعش، نبيل، رفيع، ولنا أن نشعر بعطف عميق على هذا التعبير عن السرور العقلي الذي لا نجد له في التاريخ نظيرا. أما الآن، بعد انقضاء قرن من الزمان، وبعد أن أصبح حكمنا أكثر رزانة، فإن نظرة الموسوعيين إلى العالم تبدو لنا من قبيل «الأسطورة الميكانيكية»، على حين كانت نظرة الأديان القديمة أسطورة قائمة على بعث الحياة في الكون بأسره؛ فالرأيان معا ينطويان على مبالغات مفرطة خيالية في إدراك ناقص. أما البحث الفيزيائي الدقيق فسوف يؤدي إلى تحليل لإحساساتنا، وعندئذ سنكتشف أن عطشنا لا يختلف أساسا عن ميل حامض الكبريتيك إلى الزنك، وأن إرادتنا لا تختلف كثيرا عن ضغط حجر، كما يبدو الآن. كذلك سنشعر بأنفسنا أقرب إلى الطبيعة، دون أن يكون من الضروري أن نتحول إلى كتلة سديمية غامضة من الجزئيات أو أن نجعل من الطبيعة مرتعا للعفاريت. ولا شك في أننا لا نستطيع إلا أن نخمن الاتجاه الذي ينبغي أن نلتمس فيه هذا التنوير، نتيجة لأبحاث طويلة مضنية؛ فاستباق النتيجة، بل محاولة إدخالها في أي بحث علمي حالي، ليس علما وإنما لاهوت.
إن العلم الفيزيائي لا يدعي أنه نظرة «كاملة» إلى العالم، وإنما يقول فقط إنه يعمل لبلوغ نظرة كاملة في المستقبل. وإن أعلى فلسفة يتصف بها الباحث العلمي إنما هي تحمل هذه النظرة غير الكاملة إلى العالم، وتفضيلها على نظرة تبدو كاملة، ولكنها غير محددة. وإن معتقداتنا الدينية لتظل دائما من شئوننا الخاصة، طالما أننا لا نقحمها على المجالات الأخرى، ولا نطبقها على أمور تخضع لشرع سلطة مخالفة. وهذا موضوع تتباين فيه آراء الباحثين الفيزيائيين أنفسهم تباينا شديدا، حسب نطاق أذهانهم وتقديرهم للنتائج.
إن العلم الفيزيائي لا يبحث على الإطلاق في الأشياء التي تظل على الدوام بعيدة عن متناول البحث الدقيق، أو ما زالت حتى الآن بعيدة عنه. ولكن إذا ما حدث أن خضعت للعلم الدقيق مجالات هي اليوم مستعصية عليه، فلن يتردد إنسان سليم العقل، أو شخص يعتز بشرف موقفه من نفسه ومن الآخرين، في المضي في البحث بحيث يستبدل بآرائه الخاصة عن هذه المجالات معرفة إيجابية بها.
فإذا كنا نرى المجتمع يتذبذب اليوم، ويغير آراءه في المسألة الواحدة، حسب هواه وتبعا لحوادث الأسبوع، كما تتغير السلالم الموسيقية في الأرغن، ثم نرى ما يستتبعه ذلك من قلق ذهني عميق، فلنعلم أن هذه هي النتيجة الطبيعية الضرورية للطابع الناهض العابر الذي تتسم به فلسفتنا؛ فمن المستحيل أن يحصل المرء على نظرة سليمة إلى العالم وكأن هذه النظرة هبة تقدم إليه، وإنها يتعين عليه اكتسابها بالعمل الشاق. وإن إطلاق العنان للعقل والتجربة في الحالات التي لا يستطيع سواهما التحكم فيها، إنما هو السبيل الوحيد إلى تحقيق ازدهار البشرية بالاقتراب التدريجي البطيء، والأكيد في الوقت ذاته، من المثل الأعلى لرأي موحد في العالم، يكون هو وحده الذي يتمشى مع اقتصاد الذهن السليم.
رابعا: اقتصاد العلم (1)
إن هدف العلم هو الاستعاضة عن التجارب أو توفيرها عن طريق استعادة الوقائع واستباقها في الفكر؛ فالذاكرة أقرب إلى متناول اليد من التجربة، وكثيرا ما تحقق نفس غرضها. هذه المهمة الاقتصادية للعلم، التي تملأ حياته بأسرها، واضحة لأول وهلة، وإن الاعتراف الكامل بها لكفيل باستبعاد كل تصوف في العلم.
والعلم ينقل بالتلقين؛ حتى ينتفع الشخص من خبرة الآخر ويعفى من عناء جمعها لنفسه؛ ولذا تختزن تجارب أجيال بأسرها في المكتبات لإعفاء الأجيال القادمة من هذا العناء.
واللغة، التي هي أداة هذا النقل، هي ذاتها جهد اقتصادي؛ إذ تحلل التجارب أو تقسم إلى تجارب أبسط وأقرب إلى معرفتنا، ثم يرمز إليها، مع بعض التضحية بالدقة. وما زالت رموز التخاطب محصورة في استخدامها في حدود قومية، وستظل قطعا كذلك مدة طويلة. غير أن اللغة المكتوبة تتحول بالتدريج إلى اتخاذ طابع مثالي شامل. (2)
وعندما نستعيد الوقائع في الفكر، لا نستعيدها كاملة أبدا، بل نستعيد منها ذلك الجزء الذي يهمنا، مدفوعين في ذلك بالمنفعة العملية، سواء أكان بطريق مباشر أم غير مباشر. وهكذا تكون استعاداتنا تجريدات على الدوام. وهنا أيضا نجد نزوعا إلى الاقتصاد.
إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها. ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر؛ أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه؛ فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء». وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريدية؛ أي تجريدا لأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية. فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز، لمركب من العناصر تجرد منه التغيرات. والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة. وعندما نلاحظ فيما بعد قابلية الشيء للتغير، لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتمسك بفكرة دوام الشيء ما لم نلجأ إلى تصور شيء في ذاته، أو ما يشبه ذلك من التصورات الممتنعة؛ فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي. وبعبارة أصح، فالعالم ليس مؤلفا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية.
وما العملية بأسرها إلا مسألة اقتصاد؛ فنحن نبدأ، في استعادة الوقائع، بالمركبات الأكثر دواما والأقرب إلى معرفتنا المألوفة، ونكمل هذه فيما بعد بالمركبات غير المألوفة عن طريق التصويبات. وهكذا نتحدث عن أسطوانة مخرمة، وعن مكعب ذي أحرف مشطوفة، وهي تعبيرات تنطوي على تناقضات، ما لم نقبل الرأي الوارد ها هنا. وجميع الأحكام إنما هي توسيع وتصويب لأفكار سلم بها من قبل. (3)
عندما نتحدث عن علة ومعلول، نتعمد إبراز تلك العناصر التي ينبغي أن ننتبه إليها عند استعادة واقعة من الناحية التي تهمنا فيها؛ فليس في الطبيعة علة ولا معلول، وليس فيها إلا وجود فردي؛ فالطبيعة تكون فحسب. وليس لتردد وقوع الحالات المماثلة التي يرتبط فيها أ مع ب على الدوام؛ أي ينتج فيها المماثل في الظروف المماثلة، وهي ماهية الارتباط بين العلة والمعلول - ليس لهذا وجود إلا في التجريد الذي نقوم به بقصد استعادة الوقائع ذهنيا. فإذا ما أصبحت إحدى الوقائع مألوفة، فلن نحتاج إلى إبراز سماتها الرابطة، ولن يعود انتباهنا موجها إلى ما هو جديد ومستغرب، ولا نعود نتحدث عن العلة والمعلول.
ويبدو أن التفسير الطبيعي المعقول هو الآتي؛ ففكرة العلة والمعلول قد ظهرت أصلا من محاولة لاستعادة الوقائع في الفكر؛ ففي البداية يعد الارتباط بين أ، ب، وبين ج، د، وبين س، ص، إلخ، أمرا مألوفا. ولكن بعد اكتساب قدر أكبر من المعرفة، وملاحظة ارتباط بين ك ول، فكثيرا ما يحدث أننا نتعرف على ك على أنها مؤلفة من أ، وج، وس، وعلى ل على أنها مركبة من ب، ود، وص، وهي ظواهر كان ارتباطها من قبل واقعة مألوفة، وبالتالي تكون له لدينا سلطة أعلى. وهذا يفسر السبب الذي من أجله ينظر الخبير إلى الحادث الجديد نظرة تختلف عن نظرة الشخص الساذج إليه؛ فالتجربة الجديدة تستنير بمجموع التجارب القديمة. وهكذا توجد في الذهن بالفعل «فكرة» تدرج تحتها التجارب الجديدة، غير أن هذه الفكرة ذاتها قد تكونت بالتجربة. وربما كان أصل فكرة ضرورة الارتباط العلمي هو حركاتنا الإرادية في العالم والتغيرات التي تحدثها هذه الحركات بطريق غير مباشر، كما افترض هيوم، وعارضه فيه شوبنهور.
إن قدرا كبيرا من سلطة فكرتي العلة والمعلول إنما يرجع إلى أنهما تكونتا غريزيا وبطريقة لا إرادية، وإلى أننا لا نشعر على نحو ملموس بأننا قد ساهمنا بشيء في تكوينهما. وهكذا نستطيع أن نقول فعلا إن حاسة العلية عندنا لم يكتسبها الفرد، وإنما صقلت بالتدريج في تطور الجنس. ومن ثم فالعلة والمعلول أمور فكرية، لها وظيفة اقتصادية. ولا يمكن الكلام عن سبب ظهورهما؛ إذ إننا لا نعرف السؤال عن «السبب» إلا بالتجريد من اطرادات.
الفصل الثالث عشر
حاشية ختامية غير علمية
ظهر قرب نهاية القرن التاسع عشر، كما لاحظنا عند الحديث عن ماخ، رد فعل على طرق التفلسف التي سادت طوال جزء كبير من ذلك القرن. وقد استمر رد الفعل هذا، ولا سيما في البلدان الناطقة بالإنجليزية، طوال معظم السنوات المنقضية من القرن العشرين، وكانت تلك ثورة ضرورية، ومحمودة في نواح عديدة؛ فقد سئم الفلاسفة لغة الممتنعات والغموض وأسلوب الهيجليين، وضجروا من منهج ديالكتيكي يتيح لمن يمارسونه ألا يقولوا أبدا ما يعنونه أو أن يعنوا ما يقولونه. وتضاءلت الثقة بالتدريج بذلك الاتجاه المميز لفلاسفة القرن التاسع عشر، اتجاه وضع فلسفات طموحة للتاريخ وقوانين حتمية للتطور التاريخي مثلما تضاءلت الثقة بتلك النسبية التاريخية الغامضة التي بدا أنها تنطوي على القول بأن أي شيء يكون صحيحا أو صائبا طالما أنه يعبر عن روح عصره. وبعد العصر الذهبي للنظرية التطورية بدأ الفلاسفة والعلماء على السواء يزدادون شكا في المنهج التاريخي من حيث هو المفتاح الكفيل بفتح جميع أبواب دار المعرفة. وأثبت تطور الحوادث أن الآمال العريضة التي علقت على المنهج لم تتحقق، واضطرت علوم الإنسان إلى العودة إلى أساليب أقل إثارة، وأقرب إلى الأساليب المستخدمة في العلوم الفيزيائية. بل إن الوعي التاريخي ذاته قد أصبح أمرا مشكوكا فيه؛ إذ أعلن فلاسفة مشهورون مثل برتراند رسل
1
من جديد لا زمانية الحقيقة، وشمول المناهج التي تمسكوا هم أنفسهم بها.
وباقتراب القرن السابق من نهايته، شبت أمريكا أخيرا عن الطوق، فلسفيا، في أشخاص تشارلس بيرس ووليم جيمس وجون ديوي.
2
فأكد دعاة فلسفة البرجماتزم الجديدة هؤلاء، باقتناع وتأكيد متزايدين، أن وظيفة الفكر بأسرها إنما هي إيجاد عادات سلوكية. ورأى بيرس أن معنى أية فكرة لا يمكن تحديده إلا بملاحظة العادات السلوكية التي تؤدي إليها، وأوجز رأيه في قوله: «إن معنى الشيء ليس إلا ما ينطوي عليه من العادات.» ونتيجة هذا الرأي واضحة؛ فإذا لم يتسن الوصول إلى عادات سلوكية مرتبطة بلفظ ما، فليس لهذا اللفظ، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، معنى. وهكذا بدا أن المعيار البرجماتي للمعنى قد وصم، بضربة واحدة، كل ما قاله المثاليون عن المطلق، لا بأنه باطل فحسب، بل بأنه خلو من المعنى. غير أن للمعيار في الواقع حدين، ولم يكن البرجماتيون أقرب إلى الميتافيزيقا المادية عند مفكر مثل سبنسر منهم إلى مثالية فيلسوف كهيجل. ولنعبر عن المسألة بطريقة وليام جيمس المرحة، فنتساءل: ما هي «القيمة النقدية» لكل المنازعات الصاخبة بين المثاليين والماديين؟ هذا سؤال ينبغي أن نعترف بأن معظم البرجماتيين لم يصبروا على الإجابة عليه فيما عدا جيمس ذاته؛ فقد كانوا أكثر اهتماما بإيضاح أن دعاة «الكون المعقد»، كانوا هم أنفسهم من ذوي العقول المعقدة، أكثر منهم بالبحث عن الدور المعتاد للأحكام الميتافيزيقية في الحياة البشرية. كما أنهم لم يتريثوا ليفكروا في مدى ما يدينون به هم أنفسهم لتلك السوابق الواضحة للبرجماتية، التي ظهرت في كتابات كانت وفشته ونيتشه. ولو أمعنوا الفكر في المسألة، كما ابتهل إليهم «جوشيا رويس»
3
أن يفعلوا، لكان من الجائز أن يجدوا أن روح المثالية الكامنة كانت قريبة في نواح عدة من روح فلسفتهم الخاصة .
وإلى جانب الأسئلة المتعلقة بوجود معنى للقضايا الفلسفية في القرن التاسع عشر، ظهرت اعتراضات لا تقل عن ذلك أهمية، على المفاهيم السائدة حينئذ لمهمة الفلسفة ذاتها؛ فقد اعترض جيمس، ومعاصراه الإنجليزيان الأصغر سنا، ج. أ. مور
G. E. Moore ،
4
وبرتراند رسل، على اتجاه الفلاسفة المشهورين في القرن التاسع عشر إلى بناء مذاهب فلسفية ضخمة، وأكدوا أن التقدم الفلسفي لا يتحقق إلا من التحليل الأكثر تفصيلا للتصورات الجزئية، والدراسة المتخصصة لمشكلات محددة. وأدى هذا المزاج التعددي الجديد إلى إعراض عن الروح المذهبية الفلسفية القديمة المفرطة، وعن المركبات الضخمة التي كونها هيجل وسبنسر، والتي تولد شعورا غامضا بالاطمئنان دون أن تساهم بشيء في فهمنا للطبيعة؛ فقد هاجم مور تناقضات المثالية باسم الرأي الشائع لدى الإنسان العادي؛ وهاجمها رسل باسم العلم، ورفض كلاهما طريقة التفلسف هذه، التي لا يتوافر فيها شرط الوضوح والتميز الديكارتي، ورفضا بشدة نظرية الترابط (
Coherence ) عن الحقيقة، وفكرة العلاقات الداخلية، مؤكدين - كما فعل هيوم من قبلهما - أنه ليس ثمة علاقات «داخلية» أو «ضرورية» بين الأمور الواقعية، ورأيا أن معيار الحقيقة لا يمكن أن يكون مجرد الترابط أو الاتساق الداخلي للقضايا، بل إن المعيار النهائي لأية قضية إنما هو مطابقتها لواقعة ملاحظة. وزعما بأنهما «واقعيان»، ولعله قد فاتهما أحيانا أن موقفهما الأساسي يتعرض للخطر بفعل نقد العقل الذي كان أعظم ما حققه كانت وأتباعه المثاليون.
على أن الفلسفات البرجماتية والواقعية الجديدة التي أخذت في الظهور عند مطلع القرن الجديد كانت مصممة، من وراء هذا كله، على التقريب على نحو أوثق بين الفلسفة وبين الرياضيات والعلوم التجريبية؛ فقد كان رسل كأسلافه من فلاسفة القرن السابع عشر، يحلم بفلسفة علمية جديدة لا تعترف بوجود فارق أساسي بين الفلسفة والعلم. بل إنه ذهب إلى حد القول بأن الأخلاق والفلسفة السياسية ليستا في الواقع جزءا من الفلسفة على الإطلاق؛ إذ إنهما لا تعنيان بالحقيقة، وإنما بالتعبير عن المواقف وتنظيمها فحسب.
وفي رأيي أن ما حققه هؤلاء المفكرون اللامعون قد ساهم بدور كبير في تنوير البشر. غير أن ثمة دلائل تدل على بدء ظهور اتجاه إلى تقدير فلسفة القرن التاسع عشر تقديرا أعدل وأكثر عطفا، بعد أكثر من خمسين سنة كان فيها تأثير جيمس وبيرس وديوي في أمريكا، ومور ورسل في إنجلترا، هو التأثير الغالب. فقد بدأنا نذكر أنفسنا، أولا، بأن روح التنوير لم تختف بالفعل قط في القرن التاسع عشر، وبأن الفلسفات السائدة في عصرنا هي في أساسها استمرار للمواقف الفلسفية التي دافع عنها مفكرو ذلك القرن بقوة ومقدرة. بل إن الوضعية ذاتها، كما رأينا، هي وليدة القرن التاسع عشر، كما أن مواقف المذهب التجريبي والمذهب الطبيعي قد ظلت سائدة لدى مل وسبنسر، بل لدى نيتشه وماركس. ومن الممكن أن يقال بالفعل إن المثالية لم تعد هي القوة الغالبة على فلسفة القارة الأوروبية بعد عصر هيجل، وأن تأثيرها الأكبر كان بعد سنة 1850م مقتصرة على بلدين ناطقين بالإنجليزية، وأكثر تخلفا في هذا الميدان، وهما إنجلترا وأمريكا. وبالاختصار فعلينا ألا ننسى أن القرن التاسع عشر، مع كل ثورته الرومانتيكية على «عصر العقل»، كان هو ذاته قرن تقدم علمي عظيم. بل إن المعارضة العصبية العنيفة التي قوبلت بها الأفكار الجديدة في علم الحياة التطوري وعلم النفس وعلم الاجتماع «الوضعيين» الجديدين من جانب الأوساط المتمسكة بالتقاليد القديمة، إنما تدل على تزايد قوة النظرة العلمية إلى الإنسان طوال هذه الفترة. ولا يقتصر الأمر على الفلاسفة والعلماء فقط، بل إن روائيين مثل «جورج إليوت
George Eliot »،
5
وصمويل بطلر
Samuel Butler »،
6
ليشهدان بتلك القوة التي اكتسبتها النظرة العلمية بين أوساط المثقفين عامة في القرن التاسع عشر. بل إن «ماتيو أرنولد» نفسه، الذي حارب في معركة المؤخرة اليائسة دفاعا عن التراثين الهيليني والعبري، قد تأثر إلى حد بعيد بالنزعة الطبيعية والعلمية لعصره. ويمكن القول إن كتابه «الأدب والعقيدة الثابتة
Literature and Dogma » هو بمعنى معين، استباق تنبؤي لمذاهب اللاهوت التحررية أو الوضعية المتأخرة التي تحاول الاحتفاظ بسلطة الكتاب المقدس وبقيمته الأخلاقية عن طريق إبعاده تماما من مجال الكتابة الواقعي وإدراجه ضمن نطاق «الأدب» الذي لا تكون مهمته هي المعرفة بقدر ما تكون «نقد الحياة».
غير أن ثمة دلائل أخرى على أن الفلاسفة المعاصرين قد بدءوا يعترفون بالأواصر التي تجمع بينهم وبين كبار فلاسفة القرن التاسع عشر. ومن أسباب ذلك أننا أصبحنا ندرك أن المشكلات الحضارية الكبرى التي شغلت أذهان فلاسفة القرن التاسع عشر ما زالت قائمة بيننا؛ فبظهور أيديولوجيات لا عقلية كالفاشية والنازية، وبانتشار الشيوعية، وإحياء الأديان فوق الطبيعية في الغرب في الآونة الأخيرة، اضطر فلاسفة القرن العشرين إلى إعادة النظر في إيمانهم بالعقل، والتزامهم الأعمى بكتب العلم المقدسة، أو ما يسمونه هم «موقف الإنسان العادي». وهكذا بدأ الفلاسفة، بعد فترة من التحليل المفصل للأسس المنطقية للعلم، يدركون أن النقد الأهم للعقل، الذي بدأه كانت وواصله المثاليون، ما زال مهمة فلسفية لا غناء عنها، وأنه بدون ذلك النقد قد يكسب دعاة الجهالة والغيبيات المعركة لعدم وجود خصم يقف في وجههم.
لقد كان في العصر الزاهي لفلسفة القرن التاسع عشر عمق وحرية روحية يخلق بنا أن نحاول استعادتهما. وقد يحتقر الفلاسفة العلميون الأيديولوجية، غير أن هذا لن يكون إلا على حسابهم. وقد تضيع مكاسبهم العقلية التي أحرزوها بجهد جهيد في موجة من اللاعقلية الفلسفية واللاهوتية إذا ما ظلوا يرفضون الاقتداء بأسلافهم العظام، مثل كونت ومل وماخ. ومن المحال أن يأتي وقت تكون فيه قضية التنوير قد ربحت نهائيا. وعلى أصدقاء العلم أنفسهم إذا ما شاءوا أن يبقوا روح التنوير حية في عصر معارضة أيديولوجية عميقة لها، أن يدخلوا هم أنفسهم في حلبة الأيديولوجية. ومعنى ذلك أن يمارس المرء الميتافيزيقا، طوعا أو كرها، بمعنى واحد على الأقل من معاني هذا اللفظ الغامض.
ومع ذلك، فعلينا هنا أن نعترف بفضل للمثاليين في مسألة معينة؛ فالميتافيزيقا عندهم لا تعني علما أسمى من العلوم، وإنما وضع صيغة للالتزامات البشرية الأساسية والدفاع عنها. وإن تأكيدهم للترابط بوصفه معيار الصحة الميتافيزيقية ليوحي هو ذاته بأن امتلاء الحياة ، لا مطابقة الوقائع، هو الهدف النهائي للبحث الميتافيزيقي. ولقد أدى حديثهم عن «عالم الواقع
reality » إلى إثارة الحيرة في أذهان الكثير من الشراح، ولكن كون قضاياهم الميتافيزيقية تهتم دائما «بالواقع الفكري أو المثالي» لا «بالوجود» في الواقع، يجعل من الواضح تماما أن المهمة الأساسية للميتافيزيقا عندهم ليست وصف طبيعة الأشياء، وإنما صياغة نظرة مترابطة إلى العالم، كافية لإرشاد السلوك في الحياة.
والواقع، كما أدرك هيجل، أن الإنسان يستخدم أنواعا كثيرة مختلفة من الصور الرمزية، بحيث ينبغي الحكم على صحة أية قضية حسب المعايير المتعلقة بالغايات التي تستهدفها هذه القضية. مثال ذلك أن القول بأن الأحكام الأخلاقية لا معنى لها، لا لشيء إلا لأن لفظي «الخير» و«الشر» لا يدلان على أية صفات للأشياء يمكن ملاحظتها، معناه الافتراض مقدما بأن نسبة مثل هذه الصفات إلى الظواهر هو الهدف الوحيد للكلام، ولكن لم نقول بفرض كهذا؟ إن المسألة هي أن أية صورة للكلام ذات مرمى، وتتجه إلى تحقيق هدف إنساني جدي، لا بد أن يكون لها معنى، وذلك في واحد من المفاهيم الثابتة المستقرة لكلمة «المعنى».
وإن البرجماتيين أنفسهم ليعترفون بذلك؛ فما تسميه فلسفة القرن التاسع عشر بالميتافيزيقا قد يكون ذا دلالة، بل قد يكون ضروريا للسلوك في الحياة، حلو لم يكن له معنى «علمي». وهنا يحق لنا أن نهيب بالمبدأ البرجماتي القائل إن معنى أي قول لا يكون في «الأفكار الواضحة المتميزة»، وإنما في عادات الفعل المرتبطة به؛ فالأنواع المختلفة للكلام مخصصة لتحقيق أنماط مختلفة من السلوك، ليست إقامة العلم إلا نوعا رئيسيا واحدا، وواحدا فقط، منها. ولما كان الأمر كذلك، فليس للمحلل المفكر أن يعلن خلو الميتافيزيقا من المعنى إلا بعد أن يبحث أولا في دورها الاجتماعي المميز لها. كما لا يجوز له أن يحكم على صحتها مقدما بمعايير لا تنطبق إلا على نوع آخر من أنواع النشاط البشري. وهذا، إن لم أكن مخطئا، هو عين ما تنطوي عليه نظرية «العقلين» عند كانت. كما أنه جزء مما ينطوي عليه ضمنا مذهب المعرفة عند فشته.
وإن لعلى ثقة من أن التحول الترنسندنتالي الذي قام به كانت وأتباعه عند بداية القرن التاسع عشر قد حقق، إلى جانب بعض المزايا الأخرى غير المؤكدة، فوائد ذات أهمية عظمى للفلسفة. ومع ذلك فإنا لم ندرك هذه الفوائد في منظورها الحقيقي إلا في الوقت الحالي فقط؛ فهو إذ أكد ضرورة القيام بنقد أساسي في ميادين المعرفة والأخلاق والميتافيزيقا والدين، قد أدخل في المجرى العام للتفكير الفلسفي قدرا من الوعي الذاتي النقدي بالحقوق المشروعة للفلسفة ومناهجها وأهدافها، كانت له أنفع النتائج. وكثيرا ما نجد من الفلاسفة المعاصرين من يعربون عن عدم رضائهم عن النتائج النهائية لتفكير كانت. بل إن بعضهم تطلع في حنين إلى تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها الميتافيزيقا لا تزال تعد تاج العلم، وتضع بجلالة القوانين الضرورية لكل ما هو موجود. غير أن هذه الأيام قد مضت إلى غير رجعة. وليس معنى ذلك أن مهمة الميتافيزيقا بأسرها غير هامة، أو ينبغي التخلي عنها، وإنما معناه أن من الواجب تصورها وممارستها بروح مخالفة؛ فبعد كانت أصبحت الميتافيزيقا تملك حرية القيام بعملها المتكامل في إيضاح وتنظيم وحماية المواقف والالتزامات البشرية الأساسية الكامنة في أي أسلوب للحياة أو أية حضارة. وفي ضوء هذا الهدف ينبغي أن يظل معيار المعقولية لديها، كما يرى المثاليون، هو معيار الترابط. صحيح أن أية ميتافيزيقا سليمة ينبغي أن تتمشى مع كشوف العلم، بل أن ترحب بها، غير أن هناك التزامات إنسانية أساسية ينبغي عليها أن تعمل لها حسابا، وأنماطا أخرى للفعل ينبغي أن تأخذها بعين الاعتبار عند محاولتها تكوين صورة سليمة عن «الواقع».
ولكلمة «صورة» هنا أهمية حاسمة؛ فهدف أية صورة ليس وصف الأشياء في ذاتها، وإنما عرض تكوين يؤدي في مجموعه إلى إرضاء الناظر إليه على نحو دائم. فالصورة ليست «تقريرية
Assertive »، إن جاز هذا التعبير، وسلامتها لا تقاس بمطابقتها نقطة فنقطة لموضوع خارج عنها. والمذهب الميتافيزيقي لا يختلف عن الصورة في هذا الصدد، وإن تكن غاياته أقرب، على الأرجح، إلى الأخلاق منها إلى الفن. غير أن أهدافه أشمل من أهداف الأخلاق؛ لأن التكيفات التي يسعى إليها ليست تكيفات العدل بين الأشخاص فحسب، وإنما تكيفات الشخص بأكمله مع بيئة الطبيعة والاجتماعية والداخلية في مجموعها. فإذا أخذنا آراء كانت وكونت معا في المعرفة البشرية مأخذ الجد، كما أفعل، فلن نعود نرى في المثالية المطلقة، ولا في الطبيعية التطورية، مذاهب كفيلة بتوسيع نطاق معرفة الإنسان العلمية للعالم. بل إنهما معا محاولتان «ميتافيزيقيتان» لوضع إجابات نقدية على أشمل وأبعد الأسئلة التي يستطيع الفرد أن يسألها عن تنظيم الحياة البشرية والفعل البشري في مجموعهما. وليس من المهم أن تكون هذه الإجابات «معرفية» أو «صحيحة» أو «باطلة» بالمعنى العلمي، وإنما المهم هو أن صورة الواقع كما تعرضها علينا قد تتيح لنا تنظيم طاقاتنا على نحو أسلم لإرضاء مجموع حاجاتنا بوصفنا بشرا. عندئذ تكون «صحيحة» بالمعنى الوحيد الذي يكون فيه هذا اللفظ جديرا بالبحث.
ولقد بدأنا مرة أخرى ندرك، كما يدرك الناس دائما في أوقات الأزمات الحضارية الحادة، أن الحاجة الميتافيزيقية؛ أي الحاجة إلى نظرة متكاملة إلى مصير الإنسان وأمله، لا يمكن أن تكبت على نحو دائم. وعندما تختفي فترة قصيرة عن الأنظار، فإن معنى ذلك أن أفراد مجتمع ما إما متكيفون مع المطالب الرئيسية التي تلقيها نظمهم على عاتقهم إلى حد لا يترك لهم مبررا لإثارة أسئلة جدية عن هذه النظم، وإما أن التزاماتهم الأساسية متأصلة وأن قبولها عام شائع إلى حد أنه لا توجد فرصة للصعود بها إلى مجال الوعي وإخضاعها لنقد أساسي. وإن فترات الرضاء الاجتماعي والتماسك الحضاري لنادرة جدا، ولا سيما في مجتمع دينامي «مفتوح» كمجتمعنا.
7
أما في الأحوال المألوفة، فإن التفكير الميتافيزيقي القوي هو علامة أساسية على النمو الحضاري، وهو أيضا شرط أساسي للتقويم الذاتي سواء بالنسبة إلى النظم أم إلى الأفراد؛ ففي عصر منهمك في الصراع الأيديولوجي بكل قوة، كعصرنا الحالي، يغدو هذا التفكير الميتافيزيقي ثانية أداة لا غناء عنها لإيضاح طريقتنا في الحياة بأسرها، ولتطهيرها وحفظها. مثال ذلك أن معارضة الشيوعية دون المثابرة على اختبار التزاماتنا الأساسية وإيضاحها لأنفسنا من جديد، قد ينطوي على خطر ترك الصراع يتردى إلى مجرد تنازع على القوة، بل قد تكون النتيجة أسوأ، فنفقد تراثنا في الحرية أثناء محاولة الدفاع عنه.
ولكن قد يكون أمامنا درس يلقنه إيانا مصير المثالية في ألمانيا؛ فقد بدأت المثالية هناك فلسفة «للحرية»، أكدت ضرورة ربط كل معيار اجتماعي بمطالب كل فرد، وكل مبدأ عقلي بالعمل الذي ينبغي على الأفراد القيام به لتحقيق ذواتهم، وانتهت نهاية مشينة، أصبحت فيها دفاعا شبه رسمي عن النظام القائم وإهابة شبه ذليلة ب «التراث»؛ فالمثاليون حين اكتشفوا أن العقل ذاته متحفظ حتما، وأن المعايير العقلية لكل مجتمع ينبغي أن تكون متأصلة في تراث حضاري مقبول لدى الجميع، قد ارتكبوا خطأ نسيان ما أطلق عليه «سانتايانا» اسم الحاجات «قبل العقلية»، والإشباع «بعد العقلي» الذي ينبغي على العقل ذاته العمل على تحقيقه، والذي يكون للقيام بأي نقد للعقل مبرر في ضوئه ومن أجله.
إن الخطأ الروحي الأساسي الكامن في أي نظام تقليدي، وبالتالي «عقلي» للأشياء، ينحصر في أننا نتجه حتما إلى أن نجعل منه صنما معبودا. والأمر هنا كأن مصير المعقولية ذاتها، في أي مجال، يحتم عليها أن تصبح صنما معبودا لدى من يخضعون لها. ولكن القرن التاسع عشر يكشف لنا في هذه الحالة أيضا عن الداء ويصف الدواء. فهيجل قد أدرك بفضل وعيه التاريخي أن للعقل ذاته جذوره التاريخية، وأن مفاهيم المعقولية ذاتها تتغير بتغير الظروف الحضارية. ولقد كان هيجل ذاته «متحررا» من المزاعم المسرفة التي كانت الفلسفات السابقة تدعي بها لنفسها صحة شاملة؛ إذ إنه رأى فيها تكيفات متجددة تاريخيا، وبالتالي قابلة للتغير وفقا لبيئة اجتماعية متبدلة. ومن سخرية الأقدار أنه لم يدرك أن فلسفته مقيدة بزمانها أيضا، وأن الديالكتيك التاريخي لم يتجمد بصورة نهائية قاطعة في منطقه الخاص.
لقد كان هيجل يفتقر إلى ذلك التواضع المحمود الذي نستطيع تعلمه من فلسفة التجربة عند مل؛ فمل يلقننا إمكان قيام تراث يقوم ذاته، ويأتي بترياق لميله الخاص إلى أن يصبح صنما معبودا. فهنا، باختصار، نظرة إلى العقل، أطلقت عليها اسم «مذهب اشتراط المعقولية
reasonablism »، تكيف ذاتها مقدما مع الأسئلة الجبرية التي قد يسألها الناس عن أي نظام من نظمهم، مهما كانت قداسته. تلك هي الحرية الأساسية التي دافع عنها مل. غير أن في الدفاع عنها دفاعا عن الفكرة القائلة إن نقد العقل، وبالتالي نقد الحضارة، أمر ضروري على الدوام. وإن إمكانية الثورة على الصور الخاصة التي قد يتخذها العقل هي دائما إمكانية مشروعة؛ فالبحث عن أسباب عقلية، إذا ما سار شوطا كافيا، يولد دائما أخطارا تهدد النظام القائم، وأعظم ما في فلسفة مل هو أنها تدافع عن هذه الأخطار بل تدعو إليها، وبذلك تعرف كيف تروضها. والواقع أن ما يقدمه إلينا مل إنما هو تراث آخر، وهو تراث لا يلتزم في أساسه إلا بمبدأ اشتراط المعقولية ذاته؛ أي المبدأ القائل إن من الواجب البحث عن سبب لأية قضية، وإنه ليس ثمة مبدأ بمنأى عن النقد، طالما أن هذا النقد يتم بأمانة وبنية طيبة.
وهكذا يبدو لي أن فكرة نقد العقل، ومثله الأعلى، الذي ساهمت فيه جميع المدارس الفلسفية في القرن التاسع عشر بنصيب كبير، ربما كانت لا تزال هي أعظم ما ساهمت به فلسفة القرن التاسع عشر. وليس معنى ذلك على الإطلاق أن في هذا دعوة إلى اللامعقولية أو افتقارا إلى الإيمان بمبادئ العلم. ومع ذلك يبدو للأسف أن كثيرا من المستنيرين يعتقدون بوجوب ترك حقوق العلم بمعزل عن مخاطر عملية النقد، وأن مجرد الشك في وجود هوية بين «المعقولية
rationality »، والصواب
validity ، وبين مبادئ المنطق الصوري والعلم التجريبي، يهدد بهدم بناء العلم الوضعي بأسره. ومع ذلك فهذا لا يدل على أكثر من ضعف أعصاب وخوف كامن من أن تعجز النظرة العلمية عن البقاء سليمة في سوق الأفكار الحرة. فالمرء لا يكون بالضرورة خائنا للمثل العليا للعلم إذا اعترف بوجوب إخضاع العلم لنقد من نفس النوع الذي ينبغي أن يخضع له أي نظام آخر. ولم يكن «إمانويل كانت» قد أدار ظهره للتنوير والمعقولية عندما سعى إلى إيجاد نقد للعقل النظري، يرسم في الوقت ذاته حدوده السليمة. بل إن الأمر على العكس من ذلك تماما، فقد كان يأمل من رسم هذه الحدود أن يدعم مطالبة العلم بالسيادة في مجاله الخاص. وإذا كانت مناهج العلم، أو «الفهم» هي الوسائل الوحيدة الصحيحة لاكتساب المعرفة الواقعية، فإن هذه القضية لم تكن واضحة بذاتها في كل عصر، وإنما ينبغي في كل جيل إيضاح هذه الوسائل من جديد، وإعادة تقدير قيمتها، والدفاع عنها ضد المعارضة وإساءة الفهم. ولكن إذا كان الدفاع عنها ممكنا، فإن نقدها أيضا ممكن، ولا مفر في كلا الحالين من «الفلسفة الأولى»، أو الميتافيزيقا، شاء المرء أم لم يشأ.
ولا جدال في أن فلاسفة القرن التاسع عشر قد أخفقوا في معظم الأحيان في مواجهة مقتضيات الوضوح والدقة التي تشترطها الفلسفة التحليلية المعاصرة. غير أن الدليل على إمكان مواجهة هذه المقتضيات دون التضحية بعمومية النظرة الفلسفية وشمولها، يمكن أن يتمثل في واحد على الأقل من الفلاسفة الذين عرضنا لهم، وهو كانت؛ فكانت يفي، من حيث المبدأ على الأقل، بقدر كبير من مطلبنا «الميتافيزيقي» للتكيف الوضعي التام مع بيئتنا الكاملة. غير أنه يفعل ذلك دون تضحية بالمطلب المقابل، مطلب التحليل المفصل، والنقد الدقيق للتصورات الخاصة. صحيح أن كثيرا من تحليلات كانت الخاصة لم تعد مقبولة للفلاسفة التحليليين، وأن مذهبه العام، بما فيه من فهم ثنائي عميق للطبيعة البشرية، ومن شيء في ذاته مجهول، ومن مصادرات للعقل العملي ضعيفة الأساس غير مقبولة، لم يعد يرضي الفلاسفة المعاصرين، غير أن كانت ما زال يعد المثل الأعلى لما يستطيع الذهن الفلسفي في أحسن أحواله أن يحققه؛ إذ يعترف بقصوره دون مرارة، ويدرك حدوده بوضوح وينتقدها، ولكنه يظل مع ذلك متعلقا بمعايير المعقولية والإنسانية التي يتخذ منها أساسا، ويتمسك بإخلاص بمبادئ التنوير البشري الذاتي، مع إدراكه أن التنوير الذاتي يتمشى مع احترام المبدأ القائل إن الإنسان كائن اجتماعي مسئول أمام الآخرين وعنهم، مثلما هو مسئول أمام نفسه عنها، وأخيرا فإنه يفسح مجالا لا لمقتضيات المعرفة فحسب، بل أيضا لتلك المطالب المشروعة للفن والأخلاق والدين.
وإن المرء ليشعر بإغراء لأن يعود ثانية فيهتف : «عودا إلى كانت!» غير أن هذا لا يقل عقما عن الهتاف المقابل «عودا إلى أفلاطون!» أو «عودا إلى أرسطو!» أو «عودا إلى الأكويني!» وهو الهتاف الذي نسمعه كثيرا في هذه الأيام. فمن المحال، كما علمنا هيجل، أن نعود القهقرى، وإنما الواجب علينا أن نحاول أن نقدم إلى أنفسنا وحضارتنا ما قدمه هؤلاء الرجال العظماء لعصورهم. ولو ظهر في عصرنا كانت جديد لتحتم أن يتخذ نقده العقل شكلا يختلف تماما عن نقد كانت ذاته. فعليه، على سبيل المثال، أن يجعل بين حياة العقل وبين السياقات الطبيعية والاجتماعية التي ينبغي ممارستها فيها روابط، أوثق مما استطاع كانت أن يقيمه بينها من الروابط؛ ذلك لأن العقل شكل للحياة، وليس قالبا مجردا. وفضلا عن ذلك فهو صورة للحياة تقوم، كما تعلمنا من اللاعقليين بطرقهم المضللة، على حاجات عاجلة فعالة هي وحدها التي تقدم لصورة الحياة هذه مبررا نهائيا. وليس في هذا القول استسلام للاعقل، وإنما فيه إنقاذ للمرء من المطالب العقيمة واللاعقلية في آخر الأمر؛ «للواقعية» و«العقلية
rationalism » التوكيدية. وما هو إلا اعتراف بأننا إذا لم نكن نستطيع العودة إلى كانت، فإننا لا نستطيع أيضا العودة إلى عصري «العقل» و«الإيمان» السابقين عليه؛ فالاعتراف بأن تنظيم الفكر والفعل البشريين هو عمل بشري محض، وبأن مبادئهما لا تكمن آخر الأمر إلا في التزامنا بهما، هو فكرة ناضجة تهذب النفس وتحد من غلوائها. ولكن فيها أيضا إدراكا طال انتظاره لمسئوليتنا الضخمة عن صون المثل العليا لمجتمع حر بحق، لا يكون لنقد العقل أي معنى حقيقي إلا في سبيله.
Shafi da ba'a sani ba