وكان الاستنباط الثاني هو أن القوى التي تبدو مفقودة تتحول إلى ما يعادلها من القوى الأخرى، أو على العكس من ذلك، أن القوى التي تظهر بعد أن لم تكن ظاهرة، هي نتيجة اختفاء قوى معادلة كانت موجودة من قبل. وقد وجدنا أمثلة لهذه الحقائق في حركات الأجرام السماوية، وفي التغيرات الحادثة على سطح الأرض، وفي جميع الأفعال العضوية وفوق العضوية.
وقد بينا أيضا أن الأمر كذلك في القانون القائل إن كل شيء يتحرك في الاتجاه الأقل مقاومة، أو الأقوى جذبا، أو حاصلهما. وبينا أن الأمر كذلك في جميع أنواع الحركات، من حركات النجوم حتى حركات الشحنات العصبية والرياح التجارية، وأن فكرة دوام القوة تحتم أن يكون الأمر كذلك. •••
القسم 186 : وقد تبين لنا أن هذه الحقائق التي تصدق على الموجودات في عمومها، هي من النوع اللازم لتكوين ما نميزه باسم الفلسفة. ولكنا أدركنا عند بحثنا ، أنها بصورتها هذه لا تكون فلسفة، وأن الفلسفة لا تتكون بوساطة أي عدد من مثل هذه الحقائق التي يعرف كل منها على حدة؛ فكل من هذه الحقائق يعبر عن قانون عامل واحد ما، تنتج بوساطته الظواهر كما نمارسها، أو تعبر، على أحسن الفروض، عن قانون تضافر عاملين. غير أن معرفة عناصر عملية ما، غير معرفة الطريقة التي تتجمع بها هذه العناصر لإحداث هذه العملية. والشيء الوحيد الذي يمكنه توحيد المعرفة هو قانون تضافر العوامل؛ أي القانون الذي يعبر في آن واحد عن مجموعة السوابق ومجموعة اللواحق التي تتمثل في كل ظاهرة من حيث هي كل.
كما انتهينا إلى نتيجة أخرى هي أن الفلسفة، كما نفهمها، ينبغي ألا تقتصر على توحيد التغيرات المتمثلة في ظواهر عينية منفردة فحسب، كما ينبغي ألا تقف عند حد توحيد التغيرات المتمثلة في فئات منفردة من الظواهر العينية، بل ينبغي أن توحد التغيرات المتمثلة في جميع الظواهر العينية. فإذا كان قانون عمل كل عامل يصح على الكون بأسره، فلا بد أن يكون الحال كذلك في القانون الجامع بين هذه القوانين. وعلى ذلك فإن أعلى توحيد تسعى إليه الفلسفة ينبغي أن يكون في فهم الكون من حيث هو مطابق لهذا القانون الجامع.
وعندما نظرنا إلى الأمر من زاوية أكثر عينية، رأينا أن القانون الذي نسعى إليه لا بد أن يكون قانون إعادة التوزيع الدائمة للمادة والحركة؛ فكل مما يحدث من تغيرات، ابتداء من تلك التي تغير ببطء تركيب مجرتنا الفلكية، حتى تلك التي تكون تحللا كيميائيا، هي تغيرات في المواقع النسبية للأجزاء المكونة، وهي كلها تتضمن بالضرورة ظهور تنظيم جديد للحركة مقترن بتنظيم جديد للمادة، ويترتب على ذلك أنه لا بد من وجود قانون لإعادة التوزيع المتلازمة للمادة والحركة، وهو قانون يسري على كل تغير، ولا بد، لكونه عاملا على توحيد جميع التغيرات، أن يكون هو أساس الفلسفة.
وعندما بدأنا في البحث عن هذا القانون الشامل لإعادة التوزيع، تأملنا مشكلة الفلسفة من وجهة نظر أخرى، ورأينا أن حلها لا يمكن إلا أن يكون على النحو الموضح. وقد بينا أن أية فلسفة تبلغ الحد المنشود من الاكتمال لا بد أن تصوغ السلسلة الكاملة للتغيرات التي تمر بها الموجودات فرادى وجماعات عند انتقالها من غير المدرك إلى المدرك، وكذلك من المدرك إلى غير المدرك. ولو بدأت الفلسفة تفسيرها بموجودات لها بالفعل صور عينية، أو انتهت وما زالت لهذه الموجودات صور عينية، لكان المعنى الواضح لذلك هو أن لهذه الموجودات سوابق ماضية أو تطورات مقبلة أو كليهما معا، وأن تلك الفلسفة لم تقدم تفسيرا لهذه السوابق أو التطورات. وهكذا رأينا أن ذلك يستتبع ضرورة كون الصيغة التي ننشدها، والتي تنطبق على الموجودات وهي فرادى مثلما تنطبق عليها مجتمعة، قابلة للانطباق على التاريخ الكامل لكل منها والتاريخ الكامل لها كلها. هكذا ينبغي أن تكون الصورة المثلى للفلسفة، مهما كان الواقع بعيدا عن تحقيقها.
بهذه الأفكار ازددنا اقترابا من الصبغة المطلوبة؛ ذلك لأنه إن كان يتعين على هذه الصيغة أن تعبر عن التقدم الكامل من غير المدرك إلى المدرك، ومن المدرك إلى غير المدرك، وإن كان يتعين عليها أن تعبر عن إعادة التوزيع المستمرة للمادة والحركة، فلا مناص بالطبع من أن تكون صيغة تحدد العمليات المتضادة للتركز والانتشار
diffusion
في المادة والحركة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون تعبيرا عن الحقيقة القائلة إن تركز المادة ينطوي على انتشار للحركة، وإن امتصاص الحركة ينطوي بعكس ذلك على انتشار للمادة.
وهكذا تبين لنا أن ذلك هو قانون الدورة الكاملة للتغيرات التي يمر بها كل موجود. وقد رأينا فضلا عن ذلك أن هذا القانون، إلى جانب انطباقه على التاريخ الكامل لكل موجود، ينطبق أيضا على كل من تفاصيل ذلك التاريخ؛ فالعمليتان تحدثان في كل لحظة، ولكن هناك دائما نتيجة تفاضلية لصالح العملية الأولى أو الثانية. ولا بد أن يؤدي كل تغيير، حتى لو كان مجرد تبدل لمواضع الأجزاء، إلى إحداث هذه العملية أو تلك.
Shafi da ba'a sani ba