2
أكثر مما تنتمي إلى التراث المعرفي البحت للتجريبيين والوضعيين كما يمثلهم كونت ومل. والفارق الأساسي بين سبنسر وسابقيه في التراث المادي هو أن الأخيرين، في مجموعهم، قد اتخذوا لتعميماتهم أنموذجا من الشيء المادي (الفيزيائي)، بينما استخدم سبنسر علم الحياة التطوري مفتاحا لتعميماته الميتافيزيقية.
ومما له دلالته أن سبنسر يستهل كتابه «مذهب في الفلسفة التركيبية
System of Synthetic Philosophy » ببحث نقدي لحدود المعرفة البشرية والعلاقات بين العلم والدين. ويتسم هذا البحث بطابع توفيقي واضح، كذلك يتجلى فيه الطابع التلفيقي الذي يجعل من العسير إلى حد ما تحديد موقع فلسفة سبنسر من التيارات الرئيسية للفكر في القرن التاسع عشر. فهو، مثل كانت، يرى أن كل معرفة وضعية تقتصر على الظواهر كما تبدو في المكان والزمان، ولكنه، مثل كانت أيضا، لا يقصر «العالم الحقيقي
reality » على ما يبدو أو ما يمكن أن يبدو لحواسنا؛ فهو يتحدث أيضا عن حقيقة خارجية مستقلة يسميها «بما لا يعرف
The Unknowable »، وفي رأيه أن من الممكن التوصل آخر الأمر إلى التوفيق بين الفلسفة والدين عندما يعترف العلماء وفلاسفة العلم بأن مناهج العلم الوضعي لا تنفذ إلى الأغوار العميقة للوجود، وعندما يكف دعاة الدين عن محاولة تفسير وجود الأشياء عن طريق «كائن» لا نستطيع أن نعرف طبيعته. ويعتقد سبنسر أن رأيه هذا يظهر ضمنا في التطور التاريخي للدين من عبادة الأصنام
fetishism
إلى القول بتعدد الآلهة
polytheism ، ثم إلى الأديان الموحدة الأرقى، التي ترى أن أية محاولة من الإنسان لمعرفة الله أو وصفه بصفات بشرية كالإرادة والعقل والشخصية هي أشنع تجديف. ويرى سنبسر أن الماهية الباطنة للدين لا شأن لها بالأوصاف الخاصة بطبيعة الله أو علاقته والعالم أو بتاريخ البشر، وإنما هي تنحصر في الاعتراف بالسر الكامن في الوجود، وفي شعور الإنسان بالخشوع أمام ذلك السر.
ومن الممكن أن يقال إن سبنسر حين ذكر أن الدين يختص ب «اللامعروف» الغامض، لم يكن يقول، أو على الأقل لم يكن يقول بالضرورة، إن الدين يختص ب «كيان» حدث أننا لا نستطيع أن نعرفه، وإنما قال إنه لا يصح أن يختص ب «المعروفات» على الإطلاق، وأن اهتمامه «بما هو موجود» مركز في اتجاه مختلف تماما. وفي هذا المعنى لا يكون الدين على الإطلاق علما بدائيا فاشلا يعجز بطبيعته عن تحقيق هدفه، وإنما يكون شيئا يختلف عن ذلك كل الاختلاف، تعثر خلال التاريخ، لسوء حظه، في مشاكل تفسيرية لا شأن له بها، وينبغي من الآن فصاعدا أن يتخلى عنها إذا شاء أن يؤدي مهمته التي يختص بها.
Shafi da ba'a sani ba