ولا شك في أن الاضطراب القائم يفسره على أكمل وجه وجود الفلسفات المتضاربة الثلاث في آن واحد؛ أعني الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية. ففي وسع أي من هذه الفلسفات وحدها أن تضمن نوعا من النظام الاجتماعي، أما إذا وجدت الثلاث معا فمن المستحيل علينا أن نتفاهم على أية نقطة أساسية. فإذا صح هذا، فكل ما علينا هو أن نعرف أيا من هذه الفلسفات هي التي ينبغي، حسب طبيعة الأشياء، أن تسود، فإذا ما عرفنا ذلك، فلن يملك كل شخص، أيا ما كانت آراؤه السابقة، إلا أن يقر بانتصارها. وما إن ندرك طبيعة المشكلة حتى يغدو حلها قريب المنال؛ إذ إن كل الشواهد تشير إلى أن الفلسفة الوضعية هي التي سيكون مآلها إلى الانتصار؛ فهي وحدها التي ظلت في تقدم خلال قرون من الزمان، كانت الفلسفتان الأخريان خلالها في تدهور. وهذه حقيقة لا شك فيها، وقد يأسف لها البعض، ولكن ليس في وسع أحد أن يقضي عليها، وليس في وسعه بالتالي أن يتجاهلها إلا إذا انخدع بالتأملات الباطلة. ولقد أوشك هذا الانقلاب العام للذهن البشري أن يتم، وكل ما علينا هو أن نكمل الفلسفة الوضعية بإدخال الظواهر الاجتماعية ضمن مفهومها، ثم بالتوحيد بين الكل في مذهب واحد متجانس. وإن التفضيل الواضح الذي تبديه جميع الأذهان، من أرفعها إلى أبسطها، للمعرفة الوضعية على الأفكار الصوفية الغامضة، ليبشر بالقبول الذي ستلقاه هذه الفلسفة عندما تكتسب الصفة الوحيدة التي تفتقر إليها الآن؛ صفة العمومية اللازمة. فعندما تصبح كاملة، ستتحقق سيادتها تلقائيا، وستعيد إشاعة النظام في كل أرجاء المجتمع. والتعارض الوحيد القائم حاليا هو التعارض بين الفلسفتين اللاهوتية والميتافيزيقية؛ فهما تتنافسان على مهمة إعادة تنظيم المجتمع، غير أن هذا عمل يتجاوز كثيرا نطاق قدرة كل منهما. ولقد اقتصر تدخل الفلسفة الوضعية حتى الآن على اختبارهما، وهو اختبار لم تصمدا فيه على الإطلاق. والآن حان وقت القيام بعمل أكثر فعالية، دون تبديد لقوانا في جدل عقيم. حان وقت إتمام العمل العقلي الضخم الذي بدأه بيكون وديكارت وجاليليو، ببناء نظام من الأفكار الهامة التي ينبغي من الآن فصاعدا أن تسود الجنس البشري. وعلى هذا النحو يمكن أن يوضع حد للأزمة الثورية التي تمزق الأمم المتمدينة في العالم.
والآن، وقد ذكرنا هذه المزايا الأربع، ينبغي أن نتنبه إلى هذا التحذير.
لا أمل في الرد إلى قانون واحد:
ليس معنى دعوتنا إلى الجمع بين معارفنا المكتسبة كلها في نسق واحد متجانس، أننا نعتزم دراسة هذه المعارف الشديدة التنوع كما لو كانت صادرة عن مبدأ واحد، وخاضعة لقانون واحد؛ ففي المحاولات التي تبذل لتفسير كل الأشياء عن طريق قانون واحد من البطلان ما يدعونا إلى استبعاد أي زعم من هذا القبيل عن كتابنا هذا، وإن يكن سيتضح خلال فصوله مدى افتراء هذا الزعم. فعتادنا العقلي يبلغ من الهزال، كما يبلغ الكون من التعقد حدا لا يدع مجالا لأي أمل في أن يكون في مقدورنا المضي في الكمال العلمي حتى أقصى درجاته في البساطة. ويبدو فضلا عن ذلك، أن قيمة هذه النتيجة، على فرض بلوغها، قد بولغ فيها إلى حد بعيد.
وليس النظر إلى جميع الظواهر على أنها قابلة للرد إلى أصل واحد، ضروريا على الإطلاق لتكوين العلم بطريقة منظمة، ولا لإدراك النتائج الهائلة الماهرة التي نتوقعها من الفلسفة الوضعية. والوحدة الضرورية الوحيدة هي وحدة المنهج، وهي وحدة ثبتت دعائمها بالفعل إلى حد بعيد. أما المذهب ذاته فلا يتعين أن يكون واحدا، بل يكفي أن يكون متجانسا. وإذن فسوف ننظر في هذا الكتاب إلى مختلف فئات النظريات الوضعية من هاتين الزاويتين؛ وحدة المنهج وتجانس المذهب. ومع استهدافنا الغاية الفلسفية لكل العلوم؛ أعني الإقلال من عدد القوانين العامة اللازمة لتفسير الظواهر الطبيعية، فسوف ننظر إلى كل محاولة تبذل في أي وقت مقبل لردها جميعها إلى قانون واحد على أنها محاولة دعية مغرورة.
الفصل السابع
قديس المذهب الحر
جون ستيوارت مل (1803-1873م)
كان من أوائل الإنجليز الذين أدركوا أهمية فلسفة كونت، معاصره الأصغر سنا جون ستيوارت مل، ورغم أن مل قد شعر فيما بعد بالامتعاض وخيبة الأمل من جراء جنون العظمة والروح الدينية التي تجلت في كتابات كونت المتأخرة، فقد أدرك جيدا أن هناك قضايا فلسفية كثيرة يشتركان في الالتزام بها. ولقد نظر كونت إلى تعليقات مل المشجعة على أفكاره على أنها صادرة عن تلميذ إنجليزي سيساعد على إبلاغ رسالة الفلسفة الوضعية إلى الكافرين بها. ولكن تلك كانت نظرة كونت وحده؛ فلم يكن من طبيعة مل، لا في مزاجه ولا في اعتقاداته، أن يكون تلميذا لأحد أو مجرد داعية لأية فكرة. ومن المحال أن نتصور أنه بذل كل هذا الجهد في تحرير نفسه - بعد عناء شخصي شديد - من العقائد الجامدة لمذهب بنتام النفعي الذي تشرب بتعاليمه في شبابه على يد أبيه «جيمس مل»، لكي يتحول إلى عقيدة الإنسانية عند كونت. ذلك لأن تقديس كونت الصوفي للإنسانية قد اقترب إلى حد خطير من ذلك النوع من التجسيم الحيوي للتصورات، الذي عابه هو ذاته على الفكرة في المرحلتين اللاهوتية والميتافيزيقية. كما أن نظرة كونت إلى العلاقة بين الفرد والمجتمع، وهي النظرة التي تزايد اصطباغها بالصبغة العضوية تدريجيا، كانت ذات ملامح لا تختلف كثيرا عن مذهب الدولة عند فشته وهيجل. وما كان لمثل هذه الاتجاهات التي اتصف بها تفكير كونت المتأخر أن تجتذب مل الذي كانت المشكلة الرئيسية للحياة الاجتماعية بالقرن التاسع عشر هي بالنسبة إليه، الحرية الروحية والفكرية والاجتماعية للفرد. فقد تشبع مل، على العكس من كونت، بتلك العادات الذهنية المتأصلة في تراث المذهب التجريبي الإنجليزي، الذي كان هو ذاته آخر ممثل هام له - أعني العادات المرتبطة بالنظرة التفتيتية
atomistic
Shafi da ba'a sani ba