في حالة الفلك، وبرتوليه
Berthollet
5
في حالة الكيمياء.
وهكذا كانت الفلسفة اللاهوتية، وهي فلسفة تلقائية، هي البداية والمنهج والمذهب المؤقت الوحيد الممكن، والذي أمكن أن تنمو الفلسفة الوضعية منه. ومن السهل بعد ذلك أن ندرك كيف كانت المناهج والمذاهب الميتافيزيقية التي أتاحت بالضرورة وسيلة الانتقال من إحدى المرحلتين إلى الأخرى.
فلم يكن في وسع الذهن البشري، وهو البطيء في تقدمه، أن يقفز دفعة واحدة من الفلسفة اللاهوتية إلى الفلسفة الوضعية؛ إذ إن بين الاثنين من التعارض الشديد ما حتم قيام مذهب فكري وسيط لإتاحة الانتقال من أحدهما إلى الآخر. والفائدة الوحيدة للأفكار الميتافيزيقية تنحصر في قيامها بهذه المهمة. وهكذا فإن الناس في تأملهم للظواهر يستبدلون بالتوجيه الصادر من كائن فوق الطبيعي كيانا مقابلا له. وربما اعتقد أن هذا الكيان مستمد من فعل فوق الطبيعي، ولكن الأيسر من ذلك صرف الانتباه عنه ، وتركيز الاهتمام في الوقائع ذاتها، حتى لا تعود القواعد الميتافيزيقية في النهاية سوى الأسماء التجريدية للظواهر. وليس من السهل أن نحدد طريقة أخرى غير هذه لانتقال أذهاننا من الأفكار فوق الطبيعية إلى الأفكار الطبيعية، ومن النظام اللاهوتي إلى النظام الوضعي.
وبعد أن حددنا على هذا النحو قانون التطور البشري، ينبغي أن نبحث في الطبيعة الحقة للفلسفة الوضعية.
طابع الفلسفة الوضعية : إن أول طابع الفلسفة الوضعية، كما رأينا من قبل، هو أنها تنظر إلى جميع الظواهر على أنها خاضعة لقوانين طبيعية لا تتغير. ولما كنا ندرك مدى عقم ما يسمى بالعلل، الأولى منها أو الغائية، في أي بحث، فإن مهمتنا هي السعي إلى كشف هذه القوانين بدقة، بغية اختصارها إلى أقل عدد ممكن. أما التأمل النظري للعلل فلا يؤدي إلى حل أية مشكلة متعلقة بالأصل والغرض. ومهمتنا الحقيقية هي أن نحلل بدقة ظروف الظواهر، ونجمع بينها عن طريق علاقات التعاقب والتشابه الطبيعية. وأفضل مثل على ذلك يتبدى في فكرة الجاذبية؛ فنحن نقول إنها تفسر الظواهر العامة للكون؛ لأنها تجمع كل الوقائع الفلكية الهائلة التنوع تحت باب واحد، وتكشف عن الاتجاه الدائم للذرات بعضها نحو البعض في تناسب طردي مع كتلها، وفي تناسب عكسي مع مربعات مسافاتها، على حين أن الواقعة مألوفة تماما لدينا، ونقول بالتالي إننا نعرفها؛ أعني وزن الأشياء على سطح الأرض. أما ما هو الوزن وما هي الجاذبية، فذلك أمر لا شأن لنا به؛ إذ هو ليس موضوعا للمعرفة على الإطلاق. وقد يمارس اللاهوتيون أو الميتافيزيقيون خيالهم حول هذه المسائل، ويحللونها، غير أن الفلسفة الوضعية ترفضها. وقد اقتصرت كل محاولة بذلت لتفسيرها على القول آخر الأمر، إن الجاذبية هي الوزن الكوني، وإن الوزن هو الجاذبية الأرضية؛ أي إن مجموعتي الظواهر واحدة، وتلك هي النقطة التي بدأ منها السؤال.
تاريخ الفلسفة الوضعية : قبل تحديد المرحلة التي بلغتها الفلسفة الوضعية، ينبغي أن يستقر في أذهاننا أن أنواع معارفنا المختلفة قد مرت بمراحل التطور الثلاث بسرعات متفاوتة، وأنها بالتالي لم تصل (إلى آخر المراحل) في وقت واحد. ويتوقف معدل التقدم على طبيعة المعرفة موضوع البحث، حتى إن هذه القاعدة تؤلف ملحقا لقانون التقدم الأساسي. فتبكير أية معرفة في بلوغ المرحلة الوضعية يتناسب تناسب طرديا مع عموميتها وبساطتها واستقلالها عن فروع المعرفة الأخرى. فعلم الفلك، الذي يتألف، قبل كل شيء، من وقائع تتصف بالعمومية والبساطة والاستقلال عن العلوم الأخرى، كان أول علم بلغ هذه المرحلة، وتلته الفيزياء الأرضية، ثم الكيمياء، وأخيرا علم وظائف الأعضاء.
ومن العسير تحديد تاريخ دقيق لهذا الانقلاب في العلم. ومن الممكن أن يقال عنه، كما يقال عن أي شيء آخر، إنه كان قائما على الدوام، ولا سيما منذ جهود أرسطو ومدرسة الإسكندرية، ثم منذ إدخال العرب للعلم الطبيعي إلى غرب أوروبا. أما إذا كان علينا أن نركز أنظارنا على فترة محددة بعينها، تعد نقطة تجمع، فلا بد أن تكون هي الفترة التي أدت فيها قواعد بيكون وأفكار ديكارت وكشوف جاليليو، منذ حوالي قرنين من الزمان، إلى إيقاظ الذهن البشري من سباته. ففي تلك الفترة قامت روح الفلسفة الوضعية تعارض المذاهب الخرافية والمدرسية التي كانت تشوه قبل ذلك الطابع الحقيقي لكل علم. ومنذ ذلك الوقت، أصبح تقدم الفلسفة الوضعية وتدهور المرحلتين الأخريين من الوضوح بحيث لا يشك ذهن عاقل، في وقتنا هذا، في أن الثورة صائرة حتى منتهاها، حين يدخل كل فرع للمعرفة، عاجلا أو آجلا، في نطاق الفلسفة الوضعية. هذا هدف لم يتحقق بعد؛ إذ إن بعض فروع المعرفة ما زال خارجا عن هذا النطاق، ولن تكتسب الفلسفة الوضعية طابع الشمول اللازم لإقامتها بصورة نهائية إلا إذا أصبحت كل العلوم داخلة في هذا النطاق.
Shafi da ba'a sani ba