وينبغي في هذا المقام أن أشير بإيجاز إلى بعض مشكلات الترجمة التي يثيرها هذا الكتاب، وإلى طريقتي في معالجة هذه المشكلات. وأهم ما ينبغي أن يشار إليه في هذا الصدد، هو اضطراري إلى ترك بعض الكلمات الأصلية بأصلها الإنجليزي، ونقلها إلى العربية كما هي.
فلفظ «الأيديولوجية» الذي يتصدر عنوان هذا الكتاب، يترجم عادة ب «العقائدية»، وهي ترجمة قد يتسنى قبولها في مقال سياسي أو ثقافي عام، أما في سياق كتاب متخصص كهذا، فمن المحال أن يكون له مجال. ويكفي أن يتصفح القارئ الفصل الأول من هذا الكتاب، ليدرك اتساع معاني هذا اللفظ وتشعبها إلى الحد الذي يستحيل معه التعبير عنه بلفظ واحد كهذا، لا يتناول إلا معنى واحدا من المعاني المقصودة، هو معنى «الاعتقاد»، وهو معنى ليس هو وحده المميز للفظ. ولعل أفضل شرح للفظ الأيديولوجية هو ذلك الذي أتى به «مانهيم
Karl Mannheim » في كتابه «الأيديولوجية والمدينة الفاضلة
Ideology and Utopia »، والذي يلخص في أن اللفظ يطلق بمعنيين؛ أحدهما مذموم والآخر مقبول. فالمعنى المذموم تكون الأيديولوجية فيه هي آراء الخصم الظاهرية، التي تخفي الطبيعة الحقيقية لموقفه، والتي ليس من صالح ذلك الخصم الكشف عنها. وبالمعنى المقبول يقال إن أيديولوجية عصر أو طبقة ما هي إلا خصائص الذهن وتركيبه في ذلك العصر أو تلك الطبقة.
1
ويظهر هذان المعنيان معا في الفلسفة الماركسية، التي يرجع إليها إذاعة شهرة لفظ الأيديولوجية؛ فترى ماركس يتحدث عن الأيديولوجية على أنها تمثل مواقف الناس كما لو كانت في صورة مقلوبة، ويضع الأيديولوجية مقابل التفكير العلمي الأصيل، وينظر إلى مذهبه ذاته على أنه تجاوز للأيديولوجية وكشف لخداعها، وبهذا المعنى يتحدث عن «الأيديولوجية الألمانية» بوصفها مذهبا فكريا لفلاسفة خضعوا لمؤثرات لم يشعروا بها، على حين أن فلسفته هو لم تكن في نظره «أيديولوجية» على الإطلاق. ومع ذلك فقد تطور اللفظ إلى حد أن أي تفكير أصبح يمكن أن يعد أيديولوجيا، بمعنى أنه لا بد أن يعكس ظروف طبقة معينة. وهكذا اختفى التقابل القديم بين الأيديولوجية وبين التفكير العلمي، وأصبحنا نجد مفكرا ماركسيا مثل «جورج بوليتزر» يصف الأيديولوجية بأنها «مجموعة من الأفكار تكون كلا أو نظرية أو مذهبا أو حالة ذهنية فقط في بعض الأحيان»، ويعترف بأن المذهب الماركسي ذاته له أيديولوجيته التي تعكس تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة في الطبقة العاملة.
2
وإذن، فلفظ الأيديولوجية ينطوي على معان معقدة لا يمكن أن يعبر عنها لفظ «العقائدية» بأية حال. وإذا كان هذا الأخير يمكن - تجاوزا - أن يعد تعبيرا عن الناحية التي يعد فيها اللفظ دالا على مجموعة من الأفكار والمواقف الأساسية للإنسان، فإنه لا يمكن أن يعد معبرا عن الوجه الآخر الذي يعد فيه اللفظ دالا على «انعكاس» لأوضاع وظروف تؤثر في الفكر الظاهري وتكون أهم وأسبق منه. وهكذا يستحق اللفظ في رأينا أن يدخل على اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير.
ومثل هذا يقال عن لفظ «الترنسندنتالي» الذي أذاعته ونشرته في الأوساط الفلسفية كتابات «كانت». وأنا أول من يدرك أن اللفظ بصورته الأجنبية المعربة هذه ثقيل على اللسان والأذن، ولكن مثل هذا الحل يبدو أمرا لا مفر منه؛ فليس للفظ علاقة بالعلو أو «التعالي»، التي يدل عليها اشتقاقه في اللغات الأجنبية، بل هو، كما يردد «كانت» في كتاباته دائما، ولا سيما في «المدخل إلى كل ميتافيزيقا مقبلة»، على عكس العلو والتعالي تماما؛ لأنه تعبير عن الشروط «الكامنة» في المعرفة بحيث تجعلها ممكنة. وقد كنت أوثر ترجمة مثل «الممكن» أو «التمكيني»، ولكن هذه الألفاظ ما زالت عاجزة عن التعبير عن كل المعاني المعقدة التي استخدم بها «كانت» هذا اللفظ. وهكذا فأنا أعترف بأن استخدام لفظ «الترنسندنتالي» هنا هو، إلى حد بعيد، حل مبعثه العجز عن الإتيان بما هو أحسن.
أما عن الترجمة نفسها، فقد يجد القارئ اختلافا طفيفا بين بعض الترجمات وبين النص الإنجليزي الأصلي، ولا سيما في النصوص التي يكون أصلها غير إنجليزي؛ وسبب هذا الاختلاف هو إيثاري الرجوع إلى الأصل في هذه الحالات.
Shafi da ba'a sani ba