وعنوان الكتاب الثاني: «العالم إرادة. الوجه الأول: الصبغة الموضوعية للإرادة.»
القسم الأول : «العالم تمثلي.» تلك حقيقة تصح على كل كائن يعيش ويعرف، وإن يكن الإنسان وحده هو القادر على استحضارها في الوعي الفكري المجرد، ولو فعل ذلك حقا، لأشرقت عليه الحكمة الفلسفية. وعندئذ يدرك عن يقين ووضوح أن ما يعرفه ليس شمسا ولا أرضا، وإنما هو عين ترى شمسا، ويد تلمس أرضا، وأن العالم المحيط به لا يوجد إلا بوصفه تمثلا؛ أي لا يوجد إلا في علاقته بشيء آخر؛ أي المتمثل، الذي هو الإنسان ذاته. ولو كان لنا أن نؤكد أوليا أية حقيقة، فهذه هي؛ إذ إنها تعبير عن أعم صورة لكل تجربة ممكنة يتسنى لنا تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى؛ أعم من المكان والزمان والعلية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها. وعلى حين أن هذه الصور كلها، التي رأينا أنها ليست إلا أحوالا لمبدأ السبب الكافي، لا تصح إلا على فئة خاصة من التمثلات، فإن التقابل بين الذات والموضوع هو الصورة المشتركة بين كل هذه الفئات، وهي الصورة التي هي وحدها الكفيلة بتحقيق إمكان أي تمثل وجعله قابلا للتصور بوجه عام، سواء أكان هذا التمثل مجردا أم حدسيا، خالصا أم تجريبيا. وإذن فليس ثمة حقيقة أكثر يقينا واستقلالا عن كل ما عداها، وأقل حاجة إلى البرهنة عليها من هذه الحقيقة القائلة إن كل ما هو موضوع للمعرفة، وبالتالي هذا العالم بأسره، ليس إلا موضوعا بالنسبة إلى ذات، ومدركا بالنسبة إلى مدرك. أي إنه بالاختصار تمثل. ومن الواضح أن هذا يصح على الماضي وعلى المستقبل كما يصح على الحاضر، وعلى أبعد الأمور وأقربها؛ إذ إنه يصدق على الزمان والمكان ذاتيهما، وهما اللذان لا تنشأ كل هذه التفرقات إلا فيهما؛ فكل ما ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم على أي نحو يخضع لتحكم الذات، ولا يوجد إلا بالنسبة إلى الذات، فالعالم تمثل. •••
وهكذا فإنا ننظر إلى العالم في هذا الكتاب الأول من هذا الوجه فحسب؛ أعني من حيث كونه تمثلا. غير أن التردد الباطن الذي يشعر به أي شخص في قبوله للفكرة القائلة إن العالم تمثله هو فحسب، لكفيل بتنبيهه إلى أن هذا الرأي عن العالم، مهما كان من صحته، هو مع ذلك تعبير عن وجه واحد من أوجه المسألة، وأنه ينجم عن نوع من التجريد المتعمد. ولكنه من جهة أخرى رأي لا يستطيع أن يجد منه مهربا. وعلى أية حال فسوف يعالج الكتاب المقبل أوجه النقص في هذا الرأي، عن طريق حقيقة ليس لها مثل اليقين المباشر الذي تتصف تلك الحقيقة التي نتخذها ها هنا نقطة بداية لنا، وهي حقيقة لا يمكننا الوصول إليها إلا ببحث أعمق وتجريد أشق، وبالفصل بين ما هو مختلف والتأليف بين ما هو متماثل. وهذه الحقيقية، التي ينبغي أن تكون شديدة الخطورة والتأثير، إن لم تكن حقيقة مخيفة لكل شخص، هي أن الإنسان يستطيع أيضا، بل ينبغي عليه، أن يقول: «العالم إرادتي.»
ومع ذلك فعلينا في هذا الكتاب الأول أن نبحث على حدة في ذلك الوجه الذي نبدأ به من أوجه العالم؛ أعني في الوجه الذي يكون فيه قابلا للمعرفة، وبالتالي أن ننظر دون تحفظ إلى جميع الأشياء الموجودة، حتى أجسامنا ذاتها (كما سنرى بمزيد من التفصيل بعد قليل) على أنها مجرد تمثل، وأن نسميها مجرد تمثلات. وعلى هذا النحو نجرد هذه الموضوعات دائما (كما نأمل أن نوضح للجميع فيما بعد) من الإرادة التي تؤلف في ذاتها الوجه الآخر للعالم. فكما أن العالم هو، في واحد من أوجهه، تمثل كله، فإنه كذلك في وجه آخر إرادة كله. أما القول بوجود حقيقة ليست واحدا من هذين، وإنما هي موضوع في ذاته (هو الذي تدهور إليه الشيء في ذاته، للأسف، على يد كانت) فهو خيال حالم، وقبوله إنما هو السراب الخادع في الفلسفة.
القسم الثاني : إن ما يعرف كل الأشياء، ولا يعرفه شيء، هو الذات. وإذن فهي دعامة العالم، وهي شرط جميع الظواهر والموضوعات، وهي دائما تفترض مقدما؛ إذ إن كل ما يوجد، إنما يوجد بالنسبة إلى الذات فحسب. وإن كل شخص ليجد نفسه ذاتا، ولكن بقدر ما يعرف فحسب، لا بقدر ما هو موضوع للمعرفة. غير أن جسمه موضوع بالفعل، وبالتالي فمن الممكن، من وجهة النظر هذه، أن نسميه تمثلا. إذ إن الجسم موضوع ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين الموضوعات، وإن يكن موضوعا مباشرا. وهو ككل موضوعات الإدراك الحسي، يندرج تحت الصور الكلية للمعرفة، كالمكان والزمان، اللذين هما شرطا الكثرة. أما الذات التي هي العارف دائما، ولا تكون هي المعروف أبدا، فلا تندرج تحت هذه الصور، بل إن هذه الصور تفترضها مقدما. ومن ثم فهي لا تتصف بالكثرة ولا بعكسها؛ أي الوحدة، فنحن لا نعرفها قط، ولكنها هي دائما العارف كلما كان ثمة معرفة. (من الكتاب الثاني، القسم 17) : غير أن ما يدفعنا الآن إلى البحث هو أننا لا نقنع بأن نعرف أن لدينا تمثلات، وأن هذه التمثلات هي كذا وكذا، وأنها مرتبطة حسب قوانين معينة يعبر عنها مبدأ السبب الكافي تعبيرا عاما، بل إنا نريد معرفة دلالة هذه التمثلات، ونتساءل عما إذا كان هذا العالم تمثلا فحسب - وهو قول لو صح لكان العالم يمر بنا كما يمر حلم عابر أو رؤية خادعة، ولما استحق انتباهنا - أم إنه أيضا شيء آخر، شيء يزيد على مجرد التمثل، وفي هذه الحالة، فما هو هذا الشيء؟ إن الأمر المؤكد هو أن هذا الشيء الذي ننشده ينبغي أن يكون في طبيعته الكاملة مختلفا عن التمثل اختلافا تاما أساسيا، وبالتالي إن صور التمثل وقوانينه ينبغي أن تكون غريبة عنه تماما، وهكذا فنحن لا نستطيع أن نصل إليه من التمثل بإرشاد القوانين التي تقتصر مهمتها على الجمع بين الموضوعات والتمثلات سويا، وإنما هذه هي صور مبدأ السبب الكافي.
وهكذا نرى بالفعل أننا لا نستطيع أبدا الوصول إلى الطبيعة الحقة للأشياء من الخارج، ومهما بحثنا، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نصل إلى شيء سوى الصور والأسماء؛ فنحن أشبه برجل يدور حول قلعة باحثا، دون جدوى، عن مدخل، ويقوم أحيانا برسم الوجه الظاهري لهذه القلعة. ومع ذلك فهذه هي الطريقة التي اتبعها جميع الفلاسفة من قبلي. (القسم 18) : والواقع أن المعنى الذي ننشده لهذا العالم الماثل لي بوصفه تمثليا فحسب، أو الانتقال من العالم بوصفه مجرد تمثل للذات العارفة إلى أي شيء آخر قد يكونه إلى جانب هذا، لا يمكن الاهتداء إليه إن كان الباحث نفسه مجرد ذات عارفة (أي ملاك مجنح دون جسم)، غير أنه هو ذاته متغلغل في هذا العالم، وهو يجد نفسه فيه بوصفه فردا؛ أي إن معرفته، التي هي الدعامة الضرورية للعالم كله من حيث هو تمثل، تعطى كلها مع ذلك بتوسط جسم، تكون انفعالاته، كما رأينا، نقطة بداية الذهن في إدراكه لهذا العالم؛ فجسم هذا الباحث، من حيث هو ذات عارفة خالصة، هو بالنسبة إليه تمثل شأنه شأن أي تمثل آخر، وموضوع من الموضوعات. وحركاته وأفعاله لا تعرف لديه إلا كما تعرف تغيرات جميع الموضوعات المدركة الأخرى، ولو لم يكن معناها يكشف له على نحو مختلف تماما، لظلت لها بالنسبة إليه نفس الغرابة والغموض. ولو لم يكن الأمر كذلك لرأى سلوكه يتلو من دوافع معينة باطراد القانون الطبيعي، مثلما تتلو تغيرات الموضوعات الأخرى من علل أو منبهات، أو دوافع. ولكنه لن يدرك عندئذ تأثير الدوافع أكثر مما يدرك الارتباط بين كل معلول آخر يراه وبين علته. عندئذ قد يسمي الطبيعة الباطنة التي لم يفهمها لمظاهر الجسم وأفعاله هذه قوة أو كيفية أو صفة حسبما يشاء، ولكن فهمه لها لن يتجاوز هذه الحدود. غير أن الحال ليست كذلك على الإطلاق، بل إن الإجابة على هذا السؤال المحير إنما تعطى للذات العارفة بوصفها فردا، فالإجابة هي الإرادة. فهذا، وهذا وحده، هو الذي يعطي الذات مفتاح وجودها الخاص، ويكشف لها عن أهمية وجودها وفعلها وحركاتها وتركيبها الباطن؛ فالجسم يعطى على نحوين مختلفين تماما للذات العارفة التي لا تصبح فردا إلا باتحادها معه. فهو يعطى في الإدراك العاقل، بوصفه تمثلا وبوصفه موضوعا ضمن الموضوعات، تسري عليه قوانين هذه الموضوعات، ولكنه يعطى أيضا على نحو مختلف تماما بوصفه ما يعرفه مباشرة كل واحد، وتدل عليه كلمة الإرادة. فكل فعل حقيقي لإرادته هو حتما حركة لجسم في الوقت ذاته، وهو بالفعل لا يستطيع أن يريد الفعل ما لم يشعر في الوقت ذاته أنه يبدو بوصفه حركة للجسم. وليس فعل الإرادة وحركة الجسم شيئين مختلفين معروفين موضوعيا، تجمع بينهما رابطة العلية، بل هما لا يرتبطان ارتباط العلة بالمعلول، وإنما هما شيء واحد، وإن كانا يعطيان على نحوين مختلفين تماما؛ أي على نحو مباشر أولا، ثم في الإدراك بالنسبة إلى الذهن. وما فعل الجسم إلا فعل الإرادة وقد اتخذ صبغة موضوعية؛ أي ترجم إلى إدراك. وسوف نرى فيما بعد أن هذا يصح على كل حركة للجسم، لا على تلك الحركات التي تتلو من دوافع فحسب، بل أيضا على الحركات اللاإرادية التي تتلو من مجرد منبهات، بل إن الجسم كله ليس في واقع الأمر سوى إرادة اتخذت طابعا موضوعيا؛ أي إرادة أصبحت تمثلا، كل هذا سيثبت ويوضح بجلاء خلال هذا الكتاب. ولهذا فإن الجسم، الذي أطلقت عليه في الكتاب السابق، وفي بحثي عن «مبدأ السبب الكافي»، اسم «الموضوع المباشر»، وفقا لوجهة النظر المقتصرة على جانب واحد، والتي اتخذتها فيهما عمدا (أعني وجهة نظر التمثل) اسم الموضوع المباشر، سأطلق عليه ها هنا، من وجهة نظر أخرى، اسم «موضوعية الإرادة ». وهكذا يمكننا أن نقول أيضا بمعنى معين إن الإرادة هي المعرفة الأولية للجسم، وإن الجسم هو المعرفة البعدية
a posteriori
للإرادة، وليست قرارات الإرادة المتعلقة بالمستقبل سوى تفكير العقل فيما سنريده في وقت معين، لا أفعال حقيقية للإرادة. والأمر الوحيد المميز للقرار الذي ينعقد عليه العزم هو التنفيذ؛ إذ إنه لا يكون، حتى ذلك الحين، سوى مقصد قد يتغير، ولا يوجد إلا في العقل وبطريقة مجردة؛ فالإرادة والفعل لا يكونان مختلفين إلا بالنسبة إلى الفكر، أما في الواقع فهما شيء واحد. وكل فعل مباشر أصيل صحيح للإرادة هو في الوقت ذاته وعلى التو فعل ملموس للجسم. ومقابل ذلك نجد أن كل انطباع على الجسم هو أيضا، ومن الناحية الأخرى، انطباع على الإرادة. وهو بهذا المعنى يسمى ألما عندما يخالف الإرادة، وإشباعا أو لذة عندما يوافقها. ولكل من الاثنين درجات واسعة الاختلاف. ومع ذلك فمن الخطأ التام أن نسمي الألم واللذة تمثلات؛ إذ إنهما ليسا تمثلات، وإنما انفعالات مباشرة للإرادة في ظاهرتها التي هي الجسم، وهما رغبة أو عدم رغبة إجبارية فورية في الانطباع الواقع على الجسم. وليست هناك سوى انطباعات قليلة للجسم لا تثير الإرادة، وعن طريق هذه الانطباعات وحدها يكون الجسم موضوعا مباشرا للمعرفة؛ إذ يكون الجسم، بوصفه إدراكا في الذهن، موضوعا غير مباشر شأنه شأن كل ما عداه. ولذا كان من الواجب أن ينظر إلى هذه الانطباعات مباشرة على أنها مجرد تمثلات، وأن نستثنيها مما قيل من قبل، فالمقصود هنا هو انفعالات الحواس الموضوعية الخاصة، حواس البصر والسمع واللمس، وإن لم تكن هذه مقصودة إلا بقدر ما تتأثر أعضاؤها على النحو الفريد المرتبط بطبيعتها المحددة فحسب. ولانفعال الحواس هذا تأثير في الحساسية الحادة المتخصصة لهذه الأجزاء يبلغ من الضعف حدا يجعله لا يؤثر في الإرادة، وإنما يمد الذهن بالمادة التي ينشأ منها الإدراك، دون أن تعكر صفو هذا الذهن أية إثارة للإرادة. غير أن كل تأثر لأعضاء الحس هذه على نحو أقوى أو على نحو مختلف ينطوي على ألم؛ أي يخالف الإرادة، ومن هنا كان بدوره منتميا إلى موضوعية الإرادة. ويظهر ضعف الأعصاب عندما تصل الانطباعات التي ليس لها من القوة إلا ما يكفي لجعلها مادة للذهن، إلى الدرجة الأعلى التي تؤثر فيها في الإرادة؛ أي تسبب ألما أو لذة، أو على الأصح ألما في معظم الأحيان. غير أن هذا الألم يتصف إلى حد ما، بالإبهام والغموض، بحيث لا يقتصر الأمر على تألمنا من أصوات معينة أو من الضوء القوي، بل تنشأ لدينا حالة من الاعتلال والوسوسة لا نفهمها بوضوح. كما تتضح هوية الجسم والإرادة على أنحاء أخرى، منها أن كل حركة قوة عنيفة للإرادة؛ أي كل انفعال، تثير الجسم وكيانه الباطن مباشرة، وتبعث الاضطراب في مجرى وظائفه الحيوية.
وأخيرا فإن المعرفة التي لدي عن إرادتي، وإن تكن مباشرة، لا يمكن أن تفرق عن معرفتي بجسمي. فأنا أعرف إرادتي، لا بوصفها كلا أو وحدة، ولا أعرفها معرفة كاملة حسب طبيعتها، بل أعرفها في أفعالها الخاصة فحسب، وبالتالي في الزمان، الذي هو صورة لظاهرة جسمي، ولكل موضوع كذلك. وإذن فالجسم شرط لمعرفة إرادتي. وهكذا لا يمكنني بالفعل أن أتصور هذه الإرادة دون جسمي. ولقد عالجت الإرادة، أو بالأحرى الذات المريدة، على أنها فئة خاصة من التمثلات أو الموضوعات. ولكنا حتى في تلك الحالة قد رأينا هذا الموضوع يصبح هو والذات شيئا واحدا؛ أي رأيناه لا يعود موضوعا؛ فبقدر ما أعرف إرادتي حقا على أنها موضوع، أعرفها بوصفها جسما، ولكني في هذه الحالة أعود ثانية إلى الفئة الأولى من التمثلات التي عرضتها في ذلك البحث؛ أي إلى الموضوعات الفعلية. وسنرى بوضوح متزايد، كلما سرنا قدما، أن تمثلات الفئة الأولى هذه لا تجد تفسيرها وحلها إلا في تمثلات الفئة الرابعة التي عرضناها في ذلك البحث، والتي لا يعود من الممكن وضعها مقابل الذات بوصفها موضوعا، وأن علينا بالتالي أن نتعلم فهم الطبيعة الباطنة لمبدأ العلية الذي يصح على الفئة الأولى، ولكل ما يحدث وفقا لهذا المبدأ، من خلال مبدأ تحكم الدوافع، الذي يسري على الفئة الرابعة.
ومن المحال إثبات هوية الإرادة والجسم، التي قدمنا لها الآن تفسيرا مؤقتا، إلا على النحو الذي قلنا به ها هنا. ولقد كان هذا أول إثبات لهذه الهوية. وسوف يزداد إثباتنا هذا عمقا خلال هذا الكتاب، وبعبارة أخرى فقد أخرجنا هذه الهوية من نطاق الوعي المباشر، ومن المعرفة العينية، ونقلناها إلى مجال المعرفة العقلية أو المعرفة المجردة. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة هذه الهوية ذاتها تجعل من المحال البرهنة عليها؛ أي استخلاصها بوصفها معرفة غير مباشرة من معرفة أخرى أقرب إلى الطابع المباشر، لا لشيء إلا لأنها هي ذاتها أقرب المعارف إلى الطابع المباشر. فإذا لم ندركها أو نتمسك بها على هذا النحو، فسيكون من العبث أن نتوقع تلقيها مرة أخرى على نحو غير مباشر بوصفها معرفة مشتقة؛ فهي معرفة من نوع خاص إلى أبعد حد، وبالتالي لا يمكن أن تدرج حقيقتها تحت واحدة من الفئات الأربع التي صنفت بها كل الحقائق المنطقية، والتجريبية، والميتافيزيقية، وما بعد المنطقية؛ إذ إنها تختلف عن هذه كلها في أنها ليست مثلها ربطا لتمثل مجرد بتمثل آخر، أو بالصورة الضرورية لتمثل الحدسي أو المجرد، وإنما هي ربط لحكم بالعلاقة التي تجمع بين تمثل إدراكي، هو الجسم، وبين ما ليس بالتمثل على الإطلاق، وإنما يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ أعني بالإرادة. (القسم 19) : وعلى حين أننا قد اضطررنا كارهين في الكتاب الأول إلى وصف جسم الإنسان بأنه مجرد تمثل للذات العارفة، شأنه شأن سائر موضوعات عالم الإدراك هذا، فقد اتضح لنا الآن أن في وعي كل شخص شيئا يميز تمثل جسمه من جميع التمثلات الأخرى التي تشبهه تماما من جميع الأوجه الأخرى؛ ذلك لأن جسمنا يبدو في الوعي على صورة أخرى مختلفة تماما، يعبر عنها بلفظ الإرادة. وهذه المعرفة المزدوجة لدينا بجسمنا هي التي تمدنا بالمعلومات عنه، وعن فعله وحركاته الناجمة عن دوافع، وكذلك عما ينفعل به عن طريق الانطباعات الخارجية، وبالاختصار عما يكونه، لا بوصفه تمثلا، بل بوصفه أكثر من التمثل؛ أي عما يكونه في ذاته. وليست لدينا أية معلومات مباشرة كهذه عن طبيعة أي شيء حقيقي آخر أو فعله وانفعاله.
Shafi da ba'a sani ba