3 (
speculative ) الجامح للعقل، هو الصفة المميزة لتلك الأحكام التوكيدية التسليمية التي كان يدلي بها العقليون السابقون حول الطبيعة النهائية والعلة القصوى للأشياء. ويرى كانت أن هذا الاستخدام النظري
4
البحت يؤدي في جميع الحالات إلى قضايا ميتافيزيقية يحق لنا أن نشك حتى في كونها قضايا ذات معنى. فلكل قضية مثل؛ للعالم في مجموعه علة، قضية مضادة تعادلها إمكانا، ويمكن البرهنة عليها بنفس القدر من الإحكام، ومن ثم فإن معناها يعادل الأولى في افتقاره إلى الوضوح. فلو أثبت بطريقة عقلية خالصة أن العالم لا بد أن تكون له بداية في الزمان، ففي وسعي أن أثبت، ببرهان تبدو له نفس ضرورة برهانك، أن العالم لا يمكن أن تكون له هذه البداية. ولو قدمت حججا تبدو مقنعة تماما، على أن المادة تتألف من ذرات بسيطة لا تتجزأ، ففي وسعي أن أثبت، بطريقة لا تقل عن ذلك إقناعا، أن المادة تقبل الانقسام إلى ما لا نهاية. ولو أثبت أنه إذا كان ثمة شيء موجود، مثلك أنت، فلا بد أن يكون هناك موجود
5
ضروري يعد علة، ففي وسعي أن «أبرهن» بنفس القوة على القضية المضادة، القائلة إن مثل هذا الموجود الضروري غير موجود ولا يمكن أن يكون موجودا.
والذي يحدث في كل هذه الحالات هي أننا نمد تطبيق مقولات الذهن دون تمحيص، إلى كيانات افتراضية تخرج تماما عن نطاق التجربة الممكنة، فتكون النتيجة أن نفقد ضوابطنا المنطقية، ولا يتبقى لنا سوى ادعاءات متضادة تتعرض صحتها لنفس القدر من الشك. حقا إن السؤال عما إذا كان للكون في مجموعه علة أو بداية في الزمان يبدو في ظاهره سؤالا معقولا، غير أن البحث الدقيق يثبت أننا لا نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة قط، لا لأننا نفتقر إلى الأدلة الكافية، بل لأن وجهة الأسئلة ذاتها باطلة . ولو نظرنا إلى الكون بأسره على أنه نتيجة لعلة هائلة الحجم، لكان علينا أن ننظر إلى الكون على أنه شيء مادي ضخم تربطه بتلك «العلة» نفس العلاقة التي تربط بين ظاهرتين مألوفتين. غير أن الكون في مجموعه ليس ظاهرة، ولا يمكن تصوره على أنه ظاهرة؛ ففي كل تفكير ميتافيزيقي من هذا النمط نضطر إلى تطبيق تصورات على مجال يتجاوز النطاق المعتاد الذي تنطبق عليه إلى حد لا نعود معه نعرف ما الذي يبدو أننا نقوله، فتكون النتيجة تأرجحا لا ينقطع بين قضايا وقضايا مضادة لا تقل كل منهما عن الأخرى إحكاما، وهذا الإحكام المتكافئ بين قضايا متضادة هو الذي يجعلها مفتقرة، بنفس القدر، إلى المعقولية. والأجدر بنا، في رأي كانت، أن نكف تماما عن ألعوبة الميتافيزيقا النظرية العقيمة، وإلا فقد الذهن ثقته بالمقولات ذاتها، ووقع دون خلاص في قبضة الشك.
وعلى مثل هذه الأسس يقوم تفنيد كانت للبراهين التقليدية على وجود الله، وهي البراهين التي احتلت مكانة هامة في ميتافيزيقا العقليين ولاهوتهم. وحسبنا هنا أن نقول إن هذه البراهين ترتكز كلها، في رأي كانت، على ما يسمى ب «البرهان الأنتولوجي»، وهو البرهان الذي يقال فيه إن إنكار وجود الله يستتبع التناقض حتما، فتصور الله هو، حسب تعريفه، تصور كائن مطلق الكمال، ولكن لا بد أن يكون الوجود من صفات الكائن المطلق الكمال، وإلا لما كان كاملا، وإذن فلا بد أن يكون الله، من حيث هو الكائن المطلق الكمال، موجودا. وموضع بطلان هذه الحجة هو أنها ترى «الوجود» محمولا يدل على صفة معادلة لجميع الصفات الأخرى التي تعزى إلى الله، كالعلم المحيط بكل شيء. غير أن الوجود، ليس محمولا، ولا يدل على صفة أو سمة للأشياء التي يعزى إليها. ويضرب كانت لإيضاح فكرته مثلا بالفارق بين مائة قرش حقيقي ومائة قرش خيالي؛ فالفارق الوحيد بينهما ينحصر في أن الأولى موجودة والثانية غير موجودة، أما تصور المائة قرش فواحد في الحالتين.
والمسألة التي يريد كانت إثباتها في هذا الصدد هي أن لفظ «الوجود» يفقد وظيفته المنطقية إذا ما عومل، كما تتطلب البراهين التقليدية على وجود الله، على أنه محمول يدل على صفة. والنتيجة الوحيدة التي تستخلص من هذا، كما سبق أن قال هيوم، هي أن فكرة الله ذاتها، بمعنى «الموجود الضروري»، فكرة مستحيلة. ويضيف كانت إلى ذلك نقطة هامة، هي أنه حتى لو صحت براهين وجود الله هذه، لما استتبعت، مع هذا، أن يكون هذا الموجود الضروري، هو ذاته، تلك العناية الإلهية التي يرى الكثيرون أنها هي الموضوع الحقيقي لتقديس البشر وتقواهم.
وقد يستنتج المرء من هذا كله أن نقد كانت المدمر للميتافيزيقا النظرية كان استباقا للنظرية الوضعية التالية القائلة إن جميع القضايا الميتافيزيقية واللاهوتية لا معنى لها على الإطلاق. غير أن هذا استنتاج باطل؛ إذ إنه، مع معارضته الشديدة لكل الادعاءات المتعلقة بالمعرفة الميتافيزيقية للواقع، كان يؤمن بأن لبعض الاعتقادات الميتافيزيقية أو اللاهوتية أهمية من حيث هي «مصادرات» للعقل «العملي». وإذن فلا بد، لتكوين صورة أدق عن تعاليم كانت في هذا الصدد، من أن نلم بعض الإلمام بفلسفته الأخلاقية.
Shafi da ba'a sani ba