ظهر قرب نهاية القرن التاسع عشر، كما لاحظنا عند الحديث عن ماخ، رد فعل على طرق التفلسف التي سادت طوال جزء كبير من ذلك القرن. وقد استمر رد الفعل هذا، ولا سيما في البلدان الناطقة بالإنجليزية، طوال معظم السنوات المنقضية من القرن العشرين، وكانت تلك ثورة ضرورية، ومحمودة في نواح عديدة؛ فقد سئم الفلاسفة لغة الممتنعات والغموض وأسلوب الهيجليين، وضجروا من منهج ديالكتيكي يتيح لمن يمارسونه ألا يقولوا أبدا ما يعنونه أو أن يعنوا ما يقولونه. وتضاءلت الثقة بالتدريج بذلك الاتجاه المميز لفلاسفة القرن التاسع عشر، اتجاه وضع فلسفات طموحة للتاريخ وقوانين حتمية للتطور التاريخي مثلما تضاءلت الثقة بتلك النسبية التاريخية الغامضة التي بدا أنها تنطوي على القول بأن أي شيء يكون صحيحا أو صائبا طالما أنه يعبر عن روح عصره. وبعد العصر الذهبي للنظرية التطورية بدأ الفلاسفة والعلماء على السواء يزدادون شكا في المنهج التاريخي من حيث هو المفتاح الكفيل بفتح جميع أبواب دار المعرفة. وأثبت تطور الحوادث أن الآمال العريضة التي علقت على المنهج لم تتحقق، واضطرت علوم الإنسان إلى العودة إلى أساليب أقل إثارة، وأقرب إلى الأساليب المستخدمة في العلوم الفيزيائية. بل إن الوعي التاريخي ذاته قد أصبح أمرا مشكوكا فيه؛ إذ أعلن فلاسفة مشهورون مثل برتراند رسل
1
من جديد لا زمانية الحقيقة، وشمول المناهج التي تمسكوا هم أنفسهم بها.
وباقتراب القرن السابق من نهايته، شبت أمريكا أخيرا عن الطوق، فلسفيا، في أشخاص تشارلس بيرس ووليم جيمس وجون ديوي.
2
فأكد دعاة فلسفة البرجماتزم الجديدة هؤلاء، باقتناع وتأكيد متزايدين، أن وظيفة الفكر بأسرها إنما هي إيجاد عادات سلوكية. ورأى بيرس أن معنى أية فكرة لا يمكن تحديده إلا بملاحظة العادات السلوكية التي تؤدي إليها، وأوجز رأيه في قوله: «إن معنى الشيء ليس إلا ما ينطوي عليه من العادات.» ونتيجة هذا الرأي واضحة؛ فإذا لم يتسن الوصول إلى عادات سلوكية مرتبطة بلفظ ما، فليس لهذا اللفظ، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، معنى. وهكذا بدا أن المعيار البرجماتي للمعنى قد وصم، بضربة واحدة، كل ما قاله المثاليون عن المطلق، لا بأنه باطل فحسب، بل بأنه خلو من المعنى. غير أن للمعيار في الواقع حدين، ولم يكن البرجماتيون أقرب إلى الميتافيزيقا المادية عند مفكر مثل سبنسر منهم إلى مثالية فيلسوف كهيجل. ولنعبر عن المسألة بطريقة وليام جيمس المرحة، فنتساءل: ما هي «القيمة النقدية» لكل المنازعات الصاخبة بين المثاليين والماديين؟ هذا سؤال ينبغي أن نعترف بأن معظم البرجماتيين لم يصبروا على الإجابة عليه فيما عدا جيمس ذاته؛ فقد كانوا أكثر اهتماما بإيضاح أن دعاة «الكون المعقد»، كانوا هم أنفسهم من ذوي العقول المعقدة، أكثر منهم بالبحث عن الدور المعتاد للأحكام الميتافيزيقية في الحياة البشرية. كما أنهم لم يتريثوا ليفكروا في مدى ما يدينون به هم أنفسهم لتلك السوابق الواضحة للبرجماتية، التي ظهرت في كتابات كانت وفشته ونيتشه. ولو أمعنوا الفكر في المسألة، كما ابتهل إليهم «جوشيا رويس»
3
أن يفعلوا، لكان من الجائز أن يجدوا أن روح المثالية الكامنة كانت قريبة في نواح عدة من روح فلسفتهم الخاصة .
وإلى جانب الأسئلة المتعلقة بوجود معنى للقضايا الفلسفية في القرن التاسع عشر، ظهرت اعتراضات لا تقل عن ذلك أهمية، على المفاهيم السائدة حينئذ لمهمة الفلسفة ذاتها؛ فقد اعترض جيمس، ومعاصراه الإنجليزيان الأصغر سنا، ج. أ. مور
G. E. Moore ،
Shafi da ba'a sani ba